بحوث في علم الأصول - ج ٣

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٥

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد. فإنَّ هذا هوالجزء الثالث من كتابنا ( مباحث الدليل اللفظي ) المشتمل على مباحث النواحي والعالم والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين من بحوث هذا العلم وبه تكمل مباحث الالفاظ ، استفدنا خلال تشرفي بحضور درس سيدي واستاذي الشّهيد السعيد آية الله العظمى السّيد محمد باقر الصدر (قدّس الله سرّه الشريف) .. وقد وفقني الله سبحانه لاعداد وانجازه من اجل النشر وعرض آخر ماانتهي اليه الفكر الاصولي من خلال هذه المدرسة الاصولية الفريدة التي اشادها هذا المعلم الربّاني والشاهد الشّهيد والتي تحتوي من جليل الافكار والمباني العلمية الدقيقة الرائعة ما يجعلها بحق تجديداً في بابه وتطوراً عظيما المناهج هذا العلم ومضامينه .. فسلام الله عليك ايّها المعلم العملاق الذي كنت نبراسا يهتدى بك في كل مجال وستبقي معطيات مدرستك الخالدة هي التي ترسم للاجيال معالم الطريق الى الحقيقة وتنير لهم درب الوثول الى لباب المعرفة واليقين .. وسلام عليك يوم ولدت ويوم جاهدت بعقلك وفكرك ويوم استشهدت في محراب عقيدتك ورسالتك ويوم تبعث حياً مع الشهداء والصالحين .. ووفقنا الله يا سيدي لا تباع نهجك الراشد والاتحاق بقافلتك قافلة قافلة العلماء الشهداء والاجتماع بخدمتك من جديد في مستقر رحمة الواسعة مع الابرار والصاحين وحسن اولئك رفيقا .. والحمدالله رب العالمين ..

السيّد محمود الهاشمي

قم المقدّسة ١٤٠٦ هجرية

٥
٦

مباحث الدليل اللفظي

بحوث النّواهي

ويشتمل على فصول ثلاثة:

ـ دلالات صيغة النهي

ـ اجتماع الأمر والنهي

ـ دلالة النهي على الفساد

٧
٨

بحوث النواهي

دلالات صيغة النّهي

ـ مدلول صيغة النهي

ـ دلالة النهي على الاستغراق

ـ كيفية المتثال النهي

ـ النواحي المتعلقة بالجامع الانتزاعي

٩
١٠

الفصل الأول

دلالات صيغة النهي

والبحث حولها من جهات :

الجهة الأولى ـ في مدلولها. وقد اشتهر بين قدماء الأُصوليين أنَّ مفاد صيغة النهي هو الطلب كمفاد الأمر إِلاَّ أَنَّ الأخير يدلّ على طلب الفعل والنهي يدلّ على طلب الترك.

وقد رفض هذا الكلام مشهور المحقّقين المتأخرين من علماء الأُصول مدّعين أنَّ مدلول النهي مختلف عن الأمر ذاتاً فكلّ منهما يدلّ على معنى مغاير ومباين للآخر لا انَّهما يدلاّن معاً على الطلب ويختلفان في متعلقه فقط.

وبهذا الصدد نورد ثلاث كلمات :

الكلمة الأولى ـ ما نسبه السيد الأستاذ إلى مشهور المعترضين على الرّأي السابق في مفاد النهي ، حيث ذكروا انَّ الأمر يدلّ على البعث نحو الطبيعة والتحريك إِليها بينما النهي يدلّ على الزّجر والتبعيد عنها.

ثُمَّ أشكل عليه بأنَّه لو أُريد من التحريك والزجر ، التحريك والزجر التكوينيّان فواضح انَّهما ليسا مدلولي الأمر والنهي وإِن أُريد منهما التحريك والزجر التشريعيّان فذلك يحصل بنفس الأمر والنهي حيث انَّهما بوجوديهما الواقعيّين

١١

لا بمدلوليهما مصداقان للتحريك والزجر فلا بدَّ وأنْ يكون مدلولهما أمراً آخر غير التحريك والزجر.

أقول : ما نسبه إلى المعترضين بهذا المقدار من البيان لا يكون برهاناً على ردّ مقالة السابقين اللهم إِلاّ أنْ يُراد منه دعوى الوجدان والتبادر العرفي وهذا صحيح بالإضافة إلى منبهات لهذا الوجدان سوف نشير إِليها فيما يأتي.

وامّا الاعتراض الّذي وجهه عليهم فكأنّه انسياق مع مبانيه في باب الوضع وانّه عبارة عن التعهّد الّذي يستوجب أنْ يكون الوضع هو منشأ الدلالة التصديقيّة الموجودة في الجملة التامّة حيث يقال حينئذ انّه لا يمكن افتراض وضع الأمر والنهي للتحريك والزجر بمعنى كشفهما عنهما إِذ لو كشف عن التحريك والزجر التكوينيَّين كان واضح البطلان ولو كشف عن تحريك وزجر تشريعيَّين فهما بنفسيهما مصداقان لذلك لا انَّهما يكشفان عنه.

وامَّا على المسلك المشهور والمختار من أنَّ الوضع منشأ الدلالة التصوّريّة فقط فمدلول مادة الأمر والنهي معنى اسميّ ومدلول هيئتهما النسبة التكوينيّة الخارجيّة المنتزع عنها ذلك المعنى الاسمي ـ كما حقّق في معاني الهيئات ـ وهي النسبة الإرساليّة التحريكيّة في الأمر والنسبة الزجريّة التبعيديّة في النهي وكلتا النسبتين يراد منهما الإرسال والزجر الخارجين التكوينيَّين لا التشريعيّين ولكنه كمفهوم تصوّريّ لا تصديقي كي يقال بأنَّه واضح البطلان فانَّ الدلالة التصديقيّة تكون بالظهور الحالي فانّه يكشف كشفاً تصديقيّاً عن أنَّ المراد النفسيّ والداعي الحقيقي للمتكلّم انَّما هو داعي التحريك التشريعي والزجر التشريعي بالأمر والنهي وبذلك يكون مدلول النهي غير الأمر تصوراً وتصديقاً.

الكلمة الثانية ـ فيما اختاره السيد الأستاذ نفسه من أنَّ الأمر يدلّ على وضع الفعل واعتباره في ذمّة العبد والنهي يدلّ على اعتبار حرمان المكلّف عن الفعل وابتعاده عنه لا اعتبار تركه على ذمّته والشاهد عليه بناء على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها انَّ الأمر يتبع مصلحة في الفعل فيناسب اعتبار الفعل في ذمة المكلّف والنهي يتبع مفسدة في الفعل فالفعل هو مركز البغض فيناسب اعتبار حرمان المكلَّف منه.

١٢

أقول : امَّا المصير إلى فرض مدلول الأمر والنهي هو الاعتبار فهذا أيضا يكون منه انسجاماً مع مسلكه في الوضع بنحو ينشأ منه الدلالة التصديقيّة وقد تقدّم في محلّه توضيح انَّ المدلول الوضعي للأمر ليس هو الاعتبار وإِنْ كان قد يستظهر كون المدلول التصديقي هو الاعتبار بدلالة سياقيّة.

وهنالك بعض الشواهد على ذلك من قبيل انَّ فكرة الاعتبار وما يرتبط بها وما تستلزمه من افتراض وعاء ذمّة وعهدة للمكلَّف أُمور دقيقة معقّدة لا تنسجم مع الدلالة الوضعيّة التي هي أبسط وأقدم تصوراً من مثل هذا التعقيد ، وانَّ صيغة الأمر كما تصدر من العالي الّذي قد يكون لديه اعتبار كذلك قد تصدر من الدّاني إلى العالي كما في قولنا « ربَّنا اغفرْ لنا » بينما لا يخطر على بالنا افتراض جعل شيء في ذمة الله تعالى واعتباره على عهدته (١).

وامَّا الاستدلال على كون مفاد النهي اعتبار حرمان المكلّف لا اعتبار الترك في ذمته بمذهب العدلية فيرد عليه.

أولا : انَّنا نتكلّم في الوضع اللغويّ الثابت قبل تكون مثل هذه المسالك الفلسفيّة لدى علماء المسلمين فما معنى الاستدلال على مدلول لغويّ وضعي بمذهب كلامي لدى فرقة من المسلمين.

وثانياً : انَّ مذهب العدليّة لا يقتضي ذلك إِذ المولى كما يمكنه أنْ يتوصّل إلى تبعيد المكلَّف عن مفسدة الفعل عن طريق اعتبار حرمانه كذلك يمكنه أنْ يتوصَّل إلى نفس النتيجة عن طريق اعتبار الترك في ذمته ومجرّد مناسبة اعتبار الحرمان مع مفسدة الفعل لا تكون دليلاً على أنَّ الواضع قد لاحظ هذه المناسبة بعين الاعتبار ولم يغفل أو يتغافل عنها.

الكلمة الثالثة ـ ما هو المختار فنقول : انَّ ما قيل في الكلمة الأولى من الفرق بين مفاد صيغة النهي ومفاد صيغة الأمر صحيح.

__________________

(١) للقائل بمسلك الاعتبار أن يجعل المدلول الوضعي في هذه الموارد الدعاء ابتداءً. نعم هذا يؤدي إلى أَنْ يكون المدلول التصديقي للصيغة ابتداءً متعلّقاً بمدلول المادة وهذا غريب في نفسه على ما تقدّم نظيره في بحوث الأمر.

١٣

فكلّ من الصيغتين لها دلالة تصوريّة وتصديقيّة وهما تختلفان في كلتا الدلالتين على ما تقدّم والحجّة عليه هو الوجدان القاضي بأنَّ ما يفهم من صيغة افعلْ يختلف عمّا يفهم من صيغة لا تفعل اختلافاً ذاتياً لا اختلافاً بحسب المتعلَّق كما هو مدعى القدماء. وهناك منبِّهات لهذا الوجدان أهمّها :

انَّ الصيغتين لو كان مفادهما متباينين ـ كما هو المدَّعى ـ فلا نحتاج إلى افتراض شيء وراء المعنى الحرفيّ للهيئة والمعنى الاسمي للمادة في اقتناص مفاد الأمر والنهي كاملة.

فيكون مدلول ( صلِّ ) مثلاً هو الإرسال والتحريك نحو الصلاة أي النسبة الإرسالية نحو الصلاة ومدلول ( لا تصلِّ ) مثلاً هو الزجر والمنع عن الصلاة أي النسبة الزجريّة عن الصلاة.

وامَّا إِذا أخذنا بوجهة نظر القدماء فنحتاج إلى توسيط عنصر ثالث وإدخال معنى آخر غير مفاد الهيئة والمادة في مفاد النهي إذ الطلب أو النسبة الطلبيّة أو التحريكيّة هل يكون متعلِّقاً بالمادة فهذا خلف المقصود من النهي أو يكون متعلِّقاً بتركها فهذا إدخال عنصر الترك الّذي لا يكون مدلولاً للمادة في مدلولها لأنَّ مدلولها الطبيعة التي وإِنْ كانت لم يؤخذ فيها لا الوجود ولا العدم إِلاّ انَّها انَّما تصلح مرآة لما يوجد من افرادها لا لتركها فهذه المشكلة التي يواجهها أصحاب هذا الاتجاه تجعلهم أمام أمرين فإما أنْ يلتزموا بدال ثالث وراء الهيئة والمادة يدلّ على هذا العنصر الغريب عنهما وهذا خلف المفروض أو أَنْ يأخذونه في مدلول أحد الدالّين ، فانْ أخذ في طرف المادة بدعوى : انَّ الصلاة في لا تصلِّ مثلاً مستعملة في ترك الصلاة مجازاً وعناية فهذا واضح البطلان بحسب وجدان كلّ عرفي القاضي بعدم عناية ولا تجوّز في طرف النواهي كالأوامر وإِنْ أخذ في طرف المادة بأَنْ أخذت فانية في الترك الخارجي فهذا أيضا مستحيل لما قلناه من انَّ الطبيعة انَّما تُفنى في وجودها في الخارج لا في عدمها.

وإِنْ أخذ في طرف الهيئة فهذا أيضا غير عرفي بل خلاف الأوضاع اللغوية لأنّ الهيئة معنى حرفي نسبي والترك معنى اسمي لا بدَّ وأن يقع طرفاً للنسبة ونحن لم نعهد أَنْ يكون ما له معنى حرفي دالاً على النسبة وطرفها معاً.

١٤

ثمّ لو فرضت الدلالة على ذلك فنحتاج إلى نسبة أُخرى بين الترك ـ المعنى الاسمي المدلول عليها بالهيئة ـ وبين المادة وهي الطبيعة وهي نسبة الإضافة لأنَّ المطلوب انَّما هو ترك المادة لا مطلق الترك ولا دال على هذه النسبة الثانية فأيضاً لا بدَّ من إقحامها في مدلول الهيئة فهذه مشاكل ومتاعب تثيرها هذه الفرضيّة لمفاد النهي.

الجهة الثانية ـ في أنَّ المستفاد من صغة النهي هل هو الإنحلال بحيث يكون الحكم الستغراقيّاً أم لاتوجد إلاَّ حرمة واحدة كالوجوب المستفاد مت الأمر؟

المعروف أنَّ المستفاد من النهي التحريم المطلق بنحو الإطلاق الاستغراقي فيكون هناك تحريمات عديدة بعدد الأفراد لا حرمة واحدة والأثر العملي بين القولين أنَّه على القول بوحدة التحريم لو صدر منه الفعل مرّة جاز له أَنْ يرتكب فرداً آخر منه وامَّا على القول بانحلالية التحريم فيكون الفرد الثاني محرماً كالفرد الأول بحرمة أُخرى مستقلة لا تسقط بعصيان الأولى.

والصحيح ما عليه المشهور فمتعلّق النهي إطلاقه شمولي استغراقي بخلاف متعلّق الأمر الّذي يكون إطلاقه بدليّاً ويكون المطلوب صرف وجوده.

من هنا يرد السؤال : انَّه كيف أصبح الفرق بينهما مع انَّ الإطلاق في المدلولين معاً بمقدمات الحكمة وهي واحدة في المقامين.

وقد عالج السيد الأستاذ ـ هذا الإشكال ببيان انَّ هناك مقداراً مشتركاً من مقدمات الحكمة يجري في مورد البدلي والشمولي معاً وهذا المقدار المشترك ليس هو المعين للشمولية أو البدليّة وانَّما يضمّ إليه ضميمة ومقدمة عقلية في بعض الموارد فينتج البدلية ويضمّ إليه ضميمة ومقدمة أُخرى فينتج الشمولية (١).

ولأجل توضيح هذه الفكرة نورد ثلاثة أمثلة.

الأول : في متعلَّقات الأوامر كما إِذا قال المولى ( صلِّ ) فانَّه لا يخلو من أَنْ يكون متعلَّق الأمر أحد شقوق فإما هو جميع الصلوات ـ وهو معنى الإطلاق الشمولي ـ وإِمَّا هو إِحدى الصلوات وهو الإطلاق البدلي ـ وإِمَّا هو مجموعة من الصلوات.

__________________

(١) المحاضرات ، ج ٤ ، ص ١٠٦ ـ ١١٤

١٥

والشقّ الثالث يبطل بمقدمات الحكمة بصيغتها المشتركة العامة ، إِذ أيّ خصوصيّة في تلك المجموعة كي تحمل الطبيعة عليها فقط فلو كان المقصود واحدة من المجاميع المتصوّرة كان عليه أَنْ ينصب التقييد عليها.

والشقّ الأول يبطل بمقدمة عقلية وهي عدم المقدورية ، إِذ كيف يمكن الإتيان بجميع الصلوات مع انَّ أفرادها العرضية متزاحمة ومتضادة فيتعيّن الشقّ الثاني وهو الإطلاق البدلي.

الثاني : في متعلّقات النواهي كما إِذا قال ( لا تكذب ) فانَّه أيضا فيه ثلاثة احتمالات ، أَنْ يكون الحرام جميع أفراد الكذب أي كلّ كذب ـ وهو الإطلاق الشمولي ـ وأَنْ يكون الحرام أحد أفراد الكذب ـ وهو الإطلاق البدلي ـ وأَنْ يكون الحرام مجموعة من أفراد الكذب ـ كالكذب على الله ورسوله مثلاً والكذب في حالة الصوم مثلاً ـ والشقّ الثالث هنا أيضا يبطل بمقدمات الحكمة بصيغتها المشتركة في جميع الموارد إِذ لو كان المراد مجموعة أو فئة معيّنة من الأكاذيب وهو في مقام البيان لكان عليه أَنْ ينصب قرينة عليها ، وامَّا الشقّ الأول والثاني في المقام فنجد انَّ المقدمة العقلية تنفي الشقّ الثاني أي الإطلاق البدلي لأنَّ الإطلاق البدلي غير معقول إِذ مقتضى طبع المطلب أَنْ يترك الإنسان كذباً واحداً على الأقل أي أحد أفراد الكذب فانتراك كذب واحد ضروري قهري فلا يعقل التكليف به فيتعين الشقّ الأول وهو الإطلاق الشمولي.

الثالث : ما سمّاه بموضوعات الأحكام الوضعيّة « كأحلّ الله البيع » فانَّه أيضا يرد فيه الاحتمالات الثلاثة ، حليّة كلّ بيع وحلية أحد البيوع وحليّة مجموعة معيّنة من البيوع كالعقدية مثلاً ، والاحتمال الثالث يُنفى بالقدر المشترك من مقدمات الحكمة والاحتمال الثاني يُنفى بمقدمة عقلية إِذ من اللغو حليّة بيع لا بعينه فيتعيّن الاحتمال الأول أي الإطلاق الشمولي.

وهذا الكلام فيه عدّة مواضع للنظر نقتصر فيه على نكتتين :

النكتة الأولى : انَّ استفادة البدلية أو الشمولية في كلّ مورد ليس بميزان لغوية الآخر وعدم معقوليته مع ضمّ القدر المشترك بدليل انَّه في كثير من الموارد يكون كلّ

١٦

منهما معقولاً ومع ذلك لا شك في انَّ صناعة الفهم العرفي تقتضي تعيين أحد الوجهين وذلك كما في موضوعات الأوامر لا في متعلقاتها. من قبيل ما إِذا قال ( أكرم العالم ) فانَّه بالنسبة إلى الموضوع وهو العالم لا إِشكال في أنَّ مقتضى الإطلاق فيه الشمولية وثبوت الحكم على كلّ فرد من أفراد طبيعة العالم مع انَّه لا استحالة ولا لغوية في أَنْ يكون بدليّاً بأَنْ يجب إِكرام عالم ما فقط ، بل كلّ من الشمولية والبدلية معقول على حدّ واحد فهذا يبرهن على انَّ وراء مسألة استحالة البدلية في هذا المورد أو الشمولية في ذلك المورد توجد نكتة أُخرى هي التي تقتضي البدليّة أو الشمولية.

النكتة الثانية : في موارد متعلّقات الأوامر ـ المثال الأول ـ ما أُفيد غير كافٍ للانتهاء إلى البدليّة وذلك لأنَّنا إِذا بنينا على عدم شرطية القدرة في الخطاب أصلاً وافترضنا أنَّه شرط في مقام الامتثال فقط كما ادَّعاه الأستاذ في بحث الترتّب وإِنْ لم أعهد منه التفريع عليه في مورد أصلاً ، فلا مانع من إطلاق الخطاب لكلّ أفراد المتعلّق غاية الأمر أنَّ الامتثال اللازم بحكم العقل يختصّ بالمقدور منها.

وأمَّا إِذا قلنا بأنَّ شرطيّة القدرة بحكم العقل فحيث انَّ هذا المقيّد لبّي كالمتصل فلا ينعقد إطلاق لغير المقدور من أفراد المتعلّق فتثبت الشمولية في حدود هذا المقيّد المتّصل الّذي يقيّد دائرة الإطلاق الشمولي كسائر المقيدات للإطلاقات الشمولية ، وكذلك الحال لو قلنا بأنَّ الخطاب يقتضي تقييد المادة بالمقدور منها بل الحال على ذلك أوضح كما لا يخفى.

فلا بدَّ من التفتيش عن نكتة أُخرى لاقتضاء البدليّة في متعلّقات الأوامر والشمولية في متعلّقات النواهي وراء هذه الكلمات.

وتلك النكتة قد شرحناها مفصّلاً في بحث المرّة والتكرار. ونوجزها هنا قائلين :

انَّ البدليّة والشمولية تارة تكون في العمومات وأخرى في المطلقات. امَّا في العمومات فالدال عليها لفظي ف ( كلّ ) موضوعة للدلالة على الشمول أو ( أي ) موضوعة للدلالة على العموم البدلي ، وامَّا المطلقات فقد قيست على العمومات وتصوّر فيها أيضا انَّ البدلية والشمولية من شئون الإطلاق ومقدمات الحكمة.

والصحيح انَّ الإطلاق ومقدمات الحكمة لا يثبت إِلاّ أنَّ موضوع الحكم هو الطبيعة

١٧

من دون قيد زائد وامَّا البدليّة والشموليّة فهما من شئون تطبيق الحكم وليسا مدلولين لمقدمات الحكمة ولا للوضع ، فانَّ الحكم على الطبيعة لو كان غير قابل للانطباق على جميع الأفراد فهو بدلي وإِلاّ فشمولي.

وتوضيح ذلك : انَّ هناك متعلّقاً للحكم وموضوعاً والموضوع يفرض مفروغاً عن وجوده بخلاف المتعلّق إِذ لو كان مفروغاً عنه قبل الحكم كان الأمر به تحصيلاً للحاصل ، وحينئذ يقال : انَّ الطبيعة المفروغ عنها في المرتبة السابقة على الحكم يستتبع لا محالة انطباقها على جميع ما يصلح أَنْ يكون مصداقاً لها فيتعدد الحكم بتعدد فعليات تلك الطبيعة كما هو شأن القضيّة الشرطيّة ، فأكرم العالم يرجع إلى قولنا إِنْ كان هذا عالماً وجب إِكرامه ، هذا في طرف الموضوعات وامَّا في طرف المتعلقات فالقاعدة تقتضي العكس لأنَّ المتعلّق لم يفرض وجوده كي يتعدد الحكم تطبيقاً بتعدد فعلياته.

بل انَّما يثبت بنفس الحكم فلا موجب لتعدده.

وبتعبير واضح انَّ القضية الحقيقيّة المناط فيها الحكم بالشرط انَّما يتعدد بلحاظ الشرط لا بلحاظ المتعلّق والجزاء ، ومن هنا قلنا في بحث المرّة والتكرار ، انَّ الأصل في الموضوعات هو الإطلاق الشمولي والأصل في المتعلّقات هو الإطلاق البدلي ، ولكنه يوجد استثناءان ان لذلك أحدهما ـ عن الأصل الأول حيث يستثنى من هذا الأصل في الموضوعات ما إِذا كان الموضوع منوّناً من قبيل أكرم عالماً ـ حيث انَّ الاسم يحتاج إلى ما يتّكئ عليه من تنوين أو الألف واللام ـ فيصير الإطلاق بدليّاً من جهة انَّ تنوين التنكير يكون ظاهراً في أخذ قيد الوحدة وصرف الوجود فيه وهذا لا يعقل مع الشمولية (١).

__________________

(١) ليس التنوين الدال على الوحدة ينافي الشمولية بدليل دخوله على موضوع النهي في قولك لا تكرم عالماً مع شموليّته بل حتى في الأمر إذا أخذ مقدر الوجود كما إذا قال إنْ رأيت عالماً فأكرمه بل السر هو ان ( عالماً ) في أكرم عالماً وإِن كان بحسب الموقع اللفظي موضوعاً في الجملة ولكنه بحسب المعنى واللّب قيد في متعلّق الأمر فلا يفهم أخذه مقدر الوجود بل لو أمكن إيجاده لإكرامه لوجب لو لا القرينة الخاصّة نظير قولنا ابن مسجداً أو توضأ بالماء ـ رغم عدم التنوين في الأخير ـ فالمعنى أوجد إكرام عالم ، وهذا يتحقق بإكرام عالم واحد بنحو صرف الوجود وامّا في لا تكرم عالماً فحيث انّ المطلوب إعدام إكرام عالم ، فلا يتحقق إِلاّ بترك إكرام كلّ عالم. فالحاصل كلّما كان القيد قيداً في متعلّق الأمر ولو كان بحسب ظاهر اللفظ في مركز الموضوع فلا ينحل الحكم بلحاظه فليس هذا استثناءً عن القاعدة السابقة. وأمّا الانحلال في ( أكرم العالم ) فلأنَّ اللام تدلّ على أنّه مقدر الوجود سواءً كانت للعهد أو الجنس فتأمّل جيداً.

١٨

والاستثناء الثاني عن الأصل الثاني في المتعلقات حيث يستثنى منه متعلقات النواهي فانه يستفاد منها انَّ كلّ فرد من المتعلّق موضوع مستقل للحرمة وهو معنى الشمولية ، وقرينة ذلك غلبة نشوء النهي عن المفسدة وغلبة كون المفسدة انحلاليّة بعدد الأفراد على ما تقدّم شرحه مفصّلاً في أبحاث المرّة والتكرار وقد تعرّض السيد الأستاذ إلى هذه القرينة في المقام ولم يرتضها بل اعترض عليها بأمرين :

الأول : انَّه انَّما يتمّ بناء على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد وامَّا إِذا أنكرنا ذلك كما هو مسلك الأشاعرة فلا موضوع لهذه القرينة.

الثاني : انَّ هذا تخرّص ورجم بالغيب إِذ نحن لا نعرف ملاكات خطابات المولى بل انَّما نستكشف انحلاليّة الخطاب بها. وكلا الاعتراضين ممّا لا يمكن المساعدة عليهما.

أمّا الأول : فلأنَّ الكلام في الظهور العرفي اللغوي للكلمة والنزاع بين الأشعري وغيره نزاع ثبوتي في الأحكام الشرعية خاصة ومن الواضح انَّ الأشاعرة الذين ينكرون ذلك في أحكام الله لا ينكرونه في حقّ نواهي الناس وهذا كافٍ في تماميّة القرينة المدّعاة. وإِن شئت قلت : انَّ الغالب كون المبغوضية والمفسدة التي هي ملاك النهي في كلّ فرد من أفراد الطبيعة سواءً كانت تلك المفسدة راجعة إلى العبد أو إلى المولى نفسه أو كانت جزافيّة وتحكميّة وهذا لا ربط له ببحث التبعيّة بين الأشعري والمعتزلي.

وبهذا يندفع الأمر الثاني أيضا إِذ المدّعى غلبة انحلالية ملاكات النواهي العرفية لا الشرعية وهذه الغلبة تستوجب الظهور في النهي فيكون حجّة لو صدر ذلك النهي عن الشارع أيضا.

وبما ذكرناه ظهر وجه الفرق بين الأوامر والنواهي حيث يكون الأمر ساقطاً بالعصيان أو الامتثال مرّة بخلاف النهي فانَّه لا يسقط بالعصيان مرّة وليس ذلك إِلاّ من جهة تعدد الحرمة والنهي ووحدة الأمر.

وقد اتّضح بذلك ما في كلام المحقّق الخراسانيّ من تفسير ثبوت النهي والحرمة للشرب الثاني بالتمسّك بإطلاق المتعلّق للشرب الثاني بعد الشرب الأول فانَّه قد تبيّن انَّ الإطلاق لا يقتضي أكثر من كون الطبيعة بما هي موضوع الحكم من دون فرق

١٩

في ذلك بين باب الأوامر والنواهي وامَّا الاستغراقية أو البدلية فبحاجة إلى نكتة أخرى على النحو الّذي شرحناه.

الجهة الثالثة : انَّه إِذا فرضنا وحدة النهي وعدم انحلاليته فصار مفاد لا تشرب ثبوت حرمة واحدة على حدّ الأمر بالطبيعة ، مع ذلك سوف يبدو لنا فرق بين الأمر والنهي غير ما كنّا بصدده في الجهة السابقة ـ وهو الانحلال إلى عدّة تكاليف ـ فانَّه وإِنْ لم يكن فرق بينهما من حيث السقوط بالعصيان إِلاَّ انَّه يبقى بينهما فرق في كيفيّة الامتثال فانَّ الأمر يمتثل بإتيان فرد من أفراد الطبيعة ولا يكون عصيانه إلاّ بأَنْ يترك تمام أفرادها وامَّا النهي فالتحريم الواحد انَّما يمتثل باجتناب تمام أفراد الطبيعة ولا يكفي اجتناب بعض أفرادها ، وهذه ليست دلالة لفظية بل من جهة حكم العقل بأنَّ الطبيعة الواحدة مفهوماً لا تنعدم إلاّ بانعدام تمام أفرادها ولكنها توجد بوجود فرد واحد ، والمطلوب في طرف الأمر هو الإيجاد فيكون بواحد بينهما المطلوب في طرف النهي الإعدام فلا يكون إِلاّ بانعدام الجميع.

وبما ذكرناه من التمييز بين هذا الفارق وبين الفارق في الجهة السابقة اتّضحت جملة من المغالطات في كلمات المحقّقين من أهمّها ما وقع في تقريرات المحقّق العراقي ( قده ) من طرح المشكلة ابتداءً بما ذكرناه في الجهة السابقة من بقاء النهي بعد العصيان بينما لا يبقى الأمر بعد العصيان وجعل جوابها الكلام المشهور أي ربطها بالفارق العقلي في كيفية الامتثال الّذي قلناه في هذه الجهة ، مع انَّ هذا المطلب لا دخل له في دفع تلك المشكلة وجوابها هو ما قلناه في تلك الجهة من انحلالية النهي وبدلية الأمر.

وأيّاً ما كان فالبحث هنا عن الفارق المذكور بين كيفيّة امتثال الأمر وكيفية امتثال النهي وانَّه هل صحيح ما ذكر من حكم العقل في كيفية وجود الطبيعة وعدمها؟ حيث انَّ المحققين المتأخرين أنكروا ذلك وقد حقّقنا هذه المشكلة مفصلاً في بحث المرّة والتكرار وأثبتنا صحّة ما ذهب إليه المشهور في حلّ المشكلة.

وملخّص ما قلناه هناك : انَّ الطبيعة إِذا لاحظنا وجودها الخارجي فالاتجاه الصحيح والمشهور فيه هو انَّ نسبة الكلّي الطبيعي إلى أفراده الخارجية انَّما هي نسبة الآباء إلى الأبناء في قبال اتّجاه الرّجل الهمداني القائل بأنَّ نسبة الطبيعي إلى أفراده

٢٠