بحوث في علم الأصول - ج ٣

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٥

الصحيح انّه إِنْ استلزمت الوظيفة الاختيارية مكثاً زائداً كانت عليه الصلاة الاضطرارية ، إذ لا موجب لرفع اليد عن دليل حرمة المكث الزائد بعد أَنْ كان دليل الوجوب لبّياً ، فتقع الصلاة الاختيارية فاسدة ، واما إذا لم تستلزم الاختيارية مكثاً زائداً محرماً فلا مانع من التمسك بإطلاق دليل جزئية الركوع والسجود وسائر الاجزاء فانها تدل على اشتراطها في كل صلاة تكون وظيفة للمكلف والصلاة هنا وظيفة له بحسب الفرض.

هذا كله بناء على المختار من وقوع الخروج محرما ومعصية للنهي السابق.

واما إذا قلنا بوجوب الخروج نفسياً أو غيرياً وعدم حرمته ، ففي كل مورد لم نكن نقول فيه بوظيفة الصلاة الاختيارية لا نقول به بناء على هذا القول أيضا ، لوضوح انَّ اختيارية الصلاة لا تكون دخيلة في الخروج حتى ترتفع عنها الحرمة وانما ترتفع الحرمة عن الحركة نحو الخروج ولا ترتفع عن تصرفات أخرى لا تكون دخيلة فيه.

وانما يختلف هذا القول عن المختار في انَّ الصلاة حال الخروج بالمقدار الّذي لا يلزم منه مكث زائد كان يثبت هناك بالدليل الخاصّ امّا هنا فيثبت بنفس دليل الأمر بالصلاة لعدم حرمة الخروج بحسب الفرض.

وامّا الفرضية الثانية ـ وهي ما إذا كان متمكنا من الصلاة خارج الدار المغصوبة ، فلو كان يتمكن خارج الدار من صلاة أكمل مما هو وظيفة في الفريضة السابقة تعين عليه ذلك.

وامّا لو لم يكن يتمكن من صلاة أكمل وأحسن حالاً مما كانت وظيفته في الفرضية السابقة أمكنه الاستعجال بل تعين عليه ذلك لو كانت الصلاة في الداخل أحسن حالاً وأكمل من الخارج لو لم يكن مقتضى القاعدة سقوط خطاب الصلاة ، واما إذا كان مقتضي القاعدة ذلك وانما ثبت الوجوب بمثل الإجماع فمن الواضح عدم ثبوت إجماع على صحة الصلاة في الداخل حتى لو فرض انَّ الصلاة في الداخل تكون أكمل منها في الخارج فضلاً عما إذا لم تكن أكمل منها ، فلا بدَّ من الصلاة في خارج المكان المغصوب.

التنبيه العاشر ـ ذكر المحقق صاحب الكفاية انَّ اختلاف الإضافة كاختلاف

١٠١

العنوان فبناءً على كون الثاني موجبا لجواز الاجتماع فالأوّل أيضاً كذلك ، وقد وقع ذلك مورداً للنقد من قبل المحققين تارة : من حيث الصغرى وانَّ اختلاف الإضافة لا يعقل أَنْ يكون موجبا لاختلاف الحكم ما لم يرجع إلى اختلاف العنوان وأخرى :

من حيث الكبرى وانَّ هذا خارج عن مسألة الاجتماع.

امّا الإشكال في الصغرى فقد ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) بدعوى عدم إمكان دخالة اختلاف الإضافة في اختلاف الحكم لا من حيث الحسن والقبح الذاتيين ولا من حيث المصلحة والمفسدة.

اما الأول فلأنَّ حسن كل شيء وقبحه لا بدَّ وأَنْ يرجع إلى دخول الفعل تحت عنوان العدل الّذي هو حسن بالذات أو الظلم الّذي هو قبيح كذلك ، فان أوجب اختلاف الإضافة اختلاف الفرد في كونه داخلا تحت هذا العنوان أو ذاك العنوان رجع إلى اختلاف العنوان وإلاّ فلا أثر له.

واما الثاني فلأنَّ الإضافات من قبيل الشرط في تأثير المقتضي وليست جزءاً للمقتضي الّذي هو المضاف إليه الواحد بحسب الفرض ، ولا يعقل أَنْ يكون شيء واحد مقتضياً للمصلحة والمفسدة معاً.

وفيه ـ أولاً ـ انَّ ما ذكره من انَّ الحسن والقبح يتبعان عنوان العدل والظلم وإِنْ كان صحيحا على المبنى المشهور القائل بانحصار الحسن بالذات والقبيح بالذات في العدل والظلم ، إلاّ أنَّ هذا لا يعني انَّ امر الشارع ونهيه لا بدَّ وأَنْ يتعلقا بذاك العنوان بل يمكن أَنْ يكون متعلقاً بالإضافة ، والبحث في إمكان اجتماع الأمر والنهي لا الحسن والقبح.

وثانيا ـ لا استحالة في أَنْ يكون فعل واحد ذا مصلحة ومفسدة معاً بلحاظين وإضافتين خصوصا في باب مصالح الأحكام الشرعية.

فيكون إكرام إنسان من حيث كونه عالماً فيه مصلحة ومن حيث كونه فاسقا فيه مفسدة فالإشكال الصغروي لا وجه له.

وامّا المناقشة في الكبرى : فقد ذكر الأستاذ بأنَّ محل الكلام ما إذا تعلق الأمر بعنوان كالصلاة والنهي بعنوان آخر كالغصب ولكن المكلف قد جمع بينهما في مورد

١٠٢

واحد فيقع الكلام في انَّ التركيب انضمامي أو اتحادي ، وامّا موارد تعدد الإضافة مع وحدة العنوان فالنهي فيها يتعلق بعين ما تعلق به الأمر وهو إكرام العالم الفاسق مثلا ، غاية الأمر جهة التعلق تختلف ، ومن الواضح انَّ تعدد الجهة التعليلية لا يوجب تعدد المتعلق فالمتعلق وهو إكرام زيد العالم الفاسق واحد ، وبديهي انه لا يعقل أَنْ يكون فعل واحد واجباً ومحرماً معاً لأنَّ نفس هذا التكليف محال لا انه مجرد تكليف بالمحال وبغير المقدور.

وفيه ـ إِنْ كان نظره إلى مورد تعلق الأمر بالطبيعة بنحو مطلق الوجود ، كما إذا قال أكرم كل عالم ولا تكرم الفاسق فما أُفيد من انه خارج عن مسألة الاجتماع صحيح إلاّ أنَّ هذا لا يختص بما إذا كان الاختلاف بالإضافة بل يجري حتى إذا كان الاختلاف بالعنوان ، كما إذا امر بكل صلاة ونهي عن الغصب.

وإِنْ كان نظره إلى مورد تعلق الأمر بالطبيعة بنحو صرف الوجود ، كما إذا قال ( أكرم عالماً ويحرم إكرام الفاسق ) فأكرم عالما فاسقا فخروج ذلك عن مسألة الاجتماع غير صحيح بل هو داخل فيها أيضاً ، فانَّ كلاً من الملاك الأول والثاني للجواز جار فيه كما يجري في موارد تعدد العنوان ، غاية الأمر التحفظ الثالث الّذي ذكرناه في الملاك الثاني للجواز واضح الانطباق في هذا المقام.

وبهذا نختم البحث عن مسألة اجتماع الأمر والنهي.

١٠٣
١٠٤

بحوث النواحى

اِقْتضاءُ النَّهي لِلفِساد

ـ معني النهي في العبادات

ـ اقسام النهي التحريمي

ـ براهين اقتضاء لفساد العبادة

ـ النهي في معاملات واقتضائه للفساد على مقضى القائدة وعلى مستوى الروايات الخاصة

١٠٥
١٠٦

الفصل الثالث

اقتضاء النهي للفساد

الكلام في اقتضاء النهي للفساد يقع في مسألتين :

النهي عن العبادة

المسألة الأولى ـ في العبادات وانَّ النهي هل يقتضي فسادها أو لا؟.

والمقصود من الفساد هنا عدم الاجزاء في مقام الامتثال بنحو لا يكون مغنياً عن الإعادة أو القضاء في مقابل الصحة بمعنى انَّ العمل يكون مجزياً ومغنياً عن الإعادة والقضاء.

وليس المقصود من النهي هنا النهي الإرشادي الّذي يكون إرشاداً إلى المانعية وفساد العمل ، كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه مثلا ، لوضوح انَّ مثل هذا النهي يقتضي الفساد لا محالة ويكشف عنه ما دام إرشاداً إليه فلا معنى للبحث عنه.

نعم ينبغي أَنْ يبحث بحثاً صغروياً عن انه متى يستفاد من النهي الإرشاد إلى الفساد؟ وسوف نتكلم في هذا البحث عند التعرض لبضع تنبيهات المسألة إنْ شاء الله تعالى ، فالمقصود بالنهي هنا النهي التحريمي ، فيتكلم في انَّ تحريم العبادة هل يوجب فسادها أم لا؟.

والنهي التحريمي يكون على خمسة أقسام :

القسم الأول ـ أَنْ يكون النهي نفسياً خطاباً وملاكاً ، والمقصود من كونه نفسياً خطاباً انَّ الشارع أدخل في عهدة المكلف نفس متعلق النهي لا آثاره ، من قبيل الحرمة

١٠٧

المستفادة من خطاب لا تشرب الخمر ، فانَّ نفس عدم شرب الخمر داخل في عهدة المكلف ، والمقصود من كون النهي نفسياً ملاكاً أَنْ يكون ملاك النهي عبارة عن نفس متعلق النهي لا أثر مترتب على متعلق النهي ، فمثلا الملاك لحرمة الخمر ليس نفسياً فانَّ نفس شرب الخمر ليس مفسدة وانما تترتب المفسدة عليه وهذا بخلاف مفسدة الشرك بالله مثلاً فانَّ المفسدة في نفس الشرك بل هو أكبر المفاسد لا انَّ المفسدة في شيء مترتب عليه.

القسم الثاني ـ أَنْ يكون النهي نفسياً خطاباً غيرياً ملاكا ، وذلك من قبيل النهي عن شرب الخمر ، فانَّ الداخل في العهدة بواسطة الخطاب نفس عدم شرب الخمر لا شيء اخر ولكن ليس نفس شرب الخمر مفسدة وانما المفسدة فيما يترتب على شرب الخمر من الآثار.

القسم الثالث ـ أَنْ يكون النهي غيرياً خطاباً وملاكاً ، وذلك كالنهي عن الصلاة المستفاد من الأمر بالإزالة ـ بناء على انَّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاصّ ـ فانَّ عدم الضد الخاصّ لا يدخل في عهدة المكلف بل ما دخل في العهدة ذات الشيء المأمور به فقط وامّا النهي فيكون باعتبار الترشح من خطاب اخر. كما انَّ متعلق النهي الّذي هو الصلاة ليس بنفسه مفسدة وانما المفسدة تكون شيئاً مترتباً على إتيان الصلاة وهو فوات الإزالة الواجبة.

وفي هذه الأقسام الثلاثة يكون الملاك في متعلق النهي ولو بلحاظ آثاره.

القسم الرابع ـ أَنْ يكون الملاك والمصلحة في نفس النهي لا في متعلقه ـ بناء على إمكان ان يكون المصلحة في الجعل ـ إلاّ اننا سوف نبيّن في مسألة الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية انَّ هذا غير معقول.

القسم الخامس ـ أَنْ لا يكون الملاك لا في نفس جعل النهي ولا في العنوان المنهي عنه بل يكون الملاك في عنوان آخر منطبق على ما تعلق به النهي كما إذا كان النهي بنحو يؤدي جعله إلى انطباق عنوان فيه ملاك على متعلق النهي ، وذلك من قبيل عنوان الامتحان والاختبار فانه لا يمكن أَنْ ينطبق على ذات المنهي عنه إلاّ في طول توجه النهي إلى المكلف فلو كان ملاك النهي في مثل ذلك فالنهي يكون من هذا القسم

١٠٨

الخامس ، وهذا هو المعنى المعقول لنشوء النهي من ملاك في نفس الجعل.

ثم انَّ النهي الّذي يُقال انه يقتضي فساد العبادة أو لا يقتضيه هل يعم تمام هذه الأقسام الخمسة أو يختص بخصوص بعضها؟.

الصحيح : انَّ هذا مربوط بتحقيق حال كل برهان من البراهين المتعددة التي سوف تذكر لإثبات انَّ النهي يقتضي الفساد ، فلا بدَّ من التكلم بلحاظ كل واحد منها ليُرى انه هل يختص بخصوص بعض هذه الأقسام أو يعمها جميعاً؟.

ثم انَّ هذه البراهين يرجع بعضها إلى إثبات بطلان العبادة وعدم صحتها من ناحية قصورها الذاتي وعدم وجدانها للملاك.

ويرجع بعضها الآخر إلى إثبات بطلان العبادة من ناحية قصور قدرة المكلف على الإتيان بالعبادة الصحيحة الجامعة للشرائط ما دام انها منهي عنها. وفيما يلي نستعرض البراهين :

البرهان الأول ـ أَنْ يُقال بأنَّ النهي إذا تعلق بالعبادة فيكشف إنا عن ثبوت المفسدة فيها وحيث انَّ المفسدة مضادة ومنافية مع المصلحة فيكون النهي الكاشف عن المفسدة كاشفاً أيضاً عن عدم المصلحة ، فإذا ثبت انَّ هذا الفرد من العبادة ليس واجداً للملاك والمصلحة فلا يكون مجزياً لا محالة بل لا بدَّ من الإعادة أو القضاء كي يستوفى ملاك الواجب.

هذا البرهان لو تم فيثبت البطلان من ناحية القصور الذاتي في العبادة وعدم وجدانها للملاك ولو فرض قدرة المكلف على الإتيان بالعبادة على وجه قربي ، ومن هنا لا يختص هذا البرهان بخصوص باب العبادات بل يثبت البطلان حتى في الواجبات غير المشروطة بقصد القربة ، حيث يقال هناك أيضاً : إذا ثبت النهي تثبت المفسدة ومع ثبوت المفسدة لا توجد المصلحة للتضاد بينهما فلا يمكن أَنْ يكون ذلك الفرد مجزياً ومسقطاً للأمر.

وأيضاً بناء على تمامية هذا البرهان ينبغي أَنْ نقول انَّ الموجب للبطلان هو النهي بوجوده الواقعي وإِنْ لم يصل إلى المكلف ، إذ النهي الواقعي انما يكون ناشئاً من المفسدة سواءً وصل إلى المكلف أو لم يصل إليه ، والمفسدة لا تجتمع مع المصلحة سواءً

١٠٩

كانت المفسدة واصلة ومعلومة أولا.

ويترتب على هذا انَّ مجرد احتمال ثبوت نهي في الواقع غير واصل إلينا يكفي لعدم الجزم بصحة العبادة حتى ولو كانت الحرمة مؤمنة ، إذ المفروض انَّ صحة العبادة منوطة بعدم ثبوت النهي في الواقع لا بعدم وصوله إلى المكلف.

والصحيح : عدم تمامية هذا البرهان إلاّ في القسم الأول من أقسام النهي الّذي كان يُفترض فيه انَّ متعلق النهي بنفسه مفسدة لا انه يَترتب عليه المفسدة ، فلو فرض انَّ الأمر المترقب وجوده كان متعلقا بنفس المصلحة لا بما يترتب عليه المصلحة فحينئذ يتم هذا البرهان إذ يقال : إذا ثبت بدليل النهي انَّ الفعل متعلق النهي من القسم الأول أي بنفسه مفسدة ـ فيثبت لا محالة انه ليس بنفسه مصلحة ، إذ يستحيل أَنْ يكون الشيء الواحد مفسدة ومصلحة معاً ، وإذا لم يكن مصلحة فلا يكون مجزيا ومسقطا عن الأمر وامّا في غير القسم الأول من أقسام النهي فلا يتم هذا البرهان ، لأنَّ متعلق النهي فيها لا يكون بعينه مفسدة وانما تترتب عليه المفسدة ، أو انَّ هناك ملاكاً ومصلحة فيما بعد النهي ، ومن الواضح انَّ ما تترتب عليه المفسدة لا يستحيل أَنْ تترتب عليه المصلحة أيضا ، فما أكثر الأفعال التي تترتب عليها المفسدة والمصلحة معاً.

فبمجرد ثبوت دليل على النهي لا يمكن أَنْ يستكشف عدم ترتب المصلحة على الفعل المنهي عنه حتى يحكم بالفساد وعدم الاجتزاء.

البرهان الثاني ـ ويسلّم فيه بأنَّ النهي لا يكشف عن عدم ثبوت المصلحة رأساً ولكن يُقال : انَّ النهي يكشف لا محالة عن ثبوت مفسدة غالبة ، فلو كانت هناك مصلحة فهي مصلحة مغلوبة لا محالة ، ومن الواضح انه لا يمكن الاقتراب إلى المولى بفعل ما يكون فيه مصلحة مغلوبة للمفسدة بل هذا ابتعاد عن المولى وعن أغراضه فيتعذر وقوع العبادة على وجه صحيح من جهة عدم التمكن من التقرب. وهذا البرهان لو تم فانما يتم في غير القسم الرابع من النهي فانَّ النهي في القسم الرابع لا يكشف عن ثبوت مفسدة غالبة في المتعلق حتى لا يمكن التقرب به إلى المولى وانما يكشف عن ثبوت مصلحة غالبة في نفس جعل النهي وهذا لا يمنع أَنْ يقترب العبد إلى مولاه بالفعل المنهي عنه الّذي فيه مصلحة أيضا غاية الأمر تكون مصلحة أقل من مصلحة جعل النهي.

١١٠

ثم انَّ البطلان على أساس هذا البرهان يكون من ناحية قصور قدرة المكلف وعدم صلاحية الفعل من إتيانه به على وجه قربي ـ كما أشرنا ـ لا من ناحية القصور الذاتي في العبادة ، إذ لو فرض التمكن من الاقتراب إلى المولى بالفعل الّذي تكون مصلحته مغلوبة لوقع صحيحاً وكان واجداً لمصلحة الأمر ، ومن هنا يختص هذا البرهان بخصوص العبادات ولا يشمل غيرها من الواجبات ، كما انَّ البطلان على أساس هذا البرهان يكون ناشئاً من النهي بوجوده الواقعي وإِنْ لم يصل إلى المكلف ، فانَّ النهي بوجوده الواقعي يكون ناشئاً من مفسدة غالبة فلو كانت هناك مصلحة فهي مصلحة مغلوبة ويستحيل الاقتراب إلى المولى بما تكون مصلحته مغلوبة لمفسدته.

وعلى هذا فمجرد احتمال ثبوت نهي في الواقع لم يصل إلينا يكفي لعدم الجزم بصحة العبادة حتى لو لم يكن هذا الاحتمال منجّزاً للحرمة.

والصحيح : عدم تمامية هذا البرهان وذلك لأنَّ الاقتراب إلى المولى له معنيان :

المعنى الأول ـ الاقتراب بمعنى تحقيق انبساط صدر المولى واستئناسه من ناحية تحقق أغراضه وميوله ، وذلك من قبيل أَنْ يقتل العبد عدوَّ المولى ، فانه اقتراب إلى المولى من ناحية انه حقق غرضه ولو فرض انَّ العبد كان يتخيل انه صديق المولى وتجرأ فقتله فخرج عدواً له.

المعنى الثاني ـ الاقتراب بحسب موازين العبودية والمولوية ، فقتل عدو المولى بتخيل انه صديقه ليس اقتراباً إلى المولى عقلاً بل ابتعاد عنه وقتل صديق المولى بتخيل انه عدوه يكون اقترابا إلى المولى وليس ابتعاداً عنه وإِنْ كان مفوتاً لغرض المولى ومؤثراً على نفسه.

فلو كان الشرط في العبادات الاقتراب بالمعنى الأول لكان لهذا البرهان وجاهة ، فانَّ مغلوبية المصلحة للمفسدة مساوقة لعدم إمكان التقرب بالمعنى الأول فتبطل العبادة. إلاّ أنَّ الشرط في العبادات الاقتراب بالمعنى الثاني ، ومن الواضح انَّ مجرد مغلوبية المصلحة للمفسدة لا يعني عدم إمكان التقرب بالمعنى الثاني ما لم نضف إليها نكتة زائدة ترجعنا إلى بعض البراهين التالية ، فانَّ مناط التقرب بالمعنى الثاني ليس ذات المصلحة بما هي هي بل العلم بالمصلحة أو ما بحكمه ، فيمكن أَنْ تكون المصلحة

١١١

مغلوبة أو لا توجد مصلحة أصلاً ومع ذلك يتحقق التقرب بالمعنى المطلوب ، كما إذا تخيل عدم النهي وتوهم انَّ هناك مصلحة غالبة.

البرهان الثالث ـ أَن يسلّم بأنَّ النهي لا يكشف عن عدم ثبوت المصلحة رأساً ويسلّم أيضاً بأنَّ الشرط في العبادات التقرب بالمعنى الثاني لا الأول ولكن يُقال : انَّ قصد القربة المعتبر في العبادات انما يتحقق بلحاظ الأمر أو الحب ولا يكاد يتحقق بلحاظ الملاك فإذا وصل النهي إلى المكلف فلا محالة يقطع بعدم الأمر لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي ، ويقطع بعدم الحب أيضا لأنَّ المفروض ثبوت النهي وغلبة المفسدة على المصلحة ، فلا يمكنه أَنْ يقصد القربة لا بلحاظ الأمر ولا بلحاظ الحب للعلم بانتفائهما ، ولا يمكنه أَنْ يقصد القربة بلحاظ المصلحة المغلوبة لأنه غير معقول لا باعتبارها مغلوبة بل باعتبار أنَّ قصد التقرب بالملاك غير معقول ، فمع ثبوت النهي لا يمكن قصد القربة فتقع العبادة باطلة ، امّا انه لما ذا لا يمكن التقرب بالملاك؟ فهذا يمكن أَنْ يُبين بأحد وجهين أحدهما ثبوتي والاخر إثباتي.

الوجه الأول ـ انَّ التقرب بالملاك بما هو هو ـ من دون لحاظ كون الفعل محبوباً للمولى أو مأموراً به من قبله ـ غير معقول ثبوتا ما لم يرجع الملاك إلى المولى ، فلو كان الملاك مصلحة للعبد كما هو كذلك في أحكام المولى الحقيقي الغني عن كل شيء فإذا فرض سقوط وجوبه لتعلق النهي به وعدم محبوبيته لغلبة مفسدته على مصلحته فكيف يعقل للعبد أَنْ يتقرب به إلي المولى بمجرد كونه ذا مصلحة راجعة إلى العبد نفسه؟ فانَّ هذا امر غير معقول نعم لو فرض المولى من الموالي العقلائية وكانت المصلحة راجعة إليه لا إلي المكلفين أمكن التقرب إليه بلحاظ نفس الملاك.

الوجه الثاني ـ انَّ التقرب بالملاك حتى لو أمكن ثبوتاً فهو غير مجزٍ إثباتا ، وذلك بدعوى : انه في باب العبادات ثبت فقهياً وجوب قصد الأمر لا قصد الملاك.

هذا البرهان لو تم فيثبت في تمام الأقسام الخمسة للنهي خلافاً للبرهانين السابقين.

نعم لو بنينا على انَّ النهي من القسم الرابع يجتمع مع مبدأ الأمر الّذي هو الحب بأَنْ يكون المنهي عنه محبوباً مع انَّ جعل النهي أيضاً محبوب فعندئذ يمكن التقرب بمثل

١١٢

هذا الحب رغم تعلق النهي به ، كما انَّ الموجب للبطلان في هذا البرهان ليس النهي بوجوده الواقعي بل بوجوده الواصل ، فانَّ النهي لو كان ثابتا في الواقع ولكن لم يصل إلى المكلف كان بإمكان المكلف أَنْ يتقرب ويقصد الأمر ، فانَّ قصد الأمر مقرب حتى لو لم يكن أمر في الواقع.

نعم لو ثبت فقهياً انَّ الشرط قصد الأمر الموجود واقعاً بأَنْ يشترط وجود الأمر في الواقع حقيقة فيقصده ، فمع ثبوت النهي في الواقع يثبت بطلان العبادة لعدم الأمر واقعاً.

والتحقيق : عدم إمكان المساعدة على هذا البرهان بكلا وجهيه.

امّا الوجه الأول ـ فلأنَّ التقرب بالمصلحة بما هي مصلحة راجعة إلى العبد وان كان غير معقول الا ان التقرب بتلك المصلحة بما ان الشارع يهتم بها وبما انها مؤثرة في نفس المولى ولو بتقليل البغض امر معقول في نفسه ما لم تبرز نكتة أخرى تمنع عن ذلك.

وامّا الوجه الثاني ـ فلأنه لا يوجد دليل على اعتبار قصد الأمر في العبادات ، بل لم يدل دليل لفظي في جلّ العبادات على اشتراط قصد القربة وانما ثبت ذلك بمثل الإجماع والارتكاز من الأدلة اللبية وهي لا تقتضي أكثر من اشتراط أصل التقرب.

البرهان الرابع ـ انه مع تعلق النهي بعبادة يسقط الأمر عنها لا محالة لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي ، وبعد سقوط الأمر لا يمكن أَنْ يحرز ثبوت الملاك والمصلحة في الحصة المنهي عنها من العبادة ، فانَّ ملاك الواجب انما يستكشف من نفس تعلق الأمر بالدلالة الالتزامية وهي تسقط بعد سقوط المطابقية ، ومع إحراز الملاك لا يحرز ، انَّ الحصة المنهي عنها تكون موجبة لسقوط الوجوب وبراءة الذّمّة فلا يمكن الاجتزاء بها بعد أَنْ كان الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وهذا نتيجة الحكم ببطلان العبادة.

هذا البرهان لو تم فيثبت البطلان لا لقصور قدرة المكلف عن قصد القربة بل للقصور الذاتي في العبادة من ناحية عدم إحراز وجدانها لملاك الأمر.

ويترتب على ذلك أنه لا يختص بخصوص باب العبادات بل يأتي في الواجبات التوصلية أيضاً حيث يُقال : مع وجود النهي يسقط الأمر وبعد سقوط الأمر لا يبقى

١١٣

كاشف عن الملاك فتجري أصالة الاشتغال.

إلاّ أنَّ البطلان الّذي يتوصل إليه. بهذا البرهان بطلان ظاهري ثابت بأصالة الاشتغال لا واقعي ، خلافا للبراهين السابقة ، فانها كانت تثبت انَّ العبادة باطلة مع وجود النهي حقيقة وواقعاً ، امّا لعدم وجدانها للمصلحة وامّا لعدم توفر شرطها وهو التقرب ، واما هنا فلا قطع ببطلان العبادة وانما يحتمل بطلانها وعدم صحتها مع الحكم بالاشتغال ، وحيث أنَّ هذا البطلان بطلان ظاهري مبنيٌ على جريان أصالة الاشتغال فلا محالة يكون الموجب لهذا البطلان النهي بوجوده الواصل لا الواقعي ، فانَّ النهي بوجوده الواقعي لا يصلح لرفع الحجة عن إطلاق دليل الأمر وشموله لهذا الفرد ، فإذا كان إطلاق دليل الأمر باقياً على الحجية فهو بنفسه مثبت للاجزاء والصحة.

كما اننا لو قلنا بأنَّ النهي بتمام اقسامه لا يمكن أَنْ يجتمع مع الأمر جرى البرهان في تمام أقسام النهي ، إذ مع وجود أي قسم منها يزول الأمر وبعد زواله لا يمكن إحراز الملاك فتجري أصالة الاشتغال ، وامّا لو قلنا بأنَّ امتناع اجتماع الأمر والنهي انما يكون بلحاظ امتناع اجتماع مبادئهما من الحب والبغض على متعلق واحد فلا بأس بأَنْ يجتمع القسم الرابع من أقسام النهي مع الأمر ، إذ النهي من القسم الرابع لا ينشأ من بغض في متعلقه فيمكن أَنْ يجتمع مع الأمر وهذا يعني انه لا مانع من التمسك بإطلاق الأمر للفرد المنهي عنه.

وهذا البرهان غير تام أيضاً : لأنه لا إشكال في انَّ النهي عن فرد من افراد عبادة يوجب تقييد إطلاق الواجب ببقية الافراد لكن هنا فرضيتان :

الفرضية الأولى ـ أَنْ يُفترض انَّ دليل الوجوب له إطلاق بلحاظ نفس الوجوب فيثبت الوجوب للجامع بين بقية الافراد سواءً أتى بالفرد المنهي عنه أولا.

الفرضية الثانية ـ أَنْ يُفترض عدم وجود الإطلاق لدليل الوجوب ـ كما إذا افترض انَّ الوجوب ثبت بدليل لبّي ـ ويكون القدر المتيقن منه ثبوت الوجوب على المكلف لو لم يأتِ بالفرد المنهي عنه.

فلو افترضنا الفرضية الثانية فمع الإتيان بالفرد المنهي عنه لا يكون الشك في تفريغ الذّمّة كي تجري أصالة الاشتغال ، وانما يكون الشك في أصل التكليف بالوجوب

١١٤

فتجري أصالة البراءة فلا تجب الإعادة.

وامّا لو افترضنا الفرضية الأولى أي وجود إطلاق في دليل الوجوب فالنتيجة وإِنْ كانت بطلان العبادة وعدم الاجتزاء بها إلاّ أنَّ البطلان هنا ليس على أساس قاعدة الاشتغال بل على أساس انَّ نفس إطلاق دليل الوجوب يكون دليلا اجتهادياً على عدم جواز الاكتفاء بذاك الفرد المنهي عنه وعدم وجدانه للملاك والمصلحة سواءً كان الواجب توصلياً أو تعبدياً وسواءً كان النهي واصلاً أم لا.

البرهان الخامس ـ انَّ المكلف بعد توجّه النهي إليه يكون عاجزاً من أَنْ يأتي بالفعل العبادي بقصد قربي إلهي ، لأنَّ وصول النهي إليه يكشف عن تمامية مبادئ النهي وبالتالي عن كون العبادة مبغوضة بالفعل وكون تركها أرجح عند المولى من فعلها إذ لو لا ذلك لما تعلق النهي الفعلي بها ، ومع إحراز المبغوضية الفعلية يستحيل أَنْ يؤتى بالفعل لأجله تعالى ، فانَّ الإتيان بفعل لأجل المولى انما يُعقل فيما لو فُرض انَّ حال المولى مع الفعل أحسن من حاله مع عدمه واما لو فرض انَّ حاله مع الترك كان هو الأفضل فلا يعقل أَنْ يؤتى به لأجله.

وفي المقام قد فرضنا انَّ الفعل العبادي قد أصبح مبغوضاً بالفعل للمولى فيكون حال المولى عند الترك أحسن من حاله عند الفعل فلا يعقل أَنْ يؤتى به لأجل خاطره ، وهذا يعني عدم التمكن من قصد القربة فلا تقع العبادة صحيحة.

والملحوظ في هذا البرهان أَنَّ ما ينكشف بالنهي يوجب عجز المكلف من قصد القربة من دون حاجة إلى لحاظ آثار وصول النهي من قبح المعصية وانَّ فعل القبيح يبعد عن المولى وانَّ المبعّد يستحيل أَنْ يكون مقرباً ، فتمام النّظر فيه إلى انَّ النهي يكشف عن ثبوت المبغوضية الفعلية ويستحيل أَنْ يتقرب إلى شخص بما يكون مبغوضاً له ، ثم انَّ البطلان على أساس هذا البرهان يكون بملاك قصور قدرة المكلف عن التقرب لا بملاك قصور ذاتي في العبادة ، ويترتب عليه : انَّ هذا البرهان يختص بالعبادات ولا يشمل التوصليات.

كما انَّ البطلان على هذا الأساس وإِنْ كان بطلانا واقعياً لا ظاهرياً إلاّ انه منوط بالنهي بوجوده الواصل لا بوجوده الواقعي ، فانه مع عدم وصول النهي وعدم تنجزه على

١١٥

المكلف يعقل قصد التقرب ولو رجاءً واحتمالاً ولو كان هناك نهي في الواقع ، ويترتب على ذلك : انه مع عدم وصول النهي يقطع بالصحّة لا انَّ الصحة تكون ظاهرية.

كما انَّ هذا البرهان يأتي في تمام أقسام النهي عدى القسم الرابع (١) ، فانّ النهي في القسم الرابع لا يكشف عن مبغوضية متعلّقه وانما يكشف عن مصلحة في جعل النهي ، فقد يكون حال المولى مع فعل المتعلّق أحسن من حاله مع عدم فعله.

كما انَّ هذا البرهان يتم حتى لو بنينا على جواز اجتماع الأمر والنهي على أساس الملاك الأول أو الثاني لجواز الاجتماع ، فانه مع تقديم جانب النهي وافتراض انَّ الفعل الخارجي مبغوض للمولى لا يمكن التقرب به. نعم لو بنينا على جواز الاجتماع على أساس الملاك الثالث فلا يتم البرهان ، فانه بناء على هذا الملاك يكون هناك وجودان في الخارج أحدهما مبغوض للمولى والاخر محبوب له ومعه يمكن التقرب بالوجود المحبوب ، بينما البراهين السابقة لو تمت فهي مختصة بخصوص فرض امتناع الاجتماع ولا تتم بناء على جواز الاجتماع سواء كان على أساس الملاك الأول أو الثاني أو الثالث ، فانَّ مقتضى القول بالجواز فعلية الأمر ووقوع الفعل مصداقاً للواجب ، وهذا يعني ثبوت المصلحة فيه فينتفي البرهان الأول ، ولا بدَّ وأَن تكون هذه المصلحة غير مندكة وغير مغلوبة في دائرتها كي يمكن نشوء الأمر منها فينتفي البرهان الثاني ، ومع وجود الأمر وفعليته يمكن التقرب فينتفي البرهان الثالث ، وكذلك تستكشف المصلحة من وجود الأمر فينتفي البرهان الرابع.

وتحقيق الحال في هذا البرهان يتوقف على ذكر مقدمة حاصلها : انَّ المقربية أو

__________________

(١) إذا جُعل المانع عن التقرب في هذا البرهان المبغوضية بوجودها الواقعي تمَّ ما ذَكر من انه يجري في تمام أقسام النهي ما عدا القسم الرابع ، إلاّ انه حينئذٍ لا يختص البطلان بصورة العلم بالنهي بل تبطل العبادة مع الجهل بالحرمة أيضاً وهذا بحسب الحقيقة رجوع إلى برهان تقدم.

وإِن جُعل المانع المبغوضية الواصلة إلى المكلف فهذا يرد عليه : مضافاً إلى ما أفاده الأستاذ ـ ١ الشريف ـ :

أولاً ـ انَّ أخذ حيثية الوصول بنفسه دليل على انَّ المانع بحسب الحقيقة ارتكاب العصيان القبيح عقلا والّذي سوف يأتي في البرهان القادم.

وثانياً ـ لا يتم فيما إذا كانت المبغوضية غيرية أي في القسم الخامس من أقسام النهي لما تقدم من انَّ التكاليف الغيرية ليست لها منجّزية ولا مبعّدية من حيث هي تكاليف غيرية.

١١٦

المبعدية لا تنشأ من الفعل الخارجي وانما تنشأ من الدواعي النفسانيّة المحركة نحو الفعل ، فالداعي الإلهي يوجب القرب والداعي الشيطاني يوجب البعد ، ولهذا نرى انَّ فعلاً واحداً لو أتي به بداعٍ إلهي يكون مقرباً ولو أتي به بداعٍ شيطاني يكون مبعداً ، مثل ما إذا شرب الماء بتخيل وجوب شربه وما إذا شرب نفس الماء بإرادة عصيانه تعالى بتخيل انه مسكر فتجرأ على المولى بشربه.

وعلى هذا فلو أمكن أن يوجد فعلاً واحداً بداعيين بداعٍ إلهي وبداعٍ شيطاني معاً ثبت الاقتراب والابتعاد معاً ، لأنَّ السبب للقرب والبعد ليس الفعل حتى يقال :

كيف يعقل انَّ شيئاً واحداً يوجب القرب والبعد إلي المولى في نفس الوقت وانما السبب هو الداعي والقصد فمع تعدده يعقل التقرب والابتعاد معاً.

إذا اتضحت هذه المقدمة نقول : تارة : يفترض انَّ مصلحة العبادة قائمة بخصوص الحصة المنهي عنها ، وأخرى : يفترض انَّ المصلحة قائمة بالجامع بين الحصة المنهي عنها وبقية الحصص المباحة.

فلو افترضنا قيام المصلحة بخصوص الحصة المنهي عنها استحالة قصد التقرب بمعنى انه لا يمكن أَنْ يكون في نفس العبد داعٍ إلهي ، إذ هذا الداعي الإلهي يدعوه إلى ما ذا؟

هل يدعوه إلى الجامع بين هذه الحصة وبين الحصص الأخرى المباحة؟ فهذا غير معقول لأنَّ المصلحة غير قائمة بالجامع وانما هي قائمة بخصوص الحصة ، أو يدعوه إلى إيجاد خصوص هذه الحصة؟ فهذا أيضاً غير معقول لأنَّ ترك الحصة أحسن عند المولى من فعلها فكيف يمكنه أَنْ يأتي بها لأجله تعالى ، فثبت انه لا يعقل أَنْ يقع الفعل عبادياً فهذا الملاك الخامس يتم في هذه الفرضية.

وامّا لو افترضنا انَّ المصلحة قائمة بالجامع بين هذه الحصة وبين الحصص الأخرى المباحة ، كما هو محل الكلام عادة ، فهنا يُعقل ثبوت داعٍ إلهي في نفسه ، يدعوه إلى الجامع ، فانَّ الجامع بوجوده الإطلاقي ثبوته أحسن عند المولى من عدمه.

نعم حال المولى عند عدم هذه الحصة يكون أحسن من حاله عند ثبوت هذه الحصة ، إلاّ أنَّ هذا يمنع عن أَنْ يكون الداعي الإلهي يدعوه إلى الحصة ولا يمنع عن أَنْ يدعوه إلى إيجاد الجامع بما هو إيجاد الجامع ، فانَّ إيجاد الجامع بما هو هو وبقطع النّظر

١١٧

عن شيء زائد عليه يكون أحسن عند المولى من عدم إيجاده ، وحينئذ تارة : يوجد في نفس العبد داعٍ إلهي آخر يدعوه إلى ترك هذه الحصة باعتبار حرمتها فلا محالة سوف يأتي بالجامع في ضمن حصة أخرى غير منهي عنها ، وامّا لو لم يوجد في نفسه هذا الداعي الإلهي الآخر بل كان يريد أَنْ يعصي النهي فيمكنه أَنْ يأتي بهذه الحصة المنهي عنها ، فهنا مجموع الداعيين الشيطاني والرحماني ، قد دعاه إلى الحصة أي الداعي الرحماني دعاه إلى الجامع والداعي الشيطاني دعاه إلى الحصة فيثبت الاقتراب والابتعاد معاً ، إلاّ أنَّ السبب للاقتراب والابتعاد ليس نفس الحصة حتى يُقال انَّ هذا شيء واحد والشيء الواحد يستحيل أَنْ يكون مقرّباً ومبعّداً معاً ، وانما السبب الداعي وهو متعدد في المقام فيعقل أَنْ يكون أحدهما مبعّداً والاخر مقرّباً.

البرهان السادس ـ أَنْ يُقال بأنَّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد فيما إذا وصل إلى المكلف ، فانه بالوصول يتنجز على المكلف يعني انَّ العقل يحكم بقبح المعصية فيكون الفعل مبعّداً عن المولى ، ومع فرض كونه مبعّداً يستحيل أَنْ يكون مقرّباً لأنهما ضدان لا يجتمعان.

وهذا البرهان يتفق مع البرهان الخامس في كل خصائصه التي ذكرناها إلاّ في واحدة ، فانَّ هذا البرهان يتمَّ حتى في القسم الرابع للنهي ، لأنَّه وإِنْ كان لا ينشأ من مبغوضية في متعلقه لكن على كل حال ما دام انه نهي مولوي يقبح عصيانه عقلاً ويكون العمل مبعّداً من المولى فيستحيل أَنْ يكون مقربا (١).

والتحقيق : عدم إمكان المساعدة على هذا البرهان أيضاً ، إذ لو كان المقصود من عدم إمكان اجتماع المقربية والمبعدية انَّ الإنسان الواحد لا يمكنه أَنْ يتقرب أو يتبعد من مولاه في لحظة واحدة ولو بلحاظ شيئين فهذا واضح البطلان ، فانَّ لازمه انه لا يمكن للإنسان الواحد أَنْ يعصي ويطيع في آن واحد مع انه ممكن بالضرورة فبالإمكان أَنْ يصلّي وينظر إلى الأجنبية في لحظة واحدة.

__________________

(١) ولكن لا يتم في القسم الخامس من أقسام النهي أي ما إذا كان النهي غيرياً خطاباً ، لأنَّ مخالفة التكليف الغيري ليست معصية ولا قبح فيها ولا عقوبة عليها فلا تكون مبعدة ، واما ما يترتب عليها من مخالفة تكليف آخر نفسي فذلك لا يضر بالتقرب بلحاظ ما هو متعلق النهي الغيري كما هو واضح.

١١٨

ولو كان المقصود انه يستحيل أَنْ يكون شيء واحد سبباً للاقتراب والابتعاد فهذا صحيح إلاّ انه في المقام لا يلزم من إمكان التقرب أَنْ يكون السبب واحداً ، فانه اتضح في الجواب على البرهان الخامس أَنْ المقرّب والمبعّد ليس هو الفعل الخارجي حتى يقال : لا يوجد إلاّ فعل واحد ، وانما السبب للتقرب والابتعاد هو الداعي والداعي في المقام متعدد ، إذ يوجد داعي امتثال الأمر ويوجد داعي عصيان النهي فليكن أحدهما مقرّباً والاخر مبعّداً.

البرهان السابع ـ لا إشكال في انه بعد تعلق النهي بالعبادة لا يمكن إيقاعها بداع إلهي محض بل هناك في جنبه داع عصياني شيطاني سواءً قلنا بإمكان قصد التقرب أو قلنا بعدم إمكان قصد التقرب ، وعندئذ يقال فقهياً : لا يكفي لتصحيح العبادة أَنْ تكون بداع إلهي بل لا بدَّ زائداً على ذلك أَنْ لا يَكون معه داع شيطاني ، وهذا يعني انه مع وصول النهي تقع العبادة باطلة.

هذا البرهان لو تمَّ يثبت البطلان منوطاً بوصول النهي إذ مع عدم وصوله وتنجِّزه لا يوجد داعٍ شيطاني.

كما انَّ البطلان بناء عليه راجع إلى قصور قدرة المكلف من قصد القربة محضاً من دون قصد العصيان ولا يرجع إلى قصور ذاتي في نفس العبادة ، وبهذا يختص بباب العبادات ولا يشمل الواجبات التوصلية.

وهذا البرهان لو تم فيتم حتى بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي على أساس الملاك الأول أو الثاني دون الثالث ، فانه بناء على الملاك الثالث للجواز يوجد وجودان في الخارج أحدهما مستندٌ إلى داعٍ شيطاني محض والاخر مستندٌ إلى داعٍ رحماني محض فلا بأس بالقول بصحة العبادة حينئذ.

ومدى صحة هذا البرهان يكون منوطاً بالفقه فعلى ذمة الفقه إثباته ، ولا يبعد دعوى الجزم بأنَّ عبادية العبادة متقومة بركنين : الأول ثبوت الداعي الرحماني ، والثاني عدم ثبوت الداعي الشيطاني ، فانَّ عبادية العبادة ليست ثابتة بدليل لفظي حتى يبحث بحثاً استظهارياً وانما مهم الدليل عليه هو الارتكاز والإجماع ، ولا يبعد دعوى الجزم بأنَّ الارتكاز قائم على انَّ الله سبحانه وتعالى لا يُطاع من حيث يُعصى ، فالعبادة لا بدَّ وأَنْ

١١٩

تكون بداعٍ قربي فقط ولا يكون في جانبه داعٍ شيطاني. هذا تمام الكلام في البراهين التي يمكن إقامتها على انَّ النهي عن العبادة يوجب الفساد. وقد اتضح ان ما هو الصحيح منها البرهان الرابع بصيغته المعدة له والبرهان السابع.

ويقع الكلام بعد ذلك في تنبيهات المسألة :

التنبيه الأول ـ لو بنينا على انَّ النهي التحريمي يوجب بطلان العبادة فهل النهي الكراهتي أيضاً يوجب البطلان أم لا؟.

امّا لو كان النهي الكراهتي ناشئاً من نقص محبوبية هذا الفرد من العبادة لا من مبغوضيته فلا إشكال في انه لا يقتضي البطلان سواءً كان نقص المحبوبية بنكتة قلة المصلحة فيه أو بنكتة انَّ المصلحة فيه مزاحمة بمفسدة أخف وأضعف منها بنحو تبقى المحبوبية ولكن بنحو ضعيف ، فانه على أي حال مثل هذا النهي لا يقتضي البطلان ، لأنَّه لا يعاند الأمر حتى لو افترضنا عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي ، فانَّ النهي الّذي لا يمكن أَنْ يجتمع مع الأمر هو النهي الناشئ من البغض لا النهي الناشئ من قلة الحب ، فهذا الفرد المنهي عنه يمكن ان يشمله الأمر ، ومع شمول الأمر له لا إشكال في الصحة وإمكان التقرب به فانه لا يكون مبعّداً ولا مبغوضاً للشارع كي يُقال : كيف يقع مقرباً بل يكون محبوباً للشارع غاية الأمر يكون أقل حباً من الافراد الأخرى.

وامّا لو افترضنا انَّ النهي كان ناشئاً من مبغوضية فعلية في هذا الفرد. فتارة : نلتزم بامتناع الاجتماع حتى مع النهي الكراهتي ، وأخرى : نلتزم بإمكان اجتماع الأمر مع النهي الكراهتي.

فلو التزمنا بامتناع الاجتماع ومع هذا افترضنا وجود النهي الناشئ من مبغوضية فعلية لمتعلقه فلا بدَّ من الالتزام ببطلان العبادة على أساس البرهان الأول من البراهين المتقدمة ، لأنَّ مثل هذا النهي الناشئ من مبغوضية متعلقه يكشف لا محالة عن عدم محبوبية متعلقه لعدم إمكان اجتماع الحب والبغض في شيء واحد ، وعدم محبوبية هذا الفرد يكشف عن انَّ تلك المصلحة الالتزامية للعبادة التي تكون ثابتة في الجامع بين الافراد غير ثابتة في الجامع الشامل لهذا الفرد المنهي عنه ، إذ لو كانت ثابتة في الجامع بين هذا الفرد وبين بقية الافراد لكان هذا الجامع محبوباً بملاك إلزاميّ وبناء على

١٢٠