بحوث في علم الأصول - ج ٣

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٥

مفاد الهيئة الوصفية الناقصة فهو خلف ما تقدم ، وإِنْ أُريد استفادته مضافا إلى مفاد المفردات الأخرى ، فان ادعي دلالة هيئة المجموع على النسبة التوقفية بين شخص ذلك الحكم المقيد بالوصف وبين الوصف الأمر الّذي كان مستفاداً من النسبة التوصيفية نفسها كان لغواً ، وإِنْ أُريد استفادة توقف سنخ الحكم وطبيعيّه على الوصف فليس في الكلام ـ بناءً على اقتناص المعاني المركبة بنحو تعدد الدال والمدلول ـ ما يدلّ على طبيعيّ الحكم كي يعلق على الوصف.

وثالثاً ـ انَّ النسبة التوقفية التي يدعى دلالة الهيئة عليها إِنْ افترضت نسبة ناقصة فلا تنفع في اقتناص المفهوم كما برهنا عليه في بحث الجملة الشرطية من انَّ النسبة الشرطية لا بدَّ وأنْ تكون تامة لكي يكون المدلول التصديقي بإزائها ، وإِنْ فُرضت تامة لزم من ذلك سلخ النسبة الإرسالية في الجملة الوصفية عن التمامية وجعلها مدلولا تصوريا وهو خلاف الوجدان البديهي القاضي بكون النسبة الإرسالية الطلبية هي النسبة الحكمية التامة في الجملة الوصفية بخلاف الحال في الجملة الشرطية.

واما الطريق الثاني لاقتناص المفهوم فتوضيح الحال فيه وتحقيقه أنْ يقال : انَّ ما يراد نفيه في مرحلة المدلول التصديقي أحد أمور ثلاثة :

١ ـ أنْ يراد نفي احتمال ثبوت الحكم بنحو الموجبة الكلية على ذات الموصوف فجملة أكرم العالم الفقيه مثلاً يطلب بالمفهوم فيها نفي احتمال وجوب إكرام مطلق العالم بنحو الموجبة الكلية.

٢ ـ أنْ يراد نفي احتمال وجوب إكرام أي صنف من أصناف العلماء غير مورد الوصف أي نفي الكلية والجزئية معاً.

٣ ـ أنْ يراد نفي احتمال وجوب إكرام مطلق العالم بنحو الموجبة الكلية كما في التقدير الأول ولكن مع افتراض انَّ هذا الوجوب وجوب آخر ينطبق على ما هو مورد الخطاب ويجتمع معه كجعل آخر لا انه في مورد الخطاب عينه كما في الأول.

امَّا الاحتمال الأول : فيمكن نفيه بالنظر إلى المدلول التصديقي للجملة الوصفية بأحد تقريبين :

الأول : ما هو المشهور والمعروف من انَّ ثبوت وجوب إكرام مطلق العالم بنحو

٢٠١

الموجبة الكلية مرجعه إلى انَّ مناط وجوب الإكرام وملاكه ذات العالم بلا دخل لخصوصية وصف الفقاهة فيه ، وهذا معناه انَّ قيد الفقيه الوارد في الخطاب غير مربوط بالحكم بحسب مقام الثبوت مع انه قد تقدم انَّ هذا المقدار يثبت بمقتضى أصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت بلا كلام ، وبعبارة أخرى : انَّ هذا الجعل الكلّي المحتمل إِنْ فرض انَّ القيد دخيل فيه كان خلف كونه كلياً وإِلاَّ كان خلف ظهور التقييد إثباتاً في كونه دخيلاً ثبوتاً.

وهذا المقدار من البيان يمكن دفعه : بأنه لو فرض وحدة الجعل المستكشف بالخطاب تمَّ هذا البرهان لنفي احتمال كون الحكم ثابتا بنحو الموجبة الكلية ولكن لا موجب لافتراض ذلك ، إذ يعقل أنْ يكون واقع الأمر ثبوت جعول متعددة بعدد أصناف العلماء بحيث ينتج الموجبة الكلية نتيجة دخل خصوصية كل صنف في الملاك مستقلا ، فلا يكون ثبوت وجوب الإكرام للأصناف الأخرى من العلماء منافيا مع ظهور الخطاب في دخل قيد الفقاهة في الحكم المجعول فيه.

الثاني : أنْ يقال بأنَّ المولى العرفي عادة إذا ابتلي بتشريع من هذا القبيل بحيث كان يرى انَّ كل صنف من العلماء له ملاك خاص لجعل الحكم عليه فلا يجعل جعولاً متعددة بل يكتفي بجعل واحد على نهج القضية الكلية دفعاً لمحذور اللغوية العرفية بعد أنْ كان يمكن أن يتوصل بذلك إلى نفس النتيجة العملية المطلوبة من الجعل المتعدد.

فباعتبار هذه العناية والقرينة العرفية ينفي احتمال ثبوت الحكم على القضية الكلية ، إذ لو كان ذلك بنحو الجعول المتعددة كان خلف قرينة عدم اللغوية العرفية وإِنْ كان بنحو الجعل الواحد كان خلف ظهور الخطاب في دخل القيد في الحكم المجعول به.

وامّا الاحتمال الثاني أعني نفي جعل الحكم بنحو الموجبة الجزئية على غير مورد الوصف ـ الّذي هو المنتج للمفهوم المطلوب في المقام ـ فلا يمكن نفيه بالنظر إلى المدلول التصديقي للجملة الوصفية كما لم يكن يمكن ذلك بالنظر إلى مدلولها التصوري ، إذ لا يلزم من ثبوته محذور مخالفة ظهور دخل القيد المأخوذ في الحكم المبرز بالخطاب ، ولا محذور اللغوية العرفية. ومثله نفي الاحتمال الثالث أعني ثبوت حكم آخر على طبيعيّ العالم بنحو يكون مجتمعا مع هذا الحكم بناءً على إمكان اجتماعهما ـ كما إذا فرض احتمال انَ

٢٠٢

كلاً من طبيعي العلم وخصوصية الفقاهة له ميزة خاصة تقتضي الإكرام مستقلاً ـ فانَّ هذا لا ينافي ظهور القيد في الدخالة كما لا يستلزم اللغوية العرفية.

فالصحيح على ضوء مجموع ما تقدم عدم المفهوم للجملة الوصفية لعدم تمامية انطباق شيء من طريقي اقتناص المفهوم عليها.

ولنشرع بعد ذلك في استعراض كلمات الاعلام في المقام فنقول : ذكر المحقق العراقي ( قده ) ، في المقام كلاما يمكن توضيحه ضمن ثلاث نقاط :

النقطة الأولى : ما تقدم منه في بحث مفهوم الشرط من موافقة المشهور في ركنية استفادة العلّية الانحصارية للشرط والوصف في اقتناص المفهوم من الجملة إِلاَّ انه يدعي ثبوت هذه الدلالة والتسالم عليها حتى في الجملة الوصفية بشهادة التسالم على حمل المطلق على المقيد فيما إذا أحرز وحدة الحكم حتى من المنكرين للمفهوم ، فتمام البحث لا بدَّ وأَنْ ينصب على ملاحظة الركن الاخر الّذي يتوقف عليه اقتناص المفهوم من الجملة وهو كون المعلق المترتب على الشرط أو الوصف سنخ الحكم لا شخصه.

النقطة الثانية : لا إشكال في انَّ مقتضى مقدمات الحكمة والإطلاق إثبات كون المعلق انما هو طبيعيّ الحكم وسنخه لا الشخص ، إلا إذا قامت قرينة ـ ولو عامة ـ على خلاف ذلك ، والمدعى انَّ الحكم بلحاظ موضوعه يلحظ مهملا بحسب البناء العرفي واللغوي لا مطلقا ولا مقيدا ولهذا لا يجري الإطلاق فيه بلحاظه وهذا هو السر في عدم المفهوم للجملة اللقبية كقولنا ( أكرم زيداً ) أو ( إكرام زيد واجب ) مع انه لو كانت تجري مقدمات الحكمة فيه بلحاظه كان لها مفهوم بلا إشكال كما إذا قلنا ( إكرام زيد كل الواجب ) وهذا البناء العرفي هو الّذي دعى أرسطو ـ واضع علم المنطق ـ إلى عدم تقسيم القضية إلى كلية وجزئية بلحاظ محمولها تأثيراً بالوضع اللغوي والعرفي وخلطا بين اللغة والمنطق. وامَّا بلحاظ غير الموضوع كالشرط مثلا فلا مانع من إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة فيقال انَّ سنخ الحكم معلق على الشرط ، لأنَّ هناك بحسب الحقيقة نسبتين في الجملة الشرطية نسبة للحكم إلى موضوعه وهو زيد الواجب إكرامه ونسبة له إلى شرطه ، والبناء النوعيّ المتقدم لا يقتضي إهمال المحمول بلحاظ النسبة الثانية كما كان يقتضيه بلحاظ النسبة الأولى فيحكم بأنّ مطلق وجوب إكرام زيد معلق على الشرط.

٢٠٣

النقطة الثالثة : انَّ الجملة الوصفية وإِنْ كانت متضمنة بالدقة على نسبتين نسبة الحكم إلى الموضوع وهو الموصوف ونسبته إلى الوصف باعتبار انَّ ما هو طرف الإضافة الموصوف بما هو موصوف وهو ينحل عقلاً ودقة إلى ذات وصفة ، إِلاَّ انه بحسب النّظر العرفي ليس هناك إِلاَّ نسبة واحدة بين الحكم وموضوعه المقيد ، وقد قلنا انه لا يمكن إجراء الإطلاق في الحكم بلحاظ موضوعه لكونه مهملاً من ناحيته وهذا هو السر في عدم ثبوت المفهوم للوصف (٢).

وهذه النقاط الثلاث كلها موقع نظر وتأمل :

امّا الأولى : فلما تقدم من المناقشة فيها في بحث مفهوم الشرط ومحصله : انْ لا تسالم على استفادة الركن الأول من الجملة ولا تلازم بين استفادتهُ بلحاظ شخص الحكم واستفادته بلحاظ سنخ الحكم ، لأنَّ برهان تلك الاستفادة هو استحالة قيام الحكم الشخصي المبرز بالخطاب بموضوعين وقيامه بالجامع خلف أخذ القيد في مقام الإثبات المقتضي لدخله في مقام الثبوت بمقتضى أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت أي بين المدلول التصوري والتصديقي (٢).

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٣

(٢) ان قلت : قد يكون المقصود انَّ كل شرط أو قيد يؤخذ في حكم يستفاد كونه علّة منحصرة في الحكم المحمول على ذلك الموضوع بنكتة ظهور المدلول التصوري للكلام في دخله فيه ومقتضى أصالة التطابق بين عالمي الإثبات والثبوت دخله ثبوتاً أيضاً فيما تدخل فيه إثباتا ، فلو كان الحكم المترتب على الموضوع هو السنخ لا الشخص يثبت المفهوم حينئذٍ فتمام النكتة للمفهوم ترتبط بالركن الثاني إثباتاً أو نفياً.

قلنا : معنى أصالة التطابق هو انَّ أطراف المدلول التصديقي الواحد والشخصي في كل خطاب ـ سواء كان هو قصد الاخبار أو الإنشاء ـ ثبوتا نفس ما أُخذ في ظاهر اللفظ إثباتاً ، وهذا يعني انَّ الجزء المقابل للمدلول التصديقي من ظاهر اللفظ وهو النسبة التامة في الجملة لا معنى لإجراء الإطلاق فيه لكونه جزئياً على كل حال وانما يجري الإطلاق في أطرافه ، وأصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت يثبت وحدة المقامين في أطراف هذا الوجود الشخصي إطلاقاً وتقييداً ، وحينئذٍ انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد واضح عقلا إذ لو لم ينتف بانتفائه يلزم اما قيام الحكم الشخصي بموضوعين وهو مستحيل أو قيامه بالجامع وهو خلاف أصالة التطابق بالمعنى المتقدم واما إذا كان المعلق طبيعي الحكم فطبيعي الحكم يكون مفهوماً لا محالة ولا يكون بإزائه المدلول التصديقي إذ ليس المدلول التصديقي إلا وجوداً شخصياً واحداً كما قلنا ، فلا معنى لإجراء أصالة التطابق بلحاظه حينئذٍ لإثبات كون طرفه هو القيد المأخوذ في مقام الإثبات. وإِنْ شئت قلت : انَّ استفادة انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد لم يكن بلحاظ المدلول التصوري للجملة إذ ليس فيها بحسب هذه المرحلة ما يدل على أكثر من ثبوت المحمول والحكم عند ثبوت الموضوع المقيد سواءً كان القيد دخيلاً واقعاً أم لا ولم يرد فيه عنوان العلّية الانحصارية أيضاً وانما نستفيد ذلك بالنظر إلي مرحلة المدلول التصديقي للجملة بدلالة تصديقية وذلك بأَنْ نقول : انَّ المدلول التصديقي الثابت وراء هذا الخطاب ينتفي شخصه بانتفاء القيد جزما ، إذ لو بقي كان لازمه

٢٠٤

وبتعبير أدق وأشمل ، انَّ الإطلاق في الحكم يمكن أَنْ يراد به أَحد معان ثلاثة :

الأول : أَنْ يراد به كون المعلق مطلق حصص الحكم بنحو الاستغراق.

الثاني : أَنْ يراد به كون المعلق صرف وجوده الناقض للعدم الكلي والمنطبق على الوجود الأول.

الثالث : أَنْ يراد به الطبيعة بما هي هي من دون أخذ قيد معها ، أي لا يلحظ فناؤها في الوجودات الخارجية المتكثرة ولا في أول وجودها فانَّ كل ذلك شئون زائدة على ملاحظة ذات الطبيعة بما هي هي خارجية ولهذا قلنا مراراً انَّ ملاحظة كون الطبيعة ملحوظة بنحو صرف الوجود ـ كما في متعلق الوجوب ـ أو بنحو الاستغراق ـ كما في متعلق التحريم ـ انما يكون بنكتة زائدة على أصل الإطلاق ومقدمات الحكمة.

فإذا اتضحت هذه المعاني الثلاثة قلنا :

إِنْ أراد المحقق العراقي ( قده ) ، بالإطلاق في الحكم أي سنخ الحكم الّذي هو الركن الثاني لاقتناص المفهوم عنده وعند المشهور والّذي هو المبحوث عنه والمختلف فيه عند القائلين بالمفهوم والمنكرين له المعنى الأول من هذه المعاني أعني كون المعلق مطلق حصص الحكم فمن الواضح ان هذا المعنى كافٍ وحده لإثبات المفهوم بلا حاجة للركن الأول أصلا ، سواءً أُريد من الركن الأول استفادة عنوان العلّية الانحصارية للشرط أو الوصف أو أريد استفادة دخالتهما بخصوصهما في الحكم بمقتضى أصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت الّذي به أثبتنا انتفاء شخص الحكم عند انتفاء القيد ، لأنَّ اللفظ سوف يكون بحسب مدلوله التصوري دالاً على انَّ تمام حصص الحكم تثبت عند ثبوت الموضوع المقيد وهذا لا يصدق الا مع انتفاء طبيعي الحكم بانتفاء القيد.

وإِنْ شئت قلت : انَّ انتفاء الطبيعي بهذا المعنى لا يكون محتاجاً حينئذٍ حتى إلى الظهور الّذي كنا نحتاجه في إثبات انتفاء الشخص وهو ظهور دخل القيد بخصوصه في

__________________

أحد امرين امّا قيام الشخص بموضوعين وهو محال أو قيامه بالجامع بين الواجد للقيد وفاقده وهذا خلاف ظهور حالي تصديقي مقتنص من ذكر المتكلم ، للقيد في مدلول كلامه ـ سواءً كان بنكتة كون الأصل في القيود الاحترازية ولغوية ذكرها مع عدم دخلها أو بأصالة التطابق بين المقامين ـ ومثل هذا لا يمكن إجرائه بلحاظ مرحلة المدلول التصديقي لطبيعي الحكم إذ لا يلزم من قيام أحد فرديه بموضوع وفرده الاخر بموضوع آخر قيام الواحد بالاثنين نعم قيامه بالجامع خلاف الظهور المتقدم.

٢٠٥

الحكم ، إذ لو لم ينتف كان معناه انَّ المتكلم قد كذب في ترتيبه لتمام حصص الحكم على المقيد حتى لو لم يكن القيد بخصوصه دخيلاً فيه بل المراد به ذات المقيد في مورده ، لأنَّ ذات المقيد أيضاً ليس ثبوته مساوقاً مع ثبوت تمام الحصص كما كان كذلك فيما إذا كان المرتب شخص الحكم ، وبالجملة عدم الانتفاء بناءً على هذا المعنى للطبيعي يكون مكذباً لنفس هذا الإطلاق بلا حاجة إلى ضم ظهور آخر.

ونفس الشيء يقال لو أراد المحقق العراقي ( قده ) ، المعنى الثاني للإطلاق وهو الطبيعة الملحوظة بنحو صرف الوجود المنطبق على أول الوجود لو قيل بكفايته في نفسه لاقتناص المفهوم ـ وقد تقدم الإشكال فيه عند البحث عن مفهوم الشرط ـ وإِنْ أراد المعنى الثالث أي انَّ المترتب هو ذات الطبيعة فمن الواضح انَّ القائل بالمفهوم بحاجة إلى إثبات الركن الأول ، وهو العلّية الانحصارية ولا يكفي فيه مجرد ظهور أخذ القيد في الموضوع في دخله بخصوصه في الحكم فان ترتب الطبيعة بهذا المعنى على المقيد لا يقتضي انتفائه بانتفاء القيد إذ لعله يترتب مع وجود قيد آخر أيضاً بأنْ يكون هناك علّتان وموضوعان كل منهما يختص بحصة من الطبيعي ، ولا يكون الالتزام بذلك مستلزما للالتزام بعدم انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد لأنَّ شخص الحكم لا يمكن أَنْ يقوم بموضوعين كما هو واضح.

وامَّا النقطة الثانية في كلامه ( قده ) ، فالتحقيق في الجواب عليها : انه إِنْ أراد من إهمال المحمول وهو الحكم ما يقابل الإطلاق بالمعنى الأول أو الثاني من المعاني الثلاثة المتقدمة ، فيرد عليه : ما تقدم مراراً من انَّ الإطلاق بهذين المعنيين مئونة زائدة لا تقتضيه مقدمات الحكمة وانما لا بدَّ من اقتناصه في كل مورد بحسب القرائن الخاصة ، وإِنْ أراد منه ما يقابل الإطلاق بالمعنى الثالث الّذي هو مقتضى مقدمات الحكمة ، فنقول : انَّ الإهمال بهذا المعنى غير ثابت في المحمول لا في الجمل الخبرية ولا في الجمل الإنشائية ، بل الثابت في محمول الجملة الخبرية الإطلاق أي انَّ المستفاد منها حمل ذات طبيعة المفهوم في طرف المحمول على الموضوع فقولنا إكرام العالم واجب يكون المحمول فيه هو طبيعي الواجب الّذي لا يقتضي ثبوته له انتفاء سنخ الوجوب عند انتفاء الموضوع ، وامَّا في الجملة الإنشائية كقولنا ( أكرم العالم ) فباعتبار وجود نسبة

٢٠٦

إرسالية تامة فيها متعلقة بالإكرام المقيد بموضوعه وهو العالم فسوف يكون الحكم الثابت لا محالة نسبة إرسالية مقيدة ويستحيل إجراء الإطلاق فيها بلحاظ موضوعها وقيوده ، إذ النسبة متقومة بطرفها فإذا فرض كون طرفها المقيد ـ كما تقدم البرهان عليه فيما سبق ـ فلا معنى لإجراء الإطلاق فيها بلحاظ طرفها ، اذن فيتعين كون الحكم في الجملة الإنشائية هو المقيد بالموضوع لا المطلق ولا المهمل.

واما النقطة الثالثة في كلامه ( قده ) ، فيرد عليها :

أولاً ـ انَّ النسبة الثانية التحليلية بحسب دعواه في الجملة الوصفية إِنْ أُريد بها نسبة المحمول إلى التقيد بالوصف الّذي هو جزء تحليلي عقلاً للموضوع وإِنْ كان الموضوع واحداً عرفا فمن الواضح انَّ نسبة المحمول إلى موضوعه مهمل بحسب مبناه ولا فرق في الموضوع بين جزء فهذه النسبة بين الحكم والوصف لا تفيد في إثبات المفهوم ، لأنه كالنسبة إلى ذات الموصوف من حيث عدم إمكان إجراء الإطلاق فيها.

وإِنْ أريد بها النسبة الثابتة بين المجموع المركب من المحمول وموضوعه إلى الوصف نظير نسبة الجزاء بما هو حكم وموضوع إلى الشرط وإِنْ شئت قلت : نسبة الموضوع بما هو موضوع إلى وصفه وبهذا يكون طرف هذه النسبة القيد لا التقيد أي وجوب إكرام العالم مقيد بعدالته.

فهذه النسبة ليست بتحليلية بل عرفية أيضاً لدلالة الهيئة الناقصة عليها بحسب الفرض الا انها لا يمكن إجراء الإطلاق بلحاظها لأنها نسبة تقييدية ناقصة بين ذات الموضوع أو الموضوع بما هو موضوع مع الوصف ، وقد أوضحنا في مفهوم الشرط انَّ المحمول انما يمكن إجراء الإطلاق فيه إذا فرض وقوعه طرفا للنسبة التامة وإِلاَّ لم يجز فيه ذلك حتى في الشرطية كقولنا ( أكرم زيداً عند مجيئه ) والسر فيه : انَّ طرف النسبة الناقصة ليس شيئاً مستقلاً في مقابل الطرف الاخر لكي يلحظ مطلقا في مقام الانتساب إليه تارة ومقيداً أخرى ، بل مرجع ذلك إلى التحصيص وملاحظة حصة خاصة من المفهوم ينحل عقلا إلى طرفين ونسبة.

وثانياً ـ انَّ هذه النسبة بحسب قواعد العربية نسبة بين ذات الموضوع والوصف لا المحمول المنتسب إلى موضوعه هذا إذا تعقلنا أصل إمكان إيقاع النسبة الناقصة بين

٢٠٧

طرفين إحداهما نسبة تامة في نفسها ، والّذي يجدي في إثبات كون المعلق مطلق الحكم انما هو نسبة الحكم إلى القيد أي تقييد الحكم كما في الجملة الشرطية لا تقييد موضوع الحكم كما هو واضح.

وثالثاً ـ انَّ دعوى وحدة النسبة في المقام قد ينافي ما تقدم منه من مسلمية دلالة الجملة الوصفية على العلّية الانحصارية للقيد ، فانَّ هذا يعنى وجود نسبة توقفية بين الحكم المنتسب إلى موضوعه وبين الوصف تفيده الجملة سواءً كانت وصفية أو شرطية فإنكار وجود أكثر من نسبة واحدة يناقض تلك الدعوى.

اللهم إلاَّ أنْ يكون مراده استفادة العلّية الانحصارية بالدلالة التصديقية الحالية بمقتضى أصالة التطابق بان ما أخذ إثباتاً مأخوذ ثبوتا لا الدلالة التصورية المستفادة من هيئة التوصيف ، ولكن حينئذٍ يكون من الواضح انَّ هذا المقدار من الدلالة لا يقتضي أكثر من انتفاء شخص الحكم لا سنخه بالبيان المتقدم.

وامَّا المحقق النائيني ( قده ) ، فقد أفاد في المقام كلاما يظهر من بدايته مطلب ومن نهايته مطلب آخر ، بحيث يفهم وجود ضابطين لإثبات المفهوم للوصف.

امَّا المطلب الأول الّذي استهل به كلامه فمحصله : انَّ ثبوت المفهوم للوصف منوط بتحقيق انَّ الوصف هل أخذ قيداً للموضوع والمتعلق أو أخذ قيداً للحكم مباشرة ، فعلى الأول لا مفهوم للجملة إذ معناه وجود مفهوم افرادي هو الحصة الخاصة قد وقع موضوعاً للحكم فيكون نظير اللقب الّذي لا يدل على أكثر من ثبوت الحكم فيه ، وعلى الثاني ـ بناءً على إمكان تقييد الحكم ومفاد الهيئة ـ يثبت المفهوم لا محالة لأنَّ الحكم إذا كان مقيداً فالمقيد عدم عند عدم قيده وهو المفهوم.

وباعتبار انَّ الظاهر عرفا من القضايا الوصفية رجوع القيد فيها إلى الموضوع أو المتعلق فلا مجال لتوهم المفهوم فيها (١).

وقد ظهرت المناقشة في هذا البيان الّذي تنبته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، لنفي المفهوم عن الجملة الوصفية على ضوء ما بينا سابقا في تخريج ضابط المفهوم كلية ، فانه

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٤٣٣ ـ ٤٣٥

٢٠٨

لا بدّ من إثبات كون المعلق سنخ الحكم ولا يكفي مجرد تقييد شخص الحكم لتتميم المفهوم ، وقد ذكرنا انَّ الإطلاق وكون المعلق سنخ الحكم مبنيٌ على أمور أحدها أَنْ تكون النسبة تامة لا ناقصة كما في الوصف ولهذا قلنا انه لا مفهوم لجملة ( أكرم زيداً عند مجيئه ) ولو كان القيد راجعاً إلى الحكم.

وامّا المطلب الّذي بيّنه في ذيل كلامه فهو انه لو قامت قرينة على انَّ الوصف علّة للحكم ثبت المفهوم. وقد استدرك عليه السيد الأستاذ بأنه لا بدّ من الدلالة على انحصاريتها أيضا.

ويرد عليه ما تقدم : من انَّ استفادة العلية الانحصارية وحدها لا يكفي لإثبات المفهوم بل لا بدّ من أَنْ يكون المعلق سنخ الحكم وهو متعذر في المقام بعد أَنْ كانت النسبة الإرسالية متعلقة بالمقيد.

وللمحقق الأصفهاني ( قده ) ، في المقام بيان لا يخلو من قلق واضطراب (١) الا انه يمكن أَنْ يكون نظره إلى أحد كلامين.

الكلام الأول : دعوى انا كلما أمكننا استفادة علّية الوصف للحكم من الجملة الوصفية ولو بقرينة خاصة أمكننا إثبات انحصارها بنحو ينتج المفهوم ، وذلك لأنه لو فرض وجود علّة أخرى للحكم لزم منه محذور ثبوتي أو إثباتي ، إذ لو كان الجامع بينهما علّة كان خلاف ظهور الجملة الوصفية في دخل الوصف بخصوصه في الحكم أي خلاف أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت ، ولو كان كل منهما بخصوصه علّة لزم صدور الواحد بالنوع من الكثير وهو مستحيل. ثم نبه ( قده ) على عدم موافقته على تعميم قاعدة الواحدة للواحد بالنوع.

وهذا الكلام قد استعرضنا ما يماثله في بحث مفهوم الشرط وقلنا انه لا محذور ثبوتي في اختيار الشق الأول حتى على القول بعموم القاعدة للواحد النوعيّ إذ لا يصح تطبيقها على الحكم وموضوعه ، فانه لو أريد بالحكم الجعل فهو معلول للجاعل لا للموضوع وانما الموضوع وقيوده محصصات للجعل ، وإِنْ أُريد بالحكم المجعول الفعلي فهو أمر وهمي

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٣٣٠ ـ ٣٣١

٢٠٩

تصوري وليس وجوداً فلسفياً حقيقياً كما أشرنا إليه مراراً ، وَإِنْ أُريد بالحكم روح الحكم ومبادئه أَعني الملاك الّذي يكون حصوله معلولاً للموضوع وقيوده فلا دليل على وحدته سنخاً فلعلهما متباينان ولكنهما مع ذلك مطلوبان لزوميان للمولى.

الكلام الثاني : ويراد فيه التعويض عما افترض في الكلام السابق من الاحتياج إلى القرينة الخاصة على استفادة علّية الوصف للحكم ، والتعويض عن القاعدة الفلسفية ، فيقال باستفادة علّية الوصف من الظهور العرفي القاضي بان الأصل في القيود أَنْ تكون احترازية الّذي مرجعه إلى التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت وان الوصف مأخوذ في موضوع الحكم ثبوتا كما هو مأخوذ إثباتا ولا يراد بالعلّية هنا أكثر من هذا المعنى وحينئذٍ يضم إلى ذلك مجموع ظهورين ، أحدهما ظهور الخطاب في كون الوصف بخصوصه علّة. وثانيهما ظهور المعلول في كونه طبيعي الحكم لا شخصه.

وبذلك تتم الدلالة على المفهوم ، لأنَّ ثبوت علّتين وموضوعين عرضيين للجعل الواحد مستحيل لعدم تحمل كل جعلٍ لأكثر من موضوع واحد ، وثبوت موضوعين كذلك لطبيعيّ الحكم بلحاظ حصتين منه خلاف الظهور الثاني ، وثبوت موضوع واحد وهو الجامع بين العلّتين لطبيعي الحكم خلاف الظهور الأول ، وهذا يعني انَّ أي حصة تفترض للحكم لا بدّ وأَنْ تكون علّته منحصرة في الوصف المأخوذ في الجملة وهو المطلوب.

ولنا على هذا الكلام ثلاث تعليقات :

إذ يرد عليه :

أولاً ـ انَّ الجمع بين إثبات العلّية للوصف بمقتضى ظهور القيد في الاحترازية وبين إثبات كون المترتب طبيعي الحكم لا شخصه متهافت ، لأنَّ الأول ظهور تصديقي غير مأخوذ في مرحلة المدلول التصوري للكلام أي اكتشاف كون المدلول التصديقي قد أخذ في موضوعه الوصف أيضاً ، ومن الواضح انَّ المدلول التصديقي يكون الحكم فيه جزئياً لأنه جعل واحد لا جعلين فلا معنى لإجراء الإطلاق فيه ، نعم لو كانت العلّية مستفادة بحسب المدلول التصوري للكلام أمكن أَنْ يقال مثلاً انَّ مدلول الأمر طبيعي النسبة الإرسالية بالنحو المناسب مع المعاني الحرفية ولكن الأمر ليس كذلك.

٢١٠

وثانياً ـ انَّ الإطلاق المنتج للمفهوم فيما إذا كان الوصف علّة منحصرة بالمعنى المتقدم للعلّية أي مجرد كونه مأخوذاً في الموضوع ثبوتاً انما هو الإطلاق بمعنى تمام الحصص لا الطبيعة بما هي ، وهذا على ما تقدم مئونة زائدة لا تثبتها مقدمات الحكمة.

وثالثاً ـ لو افترضنا انَّ العلّية الانحصارية قد استفيدت بلحاظ مرحلة المدلول التصوري للكلام فيرجع هذا الكلام إلى ما أفاده الميرزا ( قده ) من انه لو كان الوصف مقيداً للحكم تمَّ المفهوم في الجملة ، وقد علقنا فيما سبق على ذلك بأنه ممنوع كبرى وصغرى.

إذ ليس الوصف قيداً للحكم بحسب المدلول التصوري ، وليس يكفي ذلك للمفهوم على تقدير ثبوته.

مفهوم الغاية

الغاية تارة : تكون راجعة إلى موضوع الحكم كما في قوله تعالى : ( واغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) ، وأخرى إلى متعلق الحكم في قولنا ( صُمْ إلى الليلِ ) ، وثالثة : إلى نفس الحكم المستفاد من مدلول الهيئة والنسبة التامة كما في قولنا ( صُمْ حتى تصبح شيخا ) ، ورابعة : ترجع إلى الحكم المستفاد من مفهوم اسمي افرادي كما في قولنا ( الصوم واجب إلى الليلِ ) أي وجوبا مستمراً إلى الليل.

ومدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، تفصل بين هذه الأنحاء فترى ثبوت المفهوم في بعضها دون بعض على خلاف بين ظاهر كلام الميرزا نفسه وكلام السيد الأستاذ ، فالظاهر من كلام المحقق النائيني انَّ المفهوم ثابت فيما إذا كانت الغاية راجعة إلى مدلول الهيئة التامة في الجملة الإنشائية وهو النحو الثالث من الأقسام فقط ، وظاهر كلام السيد الأستاذ ثبوته فيما إذا كانت الغاية راجعة إلى الحكم سواءً كان مفاداً بنحو المعنى الاسمي أو النسبي.

وما بيّنته هذه المدرسة في توضيح مدعاها ـ على الخلاف المذكور ـ انَّ الغاية إذا كانت ترجع إلى الحكم كان معناه انتهاء الحكم وانتفائه بحصول الغاية ولا يراد بالمفهوم أكثر من ذلك. وهذا بخلاف ما إذا كانت غاية للموضوع أو المتعلق فانها لا تدل حينئذٍ على أكثر من تحديد ما هو موضوع الحكم في المرتبة السابقة على طرو

٢١١

الحكم فيصير حاله حال الوصف وقيود الموضوع الأخرى (١).

وهذا الكلام كأنه بدائي إذ تقدم انَّ ثبوت المفهوم مرتبط بركنين أحدهما ـ استفادة العلّية الانحصارية من الجملة.

الثاني ـ إثبات انَّ المعلق سنخ الحكم لا شخصه.

والجملة المشتملة على الغاية وإِنْ كانت تدل على الركن الأول باعتبار مساوقة الغائية للعلّية الانحصارية من طرف العدم لا الوجود ، الا انَّ الركن الثاني لا يمكن إثباته الا بالإطلاق ومقدمات الحكمة وهي لا تجري في المقام كما لم تجرِ في الوصف ، وتوضيحه وإِنْ كان فيه نحو تكرار موقوف على صغرى وكبرى.

امّا الصغرى : فهي انَّ النسبة المفادة بالغاية مدلول ناقص وهذا ما يمكن إثباته لمّا وإِنّا.

امّا لمّا : فبالرجوع إلى ما تقدم من بحث المعاني الحرفية والهيئات الناقصة من انَّ كل نسبة خارجية تكون ناقصة في الذهن والنسبة الغائية تحكي عن ربط خارجي نفس الأمري بين المعنى والغاية وهو الانتهاء الخارجي.

وامّا إِنّا : وبحسب النتائج فلوضوح نقصان جملة الغاية وحدها كقولنا الصوم إلى الليل ، كنقصان جملة الوصف أو الإضافة ، فانَّ هذا يصلح أَنْ يكون منبهاً في المقام.

وامّا الكبرى : فلأنَّ النسبة الناقصة لا يمكن إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة في طرفها ثم إيقاعها بل يجري الإطلاق في طرف النسبة التامة فقط وهذا أيضاً يمكن إثباته لمّا تارة وإِنّا أخرى.

امَّا لمّا : فبالرجوع إلى ميزان نقصان النسبة وتماميتها فانَّ النسبة الناقصة عبارة أخرى عن التحصيص وإرجاع المفهومين إلى مفهوم واحد ولا تتضمن ربطاً حقيقياً بين مفهومين في الذهن كما في النسبة التامة ، والإطلاق عبارة عن تحديد كيفية لحاظ المولى للمفهوم الواقع طرفا للنسبة الحقيقية التامة في ذهنه من حيث كونه مطلقاً أو مقيداً.

وامَّا إِنّا : فلوضوح الفرق بين قولنا وجوب الصوم مغياً بالليل الّذي يمكن إجراء

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٤٣٦ ـ ٤٣٧

٢١٢

الإطلاق في مفهوم الوجوب فيه الواقع طرفا للنسبة التامة وبالتالي إثبات المفهوم وبين قولنا وجوب الصوم المغيا بالليل ثابت الّذي وقع فيه الوجوب طرفاً للنسبة الناقصة مع غايته ولذلك لم يكن يدل على المفهوم وانَّ كل وجوب صوم مغياً بالليل.

ويشهد على هذه الدعوى وضوح عدم المعارضة عرفا بين قولنا ( صُمْ حتى تصبح شيخا ) ، وقولنا : ( صُمْ لداء المعدة ) مثلاً الشامل بإطلاقه حتى للشيخ وليس ذلك الا من جهة كون الغاية راجعة إلى شخص الحكم لا سنخه.

نعم تدل الغاية على المفهوم الجزئي بالمقدار الّذي كان يدل عليه جملة الوصف بنفس النكتة المتقدمة هناك.

« مفهوم الاستثناء »

تارة يكون الاستثناء راجعاً إلى موضوع الحكم كما في الاستثناء في مثل قولنا ( العالم غير العادل ) ، وأخرى يكون راجعاً إلى الحكم أي المدلول التام للجملة كما هو الظاهر في أغلب موارد استعمالات ( إلا ) مثل قولنا ( أكرم العلماء إِلاَّ الفساق منهم ).

ولا إشكال في عدم المفهوم للنحو الأول باعتباره كالوصف بل هو هو حقيقة إذ يدل على توصيف المفهوم الأفرادي وتحصيصه بقسم خاص.

وامّا الثاني : فالصحيح فيه ثبوت المفهوم في الجملة سواءً كانت سالبة كقولنا ( لا يجب تصديق المخبر إِلاَّ الثقة ) أو موجبة كما في المثال المتقدم وان كان ثبوته في السالبة أوضح ، والوجه في ذلك على ضوء الموازين المتقدمة انَّ الاستثناء يعني الاقتطاع وهو لا يكون إِلاَّ من شئون النسب التامة الحقيقية في الذهن ، واما في الخارج فلا اقتطاع ولا حكم فهي كالعطف والإضراب ونحو ذلك نسب ثانوية ذهنية وليست أولية خارجية كي تكون ناقصة ، وحينئذٍ يكون من المعقول إجراء الإطلاق في طرفها وهو الحكم لإثبات انَّ طرفها السنخ لا الشخص والمفروض دلالته وضعاً على الحصر فيتم بذلك كلا ركني المفهوم. ودعوى : وجدانية عدم تمامية جملة المستثنى من دون المستثنى منه ، جوابه : ان عدم التمامية هنا ليس باعتبار نقصان النسبة نفسها بل باعتبار عدم ذكر أطرافها فانَّ الاستثناء والاقتطاع فرع وجود حكم مسبق فلا معنى له

٢١٣

من دون سبق حكم في الجملة كما هو واضح (١).

وهذه النسبة التامة أيضاً بإزائها مدلول تصديقي فيصح إجراء الإطلاق في طرفها الّذي هو النسبة الحكمية نفسها.

وإِنْ شئت قلت : الموضوع بما هو موضوع للحكم ، وهذا يعني انه بحسب الحقيقة تتضمن الجملة الاستثنائية على نسبتين تامتين ومدلولين تصديقيين إحداهما النسبة التامة في طرف المستثنى منه وبإزائه المدلول التصديقي الّذي هو الجعل في الجملة الإنشائية ، والثانية النسبة الاستثنائية الاقتطاعية وبإزائه مدلول تصديقي آخر ، ويشهد على ذلك الوجدان القاضي بأنَّ المتكلم إذا خالف الواقع في جملة المستثنى والمستثنى منه معاً كما إذا قال ( كُل إِنسان أسود إِلاَّ الزنجي ) كان بذلك قد كذب كذبتين.

وامّا وجه أوضحية المفهوم في الجملة الاستثنائية النافية كقولنا ( لا يجب إكرام العلماء إِلاَّ العدول ) فلأنَّ اقتناصه منها ليس بحاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة في الحكم المسلوب بل حتى إذا كان شخصياً فاستثناؤه عن السلب إثبات له لا محالة في طرف المستثنى على أي حال وإِنْ شئت قلت : انَّ نفي الطبيعة لا يكون عقلاً إِلاَّ بانتفاء تمام حصصها فيكون الاستثناء منها إثباتا لا محالة واما إثبات الطبيعة فقد يكون بحصة خاصة ويكون الاستثناء بلحاظ شخص تلك الحصة الخاصة.

ثم انَّ المفهوم المدّعى في الاستثناء هو انتفاء طبيعيّ الحكم الثابت لعنوان المستثنى منه في المستثنى فلا ينافي مع ثبوت حكم مماثل له بعنوان آخر غير عنوان المستثنى منه ، كما لو ورد وجوب التصدق على الفقير الفاسق فانه لا يعارض مع مفهوم أكرم كل العلماء إِلاَّ الفساق ، لأنَّ طرف النسبة الاستثنائية التامة انما هو وجوب إكرام العالم وهو لا يصدق على وجوب إكرام الفقير ، وإِنْ شئت فقل : المستثنى منه

__________________

(١) الاستثناء إخراج عن الحكم المثبت في المستثنى منه كما أن الغاية انتهاء للحكم المثبت في المغيا وكلاهما من شئون النسبة التامة الملحوظة في طرف المستثنى منه والمغيا ولكنهما كما ذكرنا في الشرط لا يدلان على أكثر من تحديد تلك النسبة التامة وتشخيص مقدار صدقها فلا مفهوم بوجه أصلا ، ولكن لو فرض قبول المفهوم في الشرط لزم قبوله في تمام هذه الموارد التي يرجع القيد فيها إلى النسبة الحكمية التامة سواءً كان على نحو الشرط أو الغاية أو الاستثناء ، إذ سوف يكون الحكم ملحوظاً بنحو مستقل عن القيد فيمكن إجراء الإطلاق فيه لإثبات توقف طبيعي ذلك الحكم عليه وبالتالي انتفاء مطلق الحكم بانتفائه. ولعل هذا هو الوجه فيما افادته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من جعل الميزان في المفهوم رجوع القيود إلى الحكم.

٢١٤

عنوان العلماء بما هو موضوع للحكم بوجوب الإكرام وامّا الفقير الّذي هو موضوع آخر لوجوب الإكرام فلم يستثن منه شيء ، نعم لو ثبت حكم بوجوب الإكرام على فاسق عالم مع دخل علمه في الموضوعية ولو بنحو جزء الموضوع كان معارضا مع مفهوم الاستثناء لأنه خلف الاستثناء عن العلماء بما هو موضوع لوجوب الإكرام (١).

مفهوم الحصر

ومن جملة ماله مفهوم أدوات الحصر وأساليبه كأنما وتقديم ما حقه التأخير ، والوجه في دلالتها على المفهوم اشتمالها على ركنيه :

امّا الركن الأول وهو الدلالة على العلّية بمعنى الموضوعية الانحصارية ، فلأنّه مدلول أداة الحصر بحسب الفرض وهذا يعني توفر هذا الركن في جملة الحصر بحسب مدلولها التصوري.

وامّا الركن الثاني ـ وهو إثبات انَّ المحصور سنخ الحكم لا شخصه فهو ثابت أيضاً في جملة الحصر بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة أو الظهور الإطلاقي ، لأنَّ حصر شخص الحكم أمرٌ كان ثابتا بقطع النّظر عن الحصر وظاهر الإتيان بأداة الحصر تأسيس مطلب جديد لا تأكيد ما كان ، مضافا إلى لغوية حصر الشخص مع عدم انحصار السنخ عرفا ، فبالجملة الحصر بنفسه يكون قرينة على انَّ المحصور سنخ الحكم لا شخصه.

__________________

(١) قد يقال : انَّ هذا من جهة مناسبات الحكم والموضوع القاضية بأنَّ وجوب إكرام العالم أُخذ فيه العالم بنحو الحيثية التقييدية فكأنه قيل وجوب إكرام العلم يستثنى منه الفاسق وهذا جار في كل جملة حكمية فيها مفهوم وإِلاَّ فمقتضى الصناعة انحلالية عنوان وجوب إكرام العالم وشموله لتمام حصص وجوب الإكرام الفعلية في حق العالم الفاسق بأي عنوان كان ولذلك لا نجد لمثل هذا التفصيل مجالاً في الجملة التي لا يكون محمولها حكماً شرعياً بل امر خارجي ، كما إذا قلنا مثلاً ( كُلُّ فقيه يعرف علم الأصول إلا الاخباري ) ولعله بهذا أيضاً يمكن أَنْ نفسر نكتة ما تقدم من أظهرية المفهوم في الجملة الاستثنائية السالبة منه في الجملة الموجبة ، فإنَّ الاستثناء من السلب يكون إثباتا لا محالة بخلاف الاستثناء من الإثبات فانه يكون سلبا لذلك الحكم فلا ينافي مع ثبوت حكم بعنوان آخر ، ولذلك لا نجد مثل هذا الفرق في الجمل التي يكون المحمول فيها امراً خارجياً ، وامّا التحليل المتقدم فقد يناقش فيه بأنه كما يكون الاستثناء عن نفي الطبيعة إثباتاً لها كذلك الاستثناء عن إثبات الطبيعة نفي لها وكون الملحوظ ذات الطبيعة بلا خصوصية زائدة في النفي والإثبات كلاهما بمقدمات الحكمة والإطلاق كما هو المقرر في بحث النكرة في سياق النفي أو النهي.

٢١٥

وبذلك يظهر وجه ما يذكر من أقوائية مفهوم الحصر من جميع المفاهيم الأخرى فانَّ كلا ركني المفهوم يكون ثابتا في جملة الحصر بظهور تصوري أو ما بحكمه.

وامّا العدد واللقب فلا نكتة خاصة فيهما بل يظهر حالهما مما تقدم في مفهوم الوصف ، نعم في العدد إذا فرض انَّ المولى كان في مقام التحديد فهذا بنفسه يصبح قرينة على المفهوم كالقرائن الشخصية الأخرى.

٢١٦

مباحث الدليل اللفظي

العام والخاص

ـ العموم « معني العموم ـ القسامه ـ ادواته »

ـ التخصيص.

« حجية العام في الباقي ـ موارد واقسام

اجمال المخصّص ـ استصحاب العدم الازلي

كتويض عن العام ـ التمسك

بالعام لاثبات التخصُّص

ـ وجوب الفحص عن المخصص

ـاختصاص الخطاب بالممشافهين وعدمه

٢١٧
٢١٨

« العام والخاصّ »

ويقع البحث عنهما في فصول :

« الفصل الأول ـ في العام »

ويبحث فيه عن جهتين : إحداهما في معنى العموم وأقسامه والأُخرى في أدواته

الجهة الأولى

: عرف العموم في الكفاية (١) بأنه عبارة عن استيعاب المفهوم لما ينطبق عليه من الافراد ، وتحقيق حال هذا التعريف يتضح من خلال نقاط :

النقطة الأولى : انّ الاستيعاب تارة يفاد بحسب مرحلة المدلول اللفظي للدليل كما في ( إكرام كلَّ عالم ) بناءً على وضع كلمة ( كلّ ) لغة للاستيعاب ، وأخرى يفاد بحسب مرحلة التحليل العقلي ونقصد بها ... مرحلة تطبيق العنوان على معنونه خارجاً كما في قولنا ( أكرم العالم ) حيث انَّ اللفظ لا يدل وضعاً ولغة على أكثر من جعل الحكم على طبيعيّ العالم بحسب مرحلة الجعل إلاّ انه بلحاظ الخارج ومرحلة المجعول يطبق الحكم على كل مورد يتحقق فيه العالم خارجا ، والعموم هو النوع الأول من الاستيعاب لا الثاني.

النقطة الثانية : انَّ الاستيعاب المدلول للفظ وضعاً تارة : يكون مفاداً بنحو المعنى الاسمي كما في مثل ( كلّ وجميع وكافة وعموم ) ونحوها من الألفاظ الموضوعة لغة

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٣١

٢١٩

لنفس معنى الاستيعاب والشمول والعموم بشهادة المعاملة معها معاملة الاسم كجعلها مبتدأ مثلا في الجملة وأخرى : يكون مفاداً بنحو المعنى الحرفي كما في هيئة الجمع المحلّى باللام بناءً على دلالتها على العموم فانها كغيرها من الهيئات والأدوات وضعت لمعانٍ غير مستقلة.

والتعريف المتقدم يحتمل فيه أحد وجهين :

الأول : أَنْ يكون المقصود من استيعاب المفهوم لافراده أَنْ يلحظ المفهوم الواحد مرآة لتمام افراده كأن يلحظ مفهوم العالم فانياً في تمام افراده بنحو الشمولية أو البدلية فالعام هو الّذي يدل وضعاً على انَّ المفهوم قد لوحظ بهذا النحو.

وهذا الوجه غير معقول لنكتة أوضحناها في بحث الوضع وحاصلها : انَّ العنوان ـ أيّ عنوان كان ـ لا يمكن أَنْ يكون فانيا إلاّ في الحيثية المشتركة التي يكون حاكيا عنها والتي لا تزيد على ذات الطبيعة شيئا ، وامّا الكثرة والتعدد والافراد فلا يعقل أَن ترى بمفهوم الطبيعة ، ومن هنا قلنا باستحالة الوضع العام والموضوع له الخاصّ من دون استعمال مفهوم زائد على الطبيعة التي يراد وضع اللفظ بإزاء افرادها ، ولذلك قلنا في النقطة السابقة انَّ ما يدل على ذات الطبيعة كاسم الجنس ليس بعام لأنه لا يدل إلاّ على ذات الطبيعة وإِنْ كانت الطبيعة بحسب نفس الأمر ومرحلة التطبيق منطبقة على افرادها.

نعم من جملة الطبائع نفس طبيعة التعدد والتكثر والجمع وهي وإِنْ كان حالها حال سائر المفاهيم الأخرى التي لها افراد متعددة من حيث انه لا يمكن أَنْ يرى بها كثرات متعددة بل يرى بها نفس طبيعة الكثرة إلاّ انها بإضافتها إلى مفهوم آخر تفصيلي كمفهوم العالم مثلا ترينا افراد ذلك المفهوم ، فانه بالإضافة إليها يستفاد كثرة ذلك المفهوم التفصيليّ وافرادها فلا يصح أَنْ يقال انّ مفهوما استوعب افراد نفسه وانما الصحيح أَنْ يقال في موارد العموم الاسمي انَّ مفهوما استوعب افراد مفهوم آخر ، نعم لو لوحظ المفهومان كمفهوم واحد مسامحة تطابق مع ما في التعريف المذكور (١).

__________________

(١) قد يقال هذا المقدار لا يكفي لإثبات الاستيعاب لأنَّ مفهوم الافراد والتكثر لو أُضيف إلي مفهوم آخر لا يعطينا الاستيعاب لتمام افراد ذلك المفهوم بل لا بدَّ من استعمال كلّ أو عموم أو جميع أو كافة أو نحوها حتى نستفيد العموم ، وهذه الأدوات على قسمين منها ما لا يدخل إلاّ على الجمع حقيقة أو حكما كاسم الجمع ( قوم وناس ) ، وهذا من قبيل عموم وكافة

٢٢٠