بحوث في علم الأصول - ج ٣

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٥

وعلى الثاني يكون مقتضى المفهوم عموم الانتفاء أي السالبة الكلية لا من جهة ما ينقل عن الميرزا ـ قده ـ في بعض المقامات من انَّ النقيض العرفي للموجبة الكلية السالبة الكلية خلافا للنقيض المنطقي ، فانَّ هذا الكلام غير تام إذا العرف أيضا يفهم التناقض بمجرد ثبوت السلب الجزئي بلا حاجة إلى أَنْ يكون كليا كما إذا قلت له ( كل من في العسكر مات وبعضهم لم يمت ) وانما باعتبار كون المعلق في هذا الفرض ذات العام أي الأحكام الملحوظة بنحو الاستغراق والكثرة تنتفي جميعا إذا انتفى الشرط.

وعلى الثالث الّذي لوحظ فيه مجموع الأحكام كمركب واحد لا يثبت بالمفهوم أكثر من انتفاء هذا المجموع فلا ينافي ثبوت البعض. نعم بناء على بعض المباني في استفادة المفهوم قد يقال باستفادة عموم الانتفاء في طرف المفهوم أيضا وهو المبنى القائل بالمفهوم على أساس استفادة العلّية المنحصرة بضميمة الإطلاق الأحوالي للشرط بلحاظ اقترانه مع علّة أخرى محتملة وعدمه ، فانَّ مقتضاه كون الشرط علّة مستقلة في جميع الأحوال فيقال انَّ مقتضى الإطلاق الأحوالي كون الشرط علّة تامة مستقلة للمجموع سواءً اقترن بتحمل العلّيّة أم لا وهذا ينفي وجود علّة أخرى حتى للبعض إذ لو كان موجوداً لكان الشرط في حال الاقتران بها علّة غير مستقلة بلحاظ ذلك البعض فلم تصبح علّة مستقلة لذات العام.

واما بحسب مقام الإثبات. فإذا فُرض انَّ الدال على العموم كان بنحو المعنى الاسمي ككلمة ( كلّ ) و( جميع ) فكأنه قال ( إذا جاءك زيد فأكرم عموم الفقراء ) فالمستظهر حينئذ هو الفرضية الأولى أي تعليق العموم على الشرط ، وهذا لا ينافي كون الحكم منحلا في طرف المنطوق إلى عدة أحكام فانَّ هذا الانحلال بلحاظ المنطوق ومناسباته إذ لا معنى لثبوته على عنوان العموم بنحو الموضوعية فلا محالة تكون مرآة للافراد بنحو الانحلال ، وامّا بلحاظ الحكم بالتعليق فالمعلق انما هو وجوب العموم بعنوانه. وإِنْ شئت قلت : انَّ هذا عرفاً في قوة أَنْ نقول عموم الوجوبات متوقفة على الشرط. واما إذا كان العموم بنحو المعنى الحرفي كالجمع المحلّى باللام بناءً على دلالته على الاستغراق فمقتضى القاعدة هو الفرضية الثانية لانحلال الحكم الّذي هو موضوع التعليق إلى أحكام عديدة ومقتضى الإطلاق تعليقها جميعا بنحو الاستغراق إلاّ أَنْ

١٨١

تقوم قرينة على ملاحظة التركيب والمجموعية فتثبت الفرضية الثالثة.

التنبيه الرابع : لا إشكال فيما إذا تعدد الشرط في الجملة فقيل ( إذا رزقت ولداً ذكراً فتصدق ) انَّ تكثر الشرط يستوجب ضيق دائرة المنطوق واتساع دائرة المفهوم وانما الكلام في صورة العكس كما إذا قيل ( لو رزقت ولداً فتصدق على الفقير وصلِّ ركعتين ) فهل تدل الشرطية حينئذ على انتفاء جميع الأحكام المذكورة في الجزاء عند انتفاء الشرط أو انتفاء المجموع فلا ينافي ثبوت بعضها؟

الصحيح انه بحسب الثبوت نتصور ثلاث فرضيات :

الأولى : أَنْ يكون العطف في طول التعليق أي علق الحكم الأول على الشرط ثم عطف عليه الحكم الثاني فيرجع إلى تشريكه مع الأول في التعليق ومقتضاها انتفاء الجميع بانتفاء الشرط.

الثانية : أَنْ يكون التعليق في طول العطف بأَنْ يجمع بين الحكمين في مرتبة سابقة على التعليق ويوحّد بينها ثم يعلق المجموع بما هو مجموع على الشرط ومقتضاها انتفاء المجموع.

الثالثة : أَنْ يكون التعليق في طول العطف ولكن من دون افتراض الوحدة والتركيب بين الحكمين في مقام التعليق. ومقتضاه انتفاء الجميع أيضا كالأول.

وبحسب مقام الإثبات قد يقال بتعين الفرضية الثالثة دون الأولى والثانية : لأنَّ الثانية فيها افتراض مئونة المجموعية وهي بحاجة إلى قرينة ومجرد العطف لا يقتضيه لأنه لا يدل على المعية والاقتران الخارجي كي يكون مأخوذاً في المدلول اللفظي ، وامّا الأولى فباعتبار ما قد يتصور من انَّ العطف معنى حرفي فيكون نسبة ناقصة ومعه يستحيل أَنْ تكون في طول التعليق الّذي هو النسبة التامة في الجملة لما تقدم من انَّ النسب الناقصة تؤخذ دائما في أطراف النسب التامة ولا تكون في عرضها أو في طولها وإلاّ لبقي الكلام غير تام ، ولهذا لا يكون قولنا ( زيد وعمرو ) مما يصح السكوت عليه ، وهذه النتيجة وإِنْ كانت صحيحة إلاّ انَّ إبطال الفرضية الأولى المشتركة مع الثالثة في النتيجة مبنيٌّ على أَنْ يكون المعطف ، معنىً حرفياً ونسبة ناقصة ، وامّا إذا قلنا بأنها نسبة تامة لكونه نسبة غير خارجية بل ذهنية من أجل إخطار المعنى الاخر إلى الذهن

١٨٢

وتشريكه في الحكم فلا يتم الكلام المزبور ، والنقص الملحوظ في قولنا ( زيد وعمرو ) ليس من ناحية نقصان نسبة العطف وانما من جهة عدم وجود ما يشترك به زيد وعمرو هو الحكم في الكلام ، والشاهد على عدم كون العطف نسبة ناقصة صحة عطف الجملة على الجملة ، وعليه فيرجع العطف لبّا إلى تشريك الحكم الثاني مع الحكم الأول في التعليق فكأنه كرر الشرط فقيل ( إذا رزقت ولداً فتصدق وإذا رزقت ولدا فصلِّ ركعتين ) ولعل هذا هو المنشأ الفطري لما قيل من انَّ العطف في قوة التكرار ، وبهذا يعرف أيضاً انَّ الفرضية الأولى والثالثة ترجع إلى فرضية واحدة بمعنى انه لو جعلنا العطف نسبة تامة ذهنية ـ كما هو المحقّق عندنا في مباحث المعنى الحرفي ـ فلا يتصور أكثر من فرضية واحدة هما تشريك الحكمين في التعليق كأنه قد كرر.

التنبيه الخامس : إذا ورد قيد على مفاد الأمر بغير سياق الشرط كما إذا قال ( أكرم زيدا عنه مجيئه ) فلا إشكال بحسب الوجدان في عدم دلالته على المفهوم وانتفاء طبيعيّ الحكم بانتفاء القيد ولم تقع من قبل أحد من مدعي المفهوم للجملة الشرطية فيما نعلم دعوى دلالته عليه ، وانما الكلام في كيفية تخريج الفرق بينه وبين ما إذا وقع نفس القيد في سياق الشرط ، وكل تخريج من تخريجات المفهوم المتقدمة لجملة الشرط لو كان جارياً في هذا النحو من التقييد أيضاً كان ذلك نقضاً عليه.

والصحيح في المقام أَنْ يقال : انَّ ثبوت المفهوم للجملة الشرطية كما تقدم يتوقف على إثبات انَّ المعلَق طبيعيّ الحكم لا شخصه وطريقة إثبات ذلك هو إجراء مقدمات الحكمة فيه ، وإجراء مقدمات الحكمة في مفاد الجزاء يتوقف على أَنْ لا يكون المدلول التصديقي في الجملة الشرطية بإزاء جملة الجزاء لكي يبقي مفادها مدلولا تصورياً بحتاً صالحا للإطلاق والتقييد باعتباره يقع طرفا للمدلول التصديقي الّذي هو التعليق ، وهذا يتوقف على أَنْ تكون النسبة الربطية نسبة تامة يعقل أَنْ يقع بإزائها مدلول تصديقي كما هو كذلك في الربط بين النسبة الحكمية في طرف جملة الجزاء والنسبة في طرف جملة الشرط المدلول عليها بالأداة فانَّ هذا الربط نسبة تامة على ضوء ما تقدم من البرهان عليه في مناقشة مسلك المحقق الأصفهاني ( قده ) ، بل هذه نسبة ذهنية لا موطن لها في الخارج فانَّ فحوى هذا الربط كفحوى النسبة التصادقية عبارة أخرى عن قولنا

١٨٣

كلّما صدقت النسبة في طرف الشرط صدقت النسبة في طرف الجزاء أي النسبة الصدقية والصدق والتصادق من شئون المفاهيم ، فتكون من النسب في عالم الذهن ، وقد ذكرنا مراراً انَّ النسب الذهنية تكون تامة ، وعليه فيتفرع مفاد الجزاء عن المدلول التصديقي ويكون مدلولاً تصورياً طرفا للنسبة الربطية التامة فيجري فيه الإطلاق حينئذ على حدِّ جريانه في أطراف سائر النسب الحكمية التامة ، وهذا التخريج لا يجري إلاّ في مورد تكون فيه النسبة بين القيد والحكم نسبة تامة كالنسبة الشرطية الالتصاقية ، وامّا إذا كانت ناقصة كما في التقييد في المثال المذكور الّذي يدل على نسبة الربط الخارجي بين وجوب الإكرام ومجيء زيد فلا يمكن إجراء الإطلاق فيه لإثبات ان المقيد به طبيعي الحكم ، وهذه نكتة عامة تجري في تمام موارد عدم المفهوم على ما سوف يتضح.

ثم انَّ الركن الأول للمفهوم عندنا أيضا غير موجود في هذا النحو من الجمل المقيدة وهو الدلالة على النسبة التوقفية لأنَّ التقييد بـ ( عند ) ونحوه لا يدل على أكثر من التخصيص والتقييد فلا تدل على التوقف أو التعليق كي يدل على الانتفاء عند انتفاء القيد.

التنبيه السادس : إذا كانت أداة الشرط اسماً يقع نفسه موضوعا للحكم كقولنا ( من أكرمك أكرمه ) فالصحيح عدم دلالة الشرطية حينئذ على المفهوم ، والوجه في ذلك ما ذكرناه في التنبيه الأول لتخريج عدم دلالة الشرطية المسوقة لتحقق الموضوع على المفهوم ، لأنَّ انتفاء الشرط في المقام يساوق انتفاء موضوع الحكم في الجزاء والمفروض انَّ المعلق على الشرط انما هو الحكم المقيد بموضوعه لا طبيعيّ الحكم وانتفائه بانتفاء الموضوع عقلي ثابت في الجمل الحملية أيضا.

التنبيه السابع : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء في جملتين شرطيتين بأَنْ علق حكم واحد على كل من الشرطين كما في المثال المعروف ( إذا خفي الأذان فقصر ، وإذا خفيت الجدران فقصر ). فسوف يقع التعارض بين إطلاق المفهوم في كل منهما فيلتزم بوجود علّتين مستقلتين لوجوب التقصير وهذا رفع لليد عن الإطلاق المقابل بأو المثبت

١٨٤

للانحصار ، أو يرفع اليد عن إطلاق المنطوق لكل منهما المقابل للعطف بالواو فيثبت انَّ مجموعهما علّة واحدة لوجوب التقصير.

وقد أفاد المحقق النائيني ( قده ) في المقام : انه يقع التعارض والتساقط بين الدليلين لأنه من التعارض بين إطلاقين ، ثم أشكل على نفسه بأنه قد يقال بتعين الإطلاق المقابل للتقييد بأو للسقوط لأنه متفرع على الإطلاق المقابل للعطف بالواو ، لأنَّ الانحصار في العلّةِ في طول إثبات أصل العلّية (١).

وأجاب عنه بجواب قد اختلف المقرران لكلام الميرزا في بيانه ، ونحن نعتمد على أحدهما (٢) ، وحاصله : انَّ التعارض بملاك العلم الإجمالي بكذب أحد الإطلاقين ، ونسبته إلى كلّ منهما على حد سواء وإِنْ فرض وجود طولية بينهما في الرتبة فيسقطان معاً عن الحجيّة ، ويرجع بعد ذلك إلى الأصل العملي الّذي يقتضي رفع اليد عن الإطلاق المقابل للعطف بالواو إذ يشك في وجوب القصر عند تحقق أحد الشرطين منفرداً عن الآخر فتجري البراءة عنه.

وهذا الّذي أفاده يحتوي على ثلاثة مقاطع لا بدَّ من إفرازها والتعليق على كل منها مستقلا.

المقطع الأول : انَّ مقتضى الأصل العملي بعد التساقط هو التقييد بالواو أي رفع اليد عن إطلاق المنطوق.

وهذا الكلام إذا أُريد به انَّ مقتضى الأصل العملي هو ذلك في خصوص هذا المثال ورد عليه.

أولا ـ انَّ مقتضى القاعدة بعد التساقط الرجوع إلى العموم الفوقاني الدال على وجوب التقصير في السفر الصادق قبل خفاء الجدران أو الأذان ، لأنَّ دليل التقييد المتمثل في هاتين الشرطيتين أجمل بالتعارض فيقتصر على قدره المتيقن وهو ما إذا خفي الجدران والأذان معاً. ولو فرض الشك في صدق مفهوم السفر مع خفاء أحدهما كان

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٤٨٤ ـ ٤٨٩

(٢) وهو ( أجود التقريرات ) لوجود تشويش في فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٤٢٥ ـ ٤٢٦

١٨٥

المرجع عمومات أقيموا الصلاة الدالة على وجوب الصلاة تماماً إذا فرض الإطلاق فيها.

وثانياً ـ لو فرض عدم العموم الفوقي مع ذلك لا تجري أصالة البراءة إذ لو أُريد به أصالة البراءة عن وجوب القصر فهو طرف لعلم إجمالي ، ولو أُريد استصحاب بقاء وجوب التمام فهذا أصل تعليقي في كثير من الأحيان حيث لا يكون الوجوب فيها فعليا قبل بلوغ حد الترخص.

وانْ أُريد تطبيقه بشكل كلي في تمام موارد التعارض بين شرطيتين من هذا القبيل فالإشكال أوضح ، إذ قد لا يكون الحكم المعلق إلزامياً بل ترخيصي ، فيكون مقتضى أصالة البراءة العكس وكفاية أحد الشرطين في رفع الإلزام ، وعلى كل حال لا يوجد هناك ضابط عام للأصل العملي الجاري بعد التساقط بل يختلف الحال من مسألة إلى أخرى فلا بدَّ من ملاحظة كل مورد بخصوصه.

المقطع الثاني : ما أُجيب به على الشبهة القائلة بتعيين الإطلاق المقابل لأو للسقوط ، وهذه الشبهة قد يحاول دفعها بأنَّ الإطلاق المقابل لأو في كل منهما انما يعارض الإطلاق المقابل للواو في الآخر لا في نفس الطرف فلا طولية بين المتعارضين ، إلاّ انَّ هذا الكلام غير تام لأنَّ تقييد منطوق أحدهما بالواو الّذي يعني افتراض الشرط جزء العلّة للجزاء يستلزم لا محالة تقييد منطوق الآخر أيضاً بالواو وإلاّ كانت الشرطية الأولى لغواً ، فالشرطان متلازمان في الجزئية والتمامية ثبوتا إذ لا يعقل جعل الشارع أحدهما جزء الموضوع مع كون الآخر موضوعا مستقلا فيكون المفهوم لأحدهما بعد فرض ثبوت أصل الترتب بالقطع أو بالظهور الوضعي مثبتا لجزئية الشرط فيهما معاً وهذا معنى سريان التعارض إلى منطوق نفس المفهوم.

وامّا ما أفيد في الجواب على الشبهة من قبل الميرزا ( قده ) ، فأيضا غير تام لأنه لو سلمت الطولية بين المدلولين بمعنى أَنْ كانت الدلالة الإطلاقية المثبتة للانحصار تثبت انحصار ما هو العلّة التامة ، فالعلم الإجمالي بكذب هذا الإطلاق أو الإطلاق المقابل بالواو منحل إلى العلم التفصيليّ بكذب الإطلاق المقابل بأو بهذا المعنى ، إذ نعلم وجدانا بعدم كون الشرط علّة تامة منحصرة اما لعدم كونه علّة تامة أو لكونه غير

١٨٦

منحصرة والشك البدوي في كذب الإطلاق المقابل للواو (١).

والصحيح في مقام الجواب عن هذه الشبهة انه لا طولية بين الإطلاقين لا بلحاظ الدال ولا بلحاظ المدلول ، فانَّ السكوت عن الواو يثبت كون الشرط علّة تامة والسكوت عن أو يثبت أنَّ ما وقع شرطاً لا عدل له بحيث إذا انتفى ينتفي الجزء سواءً كان علّة تامّة أم لا ، ويعلم إجمالاً بكذب أحدهما في المقام فيتعارضان.

والمقطع الثالث ـ ما أُفيد من تكافؤ الظهورين المتعارضين لأنَّ كلاًّ منهما بالإطلاق ومقدمات الحكمة فيحكم بالتساقط.

وقد علق على هذا المقطع السيد الأستاذ ، بما يلي :

( الظاهر انه لا بدَّ في محل الكلام من رفع اليد عن خصوص الإطلاق المقابل للعطف بكلمة ( أو ) وإبقاء الإطلاق المقابل للعطف بالواو على حاله ، والسر في ذلك انَّ الموجب لوقوع المعارضة بين الدليلين في المقام انما هو ظهور كل من القضيتين في المفهوم وظهور القضية الأخرى في ثبوت الجزاء عند تحقق الشرط المذكور فيها مع قطع النّظر عن دلالتها على المفهوم وعدم دلالتها عليه ، فلو كان الوارد في الدليلين إذا خفي الأذان فقصر ويجب تقصير الصلاة عند خفاء الجدران ، كان ظهور القضية الأولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب التقصير عند خفاء الجدران متعارضين لا محالة ، وعليه فالمعارضة في محل الكلام انما هي بين مفهوم كل من القضيتين ومنطوق

__________________

(١) واما ما جاء في أصل الشبهة وجوابها في تقريرات ( فوائد الأصول ) من دعوى الطولية بين نفس الإطلاقين وانَّ الأمر دائر بين تقييد أو تقييدين ، والجواب عنه بالقياس بباب دوران الأمر بين تقييد الهيئة أو المادة من كون الأول رافعاً لموضوع الثاني فليس تقييداً بل تخصصا فأوضح فساداً ، إذ يرد عليه :

أولا ـ عدم الطولية بين نفس الإطلاقين في المقام وانما الطولية بين المدلولين ، نعم لو كان الدال على الانحصار ثبوت كون الشرط علّة تامة بأَنْ افترض انَّ الإطلاق المقابل لأو لا يجري إلاّ في العلّة التامة كان من الطولية بين الدالين ولكنه بلا موجب ، وانما الموجب هو عدم العطف بأو ولهذا يبقى المفهوم بالنسبة إلى ما عدا الشرطين حتى لو اعتبرنا كل واحد منهما جزء العلّة ثابتاً.

وثانيا ـ انَّ الصحيح بناء على الطولية بين الإطلاقين التمسك بالإطلاق الأول كإطلاق الهيئة ، لدوران الثاني بين التخصيص والتخصص ولا يمكن التمسك بأصالة عدم التخصيص لإثبات التخصص على ما تقدم في بحث الدوران بين تقييد الهيئة أو المادة.

١٨٧

الأخرى الدال على ثبوت الجزاء عند تحقق شرطه ، وبما انَّ نسبة كل من المنطوقين بالإضافة إلى مفهوم القضية الأخرى نسبة الخاصّ إلى العام لا بدَّ من رفع اليد عن عموم المفهوم في مورد المعارضة ، وبما انه يستحيل التصرف في المفهوم نفسه لأنه مدلول تبعي ولازم عقلي للمنطوق لا بدَّ من رفع اليد عن ملزوم المفهوم بمقدار يرتفع به التعارض ولا يكون ذلك إلاّ بتقييد المنطوق ورفع اليد عن إطلاقه المقابل للتقييد بكلمة أو ، واما رفع اليد عن الإطلاق المقابل للتقييد بالواو لتكون نتيجة ذلك اشتراط الجزاء بمجموع الأمرين المذكورين في الشرطيتين فهو وإِنْ كان موجباً لارتفاع المعارضة بين الدليلين الا انه بلا موجب ضرورة انه لا مقتضي لرفع اليد عن ظهور دليل ما مع عدم كونه طرفا للمعارضة بظهور آخر ولو ارتفع بذلك أيضا التعارض بين الدليلين اتفاقا ، ونظير ذلك ما إذا ورد الأمر بإكرام العلماء ، الظاهر في وجوب إكرامهم ثم ورد في دليل آخر انه لا يجب إكرام زيد العالم فانه وإِنْ كان يرتفع التعارض بينهما بحمل الأمر في الدليل الأول على الاستحباب الا انه بلا موجب يقتضيه إذ ما هو الموجب للتعارض بينهما انما هو ظهور الدليل الأول في العموم فلا بدَّ من رفع اليد عنه وتخصيصه بالدليل الثاني وإبقاء ظهور الأمر في الوجوب على حاله مع انَّ ظهور العام في العموم أقوى من ظهور الأمر في الوجوب ، وهذا هو الميزان في جميع موارد تعارض بعض الظهورات ببعضها الآخر ) (١).

ويستخلص منه ضابطا عاما وتطبيقا له على المقام. وكلاهما مما لا يمكن المساعدة عليه.

امّا الضابط فلأنه إذا فرض وجود ظهور ثالث يكون رفع اليد عنه مستوجبا لارتفاع التعارض بين الدليلين المتعارضين فلا محالة يكون التعارض ثلاثيا لأنَّ المتعارضين بمجموعهما ينفيان ذلك الظهور ، وبتعبير آخر : اما أَنْ يفرض إمكان صدق الظهورين المتعارضين مطلقا أي سواء صدق الظهور الثالث أم لا.

أو يفرض عدم إمكان صدقهما مطلقا أو يفرض إمكان صدقهما معا على تقدير

__________________

(١) هامش أجود التقريرات : ص ٤٢٤ ـ ٤٢٥

١٨٨

كذب الثالث وعدم صدقهما معاً على تقدير صدقه ، والأول خلف التعارض والثاني خلف ما افترض من كون رفع اليد عن الظهور الثالث موجبا لارتفاع التعارض بينهما فيتعين الثالث الّذي يعني وقوع التعارض بين مجموعهما وبين الظهور الثالث أي يدل الظهور الثالث على كذب أحدهما على الأقل فيكون كل اثنين منهما يكذب الثالث ، وبهذا يتبرهن استحالة ما ادعي في الضابط من إمكان رفع التعارض بين الدليلين برفع اليد عن ظهور ثالث غير معارض فانَّ مثل هذا غير معقول في نفسه. نعم نستثني من ذلك حالة واحدة وهي ما إذا كان مجموع الاثنين لا يمكنهما نفي المفاد الثالث بالالتزام لعدم حجية المدلول الالتزامي لهما وذلك فيما إذا ورد ( أكرم كل فقير ) وورد ( لا يجب إكرام زيد ) الّذي يشك في كونه فقيراً وورد دليل ثالث يدل على ( انَّ زيداً فقير ) فانه لو لا الدليل الثالث لما كان تعارض بين الأولين ولكنه مع ذلك لا يسري التعارض إليه الأبناء على حجية أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصص وهو غير تام كما هو محقق في محله ومنه يظهر انَّ ما ذكره من المثال ليس مصداقا لهذا الضابط فانَّ التعارض فيه بين مجموع ظهور صيغة الأمر في الوجوب وظهور ( كلّ ) في عموم ( أكرم كلَّ عالم ) وبين ( لا يجب إكرام زيد العالم ) ولذلك يكون رفع اليد عن أحدهما كافيا في رفع التعارض ، وانما يتعين التخصيص عرفا لنكات ترجع إلى تشخيص القرينية بين الدليلين على ما حققناه مبسوطاً في محله من أبحاث تعارض الأدلة.

وامّا تطبيق الضابط على الجملتين الشرطيتين فكأنه يفترض انَّ التعارض بين مفهوم كل منهما ومنطوق الآخر فلا بدّ من ملاحظة النسبة بينهما ولا يجوز علاج التعارض بالتصرف في ظهور ثالث ليس بمعارض وهو ظهور منطوق الأول بحمله على انه جزء العلّة المكمل للشرط في منطوق الثاني.

إلاَّ انَّ هذا التطبيق غير تام إذ يرد عليه :

أولاً ـ ما تقدم من سريان التعارض الواقع أولا بين مفهوم كل منهما ومنطوق الاخر إلى منطوق الأول أيضا ، لأنَّ حمل أحد الشرطين على انه جزء العلّة يستلزم حمل الشرط في المنطوق الاخر على ذلك أيضا للتلازم بينهما في الجزئية والتمامية على ما تقدم ، فليس الظهور الثالث خارجا عن المعارضة.

١٨٩

وثانياً ـ انَّ التصرف في الظهور الثالث بحمله على الجزئية لا يرفع التعارض بين مفهومه ومنطوق الاخر فليس إعماله من هذا الباب بل باعتباره نتيجة ملازمة لتقييد منطوق الاخر بمفهوم الأول.

وامَّا ما أفاده من انَّ النسبة بين منطوق كل منهما ومفهوم الاخر العموم والخصوص المطلق فهو غريب جداً ، وكأنه تصور أنَّ دلالة المنطوق في كل من الشرطيتين على الترتب يساوق الدلالة على كون الشرط علّة تامة للجزاء ، مع وضوح انَّ ما هو مدلول الشرطية وضعاً أصل الترتب وهو لا ينافي مفهوم الاخر ، واما كونه علّة تامة فبالإطلاق المقابل للتقييد بالواو كما هو واضح.

فالصحيح ما عليه المحقق النائيني ( قده ) ، من انَّ النسبة بينهما العموم من وجه لأنهما يتعارضان في حالة وجود أحد الشرطين دون الاخر ، حيث انَّ منطوق الأول يثبت الجزاء ومفهوم الآخر ينفيه ، ويفترق المنطوق عن المفهوم فيما إذا اجتمع الشرطان معاً فانَّ المنطوق يثبت الحكم والمفهوم لا ينفيه ، ويفترق المفهوم عن المنطوق في حالة فقدان كلا الشرطين كما هو واضح.

هذا كله فيما إذا كان الجزاء المرتب على الشرطين في الشرطيتين حكم شخصي واحد كما في مسألة التقصير ، وامّا إذا كان طبيعي الحكم بحيث كان يمكن تعدد الجزاء بتعدد الشرط فسوف يدخل إطلاق الجزاء في المعارضة أيضاً ، حيث يمكن التحفظ على كلا الإطلاقين الأولين ـ الإطلاق المقابل لأو والمقابل للواو ـ مع تقييد إطلاق الجزاء بشخص آخر من الحكم ، الا انَّ النتيجة نفس النتيجة من كون التعارض بين إطلاقات وظهورات حكمية فلا يثبت لا تعدد الحكم ولا المفهوم ولا العلّية التامة (١). نعم في فرض اجتماع الشرطين معاً يعلم بوجود حكم واحد على

__________________

(١) الإطلاق في الجزاء تارة : يكون بلحاظ متعلق الحكم كطبيعي الإكرام في قبال تقييده بفرد آخر منه ، وأخرى : يكون بلحاظ نفس الحكم ولو مع وحدة المتعلق كما في حق الخيار وفسخ معاملة واحدة فانه يمكن ان يجتمع للعاقد خياران للفسخ الواحد كما تقدم فيكون كل منهما خياراً مقيداً بغير الخيار الناشئ من السبب الآخر ، لا محالة وفي المقام الدال على الانحصار ـ وهو الإطلاق المقابل لأو ونحوه ـ إذا كان يدل على انحصار ما هو المراد من الجزاء لزم إجراء الإطلاق في المرتبة السابقة في الجزاء حكماً ومتعلقاً ثم إضافة الانحصار إليه ، وحينئذ يتم ما قيل من أن تقييد الجزاء بلحاظ متعلقه أو نفسه يرفع التعارض بين المفهوم والمنطوق ، ولكن يلزم من ذلك :

١٩٠

الأقل ، وفي فرض انتفائهما معاً أيضاً يعلم بعدم الحكم ، واما في غير ذلك فالمرجع إلى الأصول العملية التي تختلف باختلاف الموارد.

والنتيجة نفسها تثبت على مسلكنا في تخريج المفهوم للجملة الشرطية حيث اننا أيضا كنا نستفيده بإجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة في مدلول الهيئة الشرطية الدالة وضعاً على التوقف ، فانَّ أصل التوقف لا يستلزم المفهوم كما قلنا فيما سبق وانما كنا نحتاج إلى ضم الإطلاق إليه لنثبته ، فيكون معارضاً مع إطلاق منطوق الاخر المثبت

__________________

أولاً ـ ان تكون المعارضة بين المفهوم والمنطوق في طول المعارضة بين إطلاق منطوق كل منهما مع إطلاق الجزاء ، في بحث التداخل القادم ، لأن الإطلاق المفهومي لا يعارض ، إطلاق منطوق الآخر الا في طول تمامية الإطلاق في الجزاء ، وهذا الإطلاق معارض على كل حال مع إطلاق المنطوق ولو لم يكن للجملتين مفهوم وهذا خلاف ما سوف يأتي من عرضية المعارضتين.

وثانياً ـ انه خلاف القاعدة ، فان الحكم ومتعلقه في طرف الجزاء يلحظان كمفهوم وماهية فيضاف الدال على الانحصار إليه ، أي يجري الإطلاق بلحاظ تعليق المدلول التصوري للجزاء على الشرط لإثبات ان هذا المعلق وهو ذات الحكم المتعلق بذات الطبيعة ليس لشرطه عدل أو بدل ، وهذا يعني ان ثبوت فرد آخر للجزاء ـ سواء تعلق بنفس المتعلق أم بغيره ـ يكون منفيا بنفس هذا الإطلاق بلا حاجة إلى إجراء الإطلاق في الرتبة السابقة في طرف الجزاء ، ولهذا لم نشترط في تقريبات الدلالة على المفهوم جريان الإطلاق في الجزاء.

وإذا كان الدال على الانحصار يدل على انحصار المدلول التصوري للجزاء في الشرط ـ كما ذكرنا ـ كانت المعارضة بين إطلاق المفهوم وإطلاق المنطوق ـ أي الإطلاق المقابل لأو والمقابل للواو ـ ولم يكن إطلاق الجزاء طرفاً في هذه المعارضة.

ثم انه لو اختير الأول لزم تقديم إطلاق المنطوق على المفهوم وبالتالي تعدد العلة وتعدد الحكم وذلك لوجهين الأول ـ لما سوف يأتي في البحث القادم من تقدم ظهور المنطوق المثبت لتمامية العلة على إطلاق الجزاء ومعه يرتفع موضوع المعارضة مع إطلاق مفهوم الآخر حيث يتقيد جزاء كل منهما بفرد غير الآخر.

الثاني ـ ان إطلاق الجزاء للفرد الحاصل بالشرط الآخر يعلم بسقوطه على كل حال اما تخصيصاً أو تخصصاً لأنه في طول إطلاق المفهوم المثبت للانحصار فان المعارضة على هذا التقدير ليس بين إطلاق المفهوم والمنطوق ابتداءً بل بعد إجراء الإطلاق في الجزاء وهذا الإطلاق في الجزاء انما تصل النوبة إليه لو أريد نفي الفرد الحاصل من الحكم بالشرط الآخر بعد تمامية الدلالة على الانحصار والا كان هذا الإطلاق لغواً لا أثر له بالنسبة إلى نفي الحكم الحاصل بالشرط الآخر.

وان اختير الثاني أيضاً أمكن إثبات تقديم إطلاق المنطوق على إطلاق المفهوم ، لأن إطلاق المنطوق بعد ان كان مقدماً على إطلاق الجزاء فهو يثبت لا محالة وجود فرد آخر من الحكم بالشرط سواءً في مورد اجتماعه مع الشرط الآخر أو افتراقه عنه وهذا الفرد الآخر من الحكم ينفيه إطلاق مفهوم الآخر والنسبة بينهما نسبة الخاصّ إلى العام وان كان هذا المدلول الخاصّ ثابتاً بالإطلاق ومقدمات الحكمة أيضاً ، لأن المعيار بنتيجة الإطلاق فإذا كانت نتيجة أحد الإطلاقين أخص من الآخر قدم عليه ، ولهذا يقدم دليل الآمر الخاصّ على دليل الترخيص العام حتى على مبنى القائل بان دلالة الأمر على الوجوب يكون بالإطلاق ومقدمات الحكمة. ولعل الوجدان العرفي يشهد بصحة هذا الفهم خصوصاً فيما إذا اتصلت الشرطيتان في خطاب واحد وهذا ان لم يدل على عدم أصل الدلالة على المفهوم في جمل الشرط فلا أقل من انها تدل على ان نكتة الدلالة على المفهوم أضعف من إطلاق المنطوق في التمامية.

١٩١

لكون موضوعه تمام الموضوع لترتب الحكم ، والنتيجة نفس النتيجة.

وامّا المسالك الأخرى فنقتصر على اثنين منها ، فالمسلك الّذي كان يقول أصحابه بالمفهوم على أساس انصراف الشرطية الدالة وضعا على اللزوم إلى أكمل افراد اللزوم ، وهو اللزوم العلّي الانحصاري ، يتوجب على أصحابه انْ يرجّحوا المنطوقين على المفهومين ، والوجه في ذلك انَّ هذا الظهور مما يعلم بسقوطه تفصيلا بعد ورود الشرطيتين إذ يعلم بعدم العلّية التامة الانحصارية لكل منهما امّا لعدم التمامية وامّا لعدم الانحصار فيبقى إطلاق المنطوق المقابل للواو المثبت لكون الشرط تمام الموضوع على حاله ، نعم لو فرض إطلاق الجزاء واحتمال تعدد الحكم فلا يعلم تفصيلا بسقوط هذا الظهور ، فلو فرض انه في قوة الإطلاق وقع التعارض بينه وبين إطلاق الجزاء (١) ، ولو فرض انه أقوى من الدلالة الإطلاقية تعين تقييد إطلاق الجزاء لا محالة. وامّا إطلاق المنطوق المقابل للتقييد بالواو المثبت كون الشرط تمام الموضوع فلا معارض له على كل حال ، نعم لو فرض انَّ أكملية اللزوم بالانحصارية فقط لا بالتمامية كانت النتيجة كما كانت على مسلك المحقق النائيني ( قده ).

والمسلك الّذي كان يقول أصحابه بالمفهوم على أساس الإطلاق الأحوالي للشرط لحال الاجتماع مع غيره المثبت كونه علّة تامة حتى في هذا الحال وهو يلازم انحصار العلّة به ، يتوجب على أصحابه أَنْ يقدموا المنطوق على المفهوم لأنَّ هذا الإطلاق يعلم بسقوطه ، إذ يعلم انه في حال اجتماع الشرطين معاً لا يكون كل واحد منهما إِلاَّ جزء العلّة ، اما لكونهما كذلك بالأصل أو في حال الاجتماع فقط من باب استحالة اجتماع علّتين مستقلتين على معلول واحد ، الا إذا كان الجزاء مطلقا واحتمل تعدد الحكم ، كما

__________________

(٢) تقدم ان قابلية الحكم لتعدد لا يغير من أطراف المعارضة شيئاً كما انه على تقدير دخول إطلاق الجزاء طرقاً للمعارضة يتعين للسقوط لكونه يعلم بسقوطه وتقيده اما تخصيصاً أو تخصّصاً. نعم هنا مطلب تجدر الإشارة إليه وهو انه:

بناءً على هذا المسلك يعلم بسقوط الظهور في العلية التامة الانحصارية ومعه ينتفي أصل المفهوم لا إطلاقه فلا يمكن إثبات انتفاء الحكم حتى في فرض انتفاء الشرطين معاً ، لأنَّ المثبت للمفهوم هنا ظهور واحد وقد سقط وليس من قبيل الإطلاق لكي يقبل التخصيص التبعيض في دلالته الضمنية. وان شئت قلت : إذا ثبت عدم إرادة الفرد الأكمل للعلة وهي المنحصرة فلا فرق حينئذٍ بين وجود عدل واحد أو أكثر ، إذ لا يلزم منه مخالفة زائدة. وهذا أحد الفروق بين هذا التقريب المثبت للانحصار بالظهور الوضعي أو الانصرافي وبين سائر التقريبات.

١٩٢

انَّ الدلالة على تمامية العلّة على هذا المسلك لا بدَّ وأنْ تكون وضعية كي يتمسك بإطلاقها لحال الاجتماع مع شيء آخر ، ولو فرض كونها بالإطلاق الواوي أيضاً كان في منجى عن المعارضة ، بمعنى صحة التمسك بإطلاق الترتب لحال فقدان الشرط الآخر في إثبات الحكم وهو معنى الإطلاق الواوي ، فالنتيجة على هذين المسلكين واحدة أيضاً (١).

التنبيه الثامن : في بيان حال الشرطيتين المتحدتين جزاءً والمختلفتين شرطا في فرض اجتماع الشرطين من حيث اقتضائهما تداخل الأسباب وعدمه وتداخل المسببات وعدمه.

والمقصود من التداخل في الأسباب اقتضاء الشرطين معاً لحكم واحد لا حكمين فلا تكون إلاَّ سببية واحدة لمجموعهما ، ويمكن أَنْ نصطلح عليه بالتداخل في عالم الجعل ، والمقصود من التداخل في المسببات انه بعد افتراض تعدد الحكم هل يكفي في مقام الامتثال الإتيان بفرد واحد من الطبيعة أم لا ويمكن أنْ نصطلح عليه بالتداخل في عالم الامتثال؟

وقد ذكر صاحب الكفاية ( قده ) في المقام : ( إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فلا إشكال على الوجه الثالث ـ أي ما إذا قيد إطلاق المنطوق في الشرطيتين ـ واما على سائر الوجوه فهل اللازم لزوم الإتيان بالجزاء متعدداً حسب تعدد الشروط؟ ... ( إلى ان قال ) والتحقيق : انه لما كان ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه وكان قضيته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط كان الأخذ بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقة أو وجوداً محالاً ضرورة ان لازمه ان يكون الحقيقة الواحدة مثل الوضوء بما هي واحدة في مثل إذا بلت فتوضأ وإذا نمت فتوضأ أو فيما إذا

__________________

(١) ذكر السيد الأستاذ ـ قدس‌سره الشريف ـ في دورته الأولى : انه بناء على التقريب الرابع من التقريبات المتقدمة لاقتناص المفهوم والمنسوب إلي المحقق الأصفهاني ( قده ) والّذي يثبت الانحصار بظهور الشرطية في ان الشرط بعنوانه شرط لا بجامعه بضميمة كبرى استحالة صدور الواحد بالنوع من الكثير ، يتعين تقييد إطلاق المنطوق وافتراض ان مجموعهما شرط في تحقق الحكم لا كل واحد منهما الّذي يعني شرطية الجامع بينهما ، لأن أصالة التطابق الّذي هو منشأ الظهور المذكور بلحاظ ما هو مذكور في مقام الإثبات أقوى منها بلحاظ ما هو مسكوت عنه فيكون الظهور الأول أقوى من الإطلاق في المنطوق فتكون العلة مجموعهما لا محالة.

١٩٣

بال مكرراً أو نام كذلك محكوماً بحكمين متماثلين وهو واضح الاستحالة كالمتضادين فلا بد على القول بالتداخل من التصرف فيه اما بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث بل على مجرد الثبوت أو الالتزام بكون متعلق الجزاء وان كان واحداً صورة الا انه حقائق متعددة حسب تعدد الشرط متصادقة على واحد فالذمة وان اشتغلت بتكاليف متعددة حسب تعدد الشروط الا ان الاجتزاء بواحد ) (١).

وهذا الكلام صحيح الا انه ربما يفهم منه الطولية بين المسألتين ولكن لم يظهر من كلامه هذا إرادة الطولية. وانما مجرد دعوى انَّ البحث في هذه المسألة في طول عدم التصرف في منطوق الشرطيتين. وتوضيح ذلك :

انَّ هناك معارضتين مستقلتين تعالج إحداهما في المسألة السابقة والأخرى في هذه المسألة ، والمعارضتان عرضيتان طرفاً ومورداً وعلاجاً. اما عرضيتهما طرفا فباعتبار انَّ المعارضة الأولى معارضة بين الإطلاق المثبت للمفهوم والإطلاق المقابل للواو في المنطوق وإذا أدخلنا إطلاق الحكم في الجزاء كانت الأطراف ثلاثة على ما تقدم ، والمعارضة الثانية هي المعارضة بين ظهور الشرطية في كون الشرط علّة لأصل الحكم لا لمرتبة شدته ـ على ما سوف يأتي ـ وبين إطلاق المتعلق في الجزاء المقتضي لتعلق الحكم بشيء واحد فيهما (١) ، حيث يلزم من التحفظ عليهما معاً اجتماع حكمين على موضوع واحد وهو مستحيل ، إِلاَّ انَّ هذه المعارضة انما تكون بعد افتراض إطلاق المنطوق المثبت كون الشرط علّة تامة وإِلاَّ أمكن الأخذ بكلا الظهورين السابقين ، وهذا يعني بأنَّ هذه المعارضة ثلاثية الأطراف ويكون طرفها الثالث مشتركا بين المعارضتين ، وانحلالها برفع اليد عن إطلاق المنطوق انما هو من جهة رفع اليد عن أحد الأطراف المتعارضة لا من جهة الطولية بين المعارضتين.

وامّا العرضية بينهما مورداً فلأنّه ربما تجتمع المعارضتان في مورد وربما يفترقان فتوجد إحداهما دون الأخرى ، فإذا كانت الجملتان الشرطيتان دالتين على المفهوم

__________________

(١) كفاية الأصول : ج ١ ـ ص ٣١٤ ، ( ط ، مشكيني )

(٢) هذا إذا كان تعدد الحكم بتعدد متعلقه كمثال وجوب الإكرام ، واما إذا كان يمكن تعدده مع وحدة المتعلق كحق الفسخ فلا بدّ من تقييد إطلاق نفس الحكم بغير الحكم الناشئ من السبب الآخر.

١٩٤

وكان الجزاء قابلاً للتعدد ثبوتاً وإثباتاً اجتمعت المعارضتان فيه لا محالة ، وإِنْ كانتا حمليتين أو شرطيتين ولكن لا مفهوم لهما فالمعارضة الثانية وحدها موجودة دون الأولى ، وإذا كانتا شرطيتين لهما مفهوم ولكن كان الجزاء حكما واحداً لا يقبل التعدد كوجوب التقصير مثلاً ، فالمعارضة الثانية غير موجودة للعلم على كل حال بعدم تعدد الحكم في مورد اجتماع الشرطين معاً.

واما العرضية بينهما علاجاً فلأنَّ كلاً من المعارضتين بعد أنْ كانت لها أطرافها الخاصة بها وانّها قد تجتمع في مورد وقد تفترقان كان لا بدَّ من ملاحظة الحال في كل مورد ، فإذا كانت إحداهما موجودة دون الأخرى ، عولجت المعارضة الموجودة ، وان كانتا مجتمعتين ـ الّذي يعني كون إطلاق المنطوق طرفا مشتركاً في معارضتين ـ فاللازم في مقام العلاج ملاحظته فيهما معاً لا ملاحظته في إحداهما في رتبة أسبق من الأخرى.

والضابط العام في مثل هذه الحالات انَّ الطرف المشترك تارة : يفترض كونه أضعف من طرفه في كلتا المعارضتين ، وفي مثله يتعين التصرف فيه وتقديم طرفه المعارض له عليه في كل من المعارضتين ، وأخرى ، يفترض انه مساو مع طرفه في القوة والضعف في كلتا المعارضتين وفي مثله يحكم بالتساقط في الجميع ، وثالثة : يفترض انه أضعف من طرفه في إحداهما وأضعف منه أو مساو في الأخرى ، وحكمه تقديم الطرف الأقوى عليه فيتصرف فيه ومعه يبقى الطرف الاخر المساوي أو الأضعف بلا معارض فيرجع إليه لا محالة فتكون النتيجة كما هي في الحالة الأولى ، ورابعة : يفترض كونه أقوى من طرفه في إحداهما ومساو لطرفه في الأخرى وحكمه التساقط مع الطرف المساوي والرجوع إلى الطرف الأضعف باعتبار سقوط ما يتقدم عليه فيرجع إليه بنكتة الرجوع إلى المرجع الفوقاني وخامسة : يفترض كونه أقوى من طرفه في كلتا المعارضتين فيؤخذ به ويقع التعارض بين طرفه إذا كان متعدداً ويتقدم عليه إذا كان واحداً في كلتا المعارضتين ، وعلى أي حال فالكلام يقع في هذا التنبيه عن مسألتين

المسألة الأولى : في تداخل الأسباب في مورد يعقل فيه تعدد الحكم اما بتعدد متعلقه كما في وجوب الإكرام مرتين أو بتعدده مع وحدة المتعلق كما في حق الفسخ ، والبحث فيها تارة : عن وجود دلالة تقتضي عدم التداخل في الأسباب ، وأخرى : فيما يقتضي

١٩٥

عدم التداخل ، وثالثة : في كيفية العلاج بينهما. أما البحث عما يقتضي الدلالة على عدم التداخل فيمكن تقريبه بأحد نحوين التقريب الأول : انَّ المنطوق يحتوي على ظهورين بمجموعهما يقتضيان عدم التداخل.

الظهور الأول : ظهوره في كون الشرط علّة تامة مستقلة للجزاء.

الظهور الثاني : ظهوره في كون الشرط علّة لأصل الحكم لا لمرتبة تأكده وشدته.

وينتج من هذين الظهورين عدم التداخل إذ يستحيل أنْ تجتمع علّتان تامتان مستقلتان على معلول واحد.

وهذا التقريب غير تام ، لأنَّ الثاني من الظهورين وإِنْ كان تاماً إِلاَّ انَّ الظهور الأول ليس كما قيل ، بمعنى انَّ المنطوق لا يدل على علّية الشرط التامة بهذا العنوان وانما يستفاد ذلك بالإطلاق المقابل للواو بحسب تعبير الميرزا وبإطلاق الترتب بحسب تعبيرنا. أي بإطلاقه لحالة فقدان الشرط آخر ، وهذا غاية ما يلزم منه هو إثبات تمامية الشرط في حالة انفراده ولا يثبت تماميته في حالة اجتماعه فكونه جزء العلّة في حالة الاجتماع لا ينافي هذا الظهور.

التقريب الثاني : ما ذكره صاحب الكفاية ( قده ) ، ولعله كان متفطناً إلى عدم تمامية الظهور الأول في التقريب السابق فاستبدله بتقريب آخر يتفق مع السابق في الظهور الثاني ولكن يختلف عنه في الظهور الأول حيث يدعى هنا : انَّ الشرطية ظاهرة في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط لا مجرد الثبوت ، وهذا الاستظهار قد يدعى في باب الأفعال كفعل الأمر فيكون مقتضى الشرطيتين حدوث أصل الحكم حين حدوث كل من الشرطين وهو ينافي التداخل إِلاَّ انَّ هذا التقريب بحاجة إلى عدة افتراضات.

فأولاً ـ لا بدَّ وأَنْ يكون الجزاء جملة فعلية ليدل على الحدوث فلا يجري فيما إذا كانت جملة اسمية كقولنا ( إذا جاءك زيد فإكرامه واجب ) (١).

__________________

(١) ظاهر الجملة ان الشرط سبب لترتب الحكم بمعنى استلزامه واقتضاؤه لفعليته فإذا كان الجزاء سنخ حكمٍ يقبل التعدد

١٩٦

وثانياً ـ لا بدَّ من افتراض تعاقب الشرطين وعدم اقترانهما في التحقق وإِلاَّ كان الحدوث عند الحدوث حاصلاً بناءً على التداخل أيضاً.

وثالثاً ـ التسليم بالإطلاق الأزماني للشرطية التي تحقق شرطها أولا لإثبات بقاء الحكم بعد تحقق الشرط الثاني وعدم تبدله وارتفاعه وحدوث حكم آخر مماثل بالشرط الثاني.

وأما ما يدل على التداخل فهو انَّ هذا الظهور ـ أي الظهور في الحدوث عند الحدوث يقابل ظهوران ١ ـ ظهور مادة الجزاء في أنَّ متعلق الحكم ـ أي مادة الأمر ـ هو الإكرام مثلاً بما هو لا بعنوان آخر.

٢ ـ إطلاق المادة وعدم تقيدها بفرد من الطبيعة غير الفرد الّذي انطبق عليه الواجب الآخر ، ومقتضى التحفظ على هذين الظهورين التداخل في الأسباب إذ لا يعقل حدوث مطلق وجوبين متعلقين بطبيعي الإكرام ، فلا بدَّ اما من تقييد أحدهما بعدم الاخر أو افتراض انَّ متعلق أحدهما على الأقل ليس هو عنوان الإكرام بل عنوان آخر ينطبق عليه فهو مجمع عنوانين ، وهو مبنى التداخل في المسببات التي هي المسألة الثانية.

وأما كيفية علاج التعارض بين هاتين الدلالتين فباعتبار انَّ الظهور في الحدوث عند الحدوث والظهور في انَّ الإكرام بعنوانه واجب ظهوران وضعيان أي من باب أصالة المطابقة بين ما يذكر إثباتا وما يكون مأخوذاً ثبوتا بينما الظهور الثالث حكمي أي من باب أصالة التطابق بين ما لم يذكر إثباتاً وما لم يؤخذ ثبوتاً ، فيقدم الظهوران الأولان

__________________

ـ في نفسه كان ظاهر الجملة تعدده بتعدد السبب سواءً كانا من سنخ واحد ، كما إذا نام مرتين في جملة ( إذا نمت فتوضأ ) مع فرض ان الشرط انحلالي لا صرف وجود النوم والا لم يكن يقبل التعدد ، أو كانا من سنخين كما إذا نام وبال. وهذا ظهور وضعي أو سياقي أقوى من الظهور الإطلاقي المقتضي للتداخل ووحدة الحكم سواء أريد به إطلاق الحكم نفسه أو إطلاق متعلقه ، كما انه لا يتوقف على دلالة الجزاء على الحدوث وان يكون جملة فعلية ، نعم إذا كان الجزاء إرشاداً ومدلولاً خبرياً لا إنشائيا فلا يقبل التعدد ولو كان جملة فعلية كما في مثل قولك ( إذا تكلمت في الصلاة فأعد صلاتك وإذا استدبرت القبلة فأعد الصلاة )

١٩٧

على الأخير وتكون النتيجة عدم التداخل لا في الأسباب ولا في المسببات.

نعم ذكر المحقق النائيني ( قده ) ، في المقام كلاما متيناً حاصله : أنْ لا تقييد أصلا في المادة في المرتبة السابقة على عروض مفاد الهيئة لأنَّ تعدد الوجوب الّذي يعني تعدد النسبة الإرسالية يستلزم بنفسه تعدد المرسل إليه فانَّ الإرسال والبعث مضايف مع الانبعاث فيتعدد بتعدده لا محالة فتقييد المادة بفرد آخر تقييد يثبت في طول عروض مفاد الهيئة فلا ينافي إطلاقها في المرتبة السابقة ولا حاجة إلى تقييدها لكي يكون خلاف الظاهر.

المسألة الثانية : ـ في تداخل المسببات أي في مرحلة الامتثال وهذا انما يعقل بعد الفراغ في المسألة السابقة عن تعدد الحكم وقد عرفت ان مبنى ذلك افتراض وجود تكليفين قد تعلق كل منهما بعنوان غير عنوان الآخر والإلزام اما اجتماع المثلين المحال أو تقييد كل منهما بفرد آخر الّذي يعني عدم التداخل في المسبب ، وعلى هذا الأساس يكون من الواضح ان مقتضى القاعدة في الشرطيتين المتحدتين جزاءً عدم التداخل في المسببات إذ حمل عنوان الإكرام مثلاً على إرادة عنوان آخر منطبق عليه خلاف الظاهر (١).

« مفهوم الوصف »

قد اتضح مما سبق انَّ اقتناص المفهوم من الجملة له أحد طريقين.

١ ـ الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء بحسب مرحلة المدلول التصوري للكلام ، وهي متوقفة على ركنين :

الركن الأول : دلالة الجملة على مثل النسبة التوقفية والالتصاقية بين الحكم وبين

__________________

(١) بل هذا مستحيل ثبوتاً حتى إذا قيل بجواز اجتماع وجوبين على عنوانين متطابقين في معنون واحد خارجاً كما هو كذلك على بعض المباني المتقدمة في بحث اجتماع الأمر والنهي لأن المفروض ان ذلك العنوان الآخر الواجب متطابق مع عنوان الإكرام بحسب الفرض في المقام فيلزم عند تحقق السببين تعلق وجوبين بعنوانين متطابقين صدقاً وهذا في قوة تعلق وجوبين بعنوان واحد من حيث الاستحالة ، اللهم الا ان يفترض ان ذلك العنوان الآخر أوسع صدقاً من عنوان الإكرام فتكون المخالفة عندئذٍ أوضح وأظهر.

١٩٨

الشرط أو الوصف بحسب مرحلة مدلولها التصوري.

الركن الثاني : إثبات كون المعلق والمتوقف طبيعيّ الحكم لا شخصه.

٢ ـ الدلالة على المفهوم بحسب مرحلة المدلول التصديقي للكلام بأنْ يقوم برهان عقلي أو استنتاج عرفي يقتضي كون الشرط أو الوصف مثلا علّة منحصرة لطبيعي الحكم بنحو يستلزم عقلاً انتفاء نوع الحكم من انتفاء الشرط أو الوصف.

وقد تقدم شرح كلا الطريقين وما يحتاجه كل منهما من شرائط ومقومات في الأبحاث السابقة ، وعلى ضوء ذلك لا بدَّ من ملاحظة جملة الوصف والموصوف ليرى هل يمكن سلوك شيء من الطريقين فيها أم لا (١)؟

وقبل البدء بذلك ينبغي الإشارة إلى أمر حاصله : انَّ الجملة الوصفية لا إشكال في دلالتها على انتفاء شخص الحكم بانتفاء الوصف ، وذلك باعتبار أصالة التطابق بين مرحلة الإثبات والثبوت ، ومرحلة المدلول التصوري والتصديقي ، ومرحلة الخطاب والجعل الكامن من ورائه ، القاضية بأنَّ ما هو ظاهر الجملة من تقيد الحكم المبرز فيها بالوصف ثابت في مرحلة المدلول التصديقي والجدّي أيضاً ، فكما انَّ وجوب إكرام العالم مثلاً مقيد بحسب عالم الإثبات بالعادل بحيث لا إطلاق له لغيره كذلك الجعل المبرز به مقيد ثبوتا بذلك ، إلاّ انَّ هذا لا يجدي في إثبات المفهوم الكلّي الّذي هو المقصود في المقام بل يثبت المفهوم الجزئي الّذي هو انتفاء شخص هذا الحكم والّذي لا ينافي ثبوت حكم آخر مماثل على حصة أخرى من العالم الا فيما إذا عرف من الخارج وحدة الجعل ثبوتا ، وعلى هذا الأساس يحمل المطلق على المقيد حتى عند القائلين بعدم المفهوم للوصف ، نعم لو لم تحرز وحدة الحكم كان الحمل على المقيد موقوفا على ثبوت المفهوم للجملة الوصفية.

وبهذا يعرف انَّ التسالم على حمل المطلق على المقيد لا يمكن جعله نقضاً على إنكار المفهوم

__________________

(١) وهناك طريق ثالث لاقتناص المفهوم تقدمت الإشارة إليه فيما سبق ولعله قد اضرب عنه سيدنا الأستاذ لوضوح عدم تماميته في الشرطية فضلاً عن الجملة الوصفية ، وحاصله : جريان الإطلاق بمعنى مطلق الوجود في الحكم المرتب على الوصف لإثبات ان كل حصص الحكم مقيد بالوصف ، وهذا واضح البطلان لأن الإطلاق بهذا المعنى لا يمكن إجراؤه الا إذا وقع الحكم موضوعاً في القضية.

١٩٩

للجملة الوصفية كما قد يتوهم.

وأيّا ما كان ، لا بدَّ في إثبات المفهوم للجملة الوصفية من سلوك أحد الطريقين المشار إليهما. فنقول :

امّا الطريق الأول فالصحيح عدم توفره في الجملة الوصفية لأنه ـ كما أشرنا ـ موقوف على ركنين لا يتم شيء منهما في المقام.

امّا الركن الثاني وهو إثبات كون المعلق والمتوقف طبيعي الحكم لا شخصه ، فلأنَّ المفروض تقيد الحكم المبرز بالجملة الوصفية بالوصف بحسب مرحلة المدلول التصوري لأنَّ الوصف طرف للنسبة التقييدية الناقصة مع الموضوع الّذي هو طرف لنسبة تقييدية مع المادة ـ كالإكرام مثلا ـ والتي هي طرف للنسبة الإرسالية الحكمية ، فلا محالة يكون الحكم في الجملة الوصفية حكماً شخصياً ، (١) نظير ما تقدم بيانه في وجه عدم المفهوم للجملة الشرطية المسوقة لتحقق الموضوع.

وامّا الركن الأول فلأنّهُ : أولا من الواضح وجداناً عدم دلالة الجملة الوصفية على التوقف والنسبة التوقفية بين الحكم والوصف وإِنّما تدل على نسبة إرسالية بين الموضوع المقيد بالوصف مع المخاطب المأمور.

وثانياً ـ عدم وجود دال يمكن ان يدل على النسبة التوقفية ، إذ هيئة التوصيف تدل على النسبة الوصفية التي هي نسبة تقييدية ناقصة تقتضي تقييد شخص الحكم بالوصف ، وهيئة الفعل تدل على النسبة الإرسالية ، فلو أُريد استفادة ذلك من إحداهما فهو خلاف المداليل الوضعيّة اللغوية لهما وإِنْ أُريد استفادته من هيئة مجموع الجملة الوصفية فان كان ذلك بدلاً عن

__________________

(١) لا يقال : تشخيص حال هذا الركن مربوط بتشخيص حال الركن الأول في المرتبة السابقة ، فانه إذا افترضنا دلالة الجملة الوصفية على النسبة الالتصاقية والتوقفية بين الحكم والوصف تمَّ إجراء الإطلاق فيها لإثبات ان طبيعي الحكم متوقف على الوصف كما تقدم في الجملة الشرطية ، لأن الوصف في هذا الحال لن يكون قيداً في موضوع الحكم بل طرف النسبة التوقفية بينه وبين الحكم المرتب على ذات الموصوف ، فكأنه قيل ( إكرام الإنسان متوقف على ان يكون عالماً ) فلا فرق بين الجملتين الشرطية والوصفية فيما يرتبط بهذا الركن وانما تختلفان في الركن الثاني حيث ان الوصف من الواضح عدم دلالته على النسبة التوقفية.

فانه يقال : هناك فرق آخر أساسي بين الشرطية والوصفية هو ان النسبة الحكمية في الشرطية مستقلة عن الشرط فيعقل إجراء الإطلاق فيها بلحاظ الشرط وهذا بخلاف الوصف فانه قيد لنفس الحكم أي جزء وطرف للنسبة الحكمية فالحكم مقيد به فلا تكون النسبة الحكمية ملحوظة بصورة مستقلة عنه ليجري الإطلاق فيه بلحاظه فتأمل جيداً.

٢٠٠