بحوث في علم الأصول - ج ٣

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٥

مباحث الدليل اللفظي

المطلق والمقيد

١ـ الاطلاق اعتبارات الماهية

ـ معاني اسماء الاجناس مقدمات الحمكة

ـ تنبيهات

ـ حالات اسم الجنس

٢ـ التقيد المجمل والمبين.

المجمل بالذات ـ المجمل بالعرض

٤٠١
٤٠٢

١ ـ الإطلاق

وفيه فصول :

الفصل الأول ـ في أسماء الأجناس :

وقع الكلام بين المحققين في انَّ اسم الجنس هل هو موضوع بإزاء الماهية المطلقة بنحو يكون الإطلاق مستفاداً من نفس المعنى الموضوع له أو للجامع بين الماهية المطلقة والماهية المقيدة بحيث نحتاج في استفادة الإطلاق إلى تأسيس قرينة عامة تسمى بمقدمات الحكمة؟ وقبل الخوض في ذلك ينبغي عقد بحث تمهيدي في اعتبارات الماهية وأنحاء لحاظها ليُرى انَّ وضع أسماء الأجناس يكون مبنياً على أيّ منها فنقول :

الماهية بوجودها الخارجي تنقسم إلى قسمين لأنها امّا متصفة بوصف وامّا غير متصفة به ، فالإنسان الخارجي مثلاً امّا عالم وامّا ليس بعالم ولا يمكن أَنْ يكون هناك إنسان في الخارج لا يكون عالماً ولا غير عالم لأنَّ ارتفاع النقيضين محال ، كما انَّ الجامع بين الإنسان العالم والإنسان اللاعالم وإِنْ كان موجوداً في الخارج ولكنه موجود ضمن أحد فرديه لا انه موجود بوجود مستقل وإِلاَّ لما كان جامعاً ، فالماهية بوجودها الخارجي تنقسم إلى قسمين فقط وليس لهما ثالث.

وامّا الماهية بوجودها الذهني المنتزعة من الخارج مباشرة فلها ثلاثة أقسام ، لأنَّ مفهوم الإنسان تارة يلحظ في الذهن بما هو متصف بالعلم ، وأخرى يلحظ بما هو متصف بعدم العلم ، وثالثة يلحظ من دون أَنْ يتّصف بشيء أيْ تارة يلحظ مفهوم

٤٠٣

الإنسان العام وأُخرى مفهوم الإنسان غير العالم وثالثة مفهوم الإنسان بما هو هو ، والأول هو المسمّى بالماهية بشرط شيء والثاني بالماهية بشرط لا والثالث باللابشرط القِسمي. والقسم الثالث ليس جامعاً بين القسمين الأولين في عالم الذهن وإِنْ كان جامعاً بلحاظ الوجودات الخارجية بل هو موجود بوجودٍ ذهني مستقل في عرض وجود الماهيتين المشروطة بشيء أو بعدمه. وهذه الأقسام الثلاثة تسمّى بالمعقولات الأولية لأنَّها منتزعة من الخارج ابتداءً.

والذهن حيثما يتصور مفهوماً من هذه المفاهيم الثلاثة يمكنه أَنْ يمشي خطوة أخرى فيلتفت إلى نفس ما انتزعه فينتزع منه مفهوماً آخر وهذا ما يسمّى بالمعقول الثاني ، فمثلاً ينتزع من مفهوم الإنسان العالم مفهوم الإنسان المقيد بمفهوم العالمية وينتزع من مفهوم الإنسان اللاعالم مفهوم الإنسان المقيد بعدم العالمية وينتزع من مفهوم الإنسان مفهوم الإنسان الخالي عن قيد العالمية وقيد اللاعالمية ، وهناك في المعقول الثاني قسم رابع وهو مفهوم الإنسان الجامع بين الإنسان العالم والإنسان اللاعالم والإنسان ، فالإنسان الجامع بين هذه المفاهيم يعتبر قسماً رابعاً في المعقول الثاني ولا بأس بأَنْ يكون له وجود مستقل في قبال الإنسان العالم والإنسان اللاعالم والإنسان ما دام انَّ له وعاءً آخر غير وعاء افراده ، فانَّ الجامع انما لا يمكن أَنْ يوجد بوجود مستقل في صقع وجود افراده لا في صقع آخر من الوجود وفي المقام افراد هذا الجامع توجد في صقع المعقول الأولي للذهن وهذا الجامع المتصور بحده موجود في المعقول الثاني وهذا هو المسمّى بالماهية اللابشرط المقسمي.

ثم انه قد يتخيل انَّ القسم الثالث في التعقل الأول ، ليس عبارة عن نفس لحاظ الماهية من دون أَنْ يلحظ معها وجود القيد ولا عدم القيد وانما القسم الثالث الّذي هو اللابشرط القسمي عبارة عن أَنْ يلحظ الماهية ويلحظ معها عدم دخل القيد وجوداً وعدماً فيؤخذ لحاظ عدم التقيد بالوجود والعدم شرطاً في اللابشرط القسمي كما ذهب إليه السيد الأستاذ وقد يتصور انَّ هذا قسم رابع في التعقل الأول وليس هو عين القسم الثالث.

إِلاَّ انَّ الصحيح انَّ هذا لا يمكن جعله من أقسام لحاظ الماهية في التعقل الأول إِذ

٤٠٤

ما هو المقصود من أخذ لحاظ عدم التقييد وعدم دخل القيد؟ فلو كان المقصود لحاظ انَّ القيد غير دخيل في ترتب الحكم على الماهية فحينما يقال ( الإنسان يحرم قتله ) يقال بأنه لوحظ عدم دخل العلم في ترتب الحكم بحرمة القتل فيرد عليه :

أولاً ـ انَّ هذا أجنبي عن محل الكلام بالمرة ، فاننا نتكلم عن اعتبارات الماهية في نفسها وبقطع النّظر عن كيفية ترتب الحكم عليها.

وثانياً ـ انَّ لحاظ عدم دخل القيد مستدرك حتى في مقام ترتب الحكم ، إذ من الواضح انَّ ترتب الحكم على تمام افراد موضوعه من نتائج عدم لحاظ القيد لا من نتائج لحاظ عدم القيد ، فانَّ الطبيعة في نفسها صادقة على كل افرادها إذا لم يلحظ معها قيد.

ولو كان القصد لحاظ عدم تقييد الماهية بما هي هي وبقطع النّظر عن ثبوت حكم لها فحينئذٍ نسأل ما هو المقصود من لحاظ عدم التقييد؟ لو كان المقصود التصديق بأنَّ هذه الماهية التي تصورناها قد وجدت في ذهننا غير مقيدة ، فمن الواضح انَّ هذا خارج عن محل البحث فاننا نتكلم عن أطوار اللحاظ التصوري للماهية كيف واللحاظ التصديقي في طول اللحاظ التصوري فكيف يمكن ان يكون من أطواره وبلحاظ واحد.

ولو كان المقصود اللحاظ التصوري لعدم التقييد بأَنْ يتصور مفهوم الإنسان الّذي لم يقيد بالقيد وجوداً وعدماً فمن الواضح انَّ هذا يكون من التعقل الثاني لا من التعقل الأول فانَّ دخل القيد وعدم دخله من شئون نفس اللحاظ لا من شئون الملحوظ فهو في طول أصل اللحاظ فيكون من التعقل الثاني ويرجع هذا في الحقيقة إلى القسم الثالث في التعقل الثاني.

هذا تمام الكلام حول اعتبارات الماهية.

بعد ذلك يقع البحث حول نقاط ثلاث :

١ ـ انَّ الكلي الطبيعي ينطبق على أيّ من هذه اللحاظات ، فهل ينطبق على اللابشرط القسمي أو اللابشرط المقسمي أو ينطبق على شيء ثالث مثل الماهية المهملة؟

٢ ـ انَّ الماهية المهملة هل هي عبارة عن اللابشرط المقسمي أو غير ذلك؟

٤٠٥

٣ ـ انَّ أسماء الأجناس موضوعة لأيّ من هذه اللحاظات؟

امّا النقطة الأولى ـ فالصحيح انَّ الكلي الطبيعي عبارة عن نفس الملحوظ في اللابشرط القسمي ، فانَّ الكلي الطبيعي كما يفسّرونه عبارة عن المفهوم المنتزع من الخارج ابتداءً أو الّذي هو موجود في الخارج ضمن الافراد وهذا هو عين ما فسرنا به اللابشرط القسمي ، حيث قلنا بأنَّ اللابشرط القسمي يكون موازياً للجامع بين الافراد الخارجية. نعم لو بنينا على ما ذهب إليه السيد الأستاذ من انَّ اللابشرط القسمي عبارة عن المفهوم المقيد بعدم القيد بنحو يكون التقييد مأخوذاً في الملحوظ باللابشرط القسمي فالكلي الطبيعي مغاير مع الملحوظ في اللابشرط القسمي. وامّا بناءً على ما هو الصحيح من انَّ عدم التقييد بقيد يكون مأخوذاً في اللحاظ لا في الملحوظ فلا يبقى أيّ فرق بين الكلي الطبيعي وبين الملحوظ في اللابشرط القسمي.

وقد أشكل السيد الأستاذ على القول بأنَّ الكلي الطبيعي عين اللابشرط القسمي بأنَّ الكلي الطبيعي يكون صالحاً للانطباق على كل افراده بينما اللابشرط القسمي يكون منطبقاً وفانياً بالفعل في تمام الافراد اذن كيف يكون أحدهما عين الاخر؟

وفيه : انه إِنْ أراد بفعلية الفناء في تمام الافراد انَّ الافراد ترى بالنظر التصوري ولو إجمالاً كما في العموم فهذا خلط بين المطلق والعام ، فانَّ اللابشرط القسمي ينتج الإطلاق لا العموم وفي المطلق لا يرى إِلاَّ الطبيعة والحيثية المشتركة دون الافراد وإِنْ أراد بفعلية الفناء انه لو علّق عليه حكم لسرى إلى تمام الافراد فمن الواضح انَّ مثل هذا موجود أيضاً في الكلي الطبيعي فأيّ فعلية تكون موجودة في اللابشرط القسمي ولا تكون موجودة في الكلي الطبيعي؟

وقد ذهب المحقق السبزواري إلى انَّ الكلي الطبيعي عبارة عن الماهية اللابشرط المقسمي ، وهذا أيضاً مما لا يمكن المساعدة عليه بعد ما عرفنا من انَّ اللابشرط المقسمي يكون من التعقل الثاني بينما يكون الكلي الطبيعي من التعقل الأول كما يتضح من تفسيره المتقدم فكأن هذا التوهم نشأ من الخلط بين التعقلين.

وامّا النقطة الثانية ـ فالماهية المهملة هي التي تتميز بخاصيتين :

٤٠٦

الأولى ـ انها منتزعة من الخارج ابتداءً فهي من التعقل الأول.

الثانية ـ انها ملحوظة بلا إضافة قيد وحدّ إليها حتى قيد عدم القيد وعدم الحدّ وهذا هو معنى انَّ النّظر في الماهية المهملة مقصور على ذاتها وذاتياتها.

وحينئذٍ يقع الكلام في انَّ هذه الماهية هل هي اللابشرط القسمي أو المقسمي أو شيء ثالث؟.

وكأنَّهم اتفقوا على انها ليست اللابشرط القسمي واختلفوا بعد ذلك في انها اللابشرط المقسمي ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية ( قده ) ـ أو غير ذلك كما ذهب إليه المحقق الأصفهاني ( قده ) وتابعه السيد الأستاذ.

أقول ـ امّا انها غير اللابشرط المقسمي فهذا صحيح لما تقدم من انَّ الماهية المهملة من التعقل الأول بينما اللابشرط المقسمي من التعقل الثاني فكيف يكون أحدهما عين الاخر.

وامّا انَّ الماهية المهملة غير اللابشرط القسمي فالذي يتحصل من مجموع كلماتهم في تقرير ذلك أحد تقريبين :

١ ـ انَّ الماهية اللابشرط القسمي فيها حدّ وقيد وهو حدّ الإطلاق وعدم التقييد وبهذا صار في قبال المقيد بينما الماهية المهملة عارية عن القيود حتى قيد التعرية عن القيد ولهذا كان جامعاً بين المطلق والمقيد.

وهذا التقريب غير تام بناءً على ما سلكناه في معنى الماهية اللابشرط القسمي من انَّ حدّ الإطلاق وعدم القيد فيها حدّ للحاظ وليس من شئون ذات الماهية الملحوظة بهذا اللحاظ ولا يكون داخلاً في مرحلة المنظور والمرئي به ، فلا مانع من القول بأنَّ الماهية المهملة هي نفس المفهوم المنظور والمرئي باللابشرط القسمي فانَّ المرئي بهذه النظارة يكون عارياً عن كل قيد ويكون مقصوراً على ذات الماهية. نعم بناءً على مسلك السيد الأستاذ القائل بأنَّ اللابشرط القسمي عبارة عن لحاظ الماهية ولحاظ عدم القيد فيها لا إشكال في التغاير بينه وبين الماهية المهملة ، لأنَّ عدم دخل القيد أصبح قيداً في المرئي بنظارة اللابشرط القسمي وهو أمر زائد على الماهية.

٢ ـ انَّ الماهية المهملة هي التي قصر النّظر فيها على ذاتها وذاتياتها كما بينا في

٤٠٧

الخاصية الثانية لها وحينئذٍ لا يمكن أَنْ يحكم عليها بشيء خارج عن ذاتها وذاتياتها مع اننا نرى وجداناً انَّ في اللابشرط القسمي نحكم على الماهية بأشياء كثيرة خارجة عن ذاتها وذاتياتها.

وهذا التقريب غير صحيح أيضاً ، فانَّ قصر النّظر على الذات والذاتيات لا يستلزم عدم جواز الحكم بشيء خارج عن نطاق الذات لوضوح انَّ أيّ موضوع في قضية عند ما يلحظ يقصر النّظر في عقد الوضع من تلك القضية على ذات الموضوع نعم في طرف الحكم إذا لوحظ انَّ الحكم محمول على الموضوع في مرتبة ذاته أو ذاتياته فلا يكون أجنبياً عن الموضوع وإذا لم يلحظ ذلك كان أجنبياً عن الموضوع ، وهذا أيضاً لا فرق فيه بين فرض الموضوع الماهية المهملة أو اللابشرط القسمي فالصحيح انَّ الماهية المهملة عبارة عن نفس الملحوظ باللابشرط القسمي.

وامّا النقطة الثالثة ـ ففي تحقيق معنى أسماء الأجناس ، ولا إشكال في انها غير موضوعة للماهية المقيدة انما الخلاف في وضعها لخصوص المطلقة أو للجامع بين المطلقة والمقيدة وعلى الأول يكون الإطلاق مدلولاً وضعياً بخلافه على الثاني.

والكلام في ذلك يقع في مقامين.

المقام الأول ـ في عالم الثبوت وإمكان أَنْ تكون أسماء الأجناس مطلقة ويمكن أَنْ يذكر إشكالان ثبوتيان بهذا الصدد :

أولهما ـ وهو يناقش فرضية الوضع للماهية المطلقة كما هو ظاهر عبارة المحقق الخراسانيّ ( قده ) من انَّ الإطلاق قيد ثانوي ومن شئون اللحاظ والصورة لا الملحوظ وذي الصورة ، فلو كان قيداً في معنى اسم الجنس لامتنع انطباقه على الخارج لأنَّ المقيد بالأمر الذهني لا محالة.

وفيه : انَّ كون اللفظ موضوعاً بإزاء الصور والمفاهيم لا الوجود الذهني أو الخارجي صحيح فانَّ العلقة الوضعيّة علقة تصورية كما تقدم إِلاَّ انَّ ذلك المفهوم المستلزم للفظ لا بدَّ وأَنْ يكون ملحوظاً ذهناً لا محالة بمعنى انَّ سماع اللفظ يكون مثيراً له في أذهاننا وهو لحاظ لا يكون معه قيد ولا يقصد بالإطلاق أكثر من هذا ، فانَّ المقصود انَّ أسماء الأجناس تثير في الذهن صورة مفهوم ليس معها قيد لا انها تثير مفهوم الماهية التي

٤٠٨

لم يلحظ معها قيد بنحو يكون الإطلاق بمفهومه الاسمي ملحوظاً في المعنى الموضوع له حتى يقال بأنه امر ذهني فلا ينطبق على الخارجيات.

ثانيهما ـ وهو يناقش فرضية الوضع للجامع بين المطلق والمقيد على عكس الإشكال الأول انَّ الماهية المقيدة هي التي لوحظ معها القيد والماهية المطلقة هي التي لم يلحظ معها قيد والجامع بين المطلق والمقيد ذات الماهية بما هي هي سواءً لوحظ معها قيد أم لا وواضح انَّ هذا الجامع لا يمكن أَنْ يلحظ بحده انه إذا لوحظت الماهية فاما أَنْ يلحظ معها القيد فتكون مقيدة أو لا يلحظ فتكون مطلقة ومعه كيف يمكن الوضع بإزاء جامع لا يمكن تصوره ولحاظه بحده؟.

وفيه : أولاً ـ انَّ الماهية حينما نلحظها وإِنْ كانت امّا مطلقة أو مقيدة ولكن حينما لا يلحظ معها قيد فعدم لحاظنا هذا لا يكون بنفسه ملحوظاً مع لحاظ الماهية وانما هو من كيفيات لحاظنا للماهية فالملحوظ ليس إِلاّ ذات الماهية الجامعة بين المطلقة والمقيدة ، فلو فرض انَّ الواضع حينما لاحظ الماهية ولم يلحظ معها أي قيد وضع اسم الجنس لذات ملحوظه فقد وضع اللفظ للطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة ولو فرض انه وضعه للملحوظ بمثل هذا اللحاظ الخالي من لحاظ القيد فقد وضع بإزاء الطبيعة بقيد الإطلاق.

وثانياً ـ لو فرض عدم إمكان لحاظ ذات الماهية الجامع بين المطلق والمقيد بحده الجامعي مع ذلك لا يستعصي الوضع بإزائه عن طريق توسيط عنوان مشير إليه من قبيل عنوان الجامع بين المطلق والمقيد كما في موارد الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

المقام الثاني ـ في مرحلة الإثبات بعد الفراغ عن إمكان الوضع ثبوتاً للماهية المطلقة أو الجامعة بينها وبين المقيدة فهل أسماء الأجناس موضوعة بإزاء الأول أو الثاني؟ وهذا بحث استظهاري بحت. والصحيح فيه انها موضوعة للماهية المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة بشهادة الوجدان القاضي بعدم عناية في موارد استعمال اسم الجنس مع القيد إِلاَّ إذا كان على خلاف مقدمات الحكمة ، فلو فرض في مورد اختلال مقدمات الحكمة كما في موارد كون المتكلم في مقام الإهمال والإجمال لا البيان فلا نحس بأيّ عناية من استعمال اسم الجنس مع لحاظ القيد مع انه لو كان موضوعاً

٤٠٩

للمطلق لكان فيه عناية المجاز.

بقي أَنْ نشير في خاتمة البحث إلى التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين ، أي بحسب عالم اللحاظ وانه من أيّ أقسام التقابل وامّا التقابل الإثباتي بينهما أي بحسب عالم الدلالة فهو من توابع بحث مقدمات الحكمة.

ذكر السيد الأستاذ انَّ التقابل بينهما تقابل التضاد وهذا مبنى منه على انَّ الإطلاق واللابشرط القسمي عبارة عن لحاظ عدم دخل القيد كما انَّ التقييد عبارة عن لحاظ دخله فهما امران وجوديان لا يجتمعان وهو معنى التضاد ، ولكنك عرفت فساد المبنى.

وأفاد المحقق النائيني ( قده ) انَّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فهو يسلّم انَّ الإطلاق عدم القيد ولكنه يقول بأنه عبارة عن عدم التقييد في مورد قابل للتقييد.

وفيه : انَّ الإطلاق الثبوتي للماهية لا يشترط فيه أنْ تكون الماهية قابلة للتقييد ، فانَّ سعة الماهية وانطباقها على تمام الافراد أمر ذاتي لها ما لم يثبت إضافة القيد في مقام اللحاظ ، نعم الإطلاق الإثباتي في مقام الدلالة الثابت بمقدمات الحكمة منوط بقابلية المورد للتقييد فانه مع عدم إمكانه لا تتم مقدمات الحكمة. إِلاَّ انَّ هذا خارج عن محل الكلام فكأنه وقع خلط بين عالمي الثبوت والإثبات.

وهكذا يتعين القول الثالث في التقابل بين الإطلاق والتقييد وهو تقابل السلب والإيجاب فانه يكفي في الإطلاق عدم التقييد.

نعم بالدقة التقييد يصنع مفهوماً وحدانياً جديداً بناءً على ما تقدم في بحث النسب الناقصة من المعاني الحرفية وليس نسبته إلى المطلق نسبة الأكثر إلى الأقل ليكون التقابل بينهما بنحو السلب والإيجاب في المقدار الزائد ، فهناك مفهومان أحدهما المطلق وهو الأوسع والاخر المقيد وهو الأضيق صدقاً والمفهوم المطلق دائماً يكون مطلقاً والمقيد دائماً كذلك أيضاً لا انَّ أحدهما يعرض على الاخر ، إِلاَّ انه حيث كان مجرد عدم التقييد يساوق ثبوت الإطلاق ولو كان التقييد يوجب تبدل المفهوم الأول إلى مفهوم آخر أمكن أَنْ يقال بنحو التسامح انَّ التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب.

وهناك بعض الثمرات العملية المترتبة بين الأقوال

٤١٠

منها ـ انه بناءً على القول الثالث لا يتصور شق ثالث في قبال المطلق والمقيد بينما لا موجب لافتراض استحالة الشق الثالث بناءً على القولين الآخرين فيسمى بالماهية المهملة مثلاً ومن هنا انجر الكلام عندهم إلى التكلم في إمكان الشق الثالث واستحالته فذهب بعضهم إلى استحالته ثبوتاً وذهب اخر إلى إمكانه ثم انجر الكلام إلى انه ما هي نتيجة هذا الشق فهل هو يعني ثبوت الحكم للمقيد أو لمطلق الافراد؟ فقال بعضهم بأنَّ نتيجته الإطلاق وسماه بالإطلاق الذاتي وسمى المطلق بالمطلق اللحاظي.

ومنها ـ انه بناءً على القول باستحالة التقييد بما يكون في طول الحكم ـ أي القيود الثانية ـ يتعين الإطلاق لو اخترنا القول الثالث ويستحيل الإطلاق بناءً على القول الثاني فانَّ الإطلاق بناءً عليه معقول في مورد قابل للتقييد والمفروض استحالته.

الفصل الثاني : ـ

في مقدمات الحكمة : ـ

عرفنا في الفصل السابق انَّ اسم الجنس لا دلالة له بالوضع على الإطلاق إذ انه لم يوضع لخصوص المطلق بل انما وضع للجامع بين المطلق والمقيد. لكن لا إشكال في دلالته على ذلك ولو في الجملة وضمن شروط معينة ، فلا بدَّ من أَنْ تكون هذه الدلالة مبنية على أساس قرينة عامة تقتضي الإطلاق وهذه القرينة العامة هي التي تسمى بمقدمات الحكمة.

وفي مقدمات الحكمة مسلكان :

المسلك الأول ـ هو انَّ الإطلاق وإِنْ لم يكن مدلولاً وضعاً لاسم الجنس لكنه مدلول التزامي لظهور حالي سياقي ينعقد عادة في كلام المتكلم. وهذا الظهور الحالي السياقي عبارة عن ظهور حال المتكلم في انه بصدد بيان تمام مرامه بكلامه. فانَّ هذا الظهور الحالي يدل بالالتزام على انَّ هذا المتكلم قد قصد المطلق لا المقيد ، فانه إِنْ كان قد قصد المقيد كان معنى ذلك انه لم يبين تمام مرامه بكلامه إذ انه جاء بلفظ يدل على الماهية ولم يأتِ بلفظ يدل على القيد ـ أو على التقييد بالتعبير الأصح ـ فيكون قد بين بكلامه بعض مرامه لا تمام مرامه ، وهذا خلف الظهور الحالي السياقي المذكور فمقتضى

٤١١

الدلالة الالتزامية لهذا الظهور الحالي انه أراد المطلق.

وهنا قد يبدو اعتراض حاصله : انَّ هذا الخلف لازم على كلا التقديرين أعني سواء كان مراده المطلق أو كان مراده المقيد ، لأنَّ خصوصية الإطلاق ـ كما ظهر في الفصل السابق ـ غير داخلة في المعنى الموضوع له اسم الجنس ، فكما انه إذا أراد المقيد فهو لم يبين تمام مرامه بكلامه كذلك لو أراد المطلق لم يبين تمام مرامه بكلامه أيضا لأنَّ اسم الجنس لا يدلّ إِلاَّ على ذات الإطلاق دون خصوصية الإطلاق والتقييد.

ويمكن التخلص عن هذا الاعتراض بأحد أجوبة ثلاثة :

الجواب الأول ـ انَّ خصوصية الإطلاق ـ كما شرحناه سابقاً ـ غير داخلة تحت اللحاظ بل انما هي من شئون اللحاظ ذاته والظهور الحالي السياقي المذكور انما يقتضي كون المتكلم بصدد بيان كل ما يدخل تحت لحاظه لا كل ما هو في ذهنه حتى ما يرتبط بذات اللحاظ. وحينئذٍ إِنْ كان مرامه المطلق فما يدخل تحت لحاظه لا يزيد على ذات الماهية فليس عليه بمقتضى الظهور المذكور إِلاَّ أَنْ يأتي بما يدل على ذات الماهية ويكفي ذلك للاجتناب عن مخالفة هذا الظهور ، وامّا إِنْ كان مراده المقيد فمن الواضح انَّ ما يدخل تحت لحاظه يزيد على ذات الماهية لأنه حينئذٍ انما يرى الماهية المقيدة لا خصوص ذات الماهية فيجب عليه أَنْ يأتي بما يدل على القيد وإِلاَّ خالف الظهور المذكور. وهكذا يظهر انه لا يلزم الخلف على كلا التقديرين بل انما يلزم الخلف في فرض إرادة المقيد فحسب وبهذا يتم الدلالة الالتزامية على إرادة الإطلاق.

ولا يخفى انَّ هذا الجواب انما يتم بناءً على ما ذهبنا إليه من انَّ خصوصية الإطلاق في المطلقات غير داخلة تحت اللحاظ بل انما هي من شئون اللحاظ ذاته. وامّا بناءً على ما ذهب إليه السيد الأستاذ من انَّ المطلق ما لوحظ فيه عدم القيد بحيث تكون خصوصية الإطلاق داخلة تحت اللحاظ. فلا يتم الجواب المذكور ، إذ يقال حينئذٍ بأنه في فرض إرادة الإطلاق أيضاً يوجد تحت لحاظ المتكلم امر زائد على ذات الماهية لم يبيّنه في كلامه وهذا خلف الظهور الحالي المذكور.

الجواب الثاني ـ اننا لو سلمنا بأنَّ خصوصية الإطلاق داخلة تحت اللحاظ وفاقاً للسيد الأستاذ فنقول بأنَّ خصوصية الإطلاق انما تدخل تحت اللحاظ في مرحلة

٤١٢

المدلول التصوري للفظ وامّا في مرحلة المدلول الجدي أعني مرحلة الإسناد والحكم فلا يمكن أَنْ تكون خصوصية الإطلاق ملحوظة وداخلة ضمن المراد الجدي للمتكلم إذ انه يستلزم حينئذٍ حمل المحمول لا على ذات الموضوع بما هو فانٍ في الخارج بل على ذات الموضوع بما هو مطلق ومجرد عن القيد وهذا لازم فاسد إذ من الواضح انه ليس من افراد هذا الموضوع في الخارج ما يكون مطلقاً ومجرداً عن القيد كي يكون هو المقصود بالمحمل. إذاً فخصوصية الإطلاق على فرض إرادة المطلق إِنْ كان داخلاً تحت اللحاظ فانما هو من شئون الاستعمال للفظ وامَّا بلحاظ المدلول الجدي فلا شك في انَّ ما هو المقصود انما هو ذات الماهية دون لحاظ خصوصية الإطلاق فيها. وما ذكر من ظهور حال المتكلم في انه في مقام بيانه تمام مرامه بكلامه انما هو بلحاظ المدلول الجدي للكلام أي انَّ مقتضى حال المتكلم انَّ كل ما يدخل في مراده الجدي يبينه بكلامه.

فهو حينئذٍ إِنْ كان يريد المطلق فليس في مراده الجدي أمر زائد على ذات الماهية كما وضحناه ، وإِنْ كان يريد المقيد فيوجد في مراده الجدّي أمر زائد على ذات الماهية لا بدَّ من بيانه. وبذلك يكون قد خالف الظهور الحالي المذكور على الفرض الثاني دون الفرض الأول.

الجواب الثالث ـ اننا لو تنازلنا عن الجوابين السابقين وافترضنا انَّ خصوصية الإطلاق داخلة تحت اللحاظ حتى في مرحلة المراد الجدي مع ذلك نقول : انَّ إرادة المطلق وإِنْ كان خلفاً أيضاً للظهور الحالي المذكور كإرادة المقيد لكن يمكن تعيين المطلق في مقابل المقيد بأصالة عدم العناية الزائدة بناءً على دعوى انَّ خصوصية الإطلاق أقل مئونة من خصوصية التقييد ، فانَّ زيادة المطلق على ذات الماهية وإِنْ لم تكن تقل بالنظر الدّقيق عن زيادة المقيد لأنَّ هذا يزيد على ذات الماهية بلحاظ عدم دخل القيد وذاك قيد وذاك يزيد عليها بلحاظ دخل القيد ، لكن النّظر العرفي يقضي بأقلية زيادة المطلق عن زيادة المقيد ، لأنَّ زيادة المطلق عبارة عن لحاظ العدم وزيادة المقيد عبارة عن لحاظ الوجود فإرادة المطلق تصبح أقل عناية وأقلّ مخالفة للظهور الحالي المذكور من إرادة المقيد بحسب هذا النّظر فيتعيّن الأول بالأظهرية.

٤١٣

هذه ثلاثة أجوبة يمكن أَنْ يُجاب بها عن الاعتراض المذكور على المسلك الأول في مقدمات الحكمة.

وهذا المسلك تام وصحيح وبه تظهر النكتة فيما نقوله دائماً من انَّ الإطلاق الحكمي انما يرتبط بالمدلول التصديقي للكلام لا بالمدلول التصوري ، لأنه كما أوضحنا فرع الظهور الحالي السياقي المذكور وهو انما يعين المدلول التصديقي للكلام لأنه ـ كما سبق ـ عبارة عن ظهور حال المتكلم في انه بصدد بيان تمام ماله دخل في حكمه الجدي بكلامه والمدلول الالتزامي لهذا الظهور انَّ هذا المتكلم الّذي اقتصر في كلامه بما يدل على ذات الماهية ليس في مراده الجدي قيد زائد على ما دل عليه كلامه وهذا كما تراه إطلاق في مرحلة المراد الجدي للمتكلم مهما اخترنا من الأجوبة الثلاثة على الاعتراض الّذي سبق ذكره.

وهنا قد يقال بأن الوجدان قاض بان الإطلاق ثابت في مرحلة المدلول التصوري فاننا متى ما سمعنا ( أحلّ الله البيع ) مثلاً نجد انّ ما ينطبع في أذهاننا من كلمة ( البيع ) انما هي صورة ذهنية عن ماهية البيع من دون أَنْ يكون إلى جنبها صورة عن القيد ، إذاً فقد تصورنا الماهية من دون قيد وهو معنى الإطلاق ـ بناءً على ما اخترناه من انَّ الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد لا لحاظ عدم القيد ـ وهذا معناه انَّ كلمة ( البيع ) دلّت دلالة تصورية وبقطع النّظر عن مرحلة المراد الجدّي على الماهية المطلقة للبيع.

والجواب : انه لا إشكال في حصول الصورة المطلقة عن الماهية في ذهن السامع بناءً على ما نحن عليه من انَّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيد. لكن هذا لا يعني انَّ هذه الصورة المطلقة قد حصلت بتأثير اللفظ بكلا عنصريها فانَّ العنصر الوجوديّ في هذه الصورة الّذي يساوق ذات الماهية لا شك في حصوله بتأثير اللفظ فهو إذاً مدلولٌ للّفظ لكن العنصر العدمي منها الّذي هو عبارة عن عدم القيد غير حاصل بتأثير اللفظ بل انما هو أثر تكويني لعدم وجود ما يدل على القيد ضرورة انَّ ( عدم الشيء معلول لعدم علّته ) فعدم حصول صورة القيد في ذهن السامع معلول لعدم اشتمال كلام المتكلم على ما يوجب حصول ذلك في ذهنه. وبهذا يظهر انَّ الإطلاق الّذي نشعر به وجداناً عقيب اللفظ غير ناشئ من دلالة اللفظ عليه بل انما هو ناشئ من عدم دلالة اللفظ على

٤١٤

القيد ، إذاً فهو امر تكويني لا يمكن تحميله على المتكلم إذ ليس المتكلم هو الّذي كوّن هذا الإطلاق في ذهن المخاطب بكلامه فليس في هذا الإطلاق التكويني أيّ كشف عن مراد المتكلم ليمكن التمسك به لإثبات إرادة الإطلاق. وهذا بخلاف ما إذا كان الإطلاق التصوري مدلولاً عليه باللفظ فانه حينئذٍ يكشف عن مراد المتكلم ويمكن التمسك به لإثبات إرادة الإطلاق.

إذاً فقد ظهر انَّ الإطلاق بناءً على هذا المسلك الأول انما هو في مرحلة مراد المتكلم وليس داخلاً في المدلول التصوري لكلامه وإِنْ كان الحاصل تكويناً في ذهن السامع عند إطلاق اللفظ هي الصورة المطلقة عن الماهية بناءً على انَّ الإطلاق عدم لحاظ القيد لا لحاظ عدم القيد.

المسلك الثاني ـ أَنْ يقال بأنَّ اسم الجنس وإِنْ كان موضوعاً للطبيعة المهملة بحيث لو استعمل في المقيد لم يكن مجازاً ، لكن عدم ذكر القيد بنفسه يدل على الإطلاق من دون حاجة إلى التمسك بذاك الظهور الحالي السياقي المذكور في المسلك الأول ، وهذا الكلام له تقريبان :

التقريب الأول ـ أَنْ يقال بأنَّ اسم الجنس في حدِّ ذاته موضوع للطبيعة المهملة لكن عدم ذكر القيد موضوع بوضع آخر لخصوصية الإطلاق بحيث يكون هذا الوضع الثاني منصباً امّا على مجرد ( عدم ذكر القيد ) أو على اسم الجنس ذاته مع خصوصية عدم القيد ليكون اسم الجنس موضوعاً بوضعين أحدهما لا بشرط تجاه ذكر القيد وعدمه والثاني مشروط بعدم ذكر القيد ، والموضوع في الوضع الأول هو ذات الطبيعة المهملة وفي الوضع الثاني هو خصوص الطبيعة المطلقة ، وحينئذٍ سواءً كان الوضع الثاني منصباً على مجرد ( عدم ذكر القيد ) أو على اسم الجنس ذاته مع هذه الخصوصية ، فانَّ اسم الجنس لو استعمل وحده من دون قيد استفيد من ذلك الإطلاق ببركة الوضع الثاني وامَّا إذا استعمل مع القيد استفيد منه المقيد من دون أنْ يلزم المجازية ، لأنَّ اسم الجنس لو استعمل مع القيد فليس له حينئذٍ إِلاّ وضعٌ واحد للطبيعة المهملة فيدل هو مع القيد ـ بنحو تعدد الدال والمدلول ـ على الطبيعة المقيدة. وبهذا نستطيع أنْ نجتنب المجازية في موارد التقييد في حين نستفيد المطلق في موارد الإطلاق.

٤١٥

قد يقال : انه بناءً على كون الوضع الثاني منصباً على اسم الجنس مع خصوصية التجرد عن ذكر القيد سوف يكون اسم الجنس مشتركاً لفظياً عند استعماله مجرداً عن القيد وحينئذٍ ما المعيّن للوضع الثاني في مقابل الوضع الأول حتى نستفيد الإطلاق بالوضع الثاني.

وقد يجاب على هذا : بأنَّ الأصل في المشترك اللفظي أَنْ يكون مستعملاً في جميع معانيه وانما نرفع اليد عن ذلك لاستلزامه تعدد اللحاظ وهو هنا لا يستلزم ذلك لأنَّ الموضوع له بالوضع الأول هي الطبيعة المهملة والموضوع له بالوضع الثاني هي الطبيعة المطلقة والطبيعة المهملة موجودة ضمن الطبيعة المطلقة إذاً فبإمكان المتكلم أَنْ يلحظ الطبيعة المهملة ضمن الحصة المطلقة منها وبذلك يكون قد لاحظ كلا المعنيين بلحاظ واحد فيستعمل اللفظ فيهما وطالما لا توجد غائلة تعدد اللحاظ في المقام فالمتعين حمل اللفظ على كلا المعنيين ـ بالنحو الّذي ذكرنا ـ والنتيجة هي الإطلاق لأنّه قد قصد الطبيعة المهملة ضمن الحصة المطلقة.

هذا ما قد يجاب به على الاعتراض المذكور فانْ تم فهو وإِلاَّ فالمتعين في هذا التقريب هو القول بأنَّ اسم الجنس في حدِّ ذاته موضوع بوضع واحد فقط وهو للطبيعة المهملة لكن خصوصية تجرده عن ذكر القيد موضوعة بوضع مستقل لخصوصية الإطلاق.

هذا هو التقريب الأول لاستفادة الإطلاق من عدم ذكر القيد بلا حاجة إلى التمسك بالظهور الحالي المذكور في المسلك الأول.

ويرد على هذا التقريب ـ بعد الاعتراف بمعقوليته ثبوتاً ـ انه خلاف الاستظهار العرفي ، فانَّ الملحوظ خارجاً ـ في موارد عدم تمامية ذاك الظهور الحالي السياقي المذكور في المسلك الأول ـ اننا لا نستفيد الإطلاق بمجرد عدم ذكر القيد. وهذا منبه وجداني لعدم إمكان الاستغناء عن ذاك الظهور الحالي وعدم كفاية تجرد الكلام عن القيد للدلالة على الإطلاق.

التقريب الثاني ـ أَنْ يقال بأنَّ العقلاء تعهدوا وتبانوا على انه متى ما لم يذكروا القيد فهم يريدون الإطلاق وهذا التعهد يوجب انصراف الذهن إلى ذلك بالرغم من انَ

٤١٦

اسم الجنس في حد ذاته ليس موضوعاً للماهية المطلقة بل للماهية المهملة ولهذا لو استعمل مع القيد وأُريد به المقيد لم يكن مجازاً.

وهذا التقريب انما يكون تقريباً مستقلاً في قبال التقريب الأول إذا بنينا على انَّ التعهد ليس هو معنى الوضع ـ كما هو الصحيح ـ امّا إذا بنينا على انَّ التعهد هو معنى الوضع فحينئذٍ من الواضح انَّ مرجع هذين التقريبين سوف يكون إلى شيء واحد.

ويرد على هذا التقريب أيضاً ما أوردناه على التقريب السابق من انه يستلزم استفادة الإطلاق حتى في موارد عدم تمامية ذاك الظهور الحالي في حين انه لا يستفاد ذلك في تلك الموارد. هذا بالإضافة إلى ما يرد على مثل هذه التعهدات مما سبق ذكره في باب الوضع.

إذاً فالصحيح في هذا الباب هو المسلك الأول القائل بأنَّ الإطلاق مدلول التزامي لظهور حالي سياقي يقتضي كون المتكلم بصدد بيان تمام مرامه بكلامه.

وما ذكرناه في هذا المسلك عبارة عن صياغة فنية لمقدمات الحكمة التي يعددها الأصحاب فلنبدأ بتطبيق ذلك على تلك المقدمات.

وقد ذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) في مقام بيان مقدمات الحكمة ثلاث مقدمات هي :

أولاً ـ أَنْ يكون المتكلم في مقام البيان لا في مقام الإهمال والإجمال.

ثانياً ـ أَنْ لا ينصب قرينة متصلة على التقييد.

ثالثاً ـ أَنْ لا يكون بين الافراد قدر متيقن في مقام التخاطب.

امّا المقدمة الأولى فقيل بأنها تثبت بالأصل فانَّ الأصل في حق كل متكلم أَنْ يكون في مقام البيان لا في مقام الإهمال والإجمال ، وهذا الأصل إِنْ أرادوا به الظهور فهو ما قلناه من انَّ ظاهر حال كل متكلم انه في مقام بيان تمام مرامه بكلامه ، وإِنْ أرادوا به الحجية العقلائية بمعنى انَّ العقلاء تبانوا على حمل كلام المتكلم على انه صادر في مقام البيان بحيث يكون كل كلام حجة تعبداً على انَّ صاحبه في مقام البيان ، فجوابه : انه لا يوجد في المقام أصل عقلائي تعبدي ما عدى أصالة الظهور فليس تباني العقلاء على الحمل المذكور إِلاَّ صغرى من صغريات أصالة الظهور. والخلاصة

٤١٧

انه لا يوجد في المقام إِلاَّ الظهور الحالي المذكور مع كبرى حجية الظهور وهذا هو جوهر القضية في المقدمة الأولى وإِنْ كانت كلمات الأصحاب غائمة في المقام.

ثم انَّ هذا الظهور الّذي ترمز إليه المقدمة الأولى لا يعيّن انَّ المتكلم في مقام بيان أي شيء وانما يعيّن انَّ الشيء الّذي هو في مقام بيانه يكون هو بصدد بيان تمامه ، فانَّ كل كلام يصدر من المتكلم لا بدَّ وأَنْ يكون بصدد معنى وبعد أَنْ يتعين ذلك المعنى بالظهورات اللفظية يأتي دور ظهور حال المتكلم في انه في مقام بيان تمام ذلك المعنى فمثلاً عند ما يقول المولى. « كلوا مما افترسه الكلب » يجب أَنْ نعيّن أولاً انه هل بصدد الإرشاد إلى تذكية فريسته أو إلى طهارة فريسته وبعد استظهار المعنى الأول مثلاً يأتي دور ظهور حال المولى في انه بصدد بيان كل ماله دخل في المعنى الّذي عيناه بالاستظهار ، والمدلول الالتزامي لهذا الظهور حينئذٍ انه لا يقصد نوعاً معيناً من ماهية الكلب وإِلاَّ لكان تركه لذكر القيد الّذي يعيّن ذلك النوع خلفاً للظهور المذكور.

والخلاصة انَّ دور المقدمة الأولى انما يبدأ بعد تعيين أصل المرام. وهذا هو المعنى بكلمات الفقهاء في الاستدلالات الفقهية من المنع أحياناً عن التمسك بدلالة إطلاقية بدعوى عدم كون المطلق مسوقاً لبيان هذه الجهة مع اعترافهم بان مقتضى الأصل كون المتكلم في مقام البيان وامّا المقدمة الثانية فقد جاءت بصياغتين :

الصياغة الأولى : ما نقلناها عن المحقق الخراسانيّ ( قده ) وهي ( عدم نصب قرينة متصلة على التقييد ).

الصياغة الثانية : ما جرى عليها رأي مدرسة المحقق النائيني ( قده ) وهي ( عدم نصب قرينة متصلة أو منفصلة على التقييد ).

وهاتان الصياغتان مشتركتان في اشتراط عدم نصب قرينة متصلة على التقييد وتمتاز الصياغة الثانية باشتراط عدم نصب قرينة منفصلة على التقييد أيضا. فنتكلّم أولا فيما به الاشتراك بين الصياغتين وثانياً فيما امتازت به الصياغة الثانية.

امّا فما به الاشتراك بين الصياغتين أعني اشتراط عدم نصب قرينة متصلة على التقييد. ففيه ثلاثة احتمالات :

٤١٨

الاحتمال الأول ـ أَنْ يكون المقصود بالقرينة خصوص ما يصلح للقرينية حتى في فرض كون الاستيعاب وضعياً ، كأن يصرح بالقيد على نحو التوصيف فيقول مثلاً ( أكرم العالم العادل ) أو يكون المقيد في جملة أخرى متصلة وصالحة للقرينية امّا بالأخصية كأن يقول ( أكرم العالم ولا تكرم فساق العلماء ) أو بالنظر كأن يقول ( أكرم العالم وليكن العالم عادلاً ). فانَّ القرينة في مثل هذه الموارد صالحة للقرينية ـ على ما هو الصحيح ـ حتى لو أبدلنا الإطلاق بالعموم الوضعي فقلنا مثلاً ( أكرم كل عالم عادل ) و( أكرم كل عالم ولا تكرم فساق العلماء ) و( أكرم كل عالم وليكن عادلاً ) ومقتضى هذا الاحتمال انَّ ما ينافي الدلالة الإطلاقية انما هو مثل هذه القرينة ، وامّا إذا اكتفى في مقام نصب القرينة بإبراز نفي الحكم عن الحصة غير الواجدة للقيد ضمن مطلق آخر أو ضمن عام فلا ينافي ذلك الدلالة الإطلاقية لأنَّ هذا العام أو المطلق الاخر لا يصلح للقرينية حتى في فرض تبديل ذلك المطلق بالعموم الوضعي ، ضرورة انَّ النسبة حينئذٍ بين العامين أو بين العام والمطلق تكون هي العموم من وجه ، وحينئذٍ تتم الدلالة الإطلاقية في هذا المطلق غاية الأمر انه يكون مزاحماً بالدلالة الإطلاقية في المطلق الاخر أو بالدلالة الوضعيّة في العام. فمثلاً إذا قال ( أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ) أو ( أكرم العالم ولا تكرم كل فاسق ) فبناءً على الاحتمال المذكور ليست الجملة الثانية منافية لمقتضى الإطلاق في ( أكرم العالم ) وإِنْ كانت مزاحمة له.

الاحتمال الثاني ـ أَنْ يكون المقصود بالقرينة ما يشمل نفي الحكم عن الحصة غير الواجدة للقيد ضمن عام وضعي نسبته إلى هذا المطلق نسبة العموم من وجه كما في ( أكرم العالم ولا تكرم كل فاسق ) لا ضمن مطلق آخر نسبته كذلك. ومقتضى هذا الاحتمال انَّ ما ينافي الدلالة الإطلاقية لا يختص بما كان ينافيها بناءً على الاحتمال الأول بل يشمل ما كان ضمن العموم بالنحو الّذي بيّنا دون ما كان ضمن الإطلاق وعليه فقوله : ( لا تكرم كل فاسق ) عقيب ( أكرم العالم ) ينافي أصل انعقاد الإطلاق في أكرم العالم لا انه ينعقد الإطلاق ويزاحمه. بخلاف ما إذا قال ( لا تكرم الفاسق ) عقيب قوله ( أكرم العالم ) فانَّ مقتضي الإطلاق حينئذٍ في كلّ من الجملتين بناءً على هذا الاحتمال تام ولكنهما متزاحمان.

٤١٩

الاحتمال الثالث ـ أَنْ يكون المقصود بالقرينة ما يكون بياناً في نفسه لو لا المطلق فيشمل نفي الحكم عن الحصة غير الواجدة للقيد ضمن مطلق آخر أيضاً بحيث لا يتم مقتضي الإطلاق في قوله ( أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ) لا بلحاظ ( العالم ) في الجملة

الأولى ولا بلحاظ ( الفاسق ) في الجملة الثانية.

هذه ثلاثة احتمالات فيما به الاشتراك بين الصياغتين المذكورتين للمقدمة الثانية من مقدمات الحكمة. وما به الاشتراك بين هذه الاحتمالات الثلاث عبارة عن اشتراط عدم ذكر ما يصلح للقرينية بالنحو المذكور في الاحتمال الأول ، ولا شك في مساهمة ذلك في تكوين الدلالة الإطلاقية إذ بدونه لا تتم الملازمة بين إرادة الإطلاق وبين مقتضى ظهور حال المتكلم في انه بصدد بيان تمام مرامه ، فانه إِنْ كان يريد المقيد وقد نصب القرينة على التقييد بالنحو المذكور في الاحتمال الأول فبيانه حينئذٍ يفي بتمام مرامه حتماً فيكون قد عمل بمقتضى ظهور حاله. ولكي تتم الملازمة بين إرادة الإطلاق وبين مقتضى الظهور الحالي المذكور نكون بحاجة إلى اشتراط عدم وجود قرينة يكون الكلام معها وافياً بتمام المرام في فرض إرادة التقييد ولا شك في انَّ وجود القرينة بالنحو المذكور في الاحتمال الأول يوجب وفاء الكلام بتمام المرام في فرض إرادة التقييد إذاً فلا تتم معها الملازمة بين مقتضى ظهور حال المتكلم في انَّ كلامه يفي بتمام مرامه وبين كون مرامه هو المطلق لا المقيد. وبهذا يظهر انَّ القدر المتيقن الّذي لا شك في مساهمته في تكوين الدلالة الإطلاقية هو عدم نصب ما يصلح للقرينية حتى في فرض تبديل المطلق بالعموم الوضعي بالنحو المذكور في الاحتمال الأول.

وامّا ما يمتاز به الاحتمال الثاني على الاحتمال الأول وما يمتاز به الاحتمال الثالث على الاحتمال الثاني فيجب أَنْ نرجع فيهما أيضاً إلى ذلك الظهور الحالي السياقي لنرى انَّ دلالته الالتزامية على الإطلاق هل تتوقف أيضاً على شيء منهما أم لا؟ وامّا ما يمتاز به الاحتمال الثالث على الاحتمال الثاني وهو عبارة عن عدم بيان التقييد ضمن مطلق اخر نسبته إلى هذا المطلق نسبة العموم من وجه. فلا ينبغي الشك في انه لا يساهم في تمامية الدلالة الالتزامية المذكورة لأنَّ الملازمة موجودة حتى مع

٤٢٠