عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

التي هي ما يتوقّف عليه وجود ذي المقدّمة ولا يمكن وجوده بدونه وعليه فالكلّ والجزء لهما ملاكان في نفس الأمر ربما يتوهّم خروج المقدّمات الداخليّة من حريم النزاع بتقريب أنّ الأجزاء بالأسر أي مجموعها عين المركّب في الخارج فلا معنى للتوقّف حتّى يترشّح الوجوب منه إليه والمغايرة الاعتباريّة لا توجب مغايرة وجود أحدهما لوجود الآخر.

وفيه أنّ مجموع الأجزاء الذي كان منشأ لانتزاع عنوان المركّب عين المركّب لا من مقدّماته إذ المقدّمة هو كلّ واحد واحد من الأجزاء والأفراد. ألا ترى عدم صدق العنوان إلّا على المجموع دون الأفراد أو الأجزاء ، مثلا عنوان الفوج أو القوم صادق على مجموع آحاد العسكر أو القوم لا على كلّ واحد واحد كما أنّ عنوان البيت أو الدار صادق على مجموع أجزاء البيت أو الدار لا على كلّ واحد واحد من الأجزاء كما لا يخفى وعليه فإذا كانت حقيقة ذي المقدّمة والمقدّمة وملاكهما متحقّقة في الواقع ونفس الأمر فكيف يكون المقدّمات الداخليّة خارجة عن محلّ النزاع.

ثمّ أنّ المراد من التعبير بلا بشرط في الكفاية أو بشرط لا كما عن الشيخ الأعظم إن كان هو يرجع إلى حقيقة المقدّمة في نفس الأمر كما أنّ تعبير بشرط الشّيء كما في الكفاية أو لا بشرط كما عن الشيخ الأعظم يؤول إلى حقيقة المركّب فلا مانع وأمّا إذا كان المقصود إنّ الجزء والكلّ أمران اعتباريّان من دون تحقّق منشأ انتزاعهما في نفس الأمر والواقع ففيه منع لما عرفت من أنّ ملاك الجزئيّة والكلّيّة متحقّق في نفس الأمر ويكون توقّف المركّب على الجزء حقيقيّا وضروريّا وملاك تعلّق الإرادة الغيريّة كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد الخمينيّ هو التوقّف الواقعيّ للمركب على كلّ جزء من أجزائه (١).

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٣٤.

٣٨١

فالمغايرة ليست اعتباريّة محضة كما لا يخفى.

وثانيها : إنّ محطّ الإرادة والطلب هو الوجود الذهنيّ باعتبار حكايته عن الخارج لا الوجود الخارجيّ لأنّ الفعل بما هو وجود خارجيّ بعد تحقّقه في الخارج موجب لسقوط الوجوب والثبوت وعليه فالمطلوب والمراد هو الفعل الذهنيّ سواء كان بسيطا أو مركّبا بما هو وجود عنوانيّ مطابقه ومعنونه هو الوجود الخارجيّ.

فحينئذ إذا لاحظ الآمر عنوانا مركّبا يكون الغرض مترتّبا عليه كالفوج المترتب عليه فتح البلد كأنّ كلّ واحد من الآحاد مندكّ فان في العنوان المركّب كالفوج ولا يكون كلّ واحد في حال إرادة المركّب موردا للتصوّر أو الاشتياق ولا يمكن أن تتعلّق بكلّ واحد واحد من الآحاد إرادة نفسيّة لعدم صدق العنوان عليه وعدم ترتّب الغرض عليه فالآمر إنّما أراد عند تصوّر العنوان المركّب كالفوج والقوم والصلاة نفس المتصوّر واشتاق إليه وأراد إحضاره فإرادته النفسيّة متعلّقة بنفس العنوان المركّب لا غير ثمّ أنّ إرادة العنوان والدعوة إليه إرادة مجموع الأجزاء والآحاد الذي هو معنون هذا العنوان لاتّحاد العنوان مع معنونه.

ولذا أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بأنّ دعوة الأمر إلى إيجاد الأجزاء إنما هو بعين دعوتها إلى الطبيعة (١).

وقد عرفت أنّ مجموع الأجزاء عين المركّب وليس هو بالمقدّمة إذ المقدّمة هي كلّ واحد واحد من الأجزاء فالآمر بعد تصوّر أنّ المركّب لا يتأتّى به إلّا بكلّ واحد واحد من الأجزاء والأفراد أراد كلّ مقدّمة لأجل إرادة المركّب ويكفي في تعلّق الإرادة الغيريّة لحاظ كلّ فرد أو كلّ جزء إجمالا بعنوان ما يتوقّف عليه العنوان المركّب الواجب فتتعلّق الإرادة بها تبعا لإرادة ذي المقدّمة وهو ممّا يشهد به الوجدان

__________________

(١) تهذيب الاصول : ٢ / ٣٢٥.

٣٨٢

فإنّ قراءة الحمد من أجزاء الصلاة مثلا تقع بالإرادة الغيريّة عند الالتفات إلى أنّها من أجزاء الصلاة وهكذا.

فإرادة العنوان المركّب إرادة نفسيّة وإرادة كلّ جزء جزء إرادة غيريّة.

ثالثها : إنّ المقدّمة ليست بمرادة وواجبة بما لها من العناوين الذاتيّة بل بما له من حيثيّة المقدّميّة وهي كما أفاد المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من الحيثيّات الواقعيّة الّتي ربما لا توجد في غيرها (١).

فالمعتبر في الإرادة الغيريّة هو المقدّميّة.

وعليه فلا وجه لجعل عنوان المقدّمة من الحيثيّات التعليليّة لتعلّق الإرادة أو الوجوب بنفس المقدّمة بما لها من العناوين الذاتيّة لعدم مطلوبيّتها بعنوانها الذاتيّة بل لكونها معنونة بعنوان المقدّمة كانت مطلوبة.

وعليه فمركّب الإرادة والأمر والبعث في الإرادة النفسيّة والأمر النفسيّ غير مركّب الإرادة الغيريّة والأمر الغيريّ فإنّ المركّب في الأوّل هو العنوان الذهنيّ الذي مطابقه عين مجموع الأجزاء الذي يترتّب عليه الغرض والمركّب في الثاني هو أيضا عنوان ذهنيّ وهو المقدّمة الحاكية عن حقيقة خارجيّة وهو كلّ ما لو لاه لما كان المركّب المقصود فارتفع المحاذير كلّها فالمقدّمة مركّب الإرادة الغيريّة وعنوان المركّب المنطبق على مجموع الأجزاء مع كيفيّتها وترتّبها الخاصّ مركّب الإرادة النفسيّة.

رابعها : إنّه لا يلزم من وجوب المقدّمة الداخليّة اجتماع الوجوب النفسيّ والغيريّ في شيء واحد حتّى يقال بأنّ اجتماع المثلين محال لأنّ الوجوب النفسيّ متعلّق بالعنوان المطابق على مجموع الأجزاء الذي منشأ لانتزاع العنوان ومن المعلوم أنّ المعنون المذكور ليس كلّ واحد واحد من الأجزاء إذ لا يكون كلّ واحد واحد

__________________

(١) التعليقة : ١ / ٢٦٨.

٣٨٣

منشأ لا نزاع العنوان كما لا يصدق العنوان عليه.

كما أنّ الوجوب الغيريّ متعلّق بعنوان المقدّمة الحاكية عن كلّ واحد واحد فمغايرتهما مانعة عن اجتماعهما في الواحد وعليه فلا وجه لدعوى أنّ تعلّق الوجوب الغيريّ بالمقدّمة يوجب اجتماع المثلين بتوهّم أنّ مقتضى كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتا هو كون نفس آحاد الأجزاء واجبة بنفس وجوب ذي المقدّمة ومبعوثا إليها بنفس الأمر الباعث إليه وحينئذ فلو كانت الأجزاء وافية بالوجوب الغيريّ لزم اجتماع الوجوبين المتماثلين في شيء واحد وهو نفس أحد الأجزاء.

وذلك لما عرفت من أن المراد من المعنون وهو الأجزاء بالأسر أي مجموعها غير ما يتوقّف عليه الكلّ من آحاد الأجزاء فعند ملاحظة منشأ انتزاع العنوان لا يرى وجود المقدّمة استقلالا فالوجوب النفسيّ لا يرتبط بالمقدّمة بل مرتبط بنفس منشأ انتزاع المركّب وهو مجموع الأجزاء والآحاد كما أنّ المراد من معنون المقدّمة هو ما يتوقّف الكلّ عليه فلا يسري الوجوب النفسيّ إلى معنون المقدّمة كما لا يسري وجوب المقدّمة إلى معنون ذي المقدّمة فلا يلزم بعد اختلاف موضوع الوجوب النفسيّ والوجوب الغيريّ اجتماع المثلين عند تعلّق الوجوب الغيريّ بالمقدّمة كما لا يلزم اللغويّة أيضا بعد تعدّد الملاك بحسب الواقع بتبع مغايرة معنون المقدّمة مع معنون ذي المقدّمة.

وعليه فلا مورد لما في بدائع الأفكار من أنّ الأجزاء نفس الكلّ المركّب منها وجودا في الخارج والبعث إلى الكلّ بعث إليها فأيّ فائدة في البعث إليها ثانيا وإذا كان البعث الغيريّ لغوا استحال على الحكيم صدوره منه (١).

وذلك لأنّ معنون عنوان المركّب هو مجموع الأجزاء الذي يترتّب عليه الفرض

__________________

(١) ج ١ / ٣١٦.

٣٨٤

وهو مغاير مع كلّ جزء جزء ممّا يتوقّف حصول المجموع المذكور عليه ولذا لا يترتّب على كلّ جزء جزء الغرض المترتّب على المجموع فإرادة المجموع بما هو المجموع غير إرادة كلّ جزء جزء والمغايرة بينهما تكفي في كون الأجزاء الداخليّة كالأجزاء الخارجيّة في البحث عن أنّ إرادة ذي المقدّمة هل تكون مستلزمة لإرادة كلّ جزء جزء شرعا أو لا فكما أنّ تعلّق الإرادة بذي المقدّمة في المقدّمات الخارجيّة لا توجب لغويّة تعلّق الإرادة بالمقدّمات الخارجيّة كذلك تعلّق الإرادة النفسيّة بالعنوان المنطبق على المجموع بما هو مجموع بحيث لا يرى فيه الأجزاء بنحو الاستقلال لا توجب لغويّة الإرادة الغيريّة بنفس كلّ جزء جزء من الأجزاء.

ألا ترى من أراد البيت أراد معنون البيت من مجموع الأجزاء بما هو مجموع الأجزاء المترتّب عليه الغرض من السكونة فيه ومع ذلك أراد كلّ جزء جزء من أجزاء البيت ممّا يتوقّف حصول المجموع المذكور عليه كالباب أو العمود ونحوهما.

فتحصّل أنّ المركّبات الجعليّة الشرعيّة كالمركّبات الصناعيّة فكما أنّ مثل السرير أو البيت له هيئة وأجزاء تسمّى باسم مخصوص باعتبار مجموعهما ويشير به اليهما إجمالا ويقال له الكلّ كلّ بالإضافة إلى آحاد الموادّ التي تركّب منها وتسمّى تلك الآحاد أجزاء له ويكون نفس هذا المجموع الذي يترتّب عليه الغرض مصحّح انتزاع الكلّ من ذلك المركّب كذلك يكون الأكثر في المركّبات الجعليّة الشرعيّة.

وأيضا كما أنّ المركّب الصناعيّ مورد الإرادة النفسيّة بما هو المركّب الصّناعيّ كذلك المركّب الجعليّ مورد الإرادة النّفسيّة وكما أنّ كلّ جزء من أجزاء المركّب الصناعيّ بنحو التفصيل مورد الإرادة الغيريّة كذلك يكون الأمر في كلّ جزء جزء من أجزاء المركّب الجعليّ اذا لوحظ تفصيلا ولا ينافي ذلك كون كلّ جزء باعتبار اندكاكه في المجموع مورد الإرادة النفسيّة لأنّه باعتبار وجوده في العنوان الإجماليّ والإرادة الغيريّة باعتبار وجوده التفصيليّ واختلاف موضوعهما بالإجمال والتفصيل يكفي في

٣٨٥

رفع التنافي ويشهد له حكم الوجدان بوجود الإرادتين في المركّبات الصناعيّة. فإنّ الباني للبيت له إرادة نفسيّة بالنسبة إلى بناء البيت والبيت عنوان إجماليّ لجميع كلّ ما له دخل في تحقّق البيت في الخارج ومع ذلك يحصل له إرادة تبعا بالنسبة إلى كلّ جزء جزء حين بناء البيت فلا تغفل.

أورد المحقّق العراقيّ على ذلك بأنّ في المثال المزبور إمّا أن تكون المصلحة النفسيّة قائمة بالهيئة الاجتماعيّة فقط أو بالأجزاء والهيئة الاجتماعيّة معا.

فعلى الأوّل وإن كانت الأجزاء مقدّمة للهيئة الاجتماعيّة الواجبة فتكون واجبة بالوجوب الغيريّ إلّا أنّه خارج عن الفرض إذ عليه لا يكون الواجب كلّا والأجزاء مقدّمة له كما هو الواضح وعلى الثاني يكون الواجب عدّة أمور ومن جملتها الهيئة الاجتماعيّة فلا يتحقّق أيضا في معروض الوجوب كلّ ذي أجزاء ذو أجزاء. والشاهد على ذلك هو أنّه في هذا الفرض يمكن أن يؤمر بتلك الأمور مع الهيئة الاجتماعيّة بأوامر متعدّدة كما أنّه يمكن أن يؤمر بها بأمر واحد وهذا يكشف عن أنّ متعلّق الأمر ليس كلّا ذا أجزاء (١).

ولكن يمكن أن يقال إنّ معنون عنوان المركّب هو مجموع الأجزاء والهيئة بوجودهما الإجماليّ وعليه فلا يكون المصلحة النفسيّة قائمة بالهيئة الاجتماعيّة فقط كما لا تكون قائمة بالأجزاء والهيئة الاجتماعيّة منفصلة كلّ واحدة عن الاخرى بل المصلحة قائمة على وجودهما الإجماليّ المشتمل عليها الذي يصدق عليه الكلّ وعلى آحاد أجزائه عنوان الجزء فلا تغفل.

خامسها : في ثمرة البحث :

ذهب في بدائع الأفكار إلى أنّ ثمرة القول بالوجوب الغيريّ للأجزاء هو

__________________

(١) بدائع الافكار : ١ / ٣١٨.

٣٨٦

الاشتغال في مسألة الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين دون ما إذا قلنا بأنّ الأجزاء واجبة بوجوب نفس الكلّ فإنّه يمكن الرجوع حينئذ إلى البراءة في الزائد.

وذلك لوجود العلم الإجماليّ بالتكليف وعدم صلاحيّة العلم التفصيليّ بمطلق وجوب الأقلّ الأعمّ من الغيريّ والنفسيّ للانحلال لتولّده من العلم الإجماليّ السابق عليه وتحقّق التنجّز في المرتبة السابقة.

هذا بخلاف القول بعدم وجوب الأجزاء بالوجوب الغيريّ إمّا من جهة انتفاء ملاك المقدّميّة فيها أو من جهة محذور اجتماع المثلين لامكان الرجوع إلى البراءة في تلك المسألة نظرا إلى رجوع الأمر حينئذ إلى علم تفصيليّ بتعلّق إرادة الشارع بذات الأقلّ ولو لا بحدّه وهو الخمسة مثلا والشكّ البدويّ في تعلّقها بالزائد.

وأمّا العلم الإجماليّ فانّما هو متعلّق بحدّ التكليف وأنّه الأقلّ أو الأكثر كالخطّ الذي يتردّد حدّه بين الذراع والذراعين ومثل هذا العلم لا أثر له في التنجيز لأنّ المؤثّر منه إنّما هو العلم الإجماليّ بذات التكليف لا بحدّه (١).

وفيه ما لا يخفى لأنّ عنوان المركّب متّحد مع الأجزاء المعلومة اتّحاد المجمل مع المفصّل وإرادة العنوان ووجوبه تكون إرادة مجموع الأجزاء المعلومة ووجوبها ومع الاتحاد والعينيّة فالأجزاء المعلومة واجبة بالتفصيل.

وأمّا الأجزاء المشكوكة فلا دليل على دخالتها في العنوان كما لا دليل على ارادتها ووجوبها.

وعليه فيمكن إجراء البراءة فيها لعدم تماميّة البيان فيها ولا فرق في ذلك بين أن قلنا بأنّ كلّ جزء جزء واجب غيريّ كما قوّيناه أو لم نقل.

ولذلك قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره إنّ الحجّة على المركّب أنّما يكون حجّة على

__________________

(١) ١ / ٣١٩.

٣٨٧

الأجزاء وداعيا إليها إذا قامت الحجّة على كون المركّب مركّبا من الأجزاء الكذائيّة ومنحلّا إليها وأمّا مع عدم قيام الحجّة عليه لا يمكن أن يكون الأمر به حجّة عليها وداعيا إليها فمع الشكّ في جزئيّة شيء للمركّب لا يكون الأمر المتعلّق به حجّة عليه ضرورة أنّ تماميّة الحجّة إنّما تكون بالعلم والعلم بتعلّق الأمر بالمركّب إنّما يكون حجّة على الأجزاء التي علم تركيب المركّب منها لما عرفت من أنّ السرّ في داعويّة الأمر المتعلّق به إلى الأجزاء ليس إلّا كونه منحلّا إليه فمع الشكّ لا يكون الأمر بالمركّب حجّة عليه فلو بذل العبد جهده في استعلام ما أخذه المولى جزء للمركّب ووقف على عدّة أجزاء دلّت عليه الأدلّة وشكّ في جزئيّة شيء آخر فأتى بما قامت الحجّة عليه وترك ما لم يقم عليه يعدّ مطيعا لأمر مولاه فلو عاقبه المولى على ترك الجزء المشكوك فيه يكون عقابا بلا بيان وبلا برهان.

والحاصل أنّ العبد مأخوذ بمقدار ما قامت الحجّة عليه لا أزيد ولا أنقص.

أمّا العنوان فقد قامت عليه وأمّا أجزاء فما علم انحلاله إليها فقد لزم العبد لأنّ قيام الحجّة على العنوان قيام على الأجزاء التي علم انحلاله إليها وأمّا الأجزاء المشكوكة فيها فلم يعلم انحلال العنوان عليها ولا يتمّ الحجّة عليها للشكّ في دخولها في العنوان.

وهذا نظير ما لو كانت الأجزاء واجبة من أوّل الأمر بلا توسيط عنوان فكما يرجع فيه إلى البراءة فهكذا فيما إذا كان متوسّطا في وجوب الأجزاء لما عرفت من العينيّة مع التحفّظ بالفرق بالإجمال والتفصيل.

لا يقال إنّ الحجّة قد قامت على العنوان الإجماليّ فلا بدّ من الإتيان بالأكثر حتّى يحصل العلم بالإتيان بما قامت الحجّة عليه لأنّا نقول كأنّك نسيت ما حرّرنا من الأمور لما تقدّم من أنّ النسبة بينهما بين العنوان والأجزاء ليست نسبة المحقّق إلى المحقّق (بالفتح) حتّى يكون المآل إلى الشكّ في السقوط بل العنوان عين الأجزاء في لحاظ

٣٨٨

الوحدة لا متحصّلا منها (١).

هذا مضافا إلى أنّه لو سلّمنا عدم اتّحاد العنوان مع الأجزاء وكون النسبة بينهما نسبة المحصّل مع المحصّل فلا نسلّم عدم جواز البراءة في الزائد أيضا لكون المحصّل شرعيّا ويكون بيانه بيد الشارع وإنّما لا مجال لجريان البراءة فيما إذا كان المحصّل عقليّا أو عرفيّا بحيث لا يكون بيانه على عهدة الشارع كما أفاد ذلك المحقّق الهمدانيّ قدس‌سره في طهارته أو صلاته وعليه فلا وجه لقول سيّدنا الإمام قدس‌سره ليست النسبة بينهما نسبة المحقّق والمحقّق (بالفتح) حتّى يكون المآل إلى الشكّ في السقوط في مقامنا كما لا يخفى.

على أنّ العلم الإجماليّ بوجوب الأقلّ والأكثر يوجب الاحتياط كما ذهب إليه المحقّق صاحب الحاشية فيما إذا كان الأقلّ مباينا مع الأكثر وأمّا إذا كان معنى الأقلّ كما أفاد سيّدنا الإمام الخمينيّ قدس‌سره إنّ الملحوظ نفس الأقلّ من غير لحاظ انضمام شيء معه لا كون عدم لحاظ شيء معه ملحوظا حتّى يصير متباينا مع الملحوظ بشرط شيء يكون الأقلّ متيقّنا والزيادة مشكوكا فيها فينحلّ العلم إلى علم تفصيليّ وشكّ بدئيّ في وجوب الزيادة (٢).

وعليه فلا يكون ثمرة البحث هو الاشتغال على تقدير القول بالوجوب الغيريّ في آحاد الأجزاء والبراءة على عدم تقدير القول به لما عرفت من إمكان البراءة على تقديرين كما لا يخفى وبقيّة الكلام في محلّه إن شاء الله تعالى.

ولا يذهب عليك أنّ المقدّمات الداخليّة داخلة في حقيقة المأمور به سواء كان نحو دخالتها بالجزئيّة أو التقييد وربما يجتمع الجزئيّة والتقييد في الشيء كالقراءة فإنّها بنفسها جزء الصلاة ولها دخالة في تحقّق الصلاة ومن حيث تقيّدها بكونها مسبوقة بالتكبيرة وملحوفة بالركوع أيضا لها الدخالة فيها. وربما يكون بعض الأشياء دخيلا

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ / ٣٢٧ ـ ٣٢٦.

(٢) تهذيب الاصول : ٢ / ٣٢٩.

٣٨٩

في المركّب من حيث التقيّد فقط دون أصل وجوده كطهارة البدن للصلاة وطهارة الثوب واستقبال القبلة والطهارة من الحدث ونظائرها فإنّها بنفسها خارجة عن ذات الصلاة وحقيقتها ولكنّها داخلة فيه تقيّدا يعني أنّ المأمور به هو حصّة خاصّة من الصلاة وهي الصلاة المتقيّدة بتلك الشرائط لا مطلقا.

فالجزء أو التقيّد كلاهما داخلان في المقدّمات الداخليّة وأمّا نفس الشرائط والقيود فهي ليست من المقدّمات الداخليّة بل هما خارجة عن حقيقة المأمور به المركّب كما لا يخفى.

المقدّمات الخارجيّة

وأمّا المقدّمات الخارجيّة فهي التي يتوقّف وجود المأمور به في الخارج على وجودها كتوقّف وجود الكون في الحجّ على طيّ المسافة أو كتوقّف تقيّد المأمور به بأمر على وجوده كتقيّد الصلاة بالطهارة على وجود طهارة البدن أو طهارة الثوب.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون المقدّمة علّة أو سببا أو شرطا أو معدّا لأنّ كلّها ممّا يتوقّف عليه ذو المقدّمة فالمشي نحو الحجّ من المقدّمات مع أنّها من المعدّات إذ كلّ خطوة تفي بوجود الآخر. نعم الخطوة الأخيرة المتّصلة كأنّه علّة للوصول ولكن لم يختصّ المقدّميّة بها كما لا يخفى.

ربما يتوهّم أنّ الأمر والطلب في المسبّبات التوليديّة لا مجال له بعد عدم كونها مقدورة بل اللازم هو رجوعه إلى الأسباب التي تكون مقدورة.

هذا مضافا إلى أنّ الأمر إنّما يتعلّق بما يتعلّق به إرادة الفاعل ومن المعلوم أنّ الإرادة لا يتعلّق بما ليس من فعله فالإرادة لا تتعلّق بمثل الإحراق في مثل أحرقه بل تتعلّق باسبابه من الإلقاء في النار مثلا.

ويدفع ذلك بما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من أنّ ملاك صحّة الأمر عقلا وعند جميع العقلاء هو كون الشيء مقدورا ولو مع الواسطة وإرادة الفاعل أيضا متعلّق

٣٩٠

بما هو مقدور مع الواسطة ضرورة تعلّق إرادة القاتل بقتل عدوّه وإنّما تتعلّق إرادة أخرى تبعا بأسبابه لأجل تحصيل مراده النفسيّ وهذا كاف في تعلّق الأمر المولويّ به ومعه لا معنى لصرف الأوامر إلى الاسباب (١).

ومنها تقسيمها إلى العقليّة والشرعيّة والعاديّة والمراد من العقليّة هي المقدّمة التي توقّف ذو المقدّمة في الوجود عليها كتوقّف المعلول على وجود العلّة وأجزائها ومعدّاته وإنّما سمّى عقليّة لحكم العقل بتوقّف وجود الشيء عليه ولو كان من المعدّات.

والمراد بالشرعيّة ما لا يكون التوقّف فيه واقعيّا بنفسه وإنّما توقّف عليه بعد حكم الشرع بدخالة شيء في واجبه ومطلوبه.

ولذا سمّيت المقدّمة شرعيّة باعتبار جعل الشرع دخالة شيء في واجبه ولكن بعد جعل واجبه مشروطا ومقيّدا فتوقّف المشروط على وجود شرطه عقليّ لا شرعيّ لاستحالة حصول التقيّد بدون حصول القيد وعليه يمكن إرجاع الشرعيّة إلى العقليّة.

ولذلك قال في نهاية الاصول :

أمّا الشرعيّة فهي ترجع إلى العقليّة لأنّ امتناع وجود شيء بدون شيء آخر الذي هو ملاك المقدّميّة ليس أمرا قابلا للجعل بأن تكون الصلاة مثلا بما لها من الآثار والغايات في نفس الأمر أمرا يتحقّق بحسب الواقع بدون الطهارة أيضا ومع ذلك يحكم الشارع تعبّدا بامتناع وجودها بدونها وعلى هذا فحكم الشارع بامتناع الصلاة بدون الطهارة مثلا إمّا من جهة أنّه أخذها قيدا للصلاة حين الأمر بها لدخالة لها في المصلحة المترتّبة منها.

وإمّا من جهة أنّ عنوان الصلاة كان بحسب الواقع عنوانا بسيطا ينتزع عن الأفعال المخصوصة وكان انطباقها عليها في نفس الأمر متوقّفا على الطهارة فكشف

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٣٥.

٣٩١

الشارع عن ذلك وعلى كلا الوجهين تكون دخالة الطهارة عقليّة أمّا على الثاني فواضح.

وأمّا على الأوّل فلأنّ استحالة وجود المقيّد بدون قيده تكون عقليّة (١).

وأمّا العاديّة فإن أريد بها ما لم يتوقّف تحقّق ذيها عليها إلّا أنّ العادة جرت على الإتيان به بواسطتها كالخروج من الدار فإنّه ممكن بدون التلبّس باللباس المعدّ للخروج ولكنّ العادة جرت على الخروج معه فالعاديّة بهذا المعنى غير راجعة إلى العقليّة لانتفاء حقيقة المقدّميّة بين ذي المقدّمة والمقدّمة العاديّة لعدم توقّف الخروج واقعا عليها لامكانه بدونها ولا ينبغي البحث عنها مع انتفاء حقيقة المقدّميّة فيها.

اللهمّ إلّا أن يقال كما أفاد سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره أنّ النزاع فيما له مقدّمات منها العاديّة يرجع إلى أنّ الأمر بذيها هل يقتضي الوجوب التخييريّ بين المقدّمات المتعدّدة أم لا كما إذا انحصرت المقدّمة في شيء واحد يرجع النزاع في أنّ الأمر بذيها هل يقتضى الوجوب التعيينيّ بالنسبة إليه أم لا فبهذا الاعتبار يرجع العاديّة إلى العقليّة أيضا نعم لا ينبغي النزاع في خصوص المقدّمة العاديّة بعد انتفاء حقيقة المقدّميّة بالنسبة إلى خصوصها.

وإن أريد بها ما توقّف ذو المقدّمة على وجودها كالصعود على السطح على نصب السلّم ونحوه ولكنّ التوقّف المذكور من جهة عدم التمكّن عادة من الطيران الممكن عقلا فهي أيضا راجعة إلى العقليّة ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلا لمن لم يتمكّن من الطيران فعلا وإن كان الطيران ممكنا ذاتا.

وينبغي البحث في أنّ الأمر بالكون على السطح هل يقتضي الوجوب التعيينيّ بالنسبة إلى نصب السلّم مع عدم التمكّن من غيره أم لا.

__________________

(١) ١ / ١٥٧.

٣٩٢

فتحصّل أنّ البحث في وجوب المقدّمة في المقدّمات العقليّة سواء كانت مقدّميّة المقدّمات من جهة التكوين وعدم إمكان النيل إلى ذي المقدّمة بدونها عقلا أو من جهة العادة عدم إمكان ذلك عادة وإن أمكن عقلا أو من جهة التشريع لأنّ توقّف ذي المقدّمة فعلا على المقدّمة في جميع الصور عقليّ ولا مانع من تسمية المقدّمة بالشرعيّة والعاديّة من جهة الجعل الشرعيّ أو جريان العادة في مقدّميّة المقدّمة فلا تغفل.

ومنها تقسيمها إلى : مقدّمة الوجود ومقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجوب ومقدّمة العلم.

ولا يخفى عليك رجوع مقدّمة الصحّة إلى مقدّمة الوجود ووجه ذلك أنّ الواجب المطلوب هو الصحيح وهو متوقّف على مقدّمة الصحّة وفقد شرط الصحيح أو وجود المانع مانع عن وجود تلك الخصوصيّة المأخوذة فيه التي عبّر عنها بالتقيّد بوجود ذلك الشيء أو بعدمه فما يوجب فقد الصحّة يوجب فقد الوجود أيضا واستحيل أن يوجد الشيء بجميع أجزائه وخصوصيّاته المأخوذة فيه ولا يكون صحيحا ولا فرق في ذلك بين أن يكون الأسامي موضوعة للأعمّ من الصحيح أو موضوعة لخصوص الصحيح لأن المأمور به والمطلوب ليس إلّا الصحيح فالواجب المطلوب هو الصحيح كما أنّ الصحيح هو الواجب المطلوب.

نعم لا وجه لإرجاع مقدّمة الصحّة إلى مقدّمة الوجود على مختار صاحب الكفاية كما أفاد سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره لأنّ قصد القربة أعني قصد الامتثال على مختاره غير ممكن أخذه في متعلّق الأمر لا بأمر واحد ولا بأمر متعدّد بل هو ممّا يعتبر في الطاعة عقلا وعليه فقصد القربة غير مأخوذ في الواجب فشرط الصحّة وهو قصد القربة ليس شرط وجود الواجب والواجب يغاير المسقط للإعادة والقضاء إذ إتيان الصلاة بلا قصد القربة إتيان بالواجب ولكنّه ليس بمسقط للإعادة والقضاء

٣٩٣

لاشتراط المسقط بإتيانه مع قصد القربة والمفروض هو فقدان قصد القربة وعليه فقصد القربة مقدّمة لتحقّق المسقط للاعادة والقضاء ولا يكون مقدّمة لوجود الواجب فلا يصحّ إرجاع مقدّمة الصحّة إلى مقدّمة وجود الواجب ومعه يصحّ التقابل بين مقدّمة الوجود وبين مقدّمة الصحّة.

وأمّا على مختارنا من إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق التكليف كما مرّ مفصّلا فرجوع مقدّمة الصحّة إلى مقدّمة وجود الواجب ممّا لا خفاء فيه.

ثمّ أنّ مقدّمة الوجوب خارجة عن محطّة الكلمات ولا حاجة إلى البحث عنها إذ محلّ الكلام كما في منتهى الاصول إنّما هو بعد الفراغ عن ثبوت وجوب ذي المقدّمة وتحقّقه في وجود الملازمة بين وجوب الشيء وبين وجوب مقدّماته الوجوديّة انتهى (١).

ولا حاجة في بيان خروجها عن محلّ الكلمات إلى التعليل البرهانيّ من أنّه ما لم تتحقّق المقدّمة لا وجوب لذيها ومع تحقّقها لا مجال لايجابها فإنّه طلب الحاصل كما هو المعروف في بيان الوجه لخروجها عن محلّ البحث هذا مضافا إلى ما فيه كما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّه لو كانت الشرطيّة على نحو الشرط المتأخّر كان وجوب ذيها قبل وجودها زمانا فلا يلزم من ترشّح الوجوب اليها طلب الحاصل إلخ (٢).

وأمّا مقدّمة العلم بمعنى المقدّمة العلميّة للامتثال كما إذا اشتبهت القبلة بين أربع الجهات فلا شكّ كما في الوقاية في وجوبها ولكن لا للوجوب المقدّميّ المتنازع فيه بل لقاعدة عقليّة وهي قاعدة أنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي البراءة اليقينيّة فمتى علم الاشتغال بواجب لزم بحكم العقل تحصيل اليقين بامتثاله قلنا بوجوب مقدّمة الواجب أم لا وأيضا الكلام في وجوب المقدّمة كما مرّ إجمالا وستعرفه تفصيلا ترشّح الطلب

__________________

(١) ١ / ٢٨٥.

(٢) ١ / ٢٧٢.

٣٩٤

المولويّ من ذي المقدّمة عليها فتجب مولويّا وتحصيل العلم بالفراغ ليس بواجب شرعيّ أصلا حتّى ينازع في ما يجب تبعا له (١).

نعم مقدّمة العلم بمعنى تعلّم الأحكام الشرعيّ كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره ليس وجوبها من باب القاعدة العقليّة المذكورة ومن باب وجوب الإطاعة إرشادا ليؤمّن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجّز بل وجوبها من باب كونه من مقدّمات وجود الواجب الواقعيّ لأنّ مع ترك تعلّم الأحكام فات الواقع من الأحكام فيكون حينئذ وجوبه مولويّا ومترشّحا من وجوب الأحكام الواقعيّة.

وهكذا لو قلنا بأنّ قصد الوجه أو التميّز تفصيلا واجب علينا فالمقدّمة العلميّة حينئذ تكون من مقدّمات وجود الواجب إذ لم يتمكّن من قصد الوجه أو التميّز التفصيليّ بدون تعلّم الحكم معيّنا فالمقدّمة العلميّة حينئذ صارت واجبة شرعا بوجوب الواجب لو ثبتت الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب مقدّماته فتأمّل.

فتحصّل أنّ مقدّمة الصحّة راجعة على مختارنا في قصد القربة إلى مقدّمة الوجود والمقدّمة العلميّة أيضا في بعض الفروض راجعة إلى مقدّمة الوجود ومقدّمات الوجوب خارجة عن محلّ الكلام فانحصرت مقدّمة الواجب في مقدّمة الوجود. نعم لا يضرّ تقسيم مقدّمة الوجود إلى مقدّمة الصحّة ومقدّمة العلم بالمعنى الذي ذكرناه للتنبّه على أنّ المقدّمة العلميّة ربما تكون من مقدّمة الوجود فلا تغفل.

ومنها تقسيمها إلى :

المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة بحسب الوجود بالنسبة إلى ذي المقدّمة.

فمن أمثلة المتقدّمة العقد في الوصيّة وبيع الصرف والسلم بل الأجزاء من كلّ عقد عدى الجزء الأخير منه ومن أمثلة المتأخّرة أغسال الليليّة اللاحقة المعتبرة عند

__________________

(١) ١ / ٢١٢.

٣٩٥

بعض في صحّة صوم المستحاضة في اليوم السابق والإجازة المتأخّرة في العقد الفضوليّ بناء على الكشف.

وقدرة المكلّفين التي هي معتبرة عند العمل في صحّة التكليف وحسنه وغير ذلك اورد على مقدّميّة المتأخّرة بل المتقدّمة بأنّ المقدّمة من أجزاء العلّة. والمسلّم في أحكام العلّة هو تقارنها زمانا بجميع أجزائها مع المعلول وتقدّمها بالطبع عليه بحيث يصحّ تخلّل الفاء بأن يقال وجدت العلّة فوجد المعلول.

وهذا الأمر مفقود في المقدّمة المتصرّمة وعليه فالقول بالشرط المتقدّم أو الشرط المتأخّر يوجب انخرام هذه القاعدة العقليّة فانحصرت المقدّمة المبحوثة عنها في المقدّمات المقارنة.

أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة :

الأوّل : ما أفاده صاحب الكفاية ومحصّله أنّ المتقدّم أو المتأخّر إمّا يكون شرطا للتكليف أو الوضع أو شرطا للمأمور به واشتراط المتقدّم أو المتأخّر في الأوّل يعني التكليف أو الوضع ليس إلّا بمعنى اشتراط لحاظهما فيهما كالشروط المقارنة فكما أنّ اشتراط التكليف أو الوضع بما يقارنه ليس إلّا بمعنى أنّ لتصوّره دخلا في أمره أو اعتباره وانتزاعه بحيث لو لاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر أو الداعي إلى اختراعه واعتباره كذلك في اشتراط التكليف أو الوضع بالمتقدّم أو المتأخر.

وبالجملة حيث كان الأمر في التكليفات أو الاعتبار والاختراع والانتزاع في الوضعيّات من الأفعال الاختياريّة كان من مبادئه بما هو كذلك تصوّر الشيء بأطرافه ليرغب في طلبه والأمر به أو اعتباره واختراعه بحيث لو لاه لما رغب فيه ولما أراده واختاره فيسمّى كلّ واحد من هذه الأطراف التي لتصوّرها دخل في حصول الرغبة فيه وإرادته شرطا لأجل دخل لحاظه في حصوله كان مقارنا له أو لم يكن كذلك متقدّما أو متأخّرا فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطا كان فيهما كذلك فلا

٣٩٦

اشكال ولا انخرام للقاعدة العقليّة في غير المقارن كما لا يخفى.

وأمّا اشتراط المتقدّم أو المتأخّر في المأمور به ليس إلّا بمعنى أنّ لذات المأمور به بالإضافة إلى المتأخّر أو المتقدّم يحصل ما هو وجه وعنوان به يكون حسنا أو متعلّقا للغرض بحيث لولاها لما كان كذلك واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات ممّا لا شبهة فيه والإضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخّر أو المتقدّم بلا تفاوت فكما تكون إضافة شيء إلى مقارن له موجبا لكونه معنونا بعنوان يكون بذلك العنوان حسنا ومتعلّقا للغرض كذلك إضافته إلى متأخّر أو متقدّم بداهة أنّ الإضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلك ايضا فلو لا حدوث المتأخّر في محلّه لما كانت للمتقدّم تلك الاضافة الموجبة كحسنه الموجب لطلبه والأمر به كما هو الحال في المقارن أيضا ولذلك يطلق على المتأخّر الشرط مثل اطلاقه على المقارن بلا انخرام للقاعدة أصلا لأنّ المتقدّم أو المتأخّر كالمقارن ليس إلّا طرف الإضافة الموجبة للخصوصيّة الموجبة للحسن وقد حقّق في محلّه أنّ الحسن بالوجوه والاعتبارات ومن الواضح أنّ الوجوه والاعتبارات بالإضافات.

فمنشأ توهّم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخّر وقد عرفت أنّ إطلاقه عليه فيه كاطلاقه على المقارن إنّما يكون لأجل كونه طرفا للإضافة الموجبة للوجه الذي يكون بذلك الوجه مرغوبا ومطلوبا كما كان في الحكم سواء كان تكليفا أو وضعا لأجل دخل تصوّره فيه كدخل تصوّر سائر الأطراف والحدود التي لو لا لحاظها لما حصل له الرغبة في التكليف أو لما صحّ عنده الوضع (١).

وأيضا ذهب إلى نظيره في الوقاية بالنسبة إلى الأحكام الوضعيّة كالإجارة اللاحقة للبيع الفضوليّ وشرائط المأمور به كالأغسال الليليّة المعتبرة في صحّة صوم

__________________

(١) ١ / ١٤٨ ـ ١٤٥.

٣٩٧

المستحاضة بدعوى أنّ الفعل قد تعتريه إضافة إلى شيء متقدّم عليه أو متأخّر عنه وتلك الإضافة تحدث له عنوانا موجودا وصفة موجودة فعلا يوجبان الصلاح أو الفساد فيه والحبّ أو البغض له أمّا حدوث العناوين الفعليّة للأشياء بها ففي غاية الظهور فإنّ القمر ليل التمام متّصف فعلا بعنوان أنّه بعد الهلال وقبل المحاقّ كما هو متّصف بالإبدار وكذلك عروض الصلاح والفساد والحب والبغض إلى أن قال وبالتأمل في هذه الأمثلة وأمثالها يتّضح لديك أنّ الأثر للصفة الفعليّة الموجودة بالإضافة إلى المعدوم لا للمعدوم حتّى يلزم المحال من كون العدم معطيا للوجود. وهذا نظير العلّة الغائيّة فكون الشجر ممّا يثمر بعد سنين هو الذي يدعو إلى غرسه ويدعو الفلاح في إيجاد مقدّماته لا نفس الثمر الذي لم يوجد بعد حتّى يلزم المحال المذكور وهذا هو مراد العلّامة نعم (أي صاحب الفصول) من أنّ الشرط هو التعقّب ونحوه لا ما فهّمه بعض من حكم عليه بالفساد وأورد عليه ابرد إيراد فقال أنّ التعقّب أمر اعتباريّ فلا يكون منشأ للآثار (١).

وهنا مواقع للنظر منها أنّ اللحاظ في المقام لا يرفع الإشكال وذلك لم أفاده المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ الإرادة حيث إنّها من الكيفيّات النفسيّة فلا بدّ من تحقّق مباديها في مرتبتها حتّى ينبعث منها شوق متأكّد نفسانيّ سواء كان الشوق متعلّقا بفعل الغير وهي الإرادة التشريعيّة أو متعلّقة بفعل نفسه سواء كان تحريكه للغير أو غير ذلك وهي الإرادة التكوينيّة ومن الواضح أنّ مبادئ الإرادة بما هي إرادة لا تختلف باختلاف المرادات وليست مبادئها مختلفة بالتقدّم والتأخّر والتقارن فهي خارجة عن محلّ البحث.

وأمّا البعث والتحريك الاعتباريّان اللذان هما من أفعال الأمر فهما أيضا

__________________

(١) / ٢٩٤.

٣٩٨

باعتبار تعلّق الإرادة بهما كسائر المرادات وأمّا باعتبار نفسهما كما هو محلّ الكلام فالاشكال فيهما على حاله.

إذ لو توقّف اتّصاف البعث الحقيقيّ بعنوان حسن على وجود شيء خارجا فلا محالة لا يصير مصداقا لذلك العنوان إلّا بعد تحقّق مصحّح انتزاعه خارجا.

ومثله الكلام في شرط الوضع فإنّ الشيء إذا كان شرطا للانتزاع بما هو فعل النفس أو تصديق الفعل فلا محالة يكون شرطا بنحو وجوده النفسانيّ المناسب لمشروطه وشرط الانتزاع بما هو انتزاع ليس من محلّ النزاع بل الكلام في شرطيّة شيء للمنتزع وهي الملكيّة مثلا والإشكال فيه على حاله لعدم معقوليّة دخل أمر متأخّر في ثبوت أمر متقدّم والمفروض أنّ الإجازة بوجودها الخارجيّ شرط لحصول الملكيّة الحقيقيّة من حين العقد فاتّضح أنّ رجوع الأمر إلى المقارن ليس إلّا في ما هو خارج عن محلّ النزاع كنفس الإرادة والانتزاع (١).

وممّا ذكر يظهر ما في مناهج الوصول من جعل الشرط هو تشخيص الآمر في شرط التكليف وصحّته وحسنه حيث قال والتحقيق أن يقال إنّ ما يتراءى من تقدّم الشرط على المشروط ليس شيء منها كذلك أمّا في شرائط التكليف كالقدرة المتأخّرة بالنسبة إلى التكليف المتقدّم فلأنّ ما هو شرط لتمشي الإرادة من الأمر والبعث الجديّ هو تشخيص الأمر قدرة العبد مع سائر شرائط التكليف في ظرف الإتيان كانت القدرة حاصلة أوّلا.

فإذا قطع المولى بأنّ العبد قادر غدا على إنقاذ ابنه يصحّ منه الإرادة والبعث الحقيقيّ نحوه فإذا تبيّن عجز العبد لا يكشف ذلك عن عدم الأمر والبعث الحقيقيّ في موطنه بل يكشف عن خطائه في التشخيص وأنّ بعثه الحقيقيّ صار لغوا غير مؤثّر هذا

__________________

(١) ١ / ٢٧٦.

٣٩٩

حال الأوامر المتوجّهة إلى الأشخاص.

وأمّا الأوامر المتوجّهة إلى العناوين الكلّيّة مثل يا أيّها الناس وأيّها المؤمنون فشرط تمشي الإرادة والبعث الحقيقيّ هو تشخيص كون هذا الخطاب صالحا لبعث من كان واجدا من بين المخاطبين لشرائط التكليف من غير لزوم تقييده بالقدرة وسائر الشرائط العقليّة بل التقييد إخلال في بعض الموارد فاذا علم المولى بأنّ إنشاء الأمر على العنوان الكلّي صالح لانبعاث طائفة من المكلّفين كلّ في موطنه يصحّ منه التكليف والأمر فشرط التكليف حاصل حين تعلّق الأمر ولعلّه إلى ذلك يرجع كلام المحقّق الخراسانيّ وإن كان إلحاق الوضع بالتكليف كما صنعه ليس في محلّه (١).

وذلك لما عرفت من أنّ محلّ الكلام ليس هو الإرادة ولا البعث والتحريك باعتبار تعلّق الإرادة بهما حتّى يكفي تحقّق مبادئها في مرتبتها بل محلّ الكلام صحّة البعث والتحريك والتكليف وحسنه ومن المعلوم أنّ اتّصاف البعث والتكليف بالحسن والصحّة متوقّف على وجود القدرة خارجا لا لحاظ القدرة ولا لتشخيص وجودها بما هو ولذلك يكشف عجز العبد عن عدم حسن التكليف وصحّته ولو قطع الآمر بأنّ العبد قادر على إتيان العمل في موطنه وليس ذلك إلّا لاشتراط وجود القدرة خارجا لا في لحاظ الأمر وتشخيصه وعليه فاللحاظ والتشخيص لا يرفع إشكال الشرط المتأخّر لأنّ القدرة المتأخّرة مؤثّرة في حسن التكليف وصحّته مع كونهما متقدّمة.

ولقد أفاد وأجاد في نهاية النهاية حيث قال إنّ الدخيل في كلّ فعل اختياريّ ومن جملته التكليف هو الإدراكات النفسانيّة دون الأمور الخارجيّة فإنّها لو أثرت في الفعل لخرج الفعل عن الاختيار إلى القهر يحصل بحصول الفعل الخارجيّ وينعدم بانعدامه إلّا أنّه من المعلوم أن التكليف بمعنى إنشاء الطلب والبعث لا يتوقّف على أمر

__________________

(١) منهاج الوصول : ١ / ٣٤٠.

٤٠٠