بحوث في علم الأصول - ج ٣

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٥

بين الحكم والموضوع محفوظ.

ومثال القسم الثاني الجمل الشرطية ، كأنْ يقال ( إِنْ جاءك زيد فأكرمه ) فانه يدل بالملازمة على الانتفاء عند الانتفاء ، لأنَّ اللازم لازم لنفس الربط الخاصّ بين الشرط والجزاء ولا يكون لازماً لذات الشرط ولا لذات الجزاء ، بدليل إنّه لو غير الشرط والجزاء معاً أيضاً دلت الجملة على الانتفاء عند الانتفاء لو كان نفس الربط السابق محفوظاً كما إذا قيل بدلاً عن المثال السابق ( إِنْ جاءك مظلوم فأعِنْهُ ) ، فانها أيضاً تدل على الانتفاء عند الانتفاء ، غاية الأمر مع تبديل أطراف منطوق الجملة يتبدل أطراف المفهوم لا أصله (١).

« ضابطة الدلالة على المفهوم »

الجهة الثانية ـ بعد أَنْ عرفنا المقصود من المفهوم فما هو المناط في استفادة المفهوم من الجملة؟ يعني انه ما هي النكتة التي لو ثبت دلالة جملة ما ـ شرطية كانت أو وصفية أو غائية أو غير ذلك ـ عليها كانت الجملة دالة على المفهوم ، وبعبارة ثالثة : كنا نتكلم في الجهة السابقة عن تعريف نفس المفهوم فعرفنا انَّ المفهوم عبارة عن لازم الربط الخاصّ في الجملة ، وهنا نريد أَنْ نتكلم عن الموجب لثبوت لازم الربط ، فالجملة لا بدَّ وأَنْ تكون بأي شكل حتى يكون للربط فيه لازم يسمّى بالمفهوم؟.

وفي مقام تحقيق ذلك ذكر المشهور انَّ الضابط لاستفادة المفهوم من الجملة يتركب من ركنين إذا تم الركنان أصبحت للجملة مفهوم.

الركن الأول : أَنْ تكون الجملة دالة على الربط اللزومي العلّي بنحو العلّية التامة

__________________

(١) لعلّ الأوفق أَنْ يقال : بأنَّ المفهوم ما يكون لازماً لخصوصية أخذت في القضية زائداً على أصل النسبة الحكمية سواءً كانت خصوصية للموضوع والمحمول ـ كما في مفهوم الموافقة ـ أو خصوصية في ثبوت المحمول للموضوع ـ كما في مفهوم الشرط والوصف ـ.

وامّا ما أُفيد فيمكن أَنْ يورد عليه عدة ملاحظات :

(١) لا يشمل مفهوم الموافقة لو أُريد به تعريف الأعم منها ومن مفهوم المخالفة.

(٢) لا يشمل مثل مفهوم العدد الّذي يكون المدلول الالتزامي فيه لنفس العدد الّذي هو مفهوم اسمي لا للربط.

(٣) يعم دلالات ليست من المفهوم كدلالة قولنا من كان عالماً وجب إكرامه على انَّ من لا يجب إكرامه ليس بعالم ـ مع قطع النّظر عن حجيته وعدمها ـ مع انه ليس بمفهوم اصطلاحاً.

١٤١

الانحصارية ، يعني لا بدَّ وأَنْ تكون الجملة الشرطية مثلا دالة على ربط الجزاء بالشرط ـ والجملة الوصفية دالة على ربط حكم الموصوف بالوصف وهكذا ـ ربطاً لزومياً لا اتفاقياً ، وعلّياً بنحو يكون الشرط علّة للجزاء لا أَنْ يكونا معلولين لعلّة ثالثة ، ولا بدَّ وأَنْ يكون بنحو العلّة التامة لا الناقصة ، وأَنْ تكون علّة انحصارية بنحو لا يكون لها بدل ، فلو ثبت هذا الركن الأول يثبت لا محالة انَّ الحكم المجعول في الجزاء سوف ينتفي بانتفاء الشرط.

الركن الثاني : أَنْ يكون هذا اللازم المربوط بالربط اللزومي العلّي الانحصاري بملزومه نوع الحكم لا شخص الحكم كي يكون المنتفي عند انتفاء الشرط نوع الحكم لا شخصه ، فانه لو كان المنتفي شخص الحكم بالوجوب مثلا فلا مفهوم إذ مع انتفاء الشرط يحتمل أَنْ يكون وجوب نفس الفعل ثابتاً لكن في شخص اخر وبملاك آخر.

والتحقيق في المقام يقتضي البحث عن نقطتين :

النقطة الأولى ـ فيما يرجع إلى الركن الأول والنقطة الثانية فيما يرجع إلى الركن الثاني.

امّا النقطة الأولى ـ فالصحيح في الركن الأول انه يكفي أَنْ يكون الحكم في الجزاء منوطاً وملصقاً بالشرط بنحو لا ينفك عنه ، أي مهما ثبت الحكم في الجزاء ثبت الشرط ، فانه حينئذ إذا انتفى الشرط سينكشف لا محالة انتفاء الجزاء سواءً فُرض انَّ الشرط والجزاء معلولان لعلّة ثالثة منحصرة أو فرض عدم ثبوت العلّية أصلاً بل كان التلازم والالتصاق على سبيل الصدفة والاتفاق ، فعلى كل حال لو كان الجزاء ملصقاً بالشرط سينكشف من عدم الشرط عدم الجزاء لا محالة (١).

__________________

(١) لا معنى للنسبة التوقفية أو الالتصاقية في المقام ، إذ لو أُريد بذلك نسبة خارجية كنسبة الظرفية في الخارج فمن المحقق في محلّه انَّ النسب الخارجية كلها نسب ناقصة تحليلية ومدلول الجملة الشرطية نسبة تامة فلا يمكن أَنْ تكون خارجية ، على انه لا توجد في الخارج نسبة توقفية تختلف عن النسبة والربط غير التوقفي وانما التوقف والالتصاق كالانحصار ينتزع من ملاحظة عدم وجود الجزاء في غير مورد وجود الشرط وهذا خارج عن مدلول الربط والنسبة.

نعم هنا مطلب اخر لا بدَّ من التوجه إليه وهو انَّ ربط الجزاء بالشرط تارة : يكون عارضاً على الجزاء بحيث يكون طبيعيّ الحكم الّذي هو الجزاء في مركز الموضوع وبمثابته ويعرض التعليق والربط بالشرط عليه ، فيكون كما لو قلنا طبيعيّ الحكم بوجوب إكرام زيد مربوط بمجيئه ، وأخرى : يجعل ما هو في مركز الموضوع وبمثابته جملة الشرط وجملة الجزاء بمثابة

١٤٢

ثم انه لا فرق بين أَنْ يكون هذا التلازم والالتصاق ثابتاً على مستوى المدلول التصوري للجملة أو على مستوى المدلول التصديقي.

تفصيل ذلك انه تارة ، يُقال : بأنَّ الجملة بهيئتها أو بأداتها تدل على النسبة الالتصاقية والتوقفية فكأنما قيل بدلاً عن ( إِنْ جاءك زيد فأكرمه ) ( وجوب إكرام زيد موقوف على مجيئه أو ملصق به ) وأُخرى يقال : بأنَّ الجملة تدل على النسبة الإيجادية فكأنما قيل بدلاً عن المثال السابق ، ( مجيء زيد موجب وسبب لوجوب الإكرام ) فلو فرض انَّ مفاد الهيئة أو الأداة هو النسبة الالتصاقية فيتم الركن الأول لا محالة وسينكشف من انتفاء الشرط انَّ الجزاء أيضاً منتف ، إذ لو كان الجزاء ثابتاً من دون ثبوت الشرط فهذا خلف التصاقه به وتوقفه عليه ، ولو فرض انَّ مفاد الهيئة أو الأداة النسبة الإيجادية فبمجرد هذا المدلول التصوري لا يمكن أَنْ نثبت الركن الأول من التصاق الحكم في الجزاء بالشرط إذ يمكن أَنْ يفترض انَّ الشرط موجد للحكم في الجزاء ولكن مع هذا لا يكون الحكم في الجزاء ملصقا بالشرط ، وذلك كما إذا فرض ثبوت موجدين وعلّتين في الجزاء ، فقد يثبت الحكم في الجزاء من دون أَنْ يثبت الشرط.

اذن لو فرض انَّ الهيئة أو الأداة كانت موضوعة للنسبة الإيجادية فلا يمكن إثبات

__________________

المحمول وفي مركزه والربط نسبة بينهما. فعلى الأول يتم المفهوم ولا يحتاج في اقتناصه إلى أكثر من أصل الربط لأنَّ معناه انَّ طبيعيّ الحكم مربوط بالشرط فيكون بمقتضى الإطلاق أن كل فرد من افراد الحكم يكون مربوطا بالشرط لما تقدم من انَّ الإطلاق في طرف ما هو موضوع حقيقة ولبّا انحلالي ، وعلى الثاني ، لا يمكن إثبات المفهوم ، إذ سوف يتعامل مع طبيعيّ الحكم في الجزاء كما يتعامل مع طبيعيّ الحكم في طرف المحمول فيكفي في تصادق جملتي الجزاء والشرط صدق فرد من الحكم عند تحقق الشرط.

وهذا ضابط اخر لاقتناص المفهوم ، إلاّ انَّ الوجدان العرفي يشهد بأننا حتى لو سلّمنا انَّ الجملة الشرطية تدل على الربط والنسبة التامة بين جملتي الجزاء والشرط بحيث يكون هو المنظور إليه أساساً ، وان المدلول التصديقي للجملة هو الحكاية عن هذا الربط والتلازم والتصادق مع ذلك لا نقبل انَّ ذلك عارض على الجزاء وبمثابة المحمول له ، والمنبه إلى هذا الوجدان امران :

الأول ـ لو كان الأمر كذلك لزم ثبوت المفهوم حتى للجملة الشرطية الخبرية كقولك ( إذا شربت السم تموت ) إذ يكون معناه انَّ موتك معلّق على شرب السم مع وضوح عدم استفادة المفهوم من الجمل الشرطية الخبرية.

الثاني ـ لزوم لغوية التعليق في الشرطية المسوقة لبيان الموضوع كقولك ( إذا رزقت ولداً فاختنه ) إذ يكون المعنى ختان ولدك معلّق على وجوده وهذا أشبه بالقضية بشرط المحمول.

١٤٣

الركن الأول من الالتصاق على أساس المدلول التصوري. نعم قد يمكن إثبات ذلك على أساس المدلول التصديقي ، وذلك كما إذا تمسكنا بقاعدة انَّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد بتقريب : انه لو كان للحكم في الجزاء علّة أخرى غير الشرط لزم صدور الواحد من اثنين وهو مستحيل اذن فالجزاء لا يصدر إلاّ من الشرط وهذا يعني التصاقه به فمع عدم الشرط لا بدَّ وأَنْ يكون الجزاء معدوماً أيضا.

فانْ قيل : بالإمكان أَنْ نفترض انَّ الهيئة أو الأداة موضوعة لخصوص النسبة الإيجادية الانحصارية بنحو يكون الشرط موجداً منحصراً ليس له بدل فيثبت التصاق الحكم في الجزاء بالشرط على أساس المدلول التصوري ومن دون احتياج إلى ضم المدلول التصديقي.

قلنا ـ انَّ هوية النسبة الإيجادية بين الشرط والجزاء وماهيتها لا تختلف ولا تتغير بافتراض وجود موجد اخر للجزاء أو عدم وجوده ، فعلى كل حال النسبة الإيجادية نفس النسبة الإيجادية ولا تتحصص بحصتين حتى يمكن أَنْ يقال انَّ الهيئة أو الأداة موضوعة لخصوص هذه النسبة الإيجادية دون تلك.

نعم يمكن تصنيف النسبة إلى صنفين بالتقييد بمفهوم اسمي فيقال مثلاً النسبة الانحصارية أو النسبة مع الانحصار إلاّ انَّ هذا مفهوم اسمي لا يمكن أخذه في مدلول الهيئة أو الأداة الحرفي.

النقطة الثانية ـ ذكروا أنه لا بدَّ وأَنْ يكون مدلول الجزاء ـ إذا افترض انَّ الجملة شرطية ـ طبيعيّ الحكم وسنخه لا شخصه حتى يمكن أَنْ يستكشف من انتفاء الشرط انتفاء الحكم ، وامّا استكشاف انتفاء شخص الحكم الّذي قد يثبت في كل قضية فليس هو المفهوم لاحتمال وجود شخص اخر من نفس الحكم. ولنا حول هذا الركن تعليقان :

التعليق الأول ـ انه قد يستشكل على هذا الركن بأنَّ كون الجزاء المعلّق على الشرط طبيعي الحكم له أحد معنيين ، فانَّ الطبيعة تارة : تلحظ بنحو مطلق الوجود فتشمل تمام الافراد ، وأخرى : تلحظ بنحو صرف الوجود ، فلو كان المقصود من الركن الثاني انه لا بدَّ أَنْ يكون المعلّق على الشرط تمام افراد الحكم فكأنما قيل تمام افراد

١٤٤

وجوب إكرام زيد يثبت عند مجيئه ،

فمن الواضح انه بناء على هذا لا احتياج إلى افتراض وجود الركن الأول بل حتى مع انتفاء الركن الأول يستفاد المفهوم ، فلو فرضنا انَّ الجملة الشرطية تدل على النسبة الإيجادية لا النسبة التوقفية وانَّ قاعدة انَّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد غير صحيحة كي لا يثبت الركن الأول تكون الجملة بمثابة أَنْ يقال : ( انَّ مجيء زيد موجد لتمام افراد وجوب إكرامه ، ) ومن الواضح انه يستفاد من مثل هذا انه مع عدم مجيئه لا يجب إكرامه ، إذ لو وجب إكرامه حتى مع عدم مجيئه فهذا فرد من افراد وجوب الإكرام لا يكون مجيء زيد موجداً له وهذا خلف افتراض انَّ مجيء زيد موجد لتمام افراد وجوب الإكرام.

ولو كان المقصود من الركن الثاني انَّ المعلّق على الشرط صرف وجود الطبيعة من الحكم ، فهذا يعني انَّ الوجود الأول منه يكون معلّقاً على الشرط فانَّ صرف الوجود دائماً يتحقق بالوجود الأول فيكون مفاد الجملة انَّ أول افراد وجوب الإكرام معلّق على مجيء زيد. وهذا يثبت منه نصف المفهوم لا تمامه ، فانه لو لم يجئ زيد أصلا يثبت عدم وجوب الإكرام لكن لو فرض انه جاء مرة فوجب إكرامه فأكرمناه ثم بعد ذلك مرض فشككنا انه هل يجب أيضا إكرامه بملاك مرضه أم لا؟ لا يمكن حينئذٍ نفي احتمال وجوب إكرامه بمفهوم الجملة ، فانَّ مفهوم الجملة ينفي الوجود الأول لوجوب الإكرام والمفروض انَّ الوجود الأول قد تحقق خارجاً.

فخلاصة الإشكال : انه لو كان المقصود تعليق مطلق وجود الحكم على الشرط فسوف يكفينا هذا الركن دون الحاجة إلى الركن الأول لإثبات المفهوم ، ولو كان المقصود تعليق الوجود الأول للحكم على الشرط فلا يكفي لإثبات تمام المفهوم حتى لو ضم إليه الركن الأول.

والجواب ـ انه ليس المقصود اشتراط أَنْ يكون المعلّق مطلق وجود الحكم ولا اشتراط أَنْ يكون المعلق الوجود الأول للحكم وانما المقصود اشتراط أَنْ يكون المعلّق طبيعي الحكم بما هو هو ومن دون لحاظ شيء زائد عليه ، ومن الواضح انَّ الإطلاق والشمول أحد الوجود الأول شيء زائد على نفس الطبيعة ، وقد قلنا في بحث التمييز بين

١٤٥

الأمر والنهي ، انه لو كان المحمول على الطبيعة مقتضياً لإيجاد الطبيعة ـ إنشاءً أو إخباراً ـ فلا يؤثر إلاّ في إيجاد فرد واحد فانَّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد منها ، ولو كان المحمول على الطبيعة مقتضياً لإعدام الطبيعة ـ إنشاءً أو إخباراً ـ فيؤثر في إعدام جميع الافراد فانَّ الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام جميع الافراد ، فالطبيعة في إكرام رجلا وفي لا تكرم رجلا لوحظت بما هي هي ومن دون قيد زائد والملحوظ فيهما شيء واحد ولكن مع هذا يكفي في امتثال الأمر إكرام شخص واحد ولا يكفي في امتثال النهي إلاّ ترك إكرام تمام الرّجال ، وبناء على هذا الفهم فلو افترضنا في المقام انَّ الركن الأول تم وثبت انَّ طبيعي الحكم بما هو هو ملتصق بالشرط ومحصور فيه فالالتصاق والحصر يكون من قبيل المحمول الّذي يوجب إعدام الطبيعة بشيء وحصرها فيه أي انه مع عدم ذلك لا توجد الطبيعة اذن فلا بدَّ وأَنْ تنتفي تمام افرادها وهذا هو معنى المفهوم ، وامّا لو افترضنا انَّ الركن الأول لم يتم دليله بل كان غاية ما تدل عليه الجملة انَّ طبيعي الحكم يوجد بالشرط فمن الواضح انَّ المحمول على الطبيعة حينئذ يكون مقتضياً لإيجاد الطبيعة فيكون مؤثراً في فرد واحد منها فقط ، وهذا يعني انه يحتمل أَنْ يكون هناك فرد من افراد طبيعي الحكم لا يوجد بهذا الشرط ولكن يوجد بشيء اخر وهو معنى عدم المفهوم.

التعليق الثاني ـ انَّ هذا الركن الثاني أعني اشتراط كون مدلول الجزاء سنخ الحكم لا شخصه انما يحتاج إليه لو اقتنصنا الركن الأول من المدلول التصوري للجملة فقلنا ، انَّ مدلول الجملة النسبة الالتصاقية والتعليقية ، فانه لو كان شخص الحكم هو الملتصق لا سنخ الحكم فلا يمكن أَنْ يستفاد انتفاء مطلق الحكم عند انتفاء الشرط ، واما لو اقتنصنا الركن الأول من المدلول التصديقي بواسطة قانون انَّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد فلا نحتاج حينئذ إلى الركن الثاني بل يمكن استفادة المفهوم حتى مع فرض انَّ مدلول الجزاء شخص الحكم لا سنخه ، فانه لو كان المقصود من انَّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد انّ الواحد بالنوع لا يمكن ان يصدر من اثنين بالنوع فلو كان هناك شخص آخر من نفس نوع الحكم مترتب على شيء اخر غير الشرط لزم صدور الواحد بالنوع من اثنين فلا بدَّ وأَنْ ينتفي تمام افراد النوع عند انتفاء الشرط كي لا يلزم صدور الواحد بالنوع من اثنين ، ولو كان

١٤٦

المقصود من ذاك القانون انَّ الواحد بالشخص لا يصدر إلاّ من واحد فائضاً يمكن استفادة المفهوم ، فانه لو كانت هناك علّة أخرى غير الشرط فامّا أَنْ تكون علّة لنفس هذا الشخص من الحكم وامّا أَنْ تكون علّة لشخص اخر من الحكم ويلزم من الأول صدور الواحد بالشخص من الاثنين ويلزم من الثاني اجتماع المثلين ، إذ يلزم أَنْ نثبت وجوبين على إكرام زيد عند تحقق كلتا العلّتين.

إلاّ انَّ الصحيح عدم صحة التمسك بهذا القانون في مقام إثبات الركن الأول على ما سوف يأتي في الجهة الثالثة المعقودة لبحث دلالة الجملة الشرطية على المفهوم. ولهذا يكون الركن الثاني شرطاً أساسياً لاستفادة المفهوم.

ثم انَّ المحقق العراقي ( قده ) قال : بأنَّ نزاع الأصحاب في بحث المفاهيم انما وقع في الركن الثاني فجعل ضابط اقتناص المفهوم أَنْ يستفاد من الجزاء تعليق سنخ الحكم.

وامّا الركن الأول ففرض انَّ ثبوته متفق عليه عندهم حتى في مثل الجملة الوصفية ، وقد استدل على ذلك باتفاق العلماء في باب المطلق والمقيد على حمل المطلق على المقيد لو أحرز وحدة الحكم ، وهذا لا يمكن أَنْ يفسر إلاّ على أساس أَنَّ القيد والوصف علّة منحصرة للحكم والحكم ملتصق به ، إذ لو فرض احتمال وجود علّة أخرى للحكم لاحتمل ثبوت الحكم مع انتفاء القيد فلا وجه لحمل المطلق على المقيّد بل لا بدَّ وأَنْ يؤخذ بالمطلق والمقيد معاً (١).

وهذا الّذي أفاده ( قده ) لا يمكن المساعدة عليه : لأنَّ المطلوب من الركن الأول في باب المفاهيم أَنْ يكون الشرط علّة منحصرة للحكم في الجزاء حتى لو فرض انَّ الحكم في الجزاء سنخ الحكم لا شخصه ، وبتعبير أصح : المطلوب من الركن الأول في باب المفهوم أَنْ يكون الحكم في الجزاء ملتصقا بالشرط لو فرض انَّ الجزاء سنخ الحكم فانَّ كون الحكم في الجزاء ملتصقا بالشرط على تقدير كونه حكماً شخصياً امر مسلم ولكنه لا يفيد في اقتناص المفهوم ما دمنا نحتاج إلى الركن الثاني ، فنحتاج في اقتناص المفهوم من الجملة إلى أَنْ يكون الحكم في الجزاء ملصقا بالشرط على كل حال يعني حتى لو

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٣٨

١٤٧

فرض انَّ الحكم يكون سنخ الحكم لا شخص الحكم ، بينما غاية ما يستكشف من حمل المطلق على المقيد على تقدير إحراز وحدة حكمهما انَّ هذا القيد علّة منحصرة لشخص هذا الحكم وشخص هذا الحكم يكون ملتصقا بالقيد ، ولا تلازم بين القول بأنَّ الوصف والقيد علّة منحصرة لشخص الحكم ـ كما يستفاد من حمل المطلق على المقيد على تقدير وحدة الحكم ـ وبين القول بأنَّ الوصف والقيد علّة منحصرة لسنخ الحكم ، فانَّ هناك برهانا على انَّ شخص الحكم لا بدَّ وأَنْ يكون له علّة واحدة وموضوع واحد لا يأتي في سنخ الحكم ، والبرهان : انَّ الحكم انما يتشخص بالجعل مهما كانت له مجعولات متعددة ، ومن الواضح انه لا يمكن أَنْ يكون لجعل واحد موضوعان بينما يعقل أَنْ يكون لجعلين مستقلين موضوعان مستقلان ، ومن مجموع ما تقدم يتلخص انَّ ضابط اقتناص المفهوم يمكن أَنْ يكون أحد أمور ثلاثة :

الأول ـ أَنْ تدلَّ القضيّة على أنَّ المعلّق على الشرط والوصف طبيعي الحكم بمعنى مطلق وجوده ـ نظير العموم الاستغراقي ـ.

الثاني ـ أَنْ تدل القضية على انَّ طبيعي الحكم بما هو هو ـ بالمعنى الّذي شرحناه ـ معلّق ومنوط بالشرط بأَنْ تدل الجملة على النسبة التعليقية والالتصاقية.

الثالث ـ أَنْ نستفيد على مستوى المدلول التصديقي ـ أي بالإطلاق ـ العلّية الانحصارية للشرط بالنسبة للجزاء ولو كان الجزاء شخص الحكم.

« دلالة الشرطية على المفهوم »

الجهة الثالثة : في تحقيق انَّ الجملة الشرطية هل لها مفهوم أو لا؟

والكلام في ذلك يقع ضمن ثلاث نقاط ، الأولى في تحقيق مفاد الجملة الشرطية منطوقاً؟ والثانية في البحث عن الركن الثاني وانَّ المعلق على الشرط هل هو طبيعي الحكم أو شخصه ، والثالثة في حال الركن الأول بكلتا صيغتيه ، أي بصيغته على مستوى المدلول التصوري ، وبصيغته على مستوى المدلول التصديقي.

النقطة الأولى ـ في مفاد الجملة الشرطية

والكلام فيه يقع على ثلاث مراحل :

المرحلة الأولى ـ في مفاد أداة الشرط ، والمشهور بين علماء العربية والمرتكز في أذهان

١٤٨

أهل العرف والمحاورة انَّ أداة الشرط موضوعة لإيجاد الربط بين جملة الشرط وجملة الجزاء ذاك الربط الّذي سوف نتكلم عن هويته وانه يكون نسبة توقفية التصاقية أو يكون نسبة إيجادية.

إلاّ انَّ المحقق الأصفهاني ( قده ) خالف في ذلك وقال :

انَّ أداة الشرط ليست موضوعة للربط بين الشرط والجزاء ، وانما الدال على هذا الربط هيئة ترتيب الجزاء على الشرط التي قد تتحصل من فاء الجزاء ، وامّا أداة الشرط فهي موضوعة لإفادة انَّ مدخولها الّذي هو الشرط واقع موقع الفرض والتقدير ، فكما انَّ أداة الاستفهام موضوعة لإفادة انَّ مدخولها واقع موقع الاستفهام ، وأداة الترجي موضوعة لإفادة انَّ مدلولها واقع موقع الترجي ، كذلك أداة الشرط موضوعة لإفادة انَّ مدخولها واقع موقع الفرض والتقدير ، وقال ( قده ) : انَّ هذا هو ما ذهب إليه علماء العربية ويفهمه أهل العرف والمحاورة (١).

أقول : انَّ المحقق الأصفهاني ( قده ) (٢) لم يبرهن على ما ادعاه من انَّ أداة الشرط موضوعة لإيقاع مدخوله موقع الفرض والتقدير وليست موضوعة للربط بين الشرط والجزاء ، إلاّ اننا بإمكاننا أَنْ نبين صورة برهان على مدعاه حاصله :

اننا نلاحظ كثيرا ما تدخل أداة الاستفهام على الجزاء فيقال مثلا ( إِنْ جاءك زيد فهل تكرمه أولا ) ومع هذا يكون الاستفهام فعلياً ويترقب السائل أَنْ يجيبه المخاطب بالفعل. وفعلية الاستفهام لا يمكن أَنْ تُفسَّر على أساس مبنى المشهور من انَّ أداة الشرط موضوعة للربط بين الجزاء والشرط ، إذ بناء على هذا يكون الاستفهام معلقاً على مجيء زيد لأنَّ الجملة الاستفهامية هي بنفسها جعلت جزاء في الجملة الشرطية.

اذن فلا بدَّ وأَنْ لا يكون الاستفهام فعلياً ما دام انَّ مجيء زيد ليس بفعلي مع انه من

__________________

(١) وهذا هو المطابق مع وجداني وفهمي العرفي وسوف يأتي ذكر بعض المنبهات والشواهد عليه في التعليقات القادمة وبناء على هذا الفهم للجملة الشرطية سوف لن يكون لها مفهوم إذ غاية ما تدل عليه حينئذ تحديدٌ وتقدير وعاء صدق الجزاء وفرض تحققه أي يكون الشرط بحسب الحقيقة قيداً لوعاء النسبة الثابتة في جملة الجزاء ، ومعه لا موجب لتوهم الدلالة على المفهوم بل حاله حال الوصف والقيد غاية الأمر انَّ الوصف قيد لموضوع النسبة والشرط قيد لنفس النسبة ووعاء ثبوتها.

(٢) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٣٢٠ ـ ٣٢١

١٤٩

البديهي جداً فعلية الاستفهام.

وامّا لو أخذنا بما يقوله المحقق الأصفهاني ( قده ) فيمكن أَنْ تفسر فعلية الاستفهام بأنَّ الاستفهام وإِنْ كان معلقاً على الشرط أيضا إلاّ أنَّ الشرط ليس واقع مجيء زيد حتى لا يكون فعلياً وانما الشرط فرض مجيئه والفرض ثابت وفعلي ببركة أداة الشرط فالمعلّق على الشرط الّذي هو الاستفهام أيضا يكون فعلياً. وحيث انه لا إشكال في فعلية الاستفهام فيتعين لا محالة مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) في قبال مبنى المشهور.

فان قلت : انه بالإمكان أَنْ يفترض انَّ أداة الاستفهام وإِنْ دخلت لفظاً على الجزاء إلاّ انَّ الجزاء في الحقيقة مدخول أداة الاستفهام لا نفس الاستفهام ، والاستفهام يكون لبّا عن أصل الشرطية ، فمعنى ( انْ جاء زيد فهل تكرمه ) ( هل انْ جاء زيد تكرمه ) فيكون الاستفهام فعلياً حتى لو فرض انَّ الشرط واقع المجيء لا افتراض المجيء.

قلنا : في بعض الأحيان لا يمكن أَنْ نفترض انَّ الاستفهام منحاز عن الجزاء بل لا بدَّ وانْ يكون الاستفهام جزءً من الجزاء ، وكما إذا قيل ( انْ جاء زيد فكيف حالك ) فانه إذا انحاز الاستفهام عن الجزاء في ذلك لا يبقى الا كلمة ( حالك ) مع انه لا إشكال في وجوب أَنْ يكون الجزاء جملة (١) ، اذن فلا بدَّ وأَنْ يفرض انَّ الاستفهام في مثل هذا المثال جزء للجزاء. ولنا هنا كلامان : كلام حول هذا البرهان لمدعى المحقق الأصفهاني ( قده ) وكلام حول أصل دعوى المحقق ودعوى المشهور.

امّا الكلام الأول ، فالصحيح عدم إمكان المساعدة على ما ذكر من البرهان لمدعى المحقق ( قده ) لأنَّ إشكال فعلية الاستفهام يرد حتى على هذا المبنى إذ لا بدَّ وأَنْ يعترف بأنَّ فرض المجيء وتقديره انما وقع شرطا للجزاء بما هو مرآة وفانٍ في المفروض وإلاّ للزم أَنْ يقول انَّ الجزاء لو كان متضمنا لتكليف إلزاميّ ـ مثل إِنْ جاء زيد

__________________

(١) ولا يمكن أَنْ يقال :

انَّ كلمة كيف استفهام اسمي فيمكن أَنْ نجزئه ونقدم معناه الاستفهامي على الجزاء ويبقى معناه الاسمي جزءً من الجزاء فيسأل عن كيفية الحال التي تثبت عن مجيء زيد.

فانَّ ( كيف ) على مستوى المدلول التصوري له معنى وحداني وهذا المعنى الوحدانيّ بالتجزئة والتحليل ينحل إلى معنيين وحينئذ كيف يمكن أَنْ يقال انه على مستوى المدلول التصوري يكون أحد المعنيين جزءً للجزاء دون الاخر؟

١٥٠

فأكرمه ـ فالتكليف يصبح فعلياً على المكلف الآن ويجب عليه امتثاله حتى لو لم يتحقق واقع الشرط في الخارج لأنَّ شرط الحكم لا يكون إلاّ الفرض والتقدير والفرض فعلي على كل حال فلا بدَّ وأَنْ يكون الحكم فعلياً مع انَّ هذا شيء لا يلتزم به أحد ، فلو اعترف بأنَّ الشرط فرض المجيء بما هو مرآة وفانٍ في المجيء عاد الإشكال عليه ، إذ يقال كيف أصبح الاستفهام فعلياً مع عدم فعلية المجيء في الخارج (١).

__________________

(١) هذا الاعتراض غير وارد إذ على مبنى المحقق الأصفهاني يكون المدلول الرئيسي الّذي بإزائه مدلول تصديقي في الجملة الشرطية هو الجزاء لا الشرطية ولا الشرط ، وعليه فيكون كل من إنشاء الاستفهام أو الإيجاب فعلياً ولكن المنشأ قد حُدّ وحُصّص في جملة الجزاء أي حصِّص وعائه بفرض وتقدير تحقق الشرط الّذي هو مفاد جملة الشرط ، وحيث انَّ الّذي يدخل في العهدة في باب التكاليف انما هو الحكم الفعلي لا الإنشائي أي المنشأ لا الإنشاء ، فلا يجب الامتثال إلاّ حين تحقق الشرط ، وحيث انَّ الّذي يحتاج إلى جواب في الاستفهام نفس إنشاء الاستفهام الفعلي كان لا بدَّ من الإجابة.

وقد يبرهن على بطلان مبنى المحقق الأصفهاني في المقام : بأنَّ الجملة الشرطية لو لم تكن بإزاء الربط بين الشرط والجزاء فكيف يسأل عنه في مثل قولنا ( هل إِنْ جاء زيد فتكرمه أو ليس إذا جاء زيد فتكرمه ) مع وضوح انَّ السؤال وكذا النفي هنا عن أصل الملازمة والربط بين الجزاء والشرط ولهذا يكفي في مقام صدقها أَنْ لا تكون ملازمة بأنْ لا يكرم زيداً ولو في بعض حالات مجيئه ، بينما إذا كانت جملة الشرط لمجرد الفرض والمدلول التصديقي بإزاء الجزاء دائماً فينبغي أَنْ يكون ذلك في قوة قولنا ( إذا جاء زيد فلا تكرمه أو هل تكرمه ) مع وضوح الفرق بينهما فانَّ الثاني لا يصدق إلاّ إذا كان لا يكرمه في تمام حالات مجيئه.

والجواب : انَّ الفرق بين الجملتين على مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) من ناحية انَّ تحصيص وعاء النسبة في جملة الجزاء ـ التي هي الأصل دائما ـ بالشرط تارة يكون قبل عروض النفي أو الاستفهام وأخرى يكون بعدهما ، وفي كلا التقديرين يكون الشرط من أجل التقدير وتحديد وعاء صدق النسبة التامة في جملة الجزاء ، فإذا كان تحديد الوعاء وتقديره بالشرط بعد طرو الاستفهام أو النفي كان النفي لا محالة ثابتاً في تمام حالات ذلك الفرض والتقدير ، وإِنْ كان تحديد الوعاء وتقديره بالشرط قبل طرو الاستفهام أو النفي فالنفي أو الاستفهام بحسب الحقيقة عن الجزاء المحصَّص بالشرط ، ونفي الجزاء الثابت في تقدير خاص لا يعني ثبوت النفي في ذلك التقدير فانه نفي للمقيَّد ، وكذلك الاستفهام يكون حينئذ استفهاماً عن المقيَّد لا الاستفهام المقيَّد بذلك التقدير ، فيستفاد تبعاً لذلك نفي الملازمة والتقييد أو الاستفهام عنه.

بل نستطيع أَنْ نصوغ من هذا المثال دليلاً على عدم صحة مبنى المشهور ، فانه لا إشكال كما قلنا في انَّ المستفاد من قولنا ( هل إذا جاء زيد فتكرمه ) السؤال عن الملازمة والارتباط بخلاف ( إذا جاء زيد فهل تكرمه ) فانه سؤال عن إكرامه على تقدير وفرض مجيئه لأنَّ الاستفهام دخل على الجزاء المعلَّق لا على التعليق ، كما انه لا إشكال في فعلية الاستفهام في الجملتين لا انَّ الاستفهام سوف يتحقق بعد مجيء زيد ، فلا بدَّ وأَنْ يكون المعلَّق والمرتبط بالشرط المستفهم عنه لا نفس الاستفهام ، وحينئذ بناء على مبنى المشهور نسأل انَّ الاستفهام في الجملة الثانية أعني جملة ( إذا جاء زيد فهل تكرمه ) هل هو استفهام عن التعليق والربط بين الجزاء والشرط أو الاستفهام عن الجزاء المقيَّد بالشرط؟ فانْ اختير الأول لزم عدم الفرق بين الجملتين أي عدم الفرق بين دخول أداة الاستفهام على الشرطية ودخولها على الجزاء مع وضوح الفرق بينهما ، وانْ اختير الثاني كان معناه أخذ الربط والتقييد بالشرط بنحو النسبة الناقصة طرفاً للجزاء فكأنه استفهام عن إكرامه المقيَّد بمجيئه ، وهذا أولاً ـ خلاف فرضية المشهور من انَّ النسبة التعليقية نسبة تامة في الجملة الشرطية لا ناقصة ، وثانياً ـ لو كان هذا التقييد تقييداً للنسبة في جملة الجزاء أي تحديداً وتحصصاً لظرف تحققها فهذا رجوع إلى كلام المحقق الأصفهاني ( قده ) ، وان

١٥١

فلا بدَّ من حلٍّ آخر لإشكال فعلية الاستفهام على كلا المبنيين ، ويمكن أَنْ نفترض انَّ الحل الاخر عبارة عن انَّ الاستفهام في المدلول التصوري للجملة يكون جزءاً للجزاء ويكون معلَّقاً على الشرط الا انه بقرينة توجيه الخطاب يعرف انَّ مقصود المتكلم هو الاستفهام الفعلي عن التعليق أو المعلَّق ، فالمقصود الجدّي من جملة ( انْ جاء زيد فكيف حالك ) كيف حالك عند مجيء زيد.

وامّا الكلام الثاني ـ فيمكن أَن نبين برهاناً على صحة دعوى المشهور وبطلان دعوى المحقق الأصفهاني ( قده ) وإِنْ لم يتعهد المشهور ببيان ذلك وحاصل البرهان : انه لا إشكال في انَّ جملة الشرط وحدها قبل دخول أداة الشرط عليها تكون مما يصح السكوت عليها لكن بمجرد أَنْ تدخل عليها أداة الشرط لا يصح السكوت عليها ، فيمكن أَنْ يكتفي بجملة ( جاء زيد ) ولكن لا يمكن أَنْ يكتفي بجملة ( إِنْ جاء زيد ) وهذا الخروج من صحة السكوت إلى عدم صحة السكوت بمجرد ورود أداة الشرط على

__________________

كان تقيداً لطرف النسبة في الجزاء أي الموضوع أو المحمول فيه كان معناه انَّ الاستفهام عن إكرام زيد المقيَّد بأنه قد جاء أي إكرام زيد الجائي أو الاستفهام عن ثبوت الإكرام المقيَّد بالمجيء لزيد ، وكلاهما خلاف ظاهر جملة الشرط من انها نسبة تامة لا ناقصة وخلاف المقصود أيضا إذ ليس السؤال عن الإكرام المقيَّد ولا عن زيد الجائي.

وهناك شاهد آخر يمكن أَنْ يبَيَّن لنصرة ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني ( قده ) حاصله :

انه لا إشكال في انَّ جملة ( إِنْ جاءك زيد فأكرمه ) جملة إنشائية وليست من قبيل جملة ( إِنْ جاء زيد أكرمته ) الاخبارية ، وهذا الفرق على ضوء مبنى المحقق الأصفهاني قابل للتفسير إذ المدلول الأساسي للجملة والّذي بإزائه مدلول تصديقي انما هو الجزاء لا الشرط ولا الشرطية فانهما لمجرد تحديد الفرض والتقدير فإذا كان الجزاء جملة إنشائية كانت الشرطية إنشاءً لا محالة وإذا كان الجزاء جملة خبرية كانت الشرطية اخباراً لا محالة.

وامّا على مبنى المشهور الذين يجعلون المدلول الأساسي للشرطية والّذي بإزائه مدلول تصديقي نفس التعليق والربط والملازمة بين جملتي الجزاء والشرط فلا يبقى فرق بين الجملتين ، إذ تكونان معاً اخباراً عن الملازمة بين جملتي الشرط والجزاء سواءً كان الجزاء جملة خبرية أو إنشائية ولا يمكن أَنْ يكون الجزاء إلاّ مدلولاً تصورياً لا تصديقياً لأنَّ الجملة الواحدة لا تتحمل إلاّ مدلولاً تصديقيا واحداً والمفروض انه بإزاء الربط والتعليق لا الجزاء ودعوى : استفادة الاخبار أو الإنشاء عن الجزاء حينئذ بدلالة التزامية ، خلاف الوجدان جداً.

وشاهد ثالث على صحة ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني : اننا لا نستفيد الملازمة بين الشرط والجزاء إلاّ إذا دخل عليهما أدوات العموم فقيل ( كلّما جئتني أكرمتك ) وامّا قولك ( إذا جئتني أكرمتك ) فلا يدل على الإكرام لو جاءه مرة ثانية ، وهذا الفرق بناء على ما يقوله المشهور من دلالة الشرطية على اللزوم وانه كلّما صدقت جملة الشرط صدقت جملة الجزاء لا يمكن تفسيره ، بخلاف ما إذا حملنا الشرطية على انَّ جملة الشرط بمثابة الفرض والتقدير لمفاد الجزاء فانه حينئذ من دون دخول أداة العموم التي تدل على انَّ الفرض كل فرد من افراد المجيء لا تدل جملة الشرط إلاّ على انَّ الفرض أصل المجيء أي صرف وجوده والّذي يتحقق بالمجيء مرة واحدة فلا يمكن أَنْ تستفاد الملازمة في كل مرة.

١٥٢

الجملة يمكن أَنْ يفسر على مبنى المشهور بينما لا يمكن أَنْ يفسر على مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) وتفصيل : ذلك انَّ هناك في بداية الأمر يوجد احتمالان في تفسير هذا الخروج من صحة السكوت إلى عدم الصحة.

الاحتمال الأول ـ أَنْ يقال انَّ أداة الشرط تبدل النسبة التامة الثابتة بين الفعل والفاعل إلى النسبة الناقصة ، فتكون النسبة بعد دخول أداة الشرط مغايرة مع النسبة قبل دخولها من قبيل التغاير بين النسبة في ( جاء زيد ) والنسبة في ( مجيء زيد ) ، فبهذا الاعتبار لا يصح السكوت على الجملة بعد دخول الأداة عليها لعدم إمكان السكوت على النسبة الناقصة.

الاحتمال الثاني ـ أَنْ يقال انَّ النسبة التامة التي كانت ثابتة بين الفعل والفاعل تبقى على حالها ولا تتغير ولكن مع هذا لا يصح السكوت باعتبار انَّ أداة الشرط لها سنخ معنىً ينتظر معه مجيء شيء زائداً على الشرط ، فجملة الشرط بدون الجزاء كاملة إلاّ انَّ معنى الأداة لا يكتمل إلاّ بمجيء الجزاء ، ومن هنا لا يصح الاكتفاء بجملة الشرط لو دخل عليها أداة الشرط.

والاحتمال الأول يناسب كلا المبنيين في المقام ، بمعنى انه يمكن لكل من المشهور والمحقق ( قده ) أَنْ يدّعي انَّ النسبة تتغير وتتبدل إلى النسبة الناقصة بمجرد دخول أداة الشرط عليها ، وامّا الاحتمال الثاني فهو يناسب مع مبنى المشهور فانهم يقولون بأنَّ أداة الشرط وضعت للربط بين الشرط والجزاء ومن الواضح انَّ معنى الارتباط لا يكتمل إلاّ بثبوت كلا طرفيه بينما لا يناسب هذا الاحتمال مع مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) فانه لو كانت النسبة في نفسها تامة فلما ذا لا يمكن الاكتفاء بجملة الشرط بمجرد افتراض هذه النسبة وجعلها مقدَّرة الوجود؟ وليس الافتراض من قبيل الربط حتى يحتاج إلى طرف اخر وينتظر إلى شيء اخر غير متعلقه (١).

__________________

(١) الانتظار باعتبار انَّ الأداة عند ما دلّت على الفرض والتقدير أصبح مدلول النسبة التامة فرضية لا واقعية والفرض لا يفيد تصديقاً فينتظر النسبة التي يراد التصديق بها إذا كانت خبرية أو إنشاؤها إذا كانت إنشائية.

بل مدعى المشهور سوف يواجه مشكلة كيفية الربط بين نسبتين تامتين فانَّ النسبة إذا لم تكن ناقصة بل تامة فلا تتحمل ربطاً وانما تتحمل التقدير والفرض أو التصديق فانه لو أُريد من الربط الربط الناقص أي النسبة الناقصة فهذه النسبة تحليلية

١٥٣

وحينئذ إذا أمكننا أَنْ نثبت عدم صحة الاحتمال الأول وتعين الاحتمال الثاني فلا محالة يثبت صحة مبنى المشهور في قبال مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) وتوضيح عدم صحة الاحتمال الأول يكون ببيان امرين :

الأول ـ انَّ جملة الشرط لها مدلول تصديقي وهذا شيء اعترف به نفس المحقق الأصفهاني ( قده ) أيضاً ، فانه يقول بأنَّ الأداة تفيد انَّ مدخولها واقع موقع الفرض والتقدير ، ومقصودة ( قده ) انها تكشف عن ثبوت الفرض والتقدير في ذهن المتكلم وليس مقصوده انها تدل على مفهوم الفرض بنحو الدلالة التصورية.

الثاني ـ انَّ المدلول التصديقي لا يكاد يثبت إلاّ مع النسبة التامة دون الناقصة ، وهذا شيء فرغنا عنه في بحث الفرق بين النسبة التامة والنسبة الناقصة.

اذن النسبة في جملة الشرط حتى بعد دخول الأداة تكون تامة وهذا يعني صحة الاحتمال الثاني دون الأول ، فيتعين مبنى المشهور لا محالة القائل بأنَّ الأداة موضوعة للربط بين الجملتين لا لإفادة انَّ مدخولها واقع موقع الفرض والتقدير. هذا مضافا إلى انَّ الوجدان قاض بذلك في اللغة العربية وأظن انه في بقية اللغات أيضا كذلك.

المرحلة الثانية ـ بعد انَّ اتضح انَّ أداة الشرط تدل على الربط بين الشرط والجزاء لا بدَّ وأَنْ نتكلم في انها تدل على الربط بين المدلولين التصوريين للشرط والجزاء أو تدل على الربط بين المدلولين التصديقين لهما (١).

__________________

وأطرافها لا بدَّ وأَنْ تكون مفاهيم إفرادية لا نسب تامة حقيقية ، بل النسب الناقصة خلف مقصود المشهور إذ المفروض انَّ نسبة الجزاء إلى الشرط نسبة تامة يصح السكوت عليها ولو أُريد من الربط النسبة التامة فنحن لا نتعقل نسبة تامة بين نسبتين إلاّ الفرض والتقدير ، أي تكون إحداهما تحديداً لوعاء صدق الأخرى إذ لا يعقل التصادق بين نسبتين لأنهما متعددتان ذاتاً وخارجاً وانما التصادق بين مفهومين يتحدان ويتصادقان خارجاً في وجود واحد ولهذا كانت النسبة التامة وعائها وموطنها الحقيقي الذهن لا الخارج.

وامّا التلازم والارتباط والالتصاق فكل ذلك معاني خارجية إذا كانت نسبة فهي تحليلية وناقصة على ما حققناه في بحث النسب.

(١) هذا التعبير لا بدَّ وأَنْ يكون مسامحة إذ لا يمكن أَنْ يوجد للجملة الواحدة شرطية كانت أم حملية إلاّ مدلول تصديقي واحد لا مدلولان تصديقيان ، وفي الشرطية المدلول التصديقي امّا أَنْ يكون بإزاء جملة الجزاء أو بإزاء نفس الشرطية والتعليق بين الجزاء والشرط فيفرغ حينئذ كل من الجزاء والشرط عن مدلولهما التصديقي.

١٥٤

فمثلاً قولنا ( إِنْ جاء زيد فأكرمه ) هل كلمة الشرط تدل على انَّ النسبة الإرسالية بين الإكرام والمكلف هي المعلقة على الشرط حتى يكون المدلول التصوري للجزاء معلقا؟ أو انها تدل على انَّ الإلزام والإيجاب الثابت في نفس المولى يكون معلقا على الشرط حتى يكون المدلول التصديقي للجزاء معلقا؟ وليس المقصود من الشق الأول انَّ المدلول التصديقي للجزاء سوف لا يكون معلقا بل يمكن أَنْ يكون المدلول التصديقي أيضا معلقا لكن بتبع المدلول التصوري فأولاً وبالذات تربط الأداة بين المدلولين التصوريين ثم بعد ذلك يسري التعليق إلى المدلول التصديقي.

والصحيح : اختيار الشق الأول وانَّ الأداة تربط الجزاء بالشرط في مرحلة المدلول التصوري لا التصديقي ، والمنبه على ذلك انه قد لا يوجد هناك مدلول تصديقي بإزاء الجزاء أصلا امّا لعدم وجود مدلول تصديقي للكلام رأساً ، كما إذا صدرت الجملة الشرطية من غير العاقل الملتفت كآلة التسجيل مثلا ، وامّا لأن المدلول التصديقي موجود للكلام ولكنه ليس موازيا للجزاء بل يكون موازيا لما دخل على الجملة الشرطية وذلك كما إذا قيل : ( هل إِنْ جاء زيد فتكرمه أو ليس إذا جاء زيد فتكرمه ) فانَّ المدلول التصديقي هو الاستفهام عن الجملة أو نفي مفاد الجملة دون إثبات الإكرام بنحو الاخبار أو بنحو الإنشاء ، ومع عدم وجود مدلول تصديقي للجزاء كيف يمكن للأداة

__________________

فإذا افترض انَّ المدلول التصديقي بإزاء الجزاء ترتب على ذلك امران :

الأول ـ انَّ ربط المدلول التصديقي للجزاء بالشرط ابتداءً ومن دون ربط المدلول التصوري لجملة الجزاء بالشرط غير صحيح في نفسه ، لأنَّ التقييد ليس من قبيل الإطلاق كاشفاً ابتداءً عن تقيد المدلول التصديقي بل بتبع تقييد المدلول التصوري ، نعم إذا كان القيد ابتداءً ناظراً إلى المراد والمدلول الجدي بأَنْ قال ( أكرم زيداً ) ثم قال مرادي مقيّد بصورة مجيئه كشف ذلك عن تقييد المدلول التصديقي ابتداءً ولكن من الواضح انَّ جملة الشرط لا نظر فيها ابتداءً إلى المراد الجدي ومع تجاوز مرحلة المدلول التصوري.

الثاني ـ ربط المدلول التصديقي للجزاء بالشرط بعد فرض انَّ المدلول التصديقي للجملة الشرطية بإزاء الجزاء لا يكون إلاّ بأحد وجهين :

١ ـ أَنْ يكون التعليق على الشرط بنحو النسبة الناقصة وتكون الشرطية بحكم الوصفية ، وهذا ما تقدم انه خلاف ظاهر الشرطية وخلاف للمقصود ولا يرضى به المشهور أيضاً.

٢ ـ أَنْ تكون جملة الشرط تقييداً وتحديداً لوعاء صدق جملة الجزاء وفرض ثبوته ، وهذا هو ما قاله المحقق الأصفهاني ( قده ) وعلى كلا التقديرين فسوف لن يكون للجملة مفهوم إلاّ إذا جرى الإطلاق في الحكم بنحو مطلق الوجود الّذي لو تم في مورد ثبت المفهوم حتى للوصف فضلا عن الشرط.

١٥٥

أَنْ تربط بين المدلولين التصديقيين؟

نعم لو بنينا على انَّ الوضع يوجب الدلالة التصديقية لا الدلالة التصورية كما يقول السيد الأستاذ فنضطر أَنْ نقول انَّ الأداة توجب الربط بين المدلول التصديقي للجزاء والمدلول التصديقي للشرط ، إذ ليس للجزاء والشرط مدلول تصوري ناشئ من الوضع حتى يقال انَّ الأداة تدل على الربط بين المدلولين التصوريين. وحينئذ يقع مثل السيد الأستاذ في مثل قولنا ( هل إِنْ جاء زيد فتكرمه ) في إشكال ، فانه لو قال : انه لا يستفاد أي ربط بين الشرط والجزاء ، فهذا واضح البطلان فانَّ المتكلم يكون في مقام الاستفهام عن الربط فلا بدَّ من ربط حتى يسأل عنه ، ولو قال : انَّ الأداة تدل على الربط بين المدلول التصوري للجزاء والمدلول التصوري للشرط ، فهو لا يعترف بوجود مدلول تصوري لجملة الشرط أو لجملة الجزاء ، ولو قال : انَّ الأداة تدل على الربط بين مدلولين تصديقيين ، فلا يوجد مدلول تصديقي بإزاء الشرط أو الجزاء ، فيضطر أَنْ يلتزم بأنَّ مجموع الجملة الشرطية مع أداة الاستفهام موضوعة بوضع واحد مندمج للاستفهام عن الربط بين مفهوم مجيء زيد وبين النسبة الإرسالية بين الإكرام والمكلف من دون أَنْ يفترض تعدد الدال والمدلول ، يعني من دون أَنْ يفترض انَّ جملة الشرط دلت على مفهوم مجيء زيد وجملة الجزاء دلت على النسبة الإرسالية وأداة الشرط دلت على الربط بين المعنيين.

ثم انه بعد أَنْ اتضح انَّ الأداة تفيد الربط بين المدلولين التصوريين ينبغي أَنْ نبحث عن انه هل يسري الربط من المدلول التصوري إلى المدلول التصديقي أو لا؟

وهذا البحث انما يقع في مورد يكون للجملة الشرطية مدلول تصديقي لا فيما إذا كان المدلول التصديقي بإزاء الأداة الداخلة على الجملة الشرطية كأداة الاستفهام أو أداة النفي ، فانه مع عدم ثبوت المدلول التصديقي بإزاء الجملة الشرطية لا معنى للقول بأنَّ الربط يسري من المدلول التصوري إلى المدلول التصديقي.

والتحقيق في هذا المقام : انه لو كان المدلول التصديقي موازياً لمفاد هيئة الجملة الشرطية الدالة على النسبة التعليقية بأَنْ يكون المقصود الجدي للمتكلم الاخبار عن انَّ النسبة في الجزاء ـ سواء كانت نسبة تصادقية كما لو فرض الجزاء جملة خبرية

١٥٦

أو كانت نسبة إنشائية طلبية ـ معلّقة على الشرط فلا إشكال حينئذ في عدم سريان التعليق والربط إلى المدلول التصديقي ، لأنه عبارة عن الاخبار عن الربط والتعليق لا عبارة عن ما يوازي المعلق في المدلول التصوري فكيف يسري التعليق إليه؟ فانَّ التعليق انما يمكن أَنْ يسري إلى المدلول التصديقي فيما إذا كان المدلول التصديقي موازيا للجزاء الّذي هو المعلَّق في المدلول التصوري.

وامّا لو كان المدلول التصديقي موازيا لمفاد الجزاء في الجملة الشرطية لا موازيا لمفاد أصل الجملة الشرطية فحينئذ امّا أَنْ يكون الجزاء جملة إخبارية كما إذا قيل : ( إذا جاء زيد فأصافحه ) ، وامّا أَنْ يكون جملة إنشائية كما إذا قيل ( إذا جاء زيد فأكرمه ) ، فلو كان الجزاء جملة إخبارية فمن المعقول أَنْ يكون المدلول التصديقي معلقا أيضا ، كما إذا كان مقصود المتكلم أَنْ يخبر عن انه سوف يصافح زيداً لكن ليس مقصوده الاخبار الفعلي المطلق وانما مقصوده الاخبار المشروط والمنوط بمجيء زيد فيخبر عن المصافحة اخباراً منوطا بمجيء زيد فكأنما الاخبار على تقدير مجيء زيد ، كما انه من المعقول أَنْ لا يكون المدلول التصديقي معلقاً كما إذا قصد أَنْ يخبر بالفعل ويحكي بالفعل عن خصوص الحصة المعلقة لمفاد الجزاء فيخبر عن انه سوف أصافح تلك المصافحة التي تكون مشروطة بمجيء زيد ، وهذا لازمه انه لو لم يجئ زيد لكان هذا الشخص كاذبا إذ سوف لا يصافح تلك المصافحة التي تكون ثابتة عند مجيء زيد (١).

__________________

(١) إذا أُريد تعليق الإنشاء والجعل أو الحكاية والاخبار فمن الواضح انَّ التعليق انما يعقل في المفاهيم التي تنشأ وتعتبر أو يخبر عنها لا في نفس الإنشاء والاخبار اللذان هما الأمران التصديقيان ، وإِنْ أُريد تعليق المنشأ والمخبر به أي النسبة الحكائية التصادقية أو الإنشائية الإرسالية. فحينئذ وإِنْ كان قد يقال بأنَّ الإنشاء والجعل أو الاخبار والحكاية معلّق إلاّ انه بالعرض والمجاز وبلحاظ مجعوله ومحكيه وامّا نفس الجعل والحكاية ففعلي من غير فرق بينهما.

وامّا ما ذكر في مثال الاخبار عن المصافحة المقيدة بمجيء زيد فهو من أخذ المجيء قيداً في متعلَّق المخبر به لا نفسه أي الاخبار عن وقوع المصافحة المقيدة بالمجيء فيدل على الاخبار عن مجيء زيد فانَّ الأوصاف بعد العلم بها اخبار وليس المجيء قيداً للوقوع والنسبة التصادقية. وهكذا يتضح انَّ ربط المدلول التصديقي للجزاء بالشرط بالمعنى المعقول لتقييده لا يعقل إلاّ بأَنْ يكون المدلول الأساسي ومركز الجملة الشرطية هو الجزاء سواء كان إنشاءً واخباراً ، وهذا لا يناسب إلاّ مع مقالة المحقق الأصفهاني من انَّ الشرط لمجرد الفرض وتقدير وعاء الإنشاء والاخبار في الجزاء وانه ليس مطلقا بل في تقدير خاص ، فالجمع بين أَنْ يكون المدلول التصديقي في طرف الجزاء وفي نفس الوقت يكون مقيداً بالشرط على مبنى المشهور غير ممكن.

١٥٧

إلاّ إِنَّ هذا القسم الأخير خلاف الظاهر ، فانه لو كان المدلول التصديقي موازيا لمفاد الجزاء فأصالة التطابق بين مقام الثبوت ومقام الإثبات يقتضي أَن يكون المدلول التصديقي أيضا معلقا كالمدلول التصوري.

وامّا إذا كان الجزاء جملة إنشائية كما إذا قيل ( إذا جاء زيد فأكرمه ) فالمدلول التصديقي حينما يكون موازيا للجزاء كما هو المفروض والّذي هو عبارة عن إيجاب الإكرام يجب أَنْ يكون معلقا على الشرط ومقيداً به فيجعل وجوب الإكرام مشروطا بمجيء زيد ، ولا يمكن أَنْ يفترض عدم تقييده إذ لو لم يكن جعل الوجوب مقيداً بالشرط فامّا يقال : انَّ نفس الوجوب مقيد بالشرط بأَنْ يجعل الوجوب المقيد ، وهذا يرجع في الحقيقة إلى تقييد نفس الجعل إذ الصحيح انه لا واقع للمجعول في مقابل الجعل فتقييد المجعول يعني تقييد الجعل كما انَّ تقييد الجعل يعني تقييد المجعول (١).

وامّا يقال : بأنَّ نفس الوجوب أيضا غير مقيد فيجعل بالفعل وجوبا فعليا غير مقيد ، فلما ذا في مقام إبراز مثل هذا الوجوب الفعلي بيّن الجملة الشرطية بل كان ينبغي أَنْ يقتصر على الجزاء من دون ذكر الشرط ويقول ( أكرم زيداً ) فمقتضى أصالة التطابق بين مقام الثبوت والإثبات انَّ المدلول التصديقي لو كان موازيا للجزاء فلا بدَّ وأَنْ يكون معلقا على الشرط كما انَّ المدلول التصوري للجزاء معلّق عليه.

والمتلخص مما ذكرنا : انَّ المدلول التصديقي لو كان موازيا لمفاد هيئة الجملة الشرطية فلا يسري التعليق إلى المدلول التصديقي ولو كان موازيا لمفاد الجزاء فالظاهر السريان ، سواءً كان الجزاء جملة إخبارية أو إنشائية.

__________________

(١) اتضح عدم الفرق بين الجملتين الشرطيتين الإنشائية والاخبارية من هذه الناحية ، فانَّ التقييد بالشرط إِنْ كان بنحو النسبة الناقصة المأخوذة في طرف الجزاء كان الجعل مطلقا كما يكون الاخبار مطلقا ، وإِنْ كان التقييد بالشرط تقييداً للنسبة المخبر عنها أو المنشأة في جملة الجزاء كان الجعل والإنشاء وكذلك الاخبار مشروطاً بالعرض والمجاز أي بلحاظ المجعول والمخبر به.

فالحاصل : كما يمكن الاخبار عن وقوع المصافحة المقيدة بالمجيء يمكن إيجاب المصافحة المقيدة بالمجيء ولكن يكون مجيء زيد قيداً في المصافحة الواجبة في الإنشاء فيجب تحصيله وفي المصافحة المخبر عنها في الاخبار فيكون اخباراً عن تحققه بقانون انَّ الأوصاف بعد العلم بها اخبار وليس قيداً للوجوب لا بمعنى الجعل ولا المجعول كما لم يكن قيداً للاخبار لا بمعنى الاخبار ولا النسبة المخبر عنها فلا فرق بين الجملتين من هذه الناحية كما هو مقتضى الوجدان اللغوي.

١٥٨

وينبغي البحث في ما هو الظاهر من الاحتمالين ، فهل الظاهر هو موازاة المدلول التصديقي لمفاد هيئة الجملة الشرطية أو الظاهر موازاة المدلول التصديقي لمفاد الجزاء؟.

قد يقال : بأنَّ الظاهر الثاني لأنَّ الأول مخالف لما تقتضيه أصالة التطابق بين عالم الثبوت وعالم الإثبات ، فانه في عالم الإثبات يكون المدلول التصوري للجزاء معلقاً ويكون المدلول التصوري فيما إذا كان الجزاء جملة إنشائية عبارة عن النسبة الإرسالية بينما لو كان المدلول التصديقي موازيا لمفاد هيئة الجملة الشرطية لكان المدلول التصديقي غير معلق وكان المدلول التصديقي مخالفاً مع المدلول التصوري وهذا بخلاف ما إذا كان المدلول التصديقي موازيا لنفس الجزاء.

والصحيح : عدم إمكان المساعدة على هذا فانَّ المدلول التصديقي انما ينبغي أَنْ يكون مطابقا مع المدلول التصوري فيما إذا كان موازيا لنفس ذاك المدلول التصوري لا فيما إذا كان موازيا لمدلول تصوري آخر ، فكيف يعقل أَنْ يبرهن على لزوم أَنْ يكون المدلول التصديقي موازيا للجزاء بأصالة التطابق بين المدلول التصديقي والمدلول التصوري للجزاء ، بل الصحيح انَّ الظاهر هو الاحتمال الأول أي انَّ المدلول التصديقي موازٍ لنفس مفاد هيئة الجملة الشرطية وذلك باعتبار انه بحسب عالم المدلول التصوري تكون النسبة الإرسالية طرفا للنسبة التعليقية ، فانَّ النسبة التعليقية نسبة بين مفاد الشرط ومفاد الجزاء وليست النسبة التعليقية طرفا للنسبة الإرسالية بل النسبة الإرسالية قائمة بطرفين مستقلين لها ، وبهذا الاعتبار يكون المركز والمحور والمنظور الأساسي في المداليل التصورية هو النسبة التعليقية لا النسبة الإرسالية فكأنما جيء بالنسبة الإرسالية كي يتم أطراف النسبة التعليقية.

وحينئذ لو كان المدلول التصديقي والمنظور الأساس فيه هو النسبة التعليقية تطابق المدلول التصديقي مع المدلول التصوري ، واما لو كان المدلول التصديقي بإزاء النسبة الإرسالية فتعكس الآية ويكون المنظور الأساس هو النسبة الإرسالية وتكون النسبة التعليقية منظورة بالتبع ، ومقتضى أصالة التطابق بين مقام الثبوت والإثبات انَ

١٥٩

مدلول التصديقي موازٍ مع النسبة التعليقية لا النسبة الإرسالية (١).

المرحلة الثالثة ـ بعد أَنْ عرفنا انَّ التعليق يكون أولاً وبالذات بلحاظ المدلول التصوري للجزاء لا بلحاظ المدلول التصديقي له يقع البحث في انَّ المعلق هل هو المدلول التصوري للهيئة في الجزاء أو المدلول التصوري للمادة في الجزاء؟ فانَّ الجزاء مركب من هيئة تدل على النسبة الإرسالية ـ فيما إذا كان جملة إنشائية ـ ومن مادة تدل على مفهوم اسمي خاص وهو الإكرام مثلا. فهل المعلق على الشرط هو النسبة الإرسالية أو انَّ المعلق هو الإكرام؟.

فلو قيل : انَّ المعلق الإكرام كما ذهب إليه الشيخ الأعظم ( قده ) استشكل عليه :

بأنه حينئذ لا يبقى فرق بين قيد الوجوب وقيد الواجب لأنّ الشرط يصبح بناء على هذا قيداً للواجب مع انه لا إشكال في انه لا يجب تحقيق الشرط في مقام امتثال الجملة الشرطية فلو قيل ( إِنْ جاء زيد فأكرمه ) لا يجب أَنْ نأتي بزيد كي نكرمه فكيف يقال انَّ المجيء قيد للإكرام الواجب؟ ولو قيل : انَّ المعلق نفس النسبة الإرسالية قلنا انَّ النسبة معنى حرفي آلي والمعنى الحرفي يستحيل أَنْ يُعلَّق على شيء ويُقيد به ، وذلك أولاً : لأنَّ تعليقه وتقيده فرع أَنْ يلحظ استقلالاً والمعنى الحرفي لا يكون ملحوظا بالاستقلال. وثانياً : المعنى الحرفي أمر جزئي لا يقبل التقييد فكيف يقيد بالشرط؟

ومن هنا وقع التحير في انَّ المعلق على الشرط ما هو هل هو مفاد المادة أو الهيئة؟

__________________

(١) أشرنا فيما سبق إلى انَّ النسبة التعليقية كالنسبة التصادقية نسبة خبرية فيلزم على هذا عدم الفرق بين ( إِنْ جاء زيد فأكرمه وإِنْ جاء زيد أكرمه عمرو ) مع وضوح إنشائية الأول وخبرية الثاني.

كما انه كيف نثبت الإنشاء وإيجاب الإكرام بعد أَنْ لم يكن المدلول التصديقي بإزاء النسبة الإرسالية اللهم إلاّ بدلالة التزامية وهو خلاف الظاهر جداً.

مضافاً : إلى انه بناء على انَّ أدوات الإنشاء كصيغ الأمر والنهي موضوعة لإيجاد المعنى باللفظ بالمعنى المعقول في محله للإيجادية ، لا يعقل أَنْ يكون المدلول التصديقي بإزاء النسبة التعليقية بل لا بدَّ وأَنْ يكون بإزاء أدوات الإيجاد والإنشاء التي هي مدلول الجزاء ، وكذلك إذا كان الجزاء جملة إنشائية بالمعنى المقصود في الاعتباريات كقولك ( إِنْ كان هذا الكتاب لي وهبتك إياه ) إنشاءً لا اخباراً. فانه بعد وضوح انَّ الجملة الشرطية أي النسبة التعليقية بين الجزاء والشرط ليست مدلولاً إنشائياً بل حكائي ففي مثل هذه الجمل لو فرض انه يوجد إنشاء في طرف الجزاء يلزم أَنْ يكون للشرطية مدلولان تصديقيان ، وقد ذكرنا انَّ الجملة الواحدة لا تتحمل أكثر من مدلول تصديقي واحد ، وان فرض انَّ الجزاء مفرّغ عن الإنشاء وإيجاد المعنى الحقيقي أو الاعتباري كان خلاف الظاهر ، ألا ترى الفرق بين وهبتك الكتاب إنشاءً في الشرطية وبين الاخبار عن انه يهبه الكتاب؟ وهذا أيضا منبه اخر على صحة مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) في تحليل الجملة الشرطية.

١٦٠