بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم النبين والمرسلين وقائد الاولياء

والصالحين محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد ... فهذا هوالجزء الخامس من كتابنا ( بحوث في علم الاصول ) والذي يمثل الجزء الثاني من مباحث الحجج والاصول العلمية ، وهو يشتمل على بحوث البراءة والتخيير والاحتياط من مباحث الاصول العلمية التي تلقيناها خلال الدورة الاولى والثانية من دروس سيدنا واستاذنا الشهيد السعيد آية الله العظمى السّيد الصدر ( قدره ) ، حيث انه قد انتهى في دورته الثانية التي القاها من بحوث هذا العلم الى مبحث اصالة الاحتياط ، فدا همته الظروف العصيبة التي حاكها المستعمرون للكيد بالاسلام ورموزه وقادته بعد ان انتصرت الثورة الاسلامية المباركة في ايران بقياده الامام القائد اية الله العظمى السّيد الخميني ( دام ظلّه الشريف ) فتصدت الطغمة الكافرة الحاكمة في العراق للوقوف بوجه امتدادات هذا النور الالهي وخنق انفاس الثائرين والسائرين في طريقه فكان ضمن حلقات هذا المسلسل الاجرامي محاصرة سيّدنا الشهيد في بيته في النجف الاشرف ردحاَ من الزمن مما أدى الى تصعيد الثورة في وجدان الامة وتصاعد العمليات الجهادية هنا وهناك فلم يتمالك الجلادون الا أن يقدموا على قتل هذا القائد الرباني والقمة الرسالية الشامخة والقيمة الحضارية الخالدة فافجعوا بذلك العلم والايمان معاً بخسارة عظمى لايسدّها شىء فإنَا لله وانّا اليه راجعون حسينا الله ونعم الوكيل ، انّه نعم المولى ونعم النصير.

قم المقدسة ـ محمود الهاشمي

١٤٠٦ـ هـ

٥

٦

مباحث الحجج

تمهيد

ـ المفهوم الأصولي لفكرة الأصل العملي

ومراحل تطوره.

ـ حقيقة الأصل العملي الشرعي.

ـ تقسيم الأصول العملية الشرعية إلى محرزة وغيرها.

ـ تقسيم الأصول العملية إلى البراءة

والتخيير والاحتياط والاستصحاب.

٧
٨

مباحث الأصول العملية

قبل الشروع في استعراض الأصول والقواعد العملية لا بد من تقديم مقدمات :

المقدمة الأولى في شرح المفهوم الأصولي عن فكرة الأصل العملي وما مر به من مراحل متطورة حتى انتهيا إلى التحديد والتنقيح الّذي نفهمه اليوم فنقول : ان منهج الاستنباط في الفقه الإمامي قد اعتمد على افتراض مرحلتين للاستنباط يطلب في أولاهما الدليل على الحكم الشرعي ويطلب في الثانية تشخيص الوظيفة العملية تجاهه تنجيزا أو تعذيرا. والقواعد التي تقرر في المرحلة الثانية هي التي تسمى بالأصول بالأصول العملية لأنها تشخص الموقف العملي تجاه الترشيح من دون ان تشخص الحكم الواقعي نفسه ، هذه المنهجة يتميز به الفقه الإمامي عن فقه العامة الّذي يتجه إلى إثبات الحكم الشرعي دائما ـ المرحلة الأولى ـ فان لم يمكن أثابته بالأدلة القطعية أو المفروغ عن دليليتها شرعا تحول إلى طرف أضعف في مقام الإثبات من الأمارات والمظنون القائمة على أساس اعتبارات ومناسبات واستحسانات فهو يتوسل بكل وسيلة إلى أبيات الحكم الشرعي مهما إمكان بينما في الفقه الإمامي كلما لم تقم عند الفقيه الأدلة القطعية أو الشرعية المفروغ عنها انتقل إلى المرحلة الثانية وهي تشخص الوظيفة المقررة عند الشك ولو عقلا دون ان يتجه إلى التماس الأدلة والأمارات الناقصة لا ثبات الحكم الشرعي الواقعي ، ومن هنا نجد أن الفقه

٩

الإمامي توسع في بحث الأصول العملية واقسامها وشرائط كل منها بينما فقه العامة لم يتعرض لتلك البحوث بل على العكس من ذلك نجد ان للبحث عن الأمارات والظنون ومحاولات إثبات الحكم الشرعي على أساسها مجالا واسعا في أصول فقه العامة في الوقت الّذي يكون البحث عنها عندنا محصورا في حدود ما هو في معرض قيام دليل ضرعي على حجيته.

الا ان فكرة الأصول العملية لم تكن بهذا الوضوح في كلمات أصحابنا منذ فجر تاريخ الفقه الإمامي وتدوينه ، بل في مبدأ الأمر أدرجت الأصول العملية في دليل العقل وقبل بان مصادر الفقه أربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل وأدرجت أصالة البراءة في الأخير وادعى جمع كالسيد المرتضى ابن زهرة ( قدهما ) ان هذه الأدلة كلها قطعية فاعتبرت البراءة قطعية والعمل بها عمل بدليل العقل القطعي وبذلك أجابوا على فقه العامة بأنهم يعملون بالقطع ولا يحتاجون إلى إعمال الظنون والأمارات إلا ناقصة وكذلك أدرج في الدليل العقلي بعد ذلك أصل الاستصحاب بل يلاحظ ان البراءة لاحقة بالاستصحاب واعتبرت منه لأن الحالة الأصلية براءة الذّمّة قبل الشرع وهي تثبت بالاستصحاب حال الأعقل ووسموه بالدليل العقلي القطعي مع انه ليس دليلا على الحكم فضلا من ان يكون قطعيا وانما القطعي تفريغ الذّمّة به. وفي كلمات المحقق ( قده ) وغيره من تلك المرحلة نجد انهم صاغوا الاستدلال بالبراءة على الإباحة وعدم الإلزام صياغة استدلالية عقلية قطعية تطبيعا لمنهجة الأدلة عليها فقالوا بان التكليف بالمجهول غير معقول لأنه تكليف بما لا يطاق أو ان عدم الدليل على الحكم دليل على العدم ، لأن الأحكام قد بلغت جميعا وهكذا حاولوا إلباس البراءة ثوب الدليل القطعي على الحكم الشرعي الواقعي وبعد ان التفت إلى ان الأدلة المعتمدة في الفقه فيما ما هو ظني ولكنه معتبر شرعا كظهورات وخبر الثقة مثلا وشاع تقبل فكرة الأعمل بالظن إذا كان معتبرا شرعا بدليل قطعي اعتبرت الأصول العملية أدلة دليلا ظنيا بل ذلك لبعض المتأخرين كما ذكره الشيخ الأنصاري ( قده ) واستغرب منه.

وبعد ذلك اختمرت تدريجيا الفكرة الصحيحة عن الأصل العملي وانه لا يطلب

١٠

منه الكشف عن الحكم الواقعي وجعله دليلا عليه لكي يبحث عن كونه قطعيا أو ظنيا وانما المطلوب منه تحديد الموقف العملي للمكلف تجاه الحكم الواقعي عند عدم إمكان أثابته بدليل ومن هنا يكون قطعيا لأن فراغ الذّمّة به يكون قطعيا ولكنه مع ذلك لا يصح حشره ضمن الأدلة وقد جاءت في كلمات المحقق جمال الدين إشارة إلى مثل هذه التفرقة والتي كانت بحق بداية اختمار هذه الفكرة وعلى يد الأستاذ الوحيد البهبهاني ( قده ) وتلامذته خصوصا صاحب الحاشية على المعالم تحددت الفكرة وتنقحت أكثر حتى انا نجد ان صاحب الحدائق المعاصر للأستاذ الوحيد يستعرض في كتابه الدرة النجفية أدلة القائلين بأصل البراءة ويناقشها وهي كلها بروحية ان البراءة ذليل على الحكم ، ثم يقول في نهاية ذلك ومن هنا ذهب بعض متأخري المتأخرين ان البراءة ليست دليلا على الحكم وانما على نفي تكليفنا بالحكم ولعل نظره إلى المحقق جمال الدين أو إلى الوحيد البهبهاني ( قدهما ) وكان اختمار هذه الفكرة أحد الأمور التي جعلتنا نعتبر عصر الوحيد ومرحلته من تاريخ علم الأصول عصرا ثالثا من عصور هذا العمل وتاريخه وقد كان هذا فتحا كبيرا في منهجة بحوث علم الأصول وان كان ذلك لم ينعكس في التصنيفات المدونة الا على يد الشيخ الأنصاري ( قده ) حيث صنف كتابه « فرائد الأصول » حسب هذه المنهجة. وقد نقل فيه عن الوحيد انه سمى الأمارات بالأدلة الاجتهادية والأصول بالأدلة الفقاهتية وقال انه يرجع نكتة مراجعته إلى تعريف كل من الاجتهاد والفقه حيث يعرف الأول لأنه تحصيل العمل بالتكليف الشرعي وكأن الأستاذ الوحيد حمل لحكم الشرعي في الأول على الواقعي والا فالفقه الإمامي يا يعتمد على الظن بالحكم الواقعي من دون قطع بحجيته ، والثاني على الأعم منه ومن الظاهري بل ينبغي ان يراد به الأعم منهما ومن الوظيفة العقلية العملية وإلا فالفقه لا يكون دائما موجبا للعمل بالحكم الشرعي الواقعي. هذا مجمل تاريخ فكرة الأصل العملي.

المقدمة الثانية ـ في البحث عن حقيقة الأصل العملي الشرعي ثبوتا وفرقه عن الدليل الاجتهادي من زاوية الجاعل المشرع لهما.

وهذا البحث قد شرحناه مفصلا عند البحث عن الحكم الظاهري وكيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي ، وحاصل ما ذكرناه هناك ان حقيقة الحكم

١١

الظاهري أنه الحكم الصادر من قبل المولى في مقام الحفظ على الا هم من الملاكات والأغراض المولوية الواقعية الإلزامية المتزاحمة مع الملاكات المقتضية للإباحة والترخيص في موارد الاشتباه والتردد تزاحما حفظيا. وقلنا هناك ان الأهمية المرجحة تارة تكون على أساس نوعية الملاك الواقعي المحتمل وأخرى تكون على أساس قوة الاحتمال محضا بحيث يكون الحكم الشرعي الظاهري نسبته إلى كل من الإلزام والترخيص على حد واحد ولا توجد نكتة لجعله الا الترجيح على أساس قوة الاحتمال وكاشفيته الغالبية عن الواقع والأول حقيقة الأصل العملي والدليل الفقاهتي والثاني حقيقة الأمارة والدليل الاجتهادي ، واما كيفية صياغة الحكم الظاهري الناشئ على أساس أحد هذين الملاكين من الناحية اللفظية أو الاعتبارية من حيث جعل الطريقية تارة والمنجزية أخرى والجري العملي ثالثا فذلك كله فوارق صورية صياغية لا تمس جوهر الحكم ولا يوجب تنوعها تغييرا في حقيقة ذلك الحكم الظاهري المجعول وروحه ، ومن هنا قلنا انه يمكن اعتبار العملية أو المنجزية في مورد الأصل كما يمكن جعل وجوب الجري العملي في مورد الأمارة من دون ان يلزم من نجرد هذا الاعتبار أي تغير في النتائج والحقائق. نعم الأنسب مع حقيقة الحكم الظاهري القائم على أساس الترجيح بقوة الاحتمال والكاشفة ان تكون الصياغة العقلائية أو الاعتبارية لها في مرحلة الإثبات جعل الاحتمال الأقوى علما وطريقا وكاشفا ، بينما لا نسب مع الحكم لا ظاهري بملاك قوة المحتمل ونويته جعل وجوب أجرى العملي والاحتياط ونحو ذلك فهذه الخصوصيات والحيثيات صياغية ـ وإثباتية بصورة طبيعية وعلى القاعدة بالنسبة إلى كل منهما على ما سوف يظهر لدى البحث عن الأصل المثبت.

وفيما يلي نتعرض إلى ثلاثة اتجاهات مشهورة بين المحققين من علماء الأصول في التفرقة بين الأصل والأمارة :

الاتجاه الأول ـ ما يظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم ( قده ) ونقحته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من ان الفرق بين الأمارات والأصول يتمثل في سنخ المجعول في كل منهما ، حيث ان المجعول في الأمارة الطريقية والعملية بينما المجعول في الأصل

١٢

إيجاب الجري العملي أو تنزيله منزلة في العمل في الجري العملي.

وقد اتضح ان هذه التفرقة صورية وبحسب الصياغة ليس غير ، والهدف من التفرقة بين الأمارة والأصل ليس مجرد التمييز بين المصطلحين فان هذين المصطلحين لم يردا في لسان دليل شرعي ليتوخى من ورائه أثر فقهي ، وانما القصد تبرير ما هو المركوز والتسالم عليه من ان لوازم الأمارات ومثبتاتها حجة بينما لوازم لأصل ليست كذلك إذا لم تكن آثارا شرعية. ومن هنا حينما فرق المحقق النائيني ( قده ) بين الأمارة والأصل بالفرق المزبور رتب على ذلك هذا الأثر واستدل عليه بان العلم بشيء علم بجميع لوازمه ومستلزماته فيكون جعل العلمية للأمارة مثبتا لجميع ذلك بخلاف الجري العملي فان إيجاب جري عملي على وفق أمر لا يلزم منه إيجاب الجري على لوازم ذلك الشيء ، لأن الجري العملي فعل خارجي فقد يحكم المولى بعمل دون عمل.

وقد أشكل عليه السيد الأستاذ بان مجرد كون المجعول هو العلمية في باب الأمارات لا يقتضي حجية مثبتاتها لأن العلم بالشيء انما يستلزم العلم بلوازمه إذا كان العلم وجدانيا لا تعبديا ، لأنه مجرد تعبد وحكم شرعي يكون حدود جعله بيد الشارع ولا ملازمة بين جعله بلحاظ المؤدى وجعله بلحاظ لوازمه ، ومن هنا أنكر حجية مثبتات الأمارة على القاعدة بل اعتبرها كالأصول من حيث احتياج حجية مثبتاتها إلى عناية زائدة ودليل خاص ، وهكذا التزم السيد الأستاذ بصحة ما ذهب إليه الميرزا في ميزان التفرقة بين الأصل والأمارة وأنكر ترتب تلك الخاصية المرتكزة والأثر المتسالم عليه للأمارة وهي حجية مثبتاتها مع انه كان الأجدر اعتبار عدم صلاحية تلك التفرقة لتبرير الخاصية المذكورة دليلا على قصورها.

واما بناء على تفسيرنا فيبدو تبرى الخاصية واضحا جدا ، فانه إذا كان تمام الموضوع والملاك في جعل الحجية في باب الأمارة انما هو علاج التزاحم الحفظي على أساس المرجح الكيفي وهو الترجيح بقوة الاحتمال والكاشفية فسوف تكون المثبتات حجة على القاعدة لأن نفس الدرجة من الكشف التصديقي وبنفس الملاك الكاشف ثابت بلحاظ المداليل الالتزامية للأمارة أيضا الا من حيث كون المؤدى مدلولا مطابقيا واللازم التزاميا غير مصرح به ومثل هذه الخصوصية لا تكون دخيلة في ملاك الحجية عرفا وعقلائيا على ما سوف يأتي تفصيل الكلام فيه في تنبيهات الاستصحاب.

١٣

وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم الظاهري مبتنيا على أساس ملاك ونكتة موضوعية وهي نوع المحتمل وخصوصيته فيختص الحكم الظاهري بالحجية بذلك لا محالة ولا يمكن التعدي منه إلى المداليل الالتزامية على القاعدة.

ثم ان الشيخ الأعظم ( قده ) ذكر في الرسائل ان الاحتمال المتساوي الطرفين لا يعقل جعل الأمارية له لأن نسبته إلى الطرفين على حد واحد والمتأخرون اعترضوا عليه بان جعل الاحتمال أمارة لا يعني جعله كاشفا حقيقيا بل تعبديا وباب التعبد واسع واعتباره سهل.

الا ان هذا الكلام أيضا ناجم من الخلط بين اللسان والروح ، فان التفرقة بين الأمارة والأصل ان كان على أساس نوع المجعول ولسان الإنشاء صح ما ذكر بل صح جعل الوهم علما وأمارة ، واما ان كان على الأساس الّذي ذكرناه فكلام الشيخ ( قده ) متجه إذ علاج التزاحم الحفظي على أساس قوة الاحتمال ودرجة الكاشفية لا بد فيه من فرض قوة للكاشفية في أحد الطرفين وكان الشيخ ارتكازا كان يعيش ما ذكرناه وان لم تكن عبارته وما فيه ببيانه.

وهناك خلط آخر وقعت فيه مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من جراء الفرق المذكور وهو تفريع ما هو خاصية وأثر لمقام الإثبات إلى مقام الثبوت ، فانهم حكموا بتقديم الأمارات على الأصول من جهة حكومتها عليها لأن الأصل أخذ في موضوعه الشك وعدم العلم وبما ان الأمارة يكون المجعول فيها العلمية والطريقية فتكون رافعة لموضوع الأصل تعبدا وبحكم الشارع ، فجعلت حكومة الأمارات على الأصول من نتائج مسلك جعل الطريقية والعلمية في تفسير حقيقة الأمارة مع انه من الواضح ان الحكومة نوع من التخصيص والقرينية في مقام الإثبات وليست من خصائص عالم الثبوت فمهما كان المجعول في باب الأمارة أو الأصل ومهما كان روح كل منهما فلا ربط لذلك بباب الحكومة لأنها انما تكون على أساس خصوصية في لسان الدليل الحاكم والمحكوم فلو جعلت الأمارية بلسان وجوب العمل بالخبر أو أخذ في موضوع الأصل عدم العلم الوجداني لم تكن الأمارة مقدمة على الأصل (١).

__________________

(١) هذا في غير الحكومة الادعائية الميرزائية فانها حكومة ثبوتية مرجعها إلى نحو ورود واعتبار ما ليس علما عند الشارع فيرتفع الموضوع الاعتباري حقيقة فيصح التفريع المذكور الا ان المبنى فاسد.

١٤

الاتجاه الثاني ـ التفرقة بين الأمارة والأصل على أساس ان موضوع الأصل أخذ فيه قيد الشك بخلاف الأمارة حيث لم يؤخذ فيه الا نفس قيام الأمارة.

وهذا الاتجاه مضافا إلى انه لا يفي بتفسير الفروق والآثار المترتبة على كل من الأصل والأمارة التي أشرنا إليها غير معقول في نفسه ، لأن عدم تقيد موضوع الجعل الظاهري الأماري بالشك يستلزم إطلاقه لحال العلم وهو غير معقول على ما تقدم في بحث القطع. ومن هنا اضطر بعضهم في مقام التخلص عن هذا الاعتراض إلى التعبير بان الشك مورد للأمارة لأنها مجعولة في ظرف الشك وان لم يكن قد أخذ في موضوعه الشك.

الا ان هذا مجرد تغيير في العبارة ، إذ المقصود ان الجعل إذا كان قد فرض فيه وجود الشك وفرغ عنه فهو معنى أخذه قيدا في موضوع الحكم والا كان الحكم مطلقا وشاملا لحالات العلم وهو غير معقول.

الاتجاه الثالث ـ تحويل الفرق بين الأمارة والأصل من مقام الإنشاء والجعل إلى مقام الإثبات والدلالة وانه ان ورد في لسان الدليل في مقام الإثبات الشك فالحكم الظاهري أصل عملي والا فهو أمارة. ومن هنا يسلم هذا الاتجاه عن الاعتراض الثبوتي الموجه إلى الاتجاه السابق ولكنه أيضا غير تام ، إذ مضافا إلى انه لا يفي بتبرير خاصية كل من الأمارة والأصل من حيث آثارهما ، انها أكثر قشرية من الاتجاهين السابقين فعلى هذا الوجه سوف تكون أمارية الحكم الظاهري مرتبطة بنوع اللسان ونحو اللفظ الوارد فيه ، فمثلا إذا استدل بآية النفر أو النبأ على حجية خبر الثقة كان أمارة وان استدل بمثل آية السؤال عن أهل الذّكر ان كنتم لا تعلمون كان أصلا ، وهذا واضح البطلان.

نعم هذه النكتة الإثباتية قد تعالج بها مشكلة تقديم الأمارة على بعض الأصول العلمية كالاستصحاب بناء على مسالك جعل الطريقية فيه أيضا كما هو مختار بعض أصحاب مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، حيث ادعي من قبلهم ان دليل الأمارة انما يتقدم على دليل مثل هذا الأصل العملي رغم ان المجعول فيهما معا الطريقية ، لأن المأخوذ في موضوع دليل الاستصحاب عدم العلم واليقين بينما لم يؤخذ ذلك في موضوع دليل الأمارة والعقل لا يقتضي تخصيصه الا بصورة عدم العلم الوجداني فيكون إطلاقه رافعا لموضوع دليل الاستصحاب دون العكس. وهذا بحث

١٥

سوف يأتي التعرض إليه في محله.

وهكذا يتضح ان الاتجاهات المذكورة جميعا لا ترجع إلى محصل صحيح.

هذا كله في التفرقة بين الأمارة والأصل العملي المجعول شرعا.

واما الأصل العملي العقلي وفرقه عن الشرعي بل عن مطلق الحكم الشرعي الظاهري سواء كان أصلا أو أمارة فيتلخص في ان الحكم الظاهري علاج مولوي لحالات التزاحم الحفظي ومن هنا كان الأصل الشرعي أو الأمارة إعمالا للمولوية وتشريعا من قبل المولى لأن التزاحم الحفظي لا يرجع علاجه إلى العبد وهذا بخلاف الأصول العقلية فانها لا تعد ان تكون مدركات عقلية لحدود حق طاعة المولى على العبد في مقام الامتثال إثباتا أو نفيا ومن هنا كانت مرتبة الأصول العملية العقلية متأخرة عن الشرعية وفي طولها وكانت الأخيرة فضلا عن الأمارات واردة عليها ورافعة لموضوعها لأنها ناظرة إلى متطلبات المولى بينما الأصول العقلية ناظرة إلى حدود حق طاعته في متطلباته فتكون متفرعة عليها نفيا أو إثباتا ومعلقة عليها.

المقدمة الثالثة ـ قسموا الأصول العملية الشرعية إلى أصول محرزة أو تنزيلية وغيرها ، ومثل للأول بالاستصحاب وللثاني بالبراءة أو الاحتياط الشرعيين ، والبحث في هذه المقدمة حول ميزان هذه التفرقة.

وقد ذكرت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) جريا على مسالكه وتصوراته لحقيقة الحكم الظاهري واقسامه والتفرقة فيما بينها على أساس سنخ المجعول الإنشائي ، بان اليقين فيه حيثيات أربع :

١ ـ الاستقرار والثبات الجزمي في قبال التذبذب.

٢ ـ الكاشفية.

٣ ـ البناء والجري العملي على طبقه.

٤ ـ التنجيز والتعذير.

والحيثية الأولى مخصوصة باليقين والقطع الوجداني ولا يمكن إسراؤها إلى التعبدي لأنها خصوصية تكوينية فلا يمكن ان تأتى بالتعبد والجعل ، واما الثانية فهي المجعولة في الأمارات لأنها نزلت منزلة العلم في الطريقية والكاشفية ، واما الثالثة فهي المجعولة في الأصول التنزيلية ، واما الرابعة فهي التي تثبت في الأصول غير التنزيلية ولو بتوسط جعل شرعي ظاهري فيها يستتبعها إذا قيل بان التنجيز والتعذير العقليين

١٦

لا يمكن جعلهما ابتداء على ما تقدم ذلك عن المحقق النائيني ( قده ) في بحث القطع.

والتحقيق ان يقال : ان المنظور إليه في هذا التقسيم تارة يكون عالم الثبوت وأخرى عالم الإثبات بمعنى يشمل الجعل والإنشاء.

فإذا أريد التمييز في مرحلة الثبوت بين الأصلين ، فالتمييز بينهما يمكن ان يكون بما تقدمت الإشارة إليه إجمالا في بحث الحكم الظاهري من ان الحكم الظاهري إذا كان قد جعل على أساس الترجيح بملاك نوعية المحتمل محضا فهو أصل غير تنزيلي واما إذا كان على أساس الترجيح بملاك نوعية المحتمل مع مراعاة كاشفية الاحتمال فهو أصل تنزيلي ، فالأصل التنزيلي أو المحرز انما هو ذلك الحكم الظاهري الّذي قد لوحظ فيه درجة الكاشفية وقوة الاحتمال وان كانت هناك خصوصية ذاتية ملحوظة في جعله أيضا والتي نعبر عنها بنوعية المحتمل ، ومن آثار هذه التفرقة الثبوتية انه لو زالت قوة الاحتمال ودرجته الملحوظة لم يعد الأصل التنزيلي حجة ، ومن هنا لم تكن قاعدة الفراغ حجة فيما إذا لم تكن هناك احتمال الأذكرية بل العمل على تقدير وقوعه صحيحا يكون صادرا غفلة وهذا بخلاف ما إذا كان أصلا غير تنزيلي وان كانت حيثية الفراغ عن العمل الذاتيّة ملحوظة في الحكم المذكور أيضا ولهذا لا نثبت بها امرا لم يفرغ عنه بعد في العمل ، وهذا بخلاف ما إذا كان أمارة.

وإذا أريد التمييز في عالم الإثبات ، فيمكن التفرقة بينهما على أساس ان دليل الاعتبار تارة يتكفل إثبات المنجزية أو المعذرية من دون عناية زائدة فيكون غير تنزيلي كما في قوله احتط لدينك ، وأخرى يفرض وجود عناية تنزيلية في لسانه فيكون أصلا تنزيليا أو محرزا. والعناية المذكورة يمكن ان تكون بأحد نحوين :

١ ـ ان يكون تنزيلا للحكم الظاهري التعبدي منزلة الحكم الواقعي بان يقول مثلا كل شيء طاهر بطهارة هي نفس الطهارة الواقعية تنزيلا وتعبدا ، والأثر العملي لذلك عما إذا لم يكن دليل الاعتبار متكفلا مثل هذا التنزيل ترتيب آثار الحكم الواقعي المنزل فيما إذا كان قد وقع موضوعا لها في مثل هذه الحالة اما واقعا لو كان التنزيل المذكور واقعيا وتوسعة في موضوع ذلك الأثر فتكون الحكومة واقعية. أو ظاهرا ان كان مجرد التعبد بذلك في مورد الشك فتكون الحكومة ظاهرية ، وعلى أساس الفرق بين هذين النحوين من الحكومة فرق صاحب الكفاية ( قده ) في

١٧

الاجزاء بين الحكم الظاهري الأمارة والحكم الظاهري الأصل كأصالة الإباحة فحكم في الأخير بالاجزاء لكونه من الحكومة الواقعية بخلاف الأمارات.

ولعل مما يمكن ان نسرده كتطبيق فقهي لذلك مسألة طهارة مدفوع ما يؤكل لحمه ونجاسة مأكول ما يحرم أكل لحمه ، فانه إذا شك في حيوان انه مأكول اللحم أو لا فسوف يظهر الأثر لهذا التمييز. فانه تارة يفترض ان عنوان محلل الأكل ومحرمه مأخوذ كشمير ومعرف إلى. واقع العناوين التفصيلية للحيوانات في الحكم بنجاسة أو طهارة مدفوعة ، وأخرى يفترض انه بعنوانه موضوع في الحكم بذلك ، وعلى الثاني تارة يفترض الموضوع مطلق الحكم بحلية لحمه وأخرى يكون خصوص الحلية الواقعية للحمه وتشخيص ما هو الصحيح من هذه الافتراضات الثلاثة متروك إلى الفقه ، فعلى الأول والثاني من الافتراضين لا يظهر أثر للتمييز السابق في هذه المسألة إذ على الأول منهما سوف لا يثبت طهارة مدفوع الحيوان المشكوك بمجرد الحكم بحليته ظاهرا سواء كان منزلا منزلة الحلية الواقعية أم لا ، وعلى الثاني منهما سوف يترتب ذلك على كل حال بالورود. واما على الفرضية الثالثة فيظهر أثر التمييز عندئذ ، إذ بناء على ان تكون أصالة الحل مجرد حكم بالحلية ظاهرا من دون تنزيلها منزلة الحلية الواقعية فلا يكفي جريانها في الحيوان المشكوك لإثبات موضوع طهارة مدفوعة ، واما لو كان المستفاد من دليلها تنزيلها منزلة الحلية الواقعية في الآثار واقعا أو ظاهرا فلا محالة سوف يتنقح بذلك موضوع الحكم بطهارة المدفوع بالحكومة الظاهرية أو الواقعية.

هذا ولكن من الواضح ان عناية التنزيل المذكور بحاجة إلى مئونة زائدة في دليل الأصل إذ ينزل فيها الحكم الظاهري منزلة الحكم الواقعي واقعا فالتنزيل المذكور حكم في طول الحكم الأول الّذي يجعل به أصل الحكم الظاهري فلا يمكن الجمع بينهما في جعل واحد وقد تقدم الكلام في ذلك في بحوث الاجزاء مفصلا.

٢ ـ تنزيل الأصل نفسه منزلة العلم واليقين اما في الكاشفية أو بلحاظ الجري العملي وهذا هو مصطلح النائيني في الأصل التنزيلي وما وقع البحث في وجود مثل هذه العناية في دليله عند الأصحاب انما هو الاستصحاب حيث يدعى ان الاحتمال قد نزل فيه منزلة اليقين ولو في الجري العملي ومن اختار ان التنزيل فيه بلحاظ الكاشفية ادعى انه من الأمارات ونقض به في بحث حجية مثبتاتها.

وقد عرفت ان مسألة حجية مثبتات الأحكام الظاهرية غير مرتبطة بعالم الإثبات.

١٨

واما الأثر العملي لهذه العناية التنزيلية فهو ترتيب آثار القطع الموضوعي على الأصل المذكور بالحكومة الواقعية وهذه كبرى كلية نذكر فيما يلي تطبيقين لها :

١ ـ تقدم هذا الأصل التنزيلي على غيرها من الأصول العملية بالحكومة ، إذ انها سوف تكون علما تعبدا فترفع موضوع ذلك بخلاف العكس إذ ليس المجعول في الأصل غير التنزيلي انه علم ويقين من غير فرق في هذا التقديم بين ان يكون الأصل غير التنزيلي من هذه الناحية تنزيليا من ناحية العناية الأولى أم لا.

٢ ـ انّ هذا يؤدي إلى بطلان ما تقدم من تقدم الأمارات على الأصول التنزيلية أيضا على أساس انّ المجعول في الأمارة الطريقية والعلمية ، لأنّ هذا مجعول فيهما معا.

ولعل هذا هو الّذي دعى المحقق النائيني ( قده ) أن يميز بين الطريقية المجعولة في باب الأمارات والمجعولة في الأصول التنزيلية بالنحو المتقدم شرحه ، إذ يمكن ان يقال حينئذ بأنّ جعل الأمارة يرفع موضوع الأصل التنزيلي دون العكس لأنّ المجعول في الأخير الجري العملي لا الكاشفية وما هو موضوع الأحكام الظاهرية عدم الكاشف لا عدم الجري العملي.

ولكن بناء على هذا سوف يبطل التطبيق الأول أيضا ، إذ المأخوذ في موضوع الأصل غير التنزيلي أيضا هو ذلك فلا يرتفع موضوعه بالأصل التنزيلي.

ومن هنا وجد اتجاه آخر يقول انّ المجعول في الأصول التنزيلية الطريقية والكاشفية كالأمارات ولهذا تتقدم على الأصول غير التنزيلية ولكنها انما يتقدم عليها الأمارة لعدم أخذ الشك في لسان دليل حجيتها وان كان صورة العلم خارجة عنه عقلا بخلاف دليل حجية الأصل التنزيلي وحينئذ لا بدّ في المخصص العقلي من الاقتصار على قدره وهو ما لا يعقل فيه جعل حكم ظاهري وهو صورة العلم الوجداني بالخلاف فقط لا التعبدي ، فدليل الأصل التنزيلي لا يمكن ان يرفع ما هو موضوع دليل الأمارة بخلاف العكس. وان شئتم قلت : انّ الحكومة لا تكون الا بلحاظ ما أخذ موضوعا شرعا لا عقلا ـ كما في المخصص العقلي ـ لأنّ الحكومة من أقسام القرينية ومن شئون اللفظ كما قررناه في محله وقد تقدم إجمالا وسوف يأتي مفصلا في بحث النسبة بين الأمارات والأصول تفصيل الكلام حول هذه النقطة.

المقدمة الرابعة ـ اعتاد علماء الأصول تقسيم الأصول العملية إلى أربعة : البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، ووجه تخصيصها بالذكر دون غيرها من القواعد

١٩

والأصول العملية كأصالة الصحة أو الطهارة هو جوابه التاريخي الّذي أشرنا إليه في المقدمة الأولى من انّ بحث الأصول نشأ تحت عنوان الدليل العقلي والأصول المذكورة هي المناسبة مع الدليل العقلي لكونها ذات جذور عقلية حتى الاستصحاب الّذي كانوا يستدلون عليه بالعقل ، وأول من استدل عليه بالنقل كان هو والد الشيخ البهائي ( قده ) وجوابه المنهجي انّ الأصول الأخرى امّا ان لا تجري في الشبهات الحكمية فلا تقع في طريق استنباط حكم شرعي أصلا كأصالة الصحة أو انها لا تكون مشتركة في الفقه كما في أصالة الطهارة وكلا الأمرين شرط في اندراج المسألة في بحوث علم الأصول على ما تقدم شرحه مفصلا في تعريف علم الأصول.

٢٠