عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

الدواعي وكان التقييد بداعي الجدّ تقييدا للمهمل بالدقّة إلّا أنّه عرفا ليس في عرض غيره من الدواعي إذ لو كان الداعي جدّا لمنشا فكان المنشئ لم يزد على ما أنشأ.

ومنها : الأصل العقلائيّ إذ كما أنّ الطريقة العقلائيّة في الإرادة الاستعماليّة على مطابقة المستعمل فيه للموضوع له مع شيوع المجازات في الغاية كذلك سيرتهم وبنائهم على مطابقة الإرادة الاستعماليّة للإرادة الجدّيّة وبالجملة الأصل في الأفعال حملها على الجدّ حتّى يظهر خلافه. (١)

ففيه ما لا يخفى فإنّ الامور المذكورة وإن كان بعضها صحيحا ولكنّها لا يثبت اختصاص الوضع بالداعي الحقيقيّ لأنّ الظهور الانصرافيّ كالظهور الإطلاقيّ لا يكشفان عن الوضع وإنّما الكاشف عنه هو التبادر الذي يكون مستندا إلى حاقّ اللفظ كما مرّ مرارا.

هذا مع الغمض عمّا فيه كما التفت إليه من منع الانصراف مع غلبة الاستعمال في سائر الدواعي أيضا. ومن منع الإطلاق مع أنّ الداعي الحقيقيّ خارجا عن مفاد هيئة «افعل» كسائر الدواعي.

نعم يصحّ دعوى بناء العقلاء على أصالة الإرادة الجدّيّة ولكنّه لا يثبت اختصاص الوضع المذكور لأنّه جار في كلّ فعل سواء كان لفظا أو غير لفظ ولا يرتبط بالوضع فلا تغفل.

إيقاظ : إذا عرفت أنّ صيغة «افعل» موضوعة لنفس إنشاء البعث والدواعي كلّها خارجة عن مفادها كان ذلك بعينه جار في سائر الصيغ الإنشائيّة وعليه فالدواعي خارجة عن حقيقتها فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عن معانيها إذا وقعت في كلامه

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ١٨٣.

٦١

تعالى بدعوى استحالة مثل هذه المعاني في حقّه تعالى ممّا لازمه العجز أو الجهل.

فإنّ المستحيل هو الحقيقيّ من الترجّي أو التمنّي ونحوهما لا الإنشائيّ الاعتباريّ منها الذي يوجد بسبب الصيغة.

وعليه فمثل قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى)(١) ليس مستعملا بداعي الاستفهام الحقيقيّ بل الاستفهام المذكور مستعمل بداعي إظهار المحبّة ومن المعلوم أنّ الاستفهام الإنشائيّ لا يكون مستحيلا في حقّه تعالى لأنّه لا يلزم عجزا أو جهلا وقس عليه البواقي.

__________________

(١) طه / ١٧.

٦٢

الخلاصة :

أنّ التحقيق أنّ مفاد هيئة الأمر إيجاديّ لا حكائيّ فهي موضوعة لإنشاء البعث والإغراء نحو المأمور به والبعث والإغراء هو تحريك المطلوب منه نحو العمل المقصود وهو يوجد تارة بالتحريك الفعليّ الخارجيّ كأن يأخذ الطالب يد المطلوب منه ويسوقه نحو المطلوب ويوجد اخرى بالتحريك الإنشائيّ كقولك «افعل كذا» أو «آمرك بكذا».

والدليل على أنّ مفادها هو ذلك تبادر الفرق بين «اضرب وتضرب» إذ الأوّل لإيجاد البعث والثاني للحكاية ولذلك يتّصف الثاني بالصدق والكذب دون الأوّل لأنّهما من أوصاف الحكاية لا الإنشاء والإيجاد.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه ليس المراد من الإيجاد إيجاد شيء في عالم التكوينيّ حتّى يقال إنّا لا نتصوّر له معنى بل المراد هو إيجاد بعث اعتباريّ في دائرة المولويّة والعبوديّة وهو بمكان من الإمكان فإنّه يقوم مكان البعث الخارجيّ بالجوارح من اليد أو الرجل وله نظائر في مثل حروف النداء والتحضيض والتوبيخ وإنشاء العقود والمناصب ونحوها فإنّها موجدات بنحو من الإيجاد لا حكائيّات ولذلك لا يتفحّص العقلاء في مثل هذه الامور عن الصدق والكذب بل يتفحّصون عن الإرادة الجدّيّة ثمّ إنّ دلالة الإنشاءات على الإرادة الجدّيّة تكون بدلالة الاقتضاء من باب أنّ هذه الأفعال لا تصدر عن الحكيم من دون إرادة جدّيّة لا بالدلالة اللفظيّة حتّى تكون بالنسبة إليها حاكية ولذا يقال إنّ الأصل في الأفعال الصادرة عن الحكيم هو حملها على الجدّ حتّى يظهر خلافه فالإرادة خارجة عن مدلول الصيغة ومفادها وإنّما تستفاد من بناء العقلاء على حمل أفعال الحكيم على الجدّ.

وينقدح ممّا ذكر أنّ إرادة البعث كسائر الدواعي من التهديد والإنذار والاستهزاء تكون خارجة عن مدلول الصيغة ومفادها لأنّها موضوعة لإيجاد البعث

٦٣

والإغراء نحو المأمور به والإرادة الجدّيّة مستفادة من الأصل العقلائيّ ما دام لم تقم قرينة على الخلاف ومع قيام القرينة فلا إرادة جدّيّة ولكنّ الصيغة استعملت في معناها من دون لزوم مجاز في الكلمة أو اشتراك لفظيّ فيها لأنّ صيغة افعل تستعمل في جميع التقادير في إنشاء البعث الذي وضعت له وإنّما اختلف الداعي لأنّه تارة هو الإرادة الجدّيّة للبعث والتحريك نحو المطلوب الواقعيّ واخرى التهديد والإنذار وغيرهما بقيام القرينة ، نعم لو قلنا بأنّ الصيغة موضوعة للحكاية عن الإرادة النفسيّة الجدّيّة لكان المعنى مختلفا بحسب اختلاف الموارد ولزم المجاز فيما إذا لم تكن حاكية عن الإرادة النفسيّة الجدّيّة ولكن هذا المبنى ضعيف ربما يقال نعم لا مجاز في الكلمة لعدم استعمال الصيغة في غير الموضوع له ولكن يلزم خلاف الوضع إذ الواضع جعل الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب بداعي البعث والتحريك جدّا لابداع آخر.

وفيه أنّ الدواعي والأغراض لا توجب تقييدا في الوضع كما لا توجب ذلك في المعاملات وعليه فدعوى اختصاص الوضع بالداعي الحقيقيّ كما ترى.

وبالجملة فكما أنّ تخصيص العمومات لا يوجب المجاز فيها مع أنّ الخاصّ قرينة لرفع اليد عن أصالة الإرادة الجدّيّة في العموم لعدم التصرّف في الإرادة الاستعماليّة فكذلك في المقام فإنّ التصرّف في الإرادة الجدّيّة لا في الإرادة الاستعماليّة.

وممّا ذكر يظهر أنّه لا وجه لدعوى انسلاخ الصيغ الإنشائيّة كالترجّي والتمنّي عن معانيها إذا استعملت في كلامه سبحانه وتعالى بدعوى استحالة مثل هذه المعاني في حقّه عزوجل وذلك لأنّ المستحيل هو الحقيقيّ من الترجّي والتمنّي ونحوهما للزوم الجهل والعجز لا الإنشائيّ الاعتباريّ منها الذي يوجد بالصيغ المذكورة بدواع معقولة والمفروض أنّ الصيغ لا تدلّ إلّا على الإنشائيّ منها وعليه فمثل قوله تعالى (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) ليس مستعملا في الاستفهام الحقيقيّ حتّى ينافي علمه تعالى بل هو استفهام إنشائيّ استعمل بداعي إظهار المحبّة.

٦٤

المبحث الثاني : في كيفيّة استفادة الوجوب من صيغة الأمر :

انتزاعيّة الوجوب والاستحباب :

ولا يخفى عليك أنّ مقتضى التبادر كما مرّ هو وضع صيغة «افعل» لإيجاد البعث والبعث من ناحية المولى بأيّ دالّ تحقّق مع أصالة التطابق بين الإنشاء والإرادة الجدّيّة هو تمام الموضوع لحكم العقلاء بكونه حجة على لزوم الاتيان بالفعل ما لم يقم قرينة على الترخيص وجواز الترك كما حكموا بتماميّة الحجّة على لزوم الإتيان بالمبعوث إليه فيما إذا تحقّق البعث الخارجيّ باليد ونحوها من ناحية الموالي ولا يتوجّهون إلى الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب مع الاعتراف بعدم دلالة عليه بالحال أو المقال ولعلّ بنائهم على ذلك للزوم الخروج عن زيّ العبديّة لو كان بعث المولى بغير جواب.

وكيف كان فالوجوب ينتزع من البعث المذكور مع حكم العقلاء بتماميّة الحجّة على لزوم الإتيان.

وعليه فالوجوب ليس داخلا في مفاد الصيغة وحاقّ اللفظ بل هو أمر ينتزع بعد تحقّق البعث بالصيغة وجريان أصالة التطابق بين الإنشاء بما هو فعل من الأفعال والإرادة الجدّيّة وحكم العقلاء بتماميّة الحجّة على لزوم الإتيان به كما لا يخفى.

كما أنّ الندب أمر منتزع عن البعث بالصيغة مع قيام قرينة على الترخيص في تركه.

ويشهد لذلك كما في الوقاية أنّ العقلاء لا يسندون الذمّ على المخالفة إلى ظهور اللفظ في الوجوب فضلا عن كونه معناه بل يسندونه إلى مخالفة الطلب ولو لم يكن بصيغة الأمر ويرون الطلب بنفسه مقتضيا للامتثال ولا يكترثون باعتذار المأمور بأنّ

٦٥

الطلب له فردان ولم أعلم بأنّ المراد من الطلب هو الفرد الإلزاميّ. (١)

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية من الأخذ بتبادر الوجوب لإثبات كون الصيغة حقيقة في الوجوب مع أنّ التبادر ليس من حاقّ اللفظ بل الصيغة كما عرفت هي جزء الموضوع لانتزاع الوجوب.

قال في تهذيب الاصول : لكن بعد اللتيّا والتي لا إشكال في حكم العقلاء كافّة على تماميّة الحجّة على العبد مع صدور البعث من المولى بأيّ دالّ كان وقطع عذره وعدم قبوله باحتمال نقض الإرادة وعدم حتميّة البعث وغير ذلك ولا ريب في حكمهم بلزوم إطاعة الأوامر الصادرة من المولى من غير توجّه إلى التشكيك العلميّ من احتمال كونه صادرا عن الإرادة غير الحتميّة أو ناشئا عن المصلحة غير الملزمة وليس ذلك لدلالة لفظيّة أو لجهة الانصراف أو لاقتضاء مقدّمات الحكمة أو لكشفه عن الإرادة الحتميّة. بل لبنائهم على أنّ بعث المولى لا يترك بغير جواب كما لا يترك باحتمال الندب فتمام الموضوع لحكمهم بوجوب الطاعة هو نفس البعث ما لم يرد فيه الترخيص. هذا من غير فرق بين ما دلّ على الإغراء والبعث سواء كانت الدلالة بآلة الهيئة أو بإشارة من يده أو رأسه فالإغراء بأيّ دالّ كان هو تمام الموضوع لحكم العقلاء بتماميّة الحجّة إلّا أن يدلّ دليل على الترخيص. (٢)

ولعلّ عدم ذكر أصالة التطابق بين الإنشاء والإرادة الجدّيّة في كلامه من جهة وضوحه.

ثمّ بعد ما عرفت من موضوع انتزاع الوجوب ينقدح لك عدم الحاجة في انتزاع الوجوب إلى اقتران البعث بالمقارنات الشديدة كضرب الرجل على الأرض

__________________

(١) الوقاية / ١٨٠.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ١٤٥.

٦٦

وتحريك الرأس واليد إذ البعث الصادر عن المولى موضوع لحكم العقلاء بلزوم إتيانه وإن لم يكن مقارنا له ويكشف عن ذلك عدم تقبيح العقلاء عتاب المولى لعبده عند تركه الامتثال للبعث الإنشائيّ الغير المقترن بالمقارنات الشديدة كما في نهاية الاصول. (١)

ويشهد له خلوّ كثير من الأوامر في الكتاب والسنّة والمحاورات العرفيّة عن الاقتران المذكور ومع ذلك لا وجه للتوقّف في الحكم بتماميّة الحجّة على لزوم الإتيان بها.

ثمّ إنّ استعمال الصيغة لإفادة الاستحباب يكون على نحو استعمالها لإفادة الوجوب وإنّما الاختلاف في الدواعي فإنّ الداعي في الوجوب هو الإرادة الحتميّة لإتيان المأمور به بخلاف الداعي في المستحبّات فإنّ الإرادة فيها ليست بحتميّة فإذا لم يقترن بالبعث ما يدلّ على عدم حتميّة الإرادة يكون بعث المولى عند العقلاء حجّة على الإرادة الحتميّة وهو الموضوع لحكمهم بالوجوب فالمستعمل فيه في الوجوب والندب واحد وهو إنشاء البعث وإنّما يكون الاختلاف في الدواعي ويشهد لذلك جمع الواجبات والمندوبات بصيغة واحدة في الأحاديث والأخبار مع أنّه لو كانت الصيغة في الوجوب والندب مختلفة المعنى لزم استعمال اللفظ الواحد في الأكثر من معناه أو احتاج إلى تأويل الصيغة إلى معنى يصحّ أن يكون جامعا لهما وكلاهما كما ترى لعدم الاختلاف في معنى الصيغة في الوجوب والندب كما لا حاجة إلى تأويلها إلى معنى يكون جامعا بينهما.

وممّا ذكر يظهر ما في نهاية الاصول حيث ذهب إلى أنّ الصيغ المستعملة في الاستحباب لا تكون مستعملة في الطلب البعثيّ ولا تتضمّن البعث والتحريك وإنّما

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ٩١.

٦٧

تستعمل بداعي الإرشاد إلى وجود المصلحة الراجحة في الفعل ثمّ استجود كلام صاحب القوانين حيث قال : إنّ الأوامر الندبيّة كلّها للإرشاد وقال هو كلام جيّد وقال : إنّ الطلب البعثيّ معنى لا يلائمه الإذن في الترك بل ينافيه لوضوح عدم إمكان اجتماع البعث والتحريك نحو العمل مع الإذن في الترك المساوق لعدم البعث. (١)

وذلك لما عرفت من أنّ الاختلاف في الدواعي لا في مفاد هيئة «افعل» إذ الهيئة لإنشاء البعث في الواجب والمستحبّ ومعنى البعث في الوجوب والاستحباب واحد.

ولا إشكال في التحريك نحو العمل مع الإذن في الترك كما ربما يتّفق في التحريك الخارجيّ نحو المطلوب كذلك.

وعليه فلو قيل : «اغسل للجمعة والجنابة» كان الأمر بهما بعثا إليهما ومقتضاه هو لزوم الإتيان بهما ومع قيام القرينة على الترخيص في ترك الجمعة يرفع اليد عن حمله على الإرادة الحتميّة في خصوصها وذلك لا ينافي اقتضاء البعث للزوم الإتيان في الجنابة.

ولذلك قال استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره : لا وقع لوحدة السياق المدّعاة في أمثال : اغسل للجمعة والجنابة لأنّ المستعمل فيه هو البعث وهو واحد والندبيّة مستفادة من الخارج فيما إذا قامت قرينة عليها ولعلّه لذلك لم يستند القدماء قدس‌سره إلى وحدة السياق فحينئذ لو اختلط المستحبّات مع الواجبات في الأخبار لا يوجب ذلك إبهاما فيما لم يعلم وجوبه إذ مقتضى البعث هو وجوبه بخلاف ما إذا قلنا إنّه لإنشاء الطلب بما هو الطلب فمع عطف المستحبّات يعلم استعمال الأمر في الجهة الجامعة أعني مطلق الطلب والرجحان فيصير الدليل فيما لا يعلم وجوبه من الخارج مجملا ومبهما فلا تغفل.

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ٩٢.

٦٨

وأيضا مقتضى ما ذكرناه من أنّه للبعث وهو بسيط أنّ الصيغة لا يستعمل في الندب أصلا إذ المستعمل فيه في جميع الموارد واحد وهو البعث وإنّما الاختلاف في الدواعي نعم بناء على كون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب الوجوبيّ كان استعمالها في الندب مجازا وهكذا لو كانت موضوعة للإرادة الشديدة أو الحتميّة كان استعمالها في غير الشديدة والحتميّة مجازا. ولكن عرفت أنّ مقتضى التبادر هو أنّ الصيغة موضوعة للبعث لا غير.

في أنّ الوجوب ليس مستفادا من مقدّمات الحكمة :

ربّما يقال إنّ الوجوب من مقتضيات مقدّمات الحكمة فإنّ الندب كأنّه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك بخلاف الوجوب فإنّه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد. فإطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المتكلّم في مقام البيان يكفي في بيان الوجوب كما ذهب إليه في الكفاية بعد التنازل عن كون الصيغة حقيقة في الوجوب في المبحث الرابع.

أورد عليه سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره أوّلا : بأنّ إجراء المقدّمات لتعيين الوجوب لا يصحّ إلّا إذا كان المراد من الوجوب هو الإرادة فإنّها ذو مراتب فيمكن دعوى إجراء المقدّمات لتعيين شدّتها ولكن مدلول الصيغة عند صاحب الكفاية ومن تبعه ليس إلّا أمرا إنشائيّا والأمر الإنشائيّ ليس ذا مراتب والإرادة النفسانيّة من الدواعي.

وثانيا : أنّ المفاهيم المشكّكة نحو مفهوم الأسود أو الأبيض لا يحمل على شديد مرتبتها وإلّا لزم حمل كلّ مطلق على أكمل أفرادها فلو سلّمنا أنّ المستعمل فيه لصيغة الأمر مفهوم ذو مراتب فلا نسلّم أنّ مقتضى المقدّمات هو الوجوب وإلّا لزم حمله على أعلى مراتب الوجوب في الشدّة والتأكّد فيكون الثابت بإطلاق الصيغة أهمّ ما يتصوّر من الوجوب وهو كما ترى وعليه فبناء على مختار صاحب الكفاية من كون الصيغة

٦٩

موضوعة لجامع الطلب يحتاج إرادة الوجوب منه إلى قرينة كإرادة الندب منه ألا ترى أنّ الرقبة موضوعة لأصل الرقبة وإرادة المؤمنة منها كالكافرة يحتاج إلى القرينة ومقدّمات الإطلاق لا يثبت إلّا الجامع دون إحدى الخصوصيّات والوجوب والندب من خصوصيّات الطلب كما لا يخفى.

ولقد أفاد وأجاد إلّا أنّه لو سلّمنا أنّ المراد من الوجوب هو الإرادة النفسانيّة فهي كما في تهذيب الاصول تكون في الوجوب والندب مختلفة مرتبة ولا يمكن أن تكون الإرادة فيهما واحدة ويكون الاختلاف بأمر خارج فحينئذ فالإرادة الحتميّة نحو اقتضاء لها ليس لغير الحتميّة وعليه فكلّ واحدة منهما يحتاج إلى قيد زائد فلا معنى لتخصيص الحاجة إلى قيد زائد بالندب دون الوجوب.

لا يقال : إنّ الطلب الوجوبيّ هو الطلب التامّ الذي لا حدّ له من جهة النقص والضعف بخلاف الاستحبابيّ فإنّه مرتبة من الطلب محدودة بحدّ النقص والضعف ولا ريب أنّ الوجود غير المحدود لا يفتقر في بيانه إلى أكثر ممّا يدلّ عليه بخلاف المحدود فإنّه يفتقر بعد بيان أصله إلى بيان حدوده وعليه يلزم حمل الكلام الذي يدلّ على الطلب بلا ذكر حدّ له على المرتبة التامّة وهو الوجوب كما هو الشأن في كلّ مطلق.

لأنّا نقول : إنّ المقدّمات المعروفة لو جرت فيما نحن فيه لا تثبت إلّا نفس الطلب الذي هو القدر المشترك بين الفردين لأنّ مصبّ المقدّمات هو الجامع إذ البيان والدلالة لم يتوجّه إلّا إلى الجامع دون الوجوب ومجرّد كون ما به الاشتراك في الحقائق الوجوديّة عين ما به الامتياز لا يوجب عدم الاحتياج في صرف الجامع إلى أحد القسمين إلى بيان زائد عن بيان نفس الطبيعة ضرورة أنّ الأقسام تمتاز عن المقسم بقيد زائد في المفهوم وإلّا لم يكن زائدا في الوجود فالوجود المشترك مفهوما بين مراتب الوجود لا يمكن أن يكون معرّفا لمرتبة منها بل لا بدّ في بيانها من قيد زائد فنفس مفهوم الوجود لا يكون حاكيا إلّا عن نفس الحقيقة الجامعة بينها ولا بدّ لبيان وجود

٧٠

الواجب مثلا إلى زيادة قيد كالتامّ والمطلق والواجب بالذات ونحوها فإذن الإرادة القويّة كالضعيفة تحتاج إلى بيان زائد وكذا نظائرها.

هذا بناء على المماشاة في أنّ الصيغة موضوعة لجامع الطلب وإلّا فقد مرّ أنّها موضوعة بحكم التبادر لنفس البعث والإغراء نحو المأمور به كالإشارة البعثيّة والإغرائيّة وكإغراء جوارح الطير والكلاب المعلّمة والبعث بالمعنى المذكور يكون من الامور المشخّصة التي لا تقبل الجامعيّة كالمعاني الحرفيّة ولذا لا يمكن أن يتصوّر له جامع حقيقيّ بين أفراد البعث الناشئة عن الإرادة الجدّيّة لأنّها كالمعاني الحرفيّة من المعاني الربطيّة ولا استقلال لها وإلّا لزم الخلف في حقيقتها ولا يمكن إدراجها تحت جامع حقيقيّ إذ كلّ ما يتصوّر لذلك كان مستقلّا وليس عين البعث الذي يكون من المعاني الربطيّة غير المستقلّة نعم يمكن الإشارة إليها بالجامع العرضيّ كالإشارة إلى المعاني الحرفيّة بالجامع العرضيّ كالابتداء الاسميّ.

وعليه فلا يكون مفاد الصيغة معنى جامعا بل مفادها جزئيّات ربطيّة كما لا يخفى. (١)

فلا مجال لدعوى أنّ الوجوب ممّا يدلّ عليه مقدّمات الإطلاق لأنّ الوجوب كالندب في الحاجة إلى البيان هذا بخلاف ما اخترناه من أنّ البعث عن ناحية المولى حجّة عقلائيّة على لزوم الإتيان ما لم ينصب قرينة على الندب.

ليس الوجوب مستعملا فيه لهيئة «افعل» :

مقتضى ما مرّ من أنّ الوجوب والندب أمران منتزعان من البعث أنّ الوجوب خارج عن مفاد صيغة الأمر كما يشهد له تبادر البعث من دون التقييد بالإلزام أو الإرادة الحتميّة خلافا لمادّة الأمر التي عبّر عنها في اللغة الفارسيّة ب «فرمان» فإنّ

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول ١ / ١٤٤ ـ ١٤١.

٧١

المتبادر منه هو البعث على سبيل الإلزام والحتم ولذا اخترنا هناك أنّ لفظ الأمر حقيقة في الوجوب.

قال في تهذيب الاصول : المتفاهم من الهيئة لدى العرف هو البعث والإغراء كإشارة المشير لإغراء لا البعث الخاصّ الناشئ عن الإرادة الحتميّة. انتهى

وعليه فلا وجه لدعوى أنّ الوجوب يستفاد من حاقّ هيئة «افعل».

ليست الصيغة منصرفة إلى الوجوب :

وذلك لما عرفت من أنّ المتبادر من الهيئة ليس إلّا البعث والإغراء من دون تقييد بالإلزام أو الإرادة الحتميّة فمع التبادر المذكور لا مجال لدعوى الانصراف.

هذا مضافا إلى أنّ دعوى الانصراف تصحّ فيما إذا كان مفاد الصيغة مطلقا بحيث يكون له أفراد فيدّعى انصرافه إلى بعض أفرادها لا فيما إذا كان المفاد من الامور المشخّصة الجزئيّة كالمعاني الحرفيّة فافهم.

قال في تهذيب الاصول : وأمّا القول بكون الوجوب مستفادا من انصرافه إلى البعث المنشأ من الإرادة الحتميّة فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه إذ المنشأ الوحيد لذلك هو كثرة استعماله فيه بحيث يوجب استيناس الذهن ويندكّ الطرف الآخر لديه ويحسب من النوادر التي لا يعتني به العقلاء إلّا أنّ وجدانك شاهد صدق على أنّ الاستعمال في خلاف الوجوب لا يقصر عنه لو لم يكن أكثر. (١)

ويمكن أن يقال : إنّ الاستعمال في خلاف الوجوب مع القرينة لا ينافي انصرافه إلى الوجوب بكثرة استعماله في الوجوب فالأولى أن يستدلّ لنفي الانصراف بما ذكرناه.

فتحصّل أنّ الوجوب أمر انتزاعيّ من البعث من المولى بعد كونه موضوعا تامّا

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٤١.

٧٢

لحكم العقلاء بتماميّة الحجّة على لزوم الإتيان كما أنّ الندب أيضا أمر انتزاعيّ من البعث المذكور بعد نصب القرينة على عدم لزوم الإتيان والترخيص في تركه.

فدعوى كون الصيغة موضوعة للوجوب أو أنّ الصيغة منصرفة إليه أو أنّ الوجوب ممّا اقتضته مقدّمات الحكمة كلّها كما ترى لما عرفت.

٧٣

الخلاصة :

وقد عرفت أنّ مقتضى التبادر هو وضع صيغة افعل لإيجاد البعث وإنشائه.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ البعث من ناحية المولى مع أنّ الاصل في الأفعال هو حملها على الجدّ يكون تمام الموضوع لحكم العقلاء بكون البعث المذكور حجّة على لزوم الإتيان ما لم تقم قرينة على الترخيص وجواز الترك.

كما أنّ البعث الخارجيّ باليد ونحوها من ناحية المولى يكون موضوعا لحكمهم بذلك.

ولذلك لا يتوجّه العقلاء إلى الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب مع الاعتراف بعدم قيام القرينة على الخلاف.

وعليه فالوجوب أمر ينتزع من البعث المذكور وحكم العقلاء بكونه حجّة على لزوم الإتيان به ما لم تقم قرينة على الترخيص في تركه.

كما أنّ الاستحباب أمر ينتزع من البعث المذكور مع قيام قرينة على الترخيص في تركه فالوجوب والندب أمران انتزاعيّان لا مدلولان لصيغ الأمر.

وعليه فدعوى تبادر الوجوب من حاقّ صيغة افعل كما ترى لما عرفت من أنّها جزء الموضوع لانتزاع الوجوب وجزء الآخر هو حكم العقلاء بكونه حجّة على لزوم الإتيان كما أنّ القول بأنّ الوجوب مستفاد من مقدّمات الحكمة غير سديد إذ ليس المراد من الوجوب هو الإرادة حتّى يقال إنّها ذات مراتب فيمكن جريان المقدّمات لتعيين شديدها لما عرفت من أنّ مفاد الصيغة هو الأمر الإنشائيّ وهو ليس ذا مراتب بل أمر بسيط لا يختلف في الوجوب والندب كما لا وجه لدعوى انصراف الصيغة إلى الوجوب لما عرفت من أنّ مدلولها ليس إلّا إنشاء البعث. هذا مضافا إلى أنّه لا إطلاق في مفاد الإنشائيّات لأنّها كالمعاني الحرفيّة من الامور المشخّصة الجزئيّة

٧٤

فلا مجال لدعوى الانصراف لأنّه متفرّعة على كون مفادها مطلقا.

ثمّ ينقدح ممّا ذكر أنّه لا حاجة في انتزاع الوجوب بعد بناء العقلاء على أنّ بعث المولى لا يترك بغير جواب إلى اقتران البعث بالمقارنات الشديدة كضرب الرجل على الأرض وتحريك الرأس واليد ولذا لو لم يقترن بهذه الامور انتزع الوجوب منه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ البعث لا يختلف في الوجوب والندب لأنّه تحريك نحو العمل وإنّما الاختلاف في الترك الكاشف عن عدم الإرادة الحتميّة فالمستعمل فيه في الوجوب والندب واحد وهو إنشاء البعث وإنّما الاختلاف في الدواعي إذ الداعي في الوجوب هو الإرادة الحتميّة للإتيان بخلاف الداعي في الندب.

والشاهد له هو إمكان جمع الواجبات والمندوبات في عبارة واحدة كقولهم اغسل للجمعة والجنابة من دون لزوم استعمال اللفظ الواحد في الأكثر من معناه أو تأويل الصيغة إلى معنى يصحّ أن يكون جامعا وذلك لأنّ معنى الصيغة وهو إنشاء البعث واحد في الوجوب والندب والاختلاف في الدواعي لا في مفاد الهيئة فمع قيام القرينة على الترخيص في ترك غسل الجمعة يرفع اليد عن ظهور الصيغة في الوجوب بالنسبة إليه دون غسل الجنابة.

٧٥

المبحث الثالث : في الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الطلب والبعث :

ولا يخفى عليك أنّ بعض الأعلام كصاحب الكفاية ذهبوا إلى أنّ تلك الجمل مستعملة في معناها وهو ثبوت شيء لشيء وإنّما الفرق بينها وبين الجمل الخبرية المستعملة في مقام الإخبار في الدواعي إذ الداعي في الأخيرة هو الإخبار والإعلام بوقوع الشيء لشيء بخلاف الاولى فإنّ الداعي فيها هو البعث الحقيقي والتوصّل بها إلى وقوعها في الخارج.

واستشكل فيه بأنّ لازم استعمال الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الطلب في معناها من ثبوت شيء لشيء هو الكذب كثيرا لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوّا كبيرا.

واجيب عنه كما في الكفاية بأنّه إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار والإعلام فيتخلّف لداعي البعث وإلّا يلزم الكذب في غالب الكنايات فمثل زيد كثير الرماد أو مهزول الفصيل لا يكون كذبا إذا قيل كناية عن جوده ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا وإنّما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد.

واستشكل فيه كما أفاد الاستاذ بمنع قياسه بالكنايات لوجود الفارق بينهما إذ لا ملازمة بين الوقوع ونفس إرادة المولى بخلاف الجود وكثرة الرماد. نعم وقوع الفعل في الخارج عن العبد المنقاد يكشف عن علمه بإرادة المولى فلا ملازمة بين الوقوع والإرادة متفرّعة على العلم بالإرادة لا نفس الإرادة بخلاف الملازمة التي تكون بين

٧٦

الجود وكثرة الرماد فإنّها موجودة قبل العلم وسابقة عليه.

وعليه فإن كان الملازمة متحقّقة بين الوقوع وإرادة المولى لأمكن قياسه بالكنايات فإنّه أخبر عن الوقوع لينتقل إلى إرادة المولى كما أخبر عن كثرة الرماد لينتقل منها إلى الجود وكثرة العطاء ولكنّ الأمر ليس كذلك لما عرفت من أنّ الملازمة بين الوقوع عن العبد المنقاد والعلم بإرادة المولى لا نفس الإرادة حتّى يجوز الانتقال من الإخبار على الوقوع إلى إرادة المولى.

اللهمّ إلّا أن يقال إنّ المقصود من تنظير المقام بباب الكنايات هو أنّ المقصود الأصليّ ليس هو الإخبار كما أنّ المقصود الأصليّ في قولنا : زيد كثير الرماد ليس هو الإخبار بل المقصود هو وجود إرادة المولى لا من جهة دعوى الملازمة بين الوقوع والإرادة وكون المقام من الكنايات بل من جهة حكم العقل من جهة أنّ الإخبار بقوله : «يعيد» عن وقوع الإعادة عن العبد المنقاد مع عدم كونه في مقام الإخبار عن الغيب يدلّ على أنّ مقصود المولى من ذلك الإخبار هو بيان أنّه مريد لهذا الوقوع كما يحكم أيضا بذلك إذا جعل المولى شيئا من الثواب على شيء فإنّه شاهد على إرادته لذلك.

وعليه فإذا لم يكن المقصود الأصليّ هو الإخبار فلا مجال لملاحظة الصدق والكذب بالنسبة إلى النسبة الحكميّة في «يعيد» أو في قولنا : «زيد كثير الرماد» لأنّ النسب المذكورة جيء بها توطئة لإفادة أمر آخر فلا وجه لإيراد استلزام الكذب لو اريد من قولهم : «يعيد» ونحوه الجمل المستعملة في معناها لأنّ النسبة في قولهم «يعيد» جيء بها توطئة لإفادة إرادة البعث.

ولذا قال في الدرر : إنّ الصدق والكذب يلاحظان بالنسبة إلى النسبة الحكميّة المقصودة بالأصالة دون النسبة التي جيء بها توطئة لإفادة أمر آخر ولذا لا يسند الكذب إلى القائل بأنّ زيدا كثير الرماد توطئة لإفادة جوده وإن لم يكن له رماد أو

٧٧

كان ولم يكن كثيرا وإنّما يسند إليه الكذب لو لم يكن زيد جوادا. (١)

هذا مضافا إلى أنّ الإخبار عن الوقوع من العبد المنقاد لا يتخلّف لأنّه يفعل ولا يترك والتخلّف فيما إذا كان الإخبار عن العبد ولو لم يكن منقادا فدعوى لزوم الكذب لو استعملت الجمل المذكورة في معناها كما ترى.

لا يقال : إن كان كذلك فليس غير المنقاد مكلّفا.

لأنّا نقول : إنّ غير المنقاد يعلم بكونه مكلّفا بقاعدة الاشتراك بينه وبين المنقاد الذي كان مخاطبا بالخطاب.

فتحصّل أنّ الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب مستعملة في معناها من الإخبار وإنّما التفاوت بينها وبين الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الإخبار بالدواعي.

ثمّ يقع الكلام في وجه دلالة الجملة المستعملة في الإخبار في مقام الطلب على الوجوب :

ربما يقال كما في تعليقة الكفاية للمحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره إنّ الملازمة بين الإخبار وإظهار إرادة الوقوع لا بدّ من أن تكون للملازمة بين الوقوع وطلب الوقوع ومن البيّن أنّ الوقوع من المنقاد لازم لطلبه منه فالبعث نحو المنقاد ملزوم لوقوع المبعوث منه في الخارج فلذا أخبر عن اللازم إظهارا لتحقّق ملزومه ومن الواضح أنّ البعث الذي لا ينفكّ عن الوقوع من المنقاد هو البعث الحتميّ وإلّا فالبعث الندبيّ ولو إلى المنقاد لا يلازم الوقوع بل ربما يكون وربما لا يكون. (٢)

ولعلّ إليه يؤول ما أفاده استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّه لا بناء للعباد المنقادين إلّا على إتيان الواجبات وعدم تركها فالتعبير بقوله عليه‌السلام : «يعيد» تدلّ على

__________________

(١) الدرر ١ / ٧٦.

(٢) نهاية الدراية ١ / ١٨٦.

٧٨

الإرادة الوجوبيّة. انتهى

وفيه إنّ الإتيان بالعمل والإخبار عنه وإن كان كاشفا عن إرادة المولى ولكنّه لازم أعمّ من جهة كونها إرادة حتميّة أو غير حتميّة لا سيّما إذا كان العبد منقادا فلا يكشف عن خصوص إرادة حتميّة حتّى يدلّ على الوجوب فالأولى هو أن يقال إنّ مع إحراز تعلّق إرادة المولى بوقوع شيء تتمّ الحجّة على لزوم الإتيان به ما لم تقم قرينة على خلافه.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية ذهب إلى أنّ الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الطلب تكون أظهر من الصيغة لإفادة الوجوب مستدلّا بأنّه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهارا بأنّه لا يرضى إلّا بوقوعه فيكون آكد في البعث من الصيغة مع أنّ عنوان «لا يرضى إلّا بوقوعه» يساوق الإرادة الحتميّة فلا يدلّ على الأزيد ممّا تدلّ عليه الصيغة فإنّها أيضا تدلّ على البعث الذي يكون حجّة عقلائيّة على لزوم الإتيان بالعمل فلم يعلم وجه الآكديّة والأظهريّة.

اللهمّ إلّا أن يقال إنّ الإخبار عن كون وقوعه مفروغا عنه في الخارج في مقام طلبه مع أنّ الوقوع متفرّع على المبادئ منها هو الطلب والأمر كان البعث آكد فافهم.

قال استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره إن ثبتت شدّة الإرادة في الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الطلب فثمرتها هو وجوب تقديمها على صيغة «افعل» فيما إذا تتعارضان.

ثمّ أنّه يقع الكلام في استعمال الجمل الخبريّة الواردة في مقام الترخيص من جهة أنّ الإخبار بالوقوع لا يساعده تلك الجمل إذ مع الترخيص لا بناء للعباد ولو كانوا منقادين على الإتيان حتّى يمكن الإخبار عنه بداعي إرادة الترخيص وإنشائه. ففي مثل قوله : «إذا سلّم المصلّي عن صلاته يتكلّم» لا بناء للعباد على التكلّم حتّى يصحّ الإخبار عن وقوع التكلّم بداعي إرادة الترخيص.

يمكن الجواب عنه كما أفاده سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره بأنّ مقتضى طبع

٧٩

المصلّي حيث كان هو التكلّم بعد الفراغ عن صلاته لو لا المنع فيصحّ التعبير عنه بقوله : «يتكلّم» إذا أراد الترخيص فالجمل الخبريّة مستعملة في معناها حتّى في أمثال هذه الموارد فافهم.

هذا كلّه بناء على ما ذهب إليه جماعة من استعمال تلك الجمل في معناها من ثبوت شيء لشيء.

ولكنّ الإنصاف أنّ هذا القول لا يخلو عن تكلّف.

والأولى أن يقال : إنّ الظاهر من الجمل الإنشائيّة عرفا في مثل قولنا : «بعت» و «أنكحت» و «يعيد» و «يغتسل» و «تشتري» و «تبيع» وغير ذلك هو الإنشاء لا الإخبار بداعي الإنشاء.

وبعبارة اخرى هذه الجمل تكون من الموجدات لا الحاكيات فقولنا : «بعت» يدلّ على إيجاد البيع لا الإخبار عن وقوع البيع فيما مضى بداعي إرادة الإنشاء كما أنّ قول المولى لعبده : «تذهب إلى السوق وتشتري اللحم وكذا وكذا وتجيء بها إلى المطبخ» كلّها إنشاءات لا إخبارات كما يشهد به التفاهم العرفيّ وحملها على الإخبارات بعيد عن أذهان العرف وإن أمكن.

هذا مضافا إلى أنّ لازم كونها إخبارات هو أن يكون هذه الجمل أعني «بعت» و «أنكحت» حاكية عن إرادة المعاملة نظير ما ذهب إليه صاحب الدرر في مطلق الإنشاءات مع أنّك عرفت ضعف ذلك.

فالأظهر أنّ الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الطلب إيجاديّة لا حاكية لما مرّ من أنّ الإنشائيّات إيجاديّة لا حاكية.

ولقد أفاد وأجاد في المحاضرات حيث قال : إنّ المتفاهم العرفيّ من الجملة الفعليّة التي تستعمل في مقام الإنشاء غير ما هو المتفاهم العرفيّ منها إذا استعملت في مقام الإخبار مثلا المستفاد عرفا من مثل قوله عليه‌السلام : يعيد الصلاة أو يتوضّأ أو يغتسل

٨٠