بحوث في علم الأصول - ج ٣

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٥

امتناع اجتماع الأمر والنهي وافتراض عدم تمامية ملاكات جواز الاجتماع لا بدَّ وأَنْ يسري هذا الحب من الجامع إلى الحصة والفرد فيقع التزاحم بين هذا الحب الّذي يكون بملاك إلزاميّ وبين بغض هذا الفرد الّذي يكون بملاك كراهتي وبعد التزاحم لا بدَّ وأَنْ يزول البغض امام الحب لأقوائية ملاك الحب بحسب الفرض ، مع انَّ المفروض أنَّ هذا الفرد المنهي عنه مبغوض بالفعل بالبغض الكراهتي.

اذن فالمبغوضية الفعلية لهذا الفرد المستكشفة من النهي تكون دليلاً على انَّ الجامع المنطبق على هذا الفرد ليس واجداً لملاك المأمور به ، وهذا يعني انَّ هذا الفرد من العبادة يقع باطلاً بنكتة قصوره الذاتي وعدم وجدانه للملاك ، وهذا في الحقيقة هو البرهان الأول من البراهين السبعة المتقدمة وهو صحيح في المقام(١).

وإِنْ لم يصح في النهي التحريمي ، فانه في النهي التحريمي كان يحتمل أَنْ يكون المنهي عنه واجداً لمصلحة المأمور به ومع هذا يكون مبغوضاً باعتبار أقوائية المفسدة على المصلحة ، لكن هنا لا يحتمل ذلك للعلم بأضعفية المفسدة فلو كان المنهي عنه واجداً لمصلحة المأمور به لزالت المبغوضية عنه حتماً.

وامّا لو التزمنا بجواز اجتماع الأمر والنهي بدعوى : انَّ الأمر متعلق بصرف الوجود والنهي متعلق بالحصة فالظاهر انَّ النهي الكراهتي لا يقتضي الفساد ، فانَّ البراهين الأربعة الأولى لاقتضاء النهي للفساد كانت مختصّة بفرض الامتناع ، والبرهان الخامس والسادس لم يكونا صحيحين في أنفسهما ، والبرهان السابع كان على أساس دعوى ارتكازية انه يشترط في صحة العبادة عدم وجود داع شيطاني ، والقدرة المتيقن

__________________

(١) هذا انما يصح في خصوص ما إذا لم تكن مندوحة للمأمور به وامّا مع وجودها فلا مانع من عدم سريان الحب الفعلي إلى الفرد المكروه رغم كون ملاك الأمر ومصلحته الالتزامية موجوداً في مورد النهي ، وهذا واضح جداً لو جعلنا الإرادة التشريعية غير الحب والشوق فانَّ المولى سوف تتعلق إرادته التشريعية بالجامع ضمن غير الفرد المكروه رغم وجدان هذا الفرد أيضاً للمصلحة حفاظا على الملاكين اللذين يمكن الجمع بينهما مولوياً.

وامّا إذا قلنا بأنَّ الإرادة هي الحب والشوق الّذي هو أمر تكويني غير اختياري فقد يُقال حينئذ بناء على الامتناع وتعلق الحب بكل فرد بنحو التخيير الشرعي ان الفرد المكروه لو كان واجداً لمصلحة المأمور به الإلزامية لسرى الحب إليه وباعتبار أقوائية ملاكه تقدم على الكراهة والبغض في مقام التزاحم.

إلاّ أنَّ هذا الكلام غير تام لأنَّ دليل هذه السراية هو الوجدان وهو يحكم في المقام بإمكان مبغوضية الفرد المكروه بالفعل رغم وجدانه لمصلحة الأمر إذا كان هناك مندوحة ، وعليه فلا يتم البرهان الأول هنا أيضا كما لم يتم في النهي التحريمي.

١٢١

من هذا الارتكاز انه يشترط عدم وجود داع شيطاني عصياني بحيث يترتب على مقتضاه العقاب ولا يشمل مثل مخالفة النهي الكراهتي.

التنبيه الثاني ـ النهي كما قد يتعلق بأصل العبادة كذلك قد يتعلق بجزئها أو شرطها.

فلو تعلق النهي بجزء العبادة فحيث انَّ المفروض انَّ جزء العبادة عبادة فالنهي يقتضي فساد الجزء لو لم يتداركه فيبطل أصل العمل باعتبار نقصان جزئه ولو تداركه صح العمل ما لم يكن هناك محذور آخر كالزيادة ونحوها.

إلاّ إِنَّ الميرزا ( قده ) ذكر : بأنَّ الجزء إذا كان محرماً فيتقيد الواجب بغيره ، وهذا يعني انه يكون مانعاً عن صحة العمل فلو أتى به يبطل من ناحية المانع.

ولا أدري انه كيف صدر هذا الكلام منه ( قده ) مع جلالة قدره : فانَّ ما أُفيد من انَّ تحريم هذا الجزء يوجب تقييد الواجب بغيره صحيح إلاّ انَّ هذا لا يعني انَّ هذا الجزء لا يقع مصداقاً للواجب ولا يعني كونه مانعاً من صحة الواجب.

ولو تعلق النهي بشرط العبادة ، فلو كان الشرط في نفسه عبادة كالوضوء يبطل لا محالة (١) وببطلانه يبطل المشروط أيضاً ، ولو لم يكن الشرط عبادة فيمكن التمسك حينئذ بإطلاق دليل الشرطية لإثبات انَّ هذا مصداق للشرط ، وهنا ذكر السيد الأستاذ وجملة من الأصحاب انَّ المسألة تدخل في كبرى اجتماع الأمر والنهي ، فانَّ الفعل يكون مأموراً به باعتباره شرطاً شرعاً في الواجب ويكون أيضاً محرماً ومثاله التستر بثوب مغصوب.

إلاّ اننا قلنا في بحث الاجتماع انَّ هذا خارج عن بحث الاجتماع ، فانَّ النهي تعلق بالقيد لا بالتقيد والأمر الضمني في الشرط يتعلق بالتقيّد ولا يسري إلى القيد فمصب أحدهما غير مصب الاخر.

التنبيه الثالث ـ في انَّ الحرمة التشريعية هل توجب البطلان كالحرمة الذاتيّة أم لا؟

__________________

(١) ولكن يبقى فرق بين الشرط والجزء من حيث إمكان التمسك بإطلاق دليل الشرطية في مورد النهي عند الجهل وعدم تنجز الحرمة ، إذ لا مانع من إطلاقها له بعد ان كان النهي الواقعي متعلقاً بالقيد والأمر متعلق بالتقيد.

١٢٢

فنقول : لو افترضنا انَّ المكلف كان يعلم بأنَّ العبادة غير مأمور بها أصلاً فتسرَّع وأتى بها بقصد انها مأمور بها فلا إشكال في وقوع العبادة باطلة ، لا على أساس حرمة التشريع بل على أساس انَّ المفروض عدم تعلق الأمر بها في نظر هذا المكلف ليتقرب بها بقطع النّظر عن انَّ المكلف يأتي بها على نحو التشريع أولا ، فعدم تعلق الأمر لا يكون لأجل مزاحمة الحرمة التشريعية له كما هو واضح ، فيبطل العمل بالقصور الذاتي فيه.

وامّا لو افترض انَّ المكلف تسرع في مقام الإتيان بالعبادة من دون العلم بأنها غير مأمور بها رأساً ، بل كان يشك مثلا في انها مأمور بها أو لا فأتى بها بقصد انها مأمور بها من قبل الشارع ، فائضاً تقع العبادة باطلة لكن لا على أساس القصور الذاتي فيها بل على أساس انه أتى بها بقصد التشريع ، وتقريب ذلك يكون بأحد وجوه عديدة :

الوجه الأول ـ أَنْ يقال بأنَّ حرمة التشريع لا تقف على الإسناد القلبي بل تنبسط على الفعل الخارجي ـ كما هو الصحيح ـ لأنَّ التشريع يكون وجهاً وعنواناً للعمل فيحرم إذا حرم هذا العنوان ، فإذا تعلقت الحرمة بالعبادة فيصير حالها حال الحرمة الذاتيّة فتوجب البطلان بالبراهين السبعة المتقدمة.

الوجه الثاني ـ أَنْ يسلّم بأنَّ الحرمة تقف على نفس القصد والإسناد ولا تنبسط على العمل الخارجي ، لكن يُقال : انَّ حرمة التشريع تكفي لجعل القصد المحرك للعمل قصداً غير إلهي محرما ، ومعه لا يمكن أَنْ يكون مقرباً ، فانَّ القصد انما يمكن أَنْ يكون مقربا لو كان محبوباً للشارع دون ما إذا كان مبغوضاً.

فكم فرق بين الحرمة التشريعية وبين الحرمة الذاتيّة فانّه في الحرمة الذاتيّة كان مصب الحرمة والبغض العمل فكان بالإمكان أَنْ يقرب بقصد إلهي قد يتفق وجوده ، وامّا في الحرمة التشريعية فنفس القصد المحرك في العمل يكون قصداً شيطانياً فلا يمكن التقرب على أساسه.

الوجه الثالث ـ انه لو سلّمنا عدم تعلق الحرمة الشرعية لا بالفعل الخارجي ولا بنفس الإسناد والقصد بأَنْ يفترض انَّ قبح التشريع يكون من باب قبح المعصية والتجري الّذي يكون في طول حق المولى فلا يمكن أَنْ يكون موجباً لحكم شرعي لو سلَّمنا هذا فلا إشكال في قبح هذا الإسناد والقصد عقلاً لكونه موجباً لهدر حق المولى

١٢٣

وما يوجب هدر حق المولى وهتكه يستحيل أَنْ يكون مقرباً إلى المولى.

التنبيه الرابع ـ النزاع في اقتضاء النهي للفساد انما هو في النهي المولوي وامّا النهي الإرشادي فلا إشكال في دلالته على البطلان ، إمّا لكونه إرشاداً إلى البطلان رأساً ، وامّا لكونه إرشاداً إلى عدم المطلوبية وعدم المطلوبية لا يكون إلاّ لأجل عدم الملاك فيكون دالاً على البطلان لا محالة. وفي هذا التنبيه يبحث عن انّ النهي متى يكون مولوياً ومتى يكون إرشادياً.

فنقول تارة : يكون النهي نهياً عن عنوان ينطبق على العبادة ، مثل النهي عن الغصب وأخرى : يكون النهي متعلقاً بحسب دليله بنفس عنوان العبادة ، كالنهي عن الصلاة أو النهي عن الركوع.

ففي القسم الأول لا إشكال في ظهور النهي في المولوية ، فانَّ مقتضى القاعدة الأولية انَّ النهي مستعمل بداعي الزجر لا بداعي الاخبار.

وامّا في القسم الثاني فتوجد صور :

الصورة الأولى ـ أَنْ يكون النهي متعلقاً بأصل العبادة لا بخصوصية من خصوصياتها ، من قبيل النهي عن صوم يوم عاشوراء مثلا وهنا لا بدَّ من حمل النهي على الإرشاد وذلك لدخوله في قاعدة ورود النهي في مورد توهم الأمر ، فانَّ العبادة من حيث انها عبادة مطلب يُترقب ان يؤمر به فيحمل على الإرشاد إلى عدم الأمر.

ولو فرض إجمال النهي وعدم ظهوره في الإرشاد فائضاً يعلم ويستكشف عدم وجود الأمر بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، فانَّه لو كان إرشاداً إلى عدم الأمر ثبت المطلوب ولو كان للتحريم فهو لا يجتمع أيضا مع الأمر ، فيجري على الأقل البرهان الرابع للبطلان بصيغته المعدة له.

الصورة الثانية ـ أَنْ يكون النهي متعلقا بخصوصية من خصوصيات العبادة كجزئها أو شرطها وتكون تلك الخصوصية من الخصوصيات التي يتوهم لو لا مجيء النهي كونها جزءاً أو شرطاً للعبادة ، مثل ما إذا ورد النهي عن فاتحة الكتاب في الصلاة على الميت وافترض ارتكازية انه لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب.

وهنا أيضا لا يكون النهي ظاهراً في التحريم ، فانه نهي في مورد توهم الأمر فلا يدل

١٢٤

على البطلان ، بل غاية ما يدل عليه انه ليس جزءاً أو شرطاً ، أو يقال بأنه يكون مجملاً ومردداً بين النهي الإرشادي والنهي التحريمي كما تقدم.

الصورة الثالثة ـ أَنْ يتعلق النهي بخصوصية لا يترقب ثبوت الأمر بها ، مثل النهي عن الإتيان بسورة ثانية في الصلاة ، وحينئذ لا يكون النهي في مورد توهم الأمر ، لكن مع هذا لا بدَّ من حمله على الإرشاد إلى المانعية ، فانَّ الأوامر والنواهي إذا تعلقت بخصوصيات المركب تكون ظاهرة في الإرشاد إلى الشرطية والجزئية أو المانعية ، فالامر بالإتيان بالسورة في الصلاة يكون ظاهراً في جزئية السورة ، والنهي عن تكرار السورة يكون ظاهراً في الإرشاد إلى انَّ التكرار مانع عن صحة الصلاة.

هذا هو تمام الكلام في المسألة الأولى وهي دلالة النهي عن العبادة على فسادها.

« النهي عن المعاملة »

المسألة الثانية ـ في انَّ النهي عن المعاملة هل يوجب فسادها أَم لا؟ والكلام في هذه المسألة يقع في مقامين.

المقام الأول في بيان ما هو مقتضى القاعدة.

والمقام الثاني في البحث عن ثبوت دليل شرعي خاص في المسألة.

امّا المقام الأول ـ فموضوعه النهي المولوي وانه هل يوجب الفساد أم لا؟ وامّا النهي الإرشادي فلا إشكال في دلالته على الفساد ، سواءً كان إرشاداً إلى البطلان رأساً أو كان إرشاداً إلى الجزئية والمانعية ، فانَّ المركب ينتفي بانتفاء جزئه أو وجود مانعه.

والكلام في هذا المقام يقع في ثلاث جهات ، فانَّ النهي تارة : يتعلق بنفس السبب الصادر مباشرة من المكلف وهو صيغة المعاملة ، وأخرى : يتعلق بالمسبَّب وهو في البيع عبارة عن انتقال الثمن إلى ملك البائع وانتقال المثمن إلى ملك المشتري ، وثالثة : يتعلق بأثر المسبَّب مثل تصرف البائع في الثمن وتصرف المشتري في المثمن.

امّا الجهة الأولى ـ ففيما إذا تعلق النهي بنفس صيغة المعاملة وبنفس السبب

، هنا لا نكتة لتوهم البطلان ، إذ لا تهافت بين مبغوضية السبب وبين جعل السببية شرعاً ، فيكون غسل الثوب مثلا في ماء مغصوب مبغوضا ولكن مع هذا يجعل هذا الغسل سبباً

١٢٥

لحصول الطهارة ، والوجوه التي تذكر لكون النهي المتعلق بالمسبَّب يوجب البطلان لا تأتي هنا.

الجهة الثانية ـ فيما إذا تعلق النهي بالمسبَّب ، والكلام في هذه الجهة يقع في نقطتين :

الأولى : في الاستشكال الّذي وقع في أصل معقولية تعلق النهي بالمسبَّب والثانية : بعد الفراغ عن معقوليَّته يبحث عن انه هل يوجب البطلان أم لا؟.

امّا النقطة الأولى ـ فيمكن بيان الاستشكال فيها بأحد بيانين :

البيان الأول ـ انَّ النهي لا بدَّ وأَنْ يتعلق بما يكون فعلاً لنفس المكلف ، ولا يمكن أَنْ يوجه إلى المكلف نهي متعلق بفعل شخص آخر ، والمسبَّب في المقام ليس فعلاً للمكلف لأنَّ ما هو فعل المكلف انما هو إنشاء المعاملة فقط دون نقل الأموال من ملك شخص إلى ملك شخص آخر فانه فعل الشارع.

والجواب عن هذا البيان واضح : فانَّ المقنِّن بعد أَنْ قنَّن السببية وجعل إنشاء المعاملة سبباً لحصول الانتقال يصبح المسبَّب تابعاً لإيجاد السبب ، وهذا يعني انَّ المسبَّب يكون فعلا تسبيبياً وتوليدياً للمكلف فيمكن تعلق النهي به.

البيان الثاني ـ لو سلّم انَّ نقل المال من ملك إلى ملك ـ الّذي هو المسبَّب ـ يكون فعلاً تسبيبياً للمكلف إلاّ انه فعل مباشري له تعالى ، فلو لم يكن هذا الانتقال مبغوضاً له فلما ذا ينهى عنه؟ ولو كان مبغوضاً له فالأولى أَنْ لا يفعله بنفسه ما دام انه فعله مباشرة من دون احتياج إلى أَنْ ينهى العبد عنه ويلجئه إلى ترك السبب حتى لا يتحقق المسبَّب.

والجواب : أولاً ـ انه يمكن افتراض انَّ الشارع يحب عدم حصول الانتقال من ناحية عدم حصول السبب ولا يحب عدم حصوله من ناحية عدم جعل السببية بعد وقوع السبب خارجاً ، وذلك بأَنْ يفترض وجود مفسدة في حصول الانتقال مطلقاً سواءً وجد السبب خارجاً أو لا ، ويفترض انه على تقدير وقوع السبب في الخارج تثبت هناك مصلحة أقوى ـ من المفسدة ـ في حصول الانتقال ، وحينئذ لا بدَّ للشارع أَنْ ينهى عن إيجاد المسبَّب كي لا تقع المفسدة وفي نفس الوقت لا بدَّ وأَنْ يحكم بالانتقال عند حصول السبب ـ أي يجعل السببية ـ كي لا تفوت المصلحة.

١٢٦

وثانياً ـ يمكن أَنْ يفترض انَّ حصول الانتقال في نظر العقلاء يكون مبغوضاً أيضا للشارع وإِنْ لم يمضه الشارع ، فلا يكفي لعدم الوقوع في المبغوضية انَّ الشارع لا يجعل الانتقال ما دام انَّ المعاملة صحيحة عند العقلاء بل لا بدَّ وأَنْ لا يؤتى بالسبب كي لا يحصل الانتقال حتى عند العقلاء ، وبهذا الاعتبار يمكن أَنْ ينهى الشارع عن طبيعي المسبَّب وإِنْ كان مسبباً عقلائياً.

وامّا النقطة الثانية ـ أعني اقتضاء النهي بعد تعقل تعلقه بالمسبَّب للبطلان فيمكن إبرازه بوجهين.

الوجه الأول ـ انَّ النهي عن المسبَّب يكشف عن مبغوضيته شرعاً سواءً كان المنهي عنه خصوص المسبَّب الشرعي أو الجامع بينه وبين المسبَّب العقلائي ، فانَّ مبغوضية الجامع تسري إلى الافراد أيضاً باعتبار انحلاليتها ، فإذا كان المسبَّب الشرعي مبغوضاً للشارع فلا بدَّ وأَنْ لا يفعله بنفسه بأن لا يجعل السببية كي لا يثبت المسبَّب عند ثبوت السبب ، فالنهي عن المسبب يكشف عن عدم جعل السببية وهو معنى البطلان.

وهذا الوجه يمكن الإجابة عليه بعدة أجوبة :

منها ـ انه اتضح في الجواب الأول عن البيان الثاني في النقطة الأولى إمكان محبوبية المسبَّب الشرعي ومع هذا ينهى عنه ، وذلك فيما إذا فرض انَّ محبوبية المسبَّب لا تكون مطلقة بل لا تكون متوقفة على وقوع السبب خارجاً واما مع عدم وقوع السبب خارجاً فيكون المسبَّب مبغوضا لفعلية المفسدة وعدم فعلية المصلحة.

ومنها ـ انه يمكن أَنْ تكون فعلية المسبَّب خارجا مبغوضا للشارع ولهذا نهى عنه ولكن مع هذا يجعل السببية لوجود مصلحة أقوى في نفس الجعل فانَّ نشوء الحكم الوضعي من مصلحة في نفس الجعل معقول وإِن لم نتعقل نشوء الحكم التكليفي من مصلحة في نفس الجعل.

ومنها ـ انه يمكن أَن يفترض انَّ المبغوض للشارع ليس مطلق المسبَّب بل هو صرف وجوده بنحو لا ينحل إلى كل فرد فرد ، وذلك كما إذا فرض انَّ عدم وقوع طبيعي المسبَّب في الخارج الأعم من الشرعي والعقلائي هو المحبوب للشارع ، وهذا لا ينافي أَنْ يمضي الشارع السببية بأَنْ يثبت المسبَّب عند ثبوت السبب ، فانه مع ثبوت المسبَّب

١٢٧

العقلائي خارجا يثبت طبيعي المسبَّب لا محالة ولو في ضمن المسبب العقلائي وبعد وقوع طبيعي المسبب لا يكون وقوع فردٍ ثان منه وهو المسبَّب الشرعي مبغوضا ، فبإمكان الشارع أَنْ يجعل السببية ولكن ينهى عن المسبَّب كي لا يوجد السبب فلا يقع طبيعي المسبب خارجاً ولو في ضمن المسبب العقلائي (١).

الوجه الثاني ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) وحاصله : انَّ صحة البيع مثلا يتوقف على تمامية ثلاثة أركان :

الركن الأول : أَنْ يكون طرف المعاملة كالبائع مثلا مالكا للعين أو منتهياً إلى المالك ، بأن يكون وكيلا عنه أو ولياً.

الركن الثاني ـ أَنْ يكون مسلطاً على التصرف الوضعي في العين بأَنْ لا يكون المالك مجنوناً أو محجراً عليه بنحو لا يمكنه إيجاد النقل والانتقال في أمواله.

الركن الثالث ـ أَنْ يؤتي بالصيغة المناسبة من الإيجاب والقبول أي تحقيق السبب.

فإذا اختل أحد هذه الأركان الثلاثة تصبح المعاملة باطلة وحينئذ يقال : بأنَّ النهي عن المسبَّب يوجب انهدام الركن الثاني ، فانه لو كان تمليك المصحف مثلا للكافر محرماً فلا سلطنة على هذا التصرف ، ومع انهدام الركن الثاني تبطل المعاملة لا محالة (١).

ثمَّ انه قدس‌سره أشكل بنفسه على هذا البيان بأنَّ النهي عن المسبَّب لو كان موجبا لبطلان المعاملة وعدم وقوع المسبَّب خارجاً لزم خروج المسبَّب عن قدرة المكلف ومع خروجه عن القدرة لا يعقل النهي عنه.

ثم أجاب عن الإشكال : بأنَّ النهي لو كان متعلقا بخصوص الحصة الشرعية من المسبب والتمليك الشرعي لاتجه الإشكال ، وامّا إذا فُرض النهي عن الحصة العقلائية من المسبب والتمليك العقلائي فلا يلزم المحذور ، لأنَّ النهي الشرعي لا يزيل السلطنة

__________________

(١) وهنا جواب آخر حاصله : إمكان أَنْ يكون الملاك في بقاء اختيار المكلف وقدرته على إيقاع المسبَّب في الخارج ومع ذلك يمتنع عنه ، وهذا الملاك يفوت فيما إذا لم تجعل السببية فلا بدَّ وأَنْ يجعلها الشارع مع النهي عن إيقاع المسبَّب خارجا ، وهذا يرجع بحسب الروح انَّ ملاك النهي في ترك المسبَّب وانه مشروط بالقدرة عليه بحيث تكون القدرة شرطاً للاتصاف.

(٢) أجود التقريرات ، ج ٢ ، ص ٤٠٤

١٢٨

العقلائية على المسبب العقلائي وانما يزيل السلطنة الشرعية فحتى بعد هذا النهي يبقى المكلف قادراً على تحقيق المسبب العقلائي.

هذا هو محصل كلامه ( قده ) ولنا حوله ثلاث كلمات :

الكلمة الأولى ـ انَّ النهي لو كان متعلقا بالمسبب العقلائي فالإشكال الّذي ذكره وإنْ كان يرتفع إلاّ انه يبطل حينئذٍ أصل الاستدلال الّذي ذكره لإثبات البطلان ، لأنَّ النهي عن المسبب العقلائي لا يزيل السلطنة على المسبب الشرعي حتى ينهدم الركن الثاني لصحة المعاملة.

ويمكن الجواب عن هذا بأحد نحوين :

الأول ـ أَنْ يُفرض الركن الثاني لصحة المعاملة السلطنة الشرعية على المسبب العقلائي أيضاً ، فيقال : بأنه مع النهي لا تثبت مثل هذه السلطنة.

الثاني ـ أَنْ يسلّم انَّ الركن هو السلطنة على المسبب الشرعي ولكن يُقال : بأنَّ النهي عن المسبب العقلائي الّذي يوجب زوال السلطنة الشرعية على المسبب العقلائي يدل بالدلالة الالتزامية العرفية على زوال السلطنة الشرعية على المسبب الشرعي أيضاً. وكان بإمكانه ( قده ) أَنْ يفترض تعلق النهي بالجامع بين المسبب الشرعي والمسبب العقلائي ، فينهى عن إيقاع الجامع بين الحصتين بأَنْ يفرض انَّ المطلوب مجموع عدم الحصة الشرعية والعقلائية ، فَتزول السلطنة على الحصة الشرعية وتبطل المعاملة من دون أَنْ يتعلق النهي بخصوص الحصة الشرعية فتصبح غير مقدورة وانما تعلّق بالجامع بين الحصتين والجامع مقدور وبتعبير آخر : المطلوب للشارع مجموع العدمين وهذا المجموع مقدور ما دام انَّ هناك قدرة على إزالة أحدهما.

الكلمة الثانية ـ انَّ الجواب الّذي بينه ( قده ) انما يحل المشكلة بلحاظ النهي الشرعي عن المسبب فما ذا يقال في النهي العقلائي عن السبب؟ إذ لا يوجد مشرع آخر قبل العقلاء كي يمكن أَن يقال بأنَّ النهي العقلائي يتعلق بالمسبب في تشريع ذاك المشرع ، فلا بدَّ وأَنْ يكون النهي العقلائي متعلقا بالمسبب العقلائي ومعه تزول السلطنة على المسبب عند العقلاء ومع زوالها يبطل المسبب العقلائي ومع بطلانه وعدم القدرة عليه كيف يعقل النهي عنه؟.

١٢٩

وكان بإمكانه أَنْ يجيب عن الإشكال بجواب آخر يتم بلحاظ كل مشرِّع حاصله : انَّ النهي حيث يستحيل أَنْ يتعلق بما يكون تمليكا بالفعل فلا بدَّ وأَنْ يحمل على انه نهيٌ عن التمليك اللولائي أي ما يكون تمليكا لو لا النهي ، ومن الواضح انَّ مثل هذا التمليك التقديري تحت قدرة المكلف حتى بعد ثبوت النهي.

وتوضيح ذلك : انَّ التمليك الفعلي وإِنْ كان خارجا عن قدرة المكلف بعد النهي وأيضا نفس ثبوت النهي أو عدم ثبوته خارج عن قدرته إلاّ انه قادر على أَنْ يجعل الملازمة بين عدم النهي وبين ثبوت التمليك الفعلي بأَنْ يثبت التمليك الفعلي لو لا النهي عن طريق إنشاء المعاملة.

وهذه الملازمة تحت قدرة المكلف حتى بعد النهي.

الكلمة الثالثة ـ انَّ أصل ما ذكره من الدليل على انَّ النهي يوجب البطلان غير صحيح ، فانَّ السلطنة التي قال بأنها تزول بالنهي عن المسبب لها أحد معان ثلاثة :

المعنى الأول ـ السلطنة بمعنى عدم المحرومية والممنوعية شرعاً عن إيجاد المسبب.

وهذا عبارة أخرى عن الجواز التكليفي وعدم الحرمة الشرعية وليس شيئاً آخر. فلو كان مقصوده ( قده ) من اشتراط السلطنة في صحة المعاملة اشتراط هذا المعنى فهذا عين المدعى فكيف يجعل دليلاً عليه فانَّ اشتراط السلطنة بهذا المعنى يعني اشتراط عدم النهي عن المسبب ، ومعنى أخذ عدم النهي شرطاً في صحة المعاملة انَّ النهي يوجب البطلان فانَّ النهي يصبح حينئذ مانعاً عن الصحة فهذا تلاعب بالألفاظ.

المعنى الثاني ـ السلطنة على المسبَّب بمعنى القدرة التكوينية على إيجاده ومن الواضح انَّ السلطنة بهذا المعنى يستحيل أَنْ تؤخذ في موضوع إمضاء المسبَّب ، فانَّ القدرة التكوينية على المسبَّب في طول إمضاء المسبَّب إذ مع عدم إمضاء الشارع للمسبَّب لا قدرة على إيجاده وإذا كانت القدرة في طول الإمضاء فكيف يُعقل أخذها في موضوعه؟ وإذا لم تكن السلطنة مأخوذة في موضوع الإمضاء فلا ضير في أَنْ يكون النهي عن المسبَّب مزيلا لها.

المعنى الثالث ـ أَنْ تكون السلطنة على المسبب عبارة عن مجرد الأمر الاعتباري ، أي اعتبار أَنَّ المكلف مالك لإيجاد المسبب وللتصرف الوضعي ، ومجرد اعتبار كونه مالكا

١٣٠

للتصرف الوضعي ولإيجاد المسبب لا يعني انَّ الشارع حقيقة أمضى المسبب وأقدره على التصرف الوضعي ، فيمكن أَنْ يفترض انَّ من شروط إمضاء الشارع للمسبب ثبوت هذا الاعتبار ولو بدليل اخر للمكلف ، فلو كان مقصوده ـ قده ـ من السلطنة هذا المعنى اتّجه عليه : أولاً ـ انه لا دليل على انه من شروط صحة المعاملة ثبوت هذا الاعتبار بل يمكن نفي احتمال الشرطية بإطلاق دليل صحة المعاملات ، وامّا فساد بيع مثل الصبي والمحجور عليه فليس باعتبار عدم ثبوت هذا الاعتبار لهما ، بل باعتبار وجود دليل خاص على الفساد يكون مقيداً للمطلقات.

وثانياً ـ لو سلم وجود دليل على اشتراط مثل هذا الاعتبار فنهي الشارع عن المسبب وتحريمه لا يوجب زواله إذ لا تنافي بين اعتبار التحريم وبين اعتبار كون المكلف مالكا لإيجاد المسبب ، لا بنحو التناقض لوضوح انَّ النسبة بين الاعتبارين ليست نسبة الوجود إلى العدم ، ولا بنحو التضاد فانَّ الاعتبار بما هو اعتبار سهل المئونة والتضاد بين الاعتبارات انما يكون بلحاظ آثارها وفي المقام لا يوجد تضاد بين أثر اعتبار التحريم وبين أثر اعتبار الملكية ، فانَّ الأول اثره استحقاق العقاب على تقدير المخالفة والثاني اثره حصول النقل والانتقال ولا تضاد بينهما ، بل لا تضاد بين هذين الاعتبارين حتى تصوراً ، فيلحظ انَّ المكلف مسلط على شيء ومالك له ولكن يطلب منه أَنْ لا يفعله. هذا تمام الكلام في الجهة الثانية.

واما الجهة الثالثة ـ ففيما إذا تعلق النهي بآثار المسبب بأَنْ ينهي البائع عن التصرف في الثمن مثلا ، ودلالة هذا النهي على بطلان المعاملة يكون بثلاثة طرق في ثلاث حالات :

الطريق الأول ـ أَنْ يكون النهي والتحريم موجباً لزوال كافة الآثار التي يترقب وجودها من ناحية المسبب ، وفي مثل ذلك يكون النهي دالاً على البطلان ، امّا باعتبار انَّ الأحكام الوضعيّة منتزعة من الأحكام التكليفية فما دام لا حكم تكليفي فلا يمكن انتزاع حكم وضعي ، وإمّا باعتبار انَّ جعل الحكم الوضعي من دون أَنْ يترتب عليه أي أثر يكون لغواً ولو لم يكن منتزعاً منه.

الطريق الثاني ـ أَنْ يكون التحريم موجباً لزوال الأثر الركني والرئيسي لا تمام

١٣١

الآثار ، والمقصود بالأثر الرئيسي الأثر الّذي يكون لازماً عرفاً وعقلائياً للمسبب بنحو لا يتصور العقلاء ثبوت المسبب من دونه والنهي هنا أيضا يكون دالاً على بطلان المعاملة لكن لا بالدلالة الالتزامية العقلية ـ كما في الطريق الأول ـ بل بالدلالة الالتزامية العرفية.

الطريق الثالث ـ أَنْ يكون النهي مزيلاً لأثر غير ركني من الآثار ، هنا قد يقال بأنَّ مثل هذا النهي أيضا يوجب البطلان باعتبار انَّ المعاملة لو كانت صحيحة حتى بعد زوال الأثر لزم تخصيص دليل ذاك الأثر الدال على ترتبه على المعاملة الصحيحة فبمعونة أصالة عدم التخصيص يثبت بطلان المعاملة.

ويرد عليه : أولاً ـ انَّ المقام من دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص فلو كانت المعاملة صحيحة ومع هذا لا يترتب عليه الأثر فهذا معناه التخصيص في دليل الأثر ولو كانت المعاملة باطلة فهي خارجة عن موضوع دليل الأثر وهو معنى التخصص. والصحيح في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص عدم جريان أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص.

وثانيا ـ لو سلّمنا جريان أصالة عدم التخصيص في أمثال المقام فيكون دليل الأثر دالاً لا محالة بإطلاقه على بطلان المعاملة وحينئذ لو كان هناك دليل يدل على صحة هذه المعاملة ولو بالإطلاق ـ كمطلقات أدلة الصحة ـ وقع التعارض لا محالة بين إطلاق دليل الصحة وبين إطلاق دليل الأثر فلا بدَّ من ملاحظة هذا التعارض فقد يتقدم دليل الصحة على إطلاق دليل الأثر.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

وامّا المقام الثاني ـ فقد يتمسك فيه ببعض الروايات لإثبات انَّ النهي عن المعاملة يوجب الفساد ، شرعا من قبيل رواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن مملوك تزوج بغير اذن سيده فقال : ذاك إلى سيده إِنْ شاء أجازه وإِنْ شاء فرق بينهما.

قلت ـ أصلحك الله انَّ الحَكَم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : انَّ أصل النكاح فاسد ولا تحل إجازة السيد له.

١٣٢

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : انه لم يعص الله وانما عصى سيده فإذا أجازه فهو له جائز (١).

فيدّعى : انَّ ظاهر جواب الإمام انه لو كان عاصيا لله لكان النكاح باطلا من أصله ، وظاهر العصيان العصيان التكليفي لا الوضعي بمعنى الإتيان بالمعاملة الفاسدة فانَّ العصيان الوضعي ليس في الحقيقة عصيانا وتمرداً على المولى ، فلا بدَّ وأَنْ يكون المقصود انَّ العصيان التكليفي يوجب فساد النكاح وهذا يعني انَّ النكاح لو كان منهياً عنه لوقع باطلاً وهو معنى انَّ النهي عن المعاملة يوجب الفساد.

إلاّ أنَّ الصحيح : عدم إمكان المساعدة على هذا الاستدلال ، لوجود قرائن عديدة في الرواية تعيّن إرادة العصيان الوضعي والإتيان بما لم يمضه الشارع ، ولا أقل من الإجمال فلا يمكن التمسك بها.

القرينة الأولى ـ انَّ غاية ما فرض في السؤال انه تزوج بغير اذن سيده ، فحتى لو فرض انَّ سيده كان قد نهاه ومنعه عن ذلك منعاً تكليفياً أيضا حمل معصية السيد على المعصية التكليفية خلاف الظاهر ، بل لا بدَّ وأَنْ يكون المقصود المعصية الوضعيّة وانَّ سيده لم يكن يمضي هذا الزواج ولم يأذن به.

فإذا كان المقصود من عصيان السيد العصيان الوضعي فلا بدَّ وأَنْ يكون المقصود من عصيان الله أيضا العصيان الوضعي باعتبار انه جعل في قبال عصيان السيد فقيل ( انه لم يعص الله وانما عصى سيده ) ، غاية الأمر عدم عصيانه لله يكون باعتبار انَّ الله تعالى أمضى قانون النكاح كلّية وعصيانه لسيده يكون باعتبار عدم إمضائه لشخص هذا النكاح.

القرينة الثانية ـ ظاهر الرواية انَّ بطلان هذا النكاح يكون باعتبار انه عصى سيده ثم بعد ذلك قيل ( فانْ أجاز فهو له جائز ) وظاهره انه إنْ أجاز وارتفع المحذور السابق الّذي هو عصيان السيد صح النكاح ، ومن الواضح انَّ العصيان الّذي يمكن أَنْ يرتفع بعد العمل ويتبدل إلى الإجازة والاذن إنما هو العصيان الوضعي بمعنى عدم الإمضاء فانه يمكن أَنْ تكون المعاملة قبل وقوعها غير ممضاة ثم بعد ذلك تمضي. وامّا العصيان

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٤ ـ ب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ص ٥٢٣

١٣٣

والنهي التكليفي فيستحيل أَنْ يتبدل إلى الجواز والترخيص بعد العمل ، فلا بدَّ وأَنْ يُحمل العصيان على الوضعي.

القرينة الثالثة ـ ظاهر العبارة انَّ العبد عصى سيده ولم يعصِ الله فلو حملنا المعصية على المنع الوضعي فالتفرقة بين الله والسيد معقولة ، وامّا لو كان المقصود المعصية التكليفية فمن الواضح انَّ معصية السيد تلازم معصية الله لأنَّ الله قد امر بإطاعة السيد وعدم عصيانه فمعصية السيد عصيان لهذا الأمر الشرعي ، اللهم إلاّ أَنْ تحمل عدم معصية الله على عدم معصيته بلحاظ التكليف المربوط بالنكاح بالخصوص لا بلحاظ مطلق التكاليف. ولكنه تقييد بلا موجب.

القرينة الرابعة ـ انَّ الإمام عليه‌السلام فرض انَّ العبد عصى سيده وهذا لا يكون إلاّ إذا كان المقصود العصيان الوضعي لا العصيان التكليفي فانَّ النهي التكليفي للسيد لو كان متعلقا بمجرد إنشاء العقد والتلفظ بألفاظه فليس من حقه مثل هذه النواهي التحكميّة ، ومع عدم استحقاقه لا طاعة مثل هذه النواهي عقلائياً فلا تكون مخالفتها عصيانا له شرعا ، ولو كان نهيه متعلقا بالمسبب وبإيجاد العلقة النكاحية فهذا النهي بعد لم يعص لعدم وقوع المسبَب خارجا ما لم يمض السيد والمفروض انَّ الإمضاء غير ثابت اذن فالعصيان غير ثابت ، وبهذا ينتهي البحث عن اقتضاء النهي للفساد.

١٣٤

المباحث الدليل اللفظي

المفاهيم

ـ تعريف المفهوم

ـ ضابط اقتناص المفهوم

ـ دلالة الجملة الشرطية على المفهوم

(مفهوم الشرط)

ـ عدم دلالة الوصف على المفهوم

(مفهوم الحصر)

١٣٥
١٣٦

المفاهيم

الكلام في المفاهيم يقع في عدة جهات :

« تعريف المفهوم »

الجهة الأولى ـ في تعريف المفهوم اصطلاحاً وبيان ما هو المقصود منه في هذا البحث كي يتحدد موضوع البحث.

لا إشكال في إنَّ المفهوم يكون مدلولاً التزامياً للكلام في مقابل المدلول المطابقي ، ولكنه من الواضح انه ليس كلّ مدلول التزامي مفهوماً فمثلاً حرمة ضد الواجب تثبت بالدلالة الالتزامية لدليل الوجوب بناء على انَّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده مع انه لا إشكال في انَّ دلالة الأمر على حرمة الضد لا تكون من المفاهيم ، وهكذا بطلان العبادة أو المعاملة يكون مدلولاً التزامياً للنهي عنها ـ بناء على الاعتراف به ـ مع انه ليس من المفاهيم ، وأيضاً وجوب المقدمة يكون مدلولاً التزامياً لدليل وجوب ذي المقدمة ـ بناء على القول بالملازمة بين الوجوبين ـ مع انَّ البحث عن وجوب المقدمة لا يدخل في بحث المفاهيم.

اذن لا بدَّ وأَنْ تكون هناك نكتة أُخرى إضافية مع وجودها يصبح المدلول الالتزامي مفهوماً ، فما هي تلك النكتة الإضافية؟ ، وفي مقام بيان هذه النكتة توجد وجوه عديدة :

الوجه الأول ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) على ما في تقريرات بحثه وحاصله :

١٣٧

انَّ المفهوم عبارة عن المدلول الالتزامي فيما إذا كان اللازم بيّناً بالمعنى الأخص ، أي يكون مجرد تصور المدلول المطابقي كافياً لتصوره ، ومن هنا لا يكون وجوب المقدمة المستفاد من دليل وجوب ذي المقدمة من المفاهيم إذ مجرد تصور وجوب ذي المقدمة لا يستدعي تصور وجوب المقدمة (١).

وهذا الوجه لا ينطبق على واقع البحث الّذي يبحثه الأصوليون في باب المفاهيم بما فيهم هذا المحقق نفسه ، فانهم طرحوا وجوهاً لإثبات المفهوم على تقدير تماميتها يثبت اللازم ولكن لا يكون بيّناً بالمعنى الأخص بل قد يكون لازماً غير بين ، فمثلاً تمسكوا لإثبات المفهوم بقاعدة فلسفية هي انَّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد ، امّا ببيان انَّ مقتضى إطلاق الشرط انه مؤثر في الجزاء على كل حال سواءً قارنه أو سبقه شيء آخر أم لا ، وحينئذٍ لو كان هناك شيء آخر علّة لنفس الحكم في الجزاء أيضاً فلو تحقق ذاك الشيء الاخر قبل تحقق الشرط في الخارج لكان ذاك الشيء الاخر هو الموجد للجزاء دون الشرط ، ولو تحقق ذاك الشيء مع الشرط معاً ومتقارنين كان المجموع علّة لا الشرط بخصوصه ، فبالنتيجة لا يكون الشرط بما هو هو علّة للجزاء عند سبق ذلك الشيء الاخر أو عند تقارنه معه والا لزم صدور الواحد بالشخص ـ الّذي هو الحكم بالجزاء ـ من الاثنين وهو مستحيل ، وامّا ببيان انه لو كان هناك علّة أخرى في جانب الشرط فلو كان المؤثر الشرط بعنوانه وذاك البديل بعنوانه لزم صدور الواحد بالنوع ـ وهو طبيعيّ الحكم في الجزاء ـ من الاثنين وهو مستحيل ولو كان المؤثر هو الجامع بين الشرط وذاك البديل فهذا خلاف ظهور الشرط في كونه مؤثراً بعنوانه.

فأثبتوا المفهوم في الجملة الشرطية بقانون فلسفي لا يدركه إلاّ الفلاسفة ، فكيف يكون المفهوم الثابت بمثل هذا القانون الفلسفي لازماً بيناً بالمعنى الأخص (٢).

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٤٧٧

(٢) لعلّ المقصود من كونه لازماً بيناً أَنْ يكون مستفاداً من داخل الجملة بلا حاجة إلى ضمّ مقدمة خارجية ، وما ذكر في تقريب دلالة الشرطية على المفهوم من التمسك بقواعد فلسفية امّا أَنْ تُحمل على تخريج ما هو مفهوم عرفاً من الشرطية بعد الفراغ عن أصل الظهور ، أو يكون خطأً في البرهنة والاستدلال على المدّعى الّذي ينبغي أَنْ يكون امراً عرفياً.

وعلى كل حال فالإشكال على هذا الوجه انه ليست كل دلالة التزامية بيّنة مستفادة من داخل الجملة مفهوماً فمثلاً استفادة ـ

١٣٨

الوجه الثاني ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) وحاصله : انَّ المفهوم عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري لازم لخصوصية في المدلول المطابقي لا لأصل المدلول المطابقي ، سواءً كانت هذه الخصوصية ثابتة بالوضع أو بمقدمات الحكمة ، فمثلاً وجوب الوضوء لازم لأصل وجوب الصلاة الّذي هو المدلول المطابقي للدليل وهذا لا يكون من المفاهيم بينما مفهوم الشرط ليس لازماً لأصل الشرطية وأصل الربط وانما هو لازم لخصوصية في الربط ، وهو كون الربط بنحو العلّية الانحصارية ، وهذه الخصوصية تثبت بالإطلاق ومقدمات الحكمة على ما سوف يأتي إن شاء الله تعالى بيانه ، ثمَّ بعد هذا قال ( قده ) سواءً وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه ويقصد من هذا تعميم المفهوم لمفهوم الموافقة والمخالفة معاً (١).

وفيه :

أولا ـ انه بناء على التعريف السابق الّذي بينه للمفهوم لا يُعقل إدخال مفهوم الموافقة في المفاهيم فانّه لازم لأصل المدلول المطابقي لا لخصوصية فيه ، فمثلا حرمة الضرب تكون لازماً لأصل المدلول المطابقي لقوله تعالى ( ولا تقل لهما أُفٍ ) وإِنْ كان بحسب الغرض مفهوم الموافقة خارجاً عن هذا البحث المعقود لأجل مفاهيم المخالفة بالخصوص.

ثانياً ـ انَّ ما ذكره من التعريف ليس مانعاً فانه قد ينطبق على ما ليس مفهوماً كوجوب المقدمة الّذي هو لازم لوجوب ذي المقدمة ، بناء على انَّ المدلول المطابقي لصيغة الأمر ليس هو الوجوب وانَّما هو الطلب والوجوب مستفاد من الإطلاق ومقدمات الحكمة ، فانه حينئذٍ يصبح وجوب المقدمة لازماً لخصوصية في المدلول المطابقي مع انه ليس من المفاهيم حتى بناء على استفادة الوجوب من مقدمات الحكمة.

الوجه الثالث ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) من انَّ المفهوم عبارة عن التابع في الانفهام مع فرض كون حيثية الانفهام مأخوذة في المنطوق ، فانَّ حيثية انفهام

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٠٠ ـ ٣٠١

الوجوب من صيغة الأمر أو من الجملة الخبرية ـ بناء على بعض المسالك المتقدمة في شرحه ـ انما يستفاد بالدلالة الالتزامية ولكنه ليس مفهوماً ، وكذلك دلالة دليل مطهريّة شيء على طهارته بالملازمة.

١٣٩

المدلول الالتزامي من المنطوق الّذي هو المدلول المطابقي ـ سواءً كان من أصله أو من حدّه وخصوصيته كما ذكر الخراسانيّ ـ تارة : يدل عليها المنطوق أيضاً ، كما في دلالة الجملة الشرطية على الانحصار ، وأخرى : لا يدل عليها المنطوق ، كما في دلالة الأمر بشيء على وجوب مقدمته ، فانَّ حيثية الملازمة لا تُستفاد من المنطوق بل لا بدَّ من البرهنة عليها من الخارج ، فالأوّل هو المفهوم والثاني ليس بمفهوم (١).

والجواب : انَّ حيثية الانفهام لا نفهم منها إلاّ برهان الملازمة ونكتتها وهي مشتملة على كبرى وصغرى ، فلو أُريد اشتراط استفادة الصغرى من المنطوق دخل تمام موارد الدلالات الالتزامية حيث انَّ المدلول المطابقي فيها هو صغرى الملازمة أي الملزوم ، وإِنْ أُريد اشتراط استفادة كبرى الملازمة من المنطوق وهي الانتفاء عند الانتفاء فهذه غير مستفادة من منطوق الجملة الشرطية بل هو لازم المنطوق ، ولو كان مستفاداً من المنطوق لكان الانتفاء منطوقاً لا مفهوماً كما إذا دلَّ دليل على انتفاء الحكم المبيَّن فيه عند انتفاء قيده أو شرطه.

الوجه الرابع ـ ما هو الصحيح عندنا وحاصله : انَّ القضية التي تربط بين جزءين لا محالة يكون اللازم لهما امّا لازماً لنفس هذين الجزءين بنحو لو بدلنا أحد الجزءين بشيء آخر فلا يثبت اللازم ، أو لازماً للربط بين الجزءين بنحو يكون اللازم ثابتاً ما دام انَّ الربط الخاصّ ثابت وإِنْ تغير طرفاه ، فالقسم الثاني من اللازم هو المفهوم دون الأول ، مثال القسم الأول أَنْ يُقال ( صلِّ ) فانه يدل بالملازمة على وجوب مقدمة الصلاة إلاّ أنَّ وجوب المقدمة يكون لازماً للحكم في صلِّ بنحو لو غيرنا هذا الحكم وافترضنا أنِّ الصلاة مباحة لا واجبة لا يثبت وجوبها.

وكذلك لو قيل : ( أكرم ابنَ العلوية ) وافترض انَّ اللازم له وجوب إكرام نفس العلوية أيضاً بالفحوى فانَّ هذا لا يكون لازماً للربط بين الحكم والموضوع وانما يكون لازماً لنفس الموضوع ، بدليل أنه إذا غيرنا الموضوع بموضوع آخر وقلنا ( أكرم اليتيم ) فلا يثبت هذا اللازم ولا يدل على وجوب إكرام أم اليتيم مع انَّ نفس الربط السابق

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٣١٩ ـ ٣٢٠

١٤٠