عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

وممّا ذكر يظهر ما في الوقاية حيث أورد على المشهور في قولهم :

إنّ الأمر الوارد عقيب النهي للإباحة بأنّ لازم رفع الحظر السابق وفرضه كالعدم هو رجوع الحكم السابق غالبا فيجب إن كان قبل واجبا ، كقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ). ويجوز إن كان جائزا مثل : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا). (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ). وبهذا يظهر لك ما في القول المشهور من المسامحة وهو كونه للإباحة. (١)

لما عرفت من أنّ مراد المشهور من الإباحة هي الإباحة العامّة لا الإباحة الخاصّة وهم لا يعنون بها الأرفع الحجر والحظر.

هذا مضافا إلى أنّ مثل قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، من أمثلة المقام محلّ منع بعد ما عرفت من تقرير محلّ النزاع فإنّ النزاع في الأمر الحادث عقيب النهي لا الأمر الحاصل قبله الشامل بعمومه أو إطلاقه لما بعد الحظر بأن يكون النهي من قبيل المخصّص أو المقيّد له بالنسبة إلى زمان النهي كالحائض وعليه فالأمر بالمقاتلة مع المشركين والكفّار أمر عامّ يشمل قبل النهي وبعده وهو خارج عن محلّ النزاع فلا تغفل.

وعليه فلا وجه لما في الكفاية من «إنكار ظهور الصيغة في غير ما تكون ظاهرة فيه. غاية الأمر يكون موجبا لإجمالها وغير ظاهرة في الوجوب وغيره» لما عرفت من أنّ ظهور حال الآمر الملتفت إلى النهي في كونه في مقام بيان أمد النهي ورفع الحظر موجب لرفع اليد عمّا تكون الصيغة ظاهرة فيه ومع الظهور المذكور لا وجه للإجمال والوقف.

وحيث عرفت أنّ الظهور المذكور ظهور نوعيّ لا مورديّ يظهر أنّه ليس من

__________________

(١) الوقاية / ١٩٥.

١٦١

ناحية بعض موارد الاستعمال حتّى يحتمل أن يكون من ناحية القرينة وعليه فلا وجه لما في الكفاية أيضا حيث قال : والتحقيق أنّه لا مجال للتشبّث بموارد الاستعمال فإنّه قلّ مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الإباحة أو التبعيّة. وهكذا يظهر من كون الظهور ظهورا نوعيّا أنّه لا وجه للتفصيل بين الموارد مثل القول الثاني والثالث إذ لا وجه لتخصيص الظهور النوعيّ ببعض الموارد.

وممّا ذكر ينقدح ما في المحاضرات حيث قال : لا وجه لدعوى حمل الصيغة على الإباحة أو تبعيّتها لما قبل النهي إن علّق الأمر بزوال علّة النهي وذلك لأنّ هذه الدعوى تقوم على أساس أن يكون وقوعها عقيب الحظر أو توهّمه قرينة عامّة على إرادة أحدهما حيث تحتاج إرادة غيره إلى قرينة خاصّة إلّا أنّ الأمر ليس كذلك لاختلاف موارد استعمالها فلا ظهور لها في شيء من المعاني المزبورة فالنتيجة أنّها مجملة فإرادة كلّ واحد من تلك المعاني تحتاج إلى القرينة. (١)

لما عرفت من أنّ ظهور حال الآمر الملتفت إلى النهي في كونه في مقام بيان أمر النهي ورفع الحظر نوعيّ ولا يختصّ بمورد دون مورد وهو كاف في رفع اليد عن ظهور الصيغة في الوجوب فلا تغفل.

تنبيه :

وهو أنّه هل الحال في النهي الواقع عقيب الأمر كحال الأمر الواقع عقيبه أو لا؟

ظاهر نهاية النهاية هو الأوّل حيث قال : ومثل الأمر عقيب الحظر أو توهّمه النهي عقيب الأمر أو توهّمه. (٢)

ولكن ذهب الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره إلى الثاني واستدلّ عليه بأنّ الرخصة في ترك

__________________

(١) المحاضرات ٢ / ٢٠٦.

(٢) نهاية النهاية ١ / ١١١.

١٦٢

المأمور به إنّما يقع بغير صيغة النهي من لفظ : لا بأس ولا حرج ، وأمثالهما ووقوعهما بها نادر جدّا فهذا يوهن إرادة الرخصة من النهي.

ألا ترى أنّه إذا استأذنك أحد في ترك شيء فأردت ترخيصه فإنّما ترخّصه غالبا بقولك : لا بأس ولا حرج وليس عليك وأمثالها وقلّ أن تقول : لا تفعل. بل الإنصاف أنّا لم نظفر باستعمال النهي فيها والنواهي التنزيهيّة إنّما استعملت في المنع ودلّ معها على الرخصة من الخارج كما في الأوامر الندبيّة حيث أنّها مستعملة في الطلب ودلّ معها على الرخصة من الخارج. هذا بخلاف الرخصة في فعل النهي عنه فإنّ الغالب مجيئها بلفظ الأمر فأنصف وتأمّل. (١)

يمكن أن يقال : إنّ ظهور حال الناهي في كونه بصدد بيان أمد الوجوب ظهور نوعيّ أقوى من ظهور النهي فهو يقوى إرادة الرخصة من النهي وإن لم يتعارف ذكر النهي لإفادة الترخيص.

هذا مضافا إلى شيوع النهي عن الطبيب بعد أمره بشيء. كما لو أمر الطبيب بملازمة شرب دواء أو تزريق كلّ يوم. ثمّ قال بعد مدّة :

لا تشربه أو لا تزرقه. ولا فرق بين النهي المولويّ. والنهي الإرشاديّ في الاستظهار المذكور.

ولقد أفاد وأجاد في الوقاية حيث قال : ولا يخفى أنّ هذا لا يختصّ بالأمر بل يشاركه فيه النهي الوارد بعد الأمر فإنّه لا يدلّ غالبا إلّا على رفع الأمر السابق كما لو أمر الطبيب بملازمة شرب الدواء كلّ يوم. ثمّ قال بعد مدّة : لا تشربه. فأنّه لا يدلّ على أزيد من عدم لزوم شربه فتأمّل جيّدا. (٢)

__________________

(١) تقريرات الميرزا ٢ / ٥٤.

(٢) الوقاية / ١٩٥.

١٦٣

وعليه فالنهي الوارد عقيب الأمر أو توهّمه مع التفات الناهي إلى الأمر يفيد رفع الإلزام وهو يجتمع مع الأربعة الأحكام الأخر ويتعيّن بالاصول الجارية في مورده بعين ما مرّ في الأمر عقيب الحظر أو توهّمه.

هذا بالنسبة إلى الأمر الإلزامي وأمّا الأمر الندبيّ فالنهي الوارد عقيبه لا معنى لإيراده لإفادة عدم اللزوم فإنّها كانت حاصلة من قبل وعليه فلا وجه للخروج عند ظاهر النهي بمجرّد وقوعه عقيب الأمر الندبيّ. اللهمّ إلّا أن يقال بما مرّ في الأمر الوارد عقيب النهي التنزيهيّ من أنّ التقابل قرينة على ظهور النهي في رفع الأمر الندبيّ والاستحباب فإنّ المكلّف وإن لم يكن له حالة منتظرة بالنسبة إلى عدم اللزوم إلّا أنّ له حالة الانتظار بالنسبة إلى أمد الندب فتدبّر جيّدا.

١٦٤

الخلاصة :

ولا يخفى عليك إنّ وقوع الأمر عقيب الحظر أو توهّمه ظاهر في ارتفاع النهي السابق وسرّ ذلك أنّه لما كان المفروض في المقام التفات كلّ من الآمر والمأمور إلى النهي السابق والتفات الأمر بالتفات المأمور إلى النهي السابق وإنّ حالته حالة انتظار الرخصة كان الأمر الوارد عقيب النهي ظاهر ظهورا نوعيّا في الرخصة في الفعل ورفع النهي السابق.

نظير ما إذا استأذن الشخص الذي نهي عن شيء من الناهي في ارتكاب ما نهي عنه بقوله أفعله؟ فقال الناهي أفعل.

فكما إنّ الاستيذان يوجب ظهور الأمر في مجرّد الرخصة وصرفه عن الوجوب إليه بلا خلاف فكذلك حالة انتظاره للإذن والرخصة مع علم الآمر والتفاته إليها توجب ذلك من غير فرق.

وحيث إنّ الأمر حينئذ يفيد مجرّد ارتفاع النهي فهو يجتمع مع الأحكام الأربعة الاخرى من الوجوب والندب والكراهة والإباحة الخاصّة.

فإن كان حال النهي قبل النهي معلوما من الوجوب أو الاستحباب أو غيرهما وقلنا بجواز الاستصحاب فهو محكوم به بعد ارتفاع النهي.

وإلّا فأصالة البراءة تقتضى نفي احتمال الوجوب وتردّد الأمر بين البواقي. ثمّ إنّ هذا لا يختصّ بالأمر بل يشاركه فيه النهي الوارد بعد الأمر أو توهّمه فإنّه أيضا لا يدلّ إلّا على رفع الأمر السابق كما لو أمر الطبيب بملازمة شرب دواء في كلّ يوم ثمّ قال بعد مدّة مع حالة انتظار المأمور للإذن في الترك : لا تشربه فإنّه يدلّ على رفع الإلزام والوجوب فالنهي الوارد عقيب الأمر يفيد رفع الإلزام والوجوب وهو يجتمع مع إمكان الأربعة الاخرى ويتعيّن الحكم بالاصول الجارية في مورده فلا تغفل.

١٦٥

المبحث السابع : في المرّة والتكرار :

والبحث فيه يقع في مقامات :

المقام الأوّل : في تحرير محلّ النزاع :

ذهب في الفصول إلى أنّ محلّ النزاع هو هيئة الأمر دون مادّة الأمر ودون مجموعهما. حيث قال : والحقّ أنّ هيئة الأمر لا دلالة لها على مرّة ولا تكرار.

ثمّ قال : والظاهر أنّ نزاعهم في الدلالة الوضعيّة واستشهد له بأدلّتهم وحججهم وهو نصّ القول بالاشتراك (١) وفي الأوامر التي لا تكون في معنى النهي كاترك واجتنب ، فإنّ الكلام فيهما كالكلام في النهي.

ثمّ قال : وإنّما حرّرنا النزاع في الهيئة لنصّ جماعة عليه ولأنّ الأكثر حرّروا النزاع في الصيغة وهي ظاهرة بل صريحة فيها.

ولأنّه لا كلام في أنّ المادّة وهي المصدر المجرّد عن اللام والتنوين لا تدلّ إلّا على الماهيّة من حيث هي على ما حكى السكّاكيّ وفاقهم عليه وخصّ نزاعهم في أنّ اسم

__________________

(١) ولذا قال في تقريرات الميرزا الشيرازي قدس‌سره : الظاهر أنّ النزاع هنا كما في مسألة إفادة الصيغة للوجوب إنّما هو من جهة الوضع كما يشهد به كلماتهم في عنوان المسألة فإنّ قولهم : إنّ صيغة الأمر للمرّة أو للتكرار ظاهر في أنّها موضوعة لما ذا ، ويدلّ عليه أيضا جعل بعضهم من أقوال المسألة الاشتراك فإنّه لا يكون إلّا بالنسبة إلى الوضع ... الخ (ج ٢ ص ١٠٦).

١٦٦

الجنس هل يدلّ على الجنس من حيث هو أو على الفرد المنتشر بغير المصدر.

أورد عليه في الكفاية بأنّ الاتّفاق المذكور إنّما يجدي لو كان المصدر مادّة للمشتقّات التي من جملتها الأمر وليس الأمر كذلك إذ ثبت أنّ المصدر من بعض المشتقّات.

وأجاب عنه في بدائع الأفكار : بأنّه لا يخفى ما في هذا الإيراد فإنّه إذا ثبت بالاتفاق المزبور أنّ المصدر لا يدلّ على المرّة والتكرار ثبت أنّ مادّة المصدر لا تدلّ على شيء منهما وذلك يدلّ على أنّ مادّة الأمر أيضا لا تدلّ على شيء من المرّة والتكرار لاتّحاد مادّة الأمر والمصدر. (١)

وتبعه في تهذيب الاصول حيث قال :

ويمكن دفعه بأنّ مادّة المصدر عين مادّة المشتقّات وإن لم يكن المصدر أصلا لها ولكن استشكل فيه بأنّه لا يتمّ إلّا إذا ضمّ إليه الإجماع بأنّ مادّته عين مادّة المشتقّات أو أنّ المصدر أصل المشتقّات وكلاهما ممنوعان لعدم الإجماع على الوحدة في المادّة إذ وحدة المادّة في المشتقّات وإن صارت مسلّمة عند المتأخّرين لكن عند القدماء من أهل الأدب محلّ خلاف وتشاجر على نحو مرّ في المشتقّ لبّ الأقوال كما أنّ كون المصدر أصلا مطلقا ممّا لم يسلّم عند كثير منهم. (٢)

وفيه أنّه لا حاجة إلى الإجماع في مثل المقام بعد بداهة أنّ المشتقّات جميعها حتّى المصدر واسم المصدر مشتركة في المادّة التي في جميعها كمادّة الضاد والراء والباء في مشتقّات حقيقة الضرب فوحدة مادّة المصدر مع مادّة سائر المشتقّات أمر لا محيص عنه بعد اشتراك المشتقّات في المادّة الأصليّة وحيث إنّ الوضع الشخصيّ لكلّ مادّة

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ٢٥٤.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ١٦٩.

١٦٧

مشتقّ لا حاجة إليه ولا دليل عليه فالمادّة الأصليّة كمادّة الضاد والراء والباء مثلا لها وضع مستقلّ من دون أخذ هيئة خاصّة فيها حتّى هيئة المصدر واسمه وهذه المادّة تكون كالهيولى لجميع المشتقّات المشتركة فيها ومنها المصدر واسم المصدر وهذا المعنى أمر لا محيص عنه بعد اشتراك المشتقّات فيها وعدم معقوليّة عروض الهيئة على الهيئة. والإجماع لو كان في مثل المقام لا يكشف إلّا عن الواقعيّة الخارجيّة فإذا كانت الواقعيّة الخارجيّة معلومة عندنا فلا حاجة إلى الإجماع بل لا يضرّ الاختلاف فيها لو أمكن.

هذا مضافا إلى أنّه لم نجد خلافا في وحدة المشتقّات في المادّة الأصليّة بل لا يمكن الخلاف فيها وإلّا لزم الخلف في اشتراكها وهو بديهيّ البطلان.

وإنّما الاختلاف في كون المصدر بما له هيئة ومادّة متّحدا مع مادّة سائر المشتقّات أم لا؟ كما نسب ذلك إلى الكوفيّين خلافا للبصريّين ومن المعلوم أنّه فاسد لعدم عروض الهيئة على الهيئة والنسبة على النسبة ولعلّ المراد ممّا اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام هو تقدّم الوضع بهذا وذاك لا في الأصليّة والفرعيّة كما حكي عن نجم الائمّة أنّه قال : إنّ النزاع بين الكوفيّين الذين ذهبوا إلى أنّ الأصل هو المصدر والبصريّين الذين ذهبوا إلى أنّ الأصل هو الفعل ليس إلّا في تقدّم تعلّق الوضع بهذا أو ذاك لا في الأصليّة والفرعيّة.

وأمّا القول بأنّ الغاية من وضع المصدر أو اسمه إنّما هو التنطّق بالمادّة من دون أن يكون لهيئتهما معنى وراء ما تفيد مادّتها والمادّة وضعت لنفس الحدث بلا نسبة ناقصة أو تامّة من دون فرق بين المصدر واسم المصدر وبذلك يصحّح قول الكوفيّين من أنّ المصدر أصلا لسائر المشتقّات وقول بعض الأعلام بكون الأصل هو اسم

١٦٨

المصدر لأنّهما بعد ما عرفت كالمادّة بلا زيادة بالنسبة إلى سائر المشتقّات. (١)

ففيه أوّلا : أنّ الفرق بين المصدر واسمه واضح ودعوى عدم الفرق بينهما كما ترى والفارق هو وجود النسبة الناقصة في المصدر دون اسم المصدر فإنّه حاك عن نتيجة الفعل. ألا ترى الفرق بين التسليم والسلام والتكليم والكلام.

وعليه فلا وجه لإنكار إفادة الهيئة فيهما معنى دواء ما تفيد المادّة لما عرفت من أنّ الهيئة في المصدر واسمه تكون كسائر الهيئات في إفادة المعاني ومن المعلوم أنّ المصدر بماله مادّة وهيئة لا يصلح لأن يكون مادّة لسائر المشتقّات وإلّا لزم عروض الهيئة على الهيئة بل النسبة على النسبة كما لا يخفى.

ولا ملازمة بين كون الوضع في مادّة المشتقّات مستقلّا وكون هيئة المصدر واسمه لا معنى لها لإمكان أن نقول بأنّ مادّة جميع المشتقّات هي التي لا تتلبّس بهيئة حتّى هيئة المصدر واسمه وهي التي تشير إليها بعنوان الضاد والراء والباء في مشتقّات حقيقة الضرب وهذه المادّة من دون أخذ هيئة فيها موضوعة مستقلّا لحقيقة الضرب واعتبرت مادّة لجميع الهيئات الواردة على تلك الحقيقة ومتّحدة معها فهي كالهيولى بالنسبة إلى التكوينيّات كما لا يخفى.

وعليه فمادّة المصادر وأسمائها كسائر المشتقّات تؤخذ من تلك المادّة ومتّحدة معها فإذن صحّ ما استدلّ به صاحب الفصول من أنّ النزاع في الهيئة ، كما قال في نهاية النهاية :

إنّ المادّة بلفظها ومعناها يجب أن تكون محفوظة في طيّ تمام مشتقّاتها فإذا لم تكن خصوصيّة من خصوصيّات المعاني سيّالة بل مختصّة ببعض المشتقّات دون بعض لا جرم تكون الخصوصيّة مستفادة من هيئة ذلك البعض إذ لو كانت مستفادة من

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول ١ / ١٠٥ و ١٠٦.

١٦٩

المادّة لزم أن تكون تلك الخصوصيّة سيّالة وموجودة في طيّ تمام المشتقّات وعلى ذلك فالبحث عن دلالة الصيغة على المرّة والتكرار مع الاتّفاق على عدم دلالة المصدر على شيء منهما يكون كاشفا عن أنّ هيئة الصيغة هي المتنازع في دلالتها على أحد الأمرين مع عدم دلالة مادّتها على شيء منهما. (١)

وأيضا كما قال استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره : لا معنى للهيئة في المادّة المهملة كما لا معنى للمادّة في الهيئة المهملة وعليه فنظر الواضع إلى المادّة مثل الضاد والراء والباء ووضعها لحقيقة الضرب المسمّى في الفارسيّة ب «زدن» بشرط أن تكون تلك المادّة في ضمن الهيئات المستعملة من دون لحاظ خصوصيّاتها كالنسبة الصدوريّة أو الوقوعيّة أو غيرهما كما أنّ نظره يكون إلى الهيئة مثل صيغة أفعل وضعها للبعث بشرط أن تكون المادّة فيها مستعملة لا مهملة.

وممّا ذكر يظهر أنّ المرّة لو كانت مأخوذة في المادّة لكان كلّ صيغة دالّة عليها باعتبار مادّتها كما أنّها لو لم تكن كذلك أو حصل الاتّفاق في مادّة هيئة أنّها لا تدلّ على المرّة ظهر أنّ المرّة لا تكون مأخوذة في مادّة كلّ صيغة وهيئة.

فتحصّل ممّا تقدّم أنّ النزاع لا يكون إلّا في الهيئة.

وأمّا ما في تهذيب الاصول من استبعاد كون الهيئة محلّا للنزاع من جهة أنّ الهيئة وضعت لنفس البعث والإغراء كإشارة المشير ومقتضى البعث على الماهيّة المجرّدة هو إيجادها في الخارج لا جعل الإيجاد جزء مدلوله اللفظيّ إلى أن قال :

فالشيء الواحد من جهة واحدة لا يعقل أن يتعلّق به البعث متعدّدا على نحو التأسيس ... إلخ ففيه :

اولا : أنّ تضعيف دليل من يدّعي دلالة الهيئة على المرّة والتكرار بما ذكر

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ١١١ ـ ١١٢.

١٧٠

لا يلازم عدم كون الهيئة محلّا للنزاع كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ المتعلّق المبعوث إليه يمكن أن يكون هو الطبيعة المفروضة الوجود التي تكون مرآة إلى الوجود الخارجيّ كما سيأتي بيانه في متعلّق الأوامر لأنّ الطبيعة بما هي هي لا تكون مطلوبة ولا مرادة.

وثالثا : أنّ المتعلّق المبعوث اليه يكون بمنزلة الموضوع للهيئة بحسب اللحاظ فحينئذ يكون مفاد الهيئة من تبعاتها ولا مجال للتعدّد والتكثّر ولكن بحسب الوجود الخارجيّ يكون بمنزلة المعلول للهيئة ومن تبعاتها فالبعث المتعدّد يمكن تعلّقه بالمتعلّق بحسب الإيجاد الخارجيّ لأنّه قابل للتكرّر فلا تغفل.

اللهمّ إلّا أن يقال بأنّ الوجود والإيجاد من اللوازم العقليّة لتعلّق البعث على الطبيعة لا مدلولا للهيئة والمادّة وحينئذ يصحّ النزاع بناء على تعلّق الأمر بالطبيعة بأنّه يفيد المرّة أو التكرار ولكن يكون النزاع عقليّا لا لغويّا وهو خلاف ظاهرهم من كونه لغويّا فافهم.

المقام الثاني : في دلالة الأمر على المرّة والتكرار وعدمها

والتحقيق هو عدم دلالة الأمر على المرّة والتكرار لا بمادّتها ولا بهيئتها فإنّ البعث الذي هو مدلول الأمر يتعلّق بوجود الطبيعة بنحو الوجود اللافراغي من دون دلالة على المرّة والتكرار ولكن يمكن امتثاله بفعل واحد ولو قلنا بأنّ البعث تعلّق بنفس الطبيعة المهملة التي تكون مقسما لاعتبارات الماهيّة التي يعبّر عنها باللابشرط المقسميّ التي يجتمع مع اعتبارات الماهيّة فلا دلالة للامر على المرّة والتكرار ايضا فإنّ المتعلّق من أسماء الأجناس وهي موضوعة للطبيعة المهملة التي تكون مقسما لاعتبارات الماهيّة.

إلّا أنّ الطبيعة المهملة حيث لا يمكن إرادتها لإهمالها وخلوّها من جميع

١٧١

الحيثيّات حتّى من حيث الوجود والعدم يحكم العقل بأنّ البعث إلى الماهيّة المذكورة يرجع إلى البعث إلى إيجاد ما يكون مدلولا لذلك اللفظ فالإيجاد مستفاد من حكم العقل وليس داخلا في مدلول الهيئة كما نسب إلى صاحب الفصول فإنّ مدلول الأمر هو البعث كما لا يكون داخلا في نفس الماهيّة والطبيعة لأنّ أسماء الأجناس كما عرفت موضوعة للطبائع المهملة التي تكون مقسما لاعتبارات الماهيّة فالإيجاد مقدّر بحكم العقل من جهة عدم إمكان إرادة الماهيّة بما هي الماهيّة.

ثمّ إنّ إيجادها الذي يجب تقديره بحكم العقل يتحقّق كما حكي عن سيّد الاستاذ المحقّق الفشاركيّ على أنحاء :

الأوّل : الوجود الساري في كلّ فرد كما في قوله تعالى : أحل الله البيع.

الثاني : الوجود المقيّد بقيد خاصّ ومن القيود المرّة والتكرار ونحوهما.

الثالث : صرف الوجود في مقابل العدم الأزليّ من دون أمر آخر وراء ذلك ولا يصار إلى أحدهما إلّا بقيام القرينة أو بالأخذ بمقدّمات الحكمة.

ولذلك قال في الدرر : وحيثما لا يدلّ الدليل على أحد الاعتبارات يتعيّن الثالث لأنّه المتيقّن من بينها وغيره يشتمل على هذا المعنى وأمر زائد فيحتاج إلى مئونة اخرى زائدة مدفوعة بمقتضى الإطلاق.

لا يقال : إنّ اعتبار صرف الوجود أيضا قيد زائد ويحتاج إلى مئونة زائدة.

لأنّا نقول ـ كما أفاد المحقّق الحائريّ قدس‌سره في تعليقة الدرر ـ إنّ القدر المتيقّن هو مطلق الوجود المعرّى حتّى من هذا القيد ولا يلزم من ذلك ، القول بالتكرار لأنّ العلّة الواحدة لا تقتضي إلّا معلولا واحدا والمفروض أنّ البعث واحد ولا يكون متعدّدا. انتهى

وإليه يؤول ما في بدائع الأفكار حيث قال بعد عدم إمكان إرادة الماهيّة المهملة وحكم العقل بتقدير إيجاد أقسامها واللابشرط القسميّ أي الطبيعة المرسلة ذاتا

١٧٢

يكون أقلّ مئونة من سائر الأقسام وذلك يكشف عن أنّ المراد هو الطبيعة المرسلة ذاتا وبما أنّ الطبيعة المرسلة على ما تقدّم تكون قابلة لتعلّق الحكم بها بنحو الشيوع البدليّ وبنحو الشيوع الساري يتوقّف تعيين أحدهما على معيّن وحيث أنّ الشيوع البدليّ أقلّ مئونة من الساري يتعيّن الحمل عليه وهو مساوق لكون صرف الوجود مرادا. (١)

وكيف كان فلا يدلّ الأمر لا بمادّتها ولا بهيئتها على المرّة والتكرار.

نعم يتحقّق الامتثال للأمر بوجود الطبيعة أو بإيجاد الطبيعة إذ بعد الإتيان بها في المرّة الاولى سقط الأمر بالطبيعة ويتحقّق الامتثال. ولا مجال للامتثال الآخر بعد سقوط الأمر كما لا يخفى وإن شكّ في أنّ المطلوب هو المرّة أو التكرار فمقتضى أصالة الإطلاق والعموم هو الاكتفاء بالمرّة لصدق الإتيان بالطبيعة مع الإتيان بها مرّة وإن لم يكن إطلاق وعموم فمقتضى أصالة البراءة عن الزائد هو عدم اعتبار الأمر الزائد.

المقام الثالث : في المراد من المرّة والتكرار :

ربما يقع الكلام في أنّ المراد منهما هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد :

والفرق بين الدفعات والأفراد بأنّ الاولى تحتاج إلى تعدّد الأزمنة وتعاقبها دون الثانية. ذهب صاحب الفصول على ما حكي عنه إلى أنّ النزاع في الدفعة والدفعات واستدلّ له بالتبادر وبأنّه لو اريد بالمرّة الفرد لكان الأنسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمّة للمبحث الآتي من أنّ الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو بالفرد فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التعلّق بالفرد الواحد أو المتعدّد أو لا يقتضي شيئا منهما ولم يحتج إلى إفراد كلّ منهما بالبحث كما فعلوه وأمّا لو اريد بها

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ٢٥٩.

١٧٣

الدفعة فلا علقة بين المسألتين.

حاصله كما في بدائع الأفكار أنّ النزاع على فرض إرادة الفرد والأفراد من العنوان مبنيّ على المسألة الاخرى وهي كون الأمر متعلّقا بالطبيعة أو الفرد فمن اختار أنّ الأمر متعلّق بالفرد يصحّ له أن يبحث في أنّ المطلوب بالأمر هل هو الفرد الواحد أو الأفراد وأمّا من يختار أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة فلا يتأتّى منه البحث المزبور كما هو الواضح.

نعم على تقدير إرادة الدفعة والدفعات يجري النزاع حتّى على القول بتعلّق الأمر بالطبيعة. (١)

وأجاب عنه في الكفاية والبدائع بما حاصله : أنّ الطبيعة لا يمكن وجودها إلّا في ضمن فرد ما وحينئذ يصحّ أن يقال بتعلّق الأمر بالطبيعة. ثمّ يبحث عن أنّ المطلوب بالأمر هل هي الطبيعة بإيجادها في ضمن فرد أو أفراد. فالبحث عن الفرد أو الأفراد يتأتّى حتّى في صورة تعلّق الأمر بالطبيعة أيضا.

أورد عليه في تهذيب الاصول بناء على أن يكون إيجاد الطبيعة جزء مدلول الهيئة كما هو مختار صاحب الفصول بأنّ المتعلّق حينئذ يكون نفس الطبيعة وإلّا يصير معنى الأمر بالصلاة : «أوجد الطبيعة» وهو كما ترى ، فإذا كانت الطبيعة خالية عن الوجود فلا مجرى للنزاع بعد اختيار كون متعلّق الأوامر هو الطبيعة للنزاع للمرّة والتكرار. سواء اريد منه الفرد أو الأفراد أو الدفعة أو الدفعات ضرورة أنّها خارجة عن الطبيعة بخلاف ما إذا كان المختار في متعلّق الأوامر هو الفرد فإنّ للنزاع المذكور فيه مجالا كما لا يخفى.

نعم بناء على المختار من كون إيجاد الطبيعة من اللوازم العقليّة لتعلّق البعث على

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ٢٥٤.

١٧٤

الطبيعة لا مدلولا للهيئة ولا للمادّة يصحّ النزاع بناء على تعلّق الأمر بالطبيعة أيضا في أنّ المراد هو الفرد أو الأفراد أو الدفعة أو الدفعات ولكنّه يكون عقليّا لا لغويّا وهو خلاف ظاهرهم من كون النزاع لغويّا ولكن مع ذلك لا يصير هذا البحث من تتمّة البحث الآتي لكون الجهات المبحوث عنها مختلفة. انتهى بتلخيص وتغيير. (١)

ولعلّ إليه يؤول ما ذكره المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ مجرّد ترتّب موضوع مسألة على موضوع مسألة اخرى أو محمولها على محمولها لا يستدعي جعله تتمّة لتلك المسألة بل ميزان الوحدة والتعدّد وحدة جهة البحث وتعدّدها وتعدّد جهة البحث هنا وهناك واضح فإنّ جهتي الوحدة والتعدّد في الوجود وإن كانتا عارضتين له ومترتّبتين عليه لكنّهما مغايرتان له قطعا فالبحث عن أحدهما غير البحث عن الآخر وإن كانت رتبة أحدهما متأخّرة عن الآخر. (٢)

وبعبارة اخرى كما في تقريرات الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره أنّ النزاع في دلالة الصيغة على كمّيّة ما تعلّقت به وعدمها مع قطع النظر عن كون متعلّقها الطبيعة أو الفرد ، فإذن لا منافاة بين القول بالمرّة أو التكرار وبين القول بتعلّق الأوامر بالطبائع فإنّ النزاع هناك في تعيين نفس المأمور به من أنّه هو الفرد أو الطبيعة وهنا في دلالة الصيغة على كمّيّته فإذن يجتمع كلّ من القولين هناك مع كلّ من الأقوال هنا فالقائل بالمرّة أو التكرار بناء على كون متعلّق الأوامر هو الأفراد يقولان بدلالة الصيغة على إيجاد فرد من الطبيعة مرّة أو مكرّرا فإنّه كما يتّصف الطبيعة بالمرّة والتكرار كذلك يتّصف الفرد بهما وهذا واضح لا غبار عليه. (٣)

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٧١ ـ ١٧٢.

(٢) نهاية الدراية ١ / ٢١٨.

(٣) تقريرات الميرزا ٢ / ٦٦.

١٧٥

وفي قبال صاحب الفصول المحقّق القمّيّ حيث ذهب إلى أنّ النزاع في الفرد والأفراد وأيّده سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بأنّه ليس في الأحكام ما يكون الدفعة والدفعات. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ المباحث الاصوليّة لا تبتني على الأحكام الشرعيّة لإمكان حصول النزاع في مفاد الأوامر العرفيّة بكلا المعنيين أي الفرد والأفراد والدفعة والدفعات.

ولذا إذا قال المولى لعبده : زر زيدا ، يقع الكلام في أنّه هل تدلّ صيغة الأمر على لزوم الزيارة دفعة واحدة أو على لزومها بدفعات.

ومن المعلوم أنّ تكرّر الزيارة يحتاج إلى تعدّد الأزمنة وتعاقبها كما إذا قال : أكرم زيدا ، يقع الكلام في أنّه هل تدلّ الصيغة على وجوب إيجاد إكرام واحد أو إيجاد إكرامين أو أزيد ولو كان ذلك في دفعة واحدة وذلك كالقيام والسلام في آن واحد أو أنّها لا تدلّ على شيء من ذلك وإنّما تدلّ على مجرّد طلب المادّة.

وثانيا أنّ حصر أدلّة الأحكام في الفرد والأفراد لا وجه له بعد وجود كلا المعنيين فيها ، ألا ترى أنّ قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ، أو قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، ونحوهما يدلّ على وجوب الصلاة أو الصوم عند تعدّد الدلوك أو الرؤية مع أنّهما ممّا يحتاج إلى تعدّد الأزمنة وتعاقبها. وليس هو إلّا الدفعات.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الأزمنة بالنسبة إلى كلّ صلاة أو صوم من المقوّمات فكلّ واحد فرد غير فرد آخر فافهم.

ألا ترى أنّ قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ...)

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٧٠.

١٧٦

الآية ، لا يدلّ إلّا على الفرد ولا مجال فيه للدفعات ولعلّ البحث عن إمكان الامتثال عقيب الامتثال كما سيأتي إن شاء الله تعالى يناسب الدفعة والدفعات بمعنى أنّ الإتيان بالفرد أو الأفراد هل يكون مطلوبا مرّة ودفعة أو يكون مطلوبا مرّات ودفعات فتدبّر.

وعليه فبعد وجود كلّ واحد منهما في الأحكام يمكن النزاع والشكّ في إرادة الدفعة أو الدفعات في بعض الأحكام الشرعيّة أيضا لو لم تقم قرينة خاصّة على إرادة أحدهما.

وممّا ذكر يظهر قوّة ما في الكفاية من قوله : والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محلّ النزاع وإن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الأوّل أي الدفعة والدفعات. انتهى.

وكيف كان فكلّ مورد تقوم فيه قرينة على إرادة الفرد أو الدفعة أو الأفراد أو الدفعات فلا كلام وأمّا مع الشكّ فالمرجع هو الأصل العمليّ في المقام وهو ليس إلّا أصالة البراءة عن اعتبار الأمر الزائد لأنّ الشكّ في التكليف الزائد كما لا يخفى.

هذا إذا لم يكن إطلاق وإلّا فالمرجع هو الإطلاق وهو يقتضي جواز الاكتفاء بالمرّة أو الدفعة إلّا أنّ الاكتفاء بالمرّة أو الدفعة ليس من جهة كون المرّة أو الدفعة مأخوذة في الهيئة أو المادّة لما عرفت من عدم أخذهما فيهما بل من جهة صدق الامتثال بإتيان الطبيعة مرّة أو دفعة ومع الصدق المذكور لا يبقى الأمر كما لا يخفى.

المقام الرابع : في تبديل الامتثال بالامتثال :

ولا يخفى عليك أنّه لا إشكال في أنّه لا مجال للإتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون أيضا امتثالا بالأمر الأوّل ، بناء على القول بالمرّة لأنّ بالامتثال الأوّل يسقط الأمر ومع سقوطه لا يعقل الامتثال الثاني فالامتثال الزائد أو الامتثال بعد الامتثال لا معنى له.

١٧٧

وأمّا بناء على عدم دلالة الأمر على المرّة والتكرار وضعا وتقدير الايجاد أو الوجود بحكم العقل فإن أتى بفرد فلا مجال معه للامتثال الثاني أيضا لتحقّق الطبيعة بإتيان الفرد الأوّل ومعه يسقط الأمر بالطبيعة ومعه لا يعقل الامتثال الثاني من دون فرق بين كون الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى وبين عدمه كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضّأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلا.

فإنّ الملاك في سقوط الأمر هو حصول الطبيعة وبإتيان الفرد حصلت الطبيعة وعدم سقوط الغرض الأقصى لا يضرّ بعد سقوط الغرض الأدنى الذي كان داعيا للأمر بالطبيعة والمفروض أنّ الغرض الأدنى وهو التمكّن من الشرب أو التوضّؤ حاصل بإتيانها.

ولذلك أورد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره على صاحب الكفاية «حيث ذهب إلى الفرق بين ما إذا كان امتثال الأمر علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى بحيث يحصل بمجرّده فلا يبقى معه مجال لإتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالا واحد لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الأمر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا وبين ما إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضّأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلا فلا يبعد صحّة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله.» بأنّ الغرض من الأمر في نظير المثال هو التمكّن من الشرب وهو حاصل مع الإتيان بالماء فلا معنى لبقاء الأمر مع حصوله نعم لو اريق الماء تجدّد الإرادة الملزمة بإتيان الماء ثانيا لزوال التمكّن من الشرب أو التوضّؤ ومع العلم بالإرادة المذكورة وزوال التمكّن سواء أمر أو لم يأمر بها يحكم العقل بوجوب الإتيان بالطبيعة ثانيا ولكنّه ليس امتثالا للأمر الأوّل بل هو امتثال للأمر الثاني.

وهكذا لو علم بعد الإتيان بالفرد وسقوط الأمر أنّ للمولى إرادة استحبابيّة

١٧٨

بإتيان فرد أحسن ممّا أتى به يجوز له أن يأتي بالفرد الآخر ولكنّه ليس إلّا امتثالا للأمر الثاني وليس من باب تبديل امتثال الأمر الأوّل بالامتثال الثاني من الأمر الأوّل.

وإليه يحمل ما ورد في صلاة الآيات من جواز إعادتها ما دامت الكسوف أو الخسوف باقية أو في صلاة المعادة بالجماعة من جواز إعادة الفريضة المأتيّ بها منفردا بالجماعة. لأنّ الإعادة ليست بالأمر الأوّل حتّى ينافي ما ذكرناه بل تكون بالأمر الندبيّ ثانيا كما لا يخفى.

هذا كلّه بالنسبة إلى الامتثال بالزائد في الدفعيّات والأفراد الطوليّة.

المقام الخامس : في جواز الامتثال بالأزيد :

وأمّا الامتثال بالزائد في الأفراد العرضيّة فلا إشكال فيه بعد كون إيجاد الطبيعة المأمور بها في ضمنها نحوا من الامتثال كإيجادها في ضمن الفرد ومقتضى إطلاق الطبيعة هو جواز الإتيان بها على نحوين ولا كلام فيه.

وإنّما الكلام في أنّه إذا أتى بعدّة أفراد عرضيّة في دفعة واحدة هل يكون الإتيان المذكور امتثالا واحدا لوحدة الأمر المقتضي للامتثال الواحد أو امتثالات متعدّدة بتعدّد الآحاد التي أتى بها.

ذهب في نهاية الاصول إلى الثاني حيث قال : إنّ الطبيعة الموجودة في الخارج تتكثّر بتكثّر أفرادها لكونها أمرا لا يأبى الوحدة ولا الكثرة والقول بكون الطبيعة الموجودة في الخارج موجودة بوجود وحدانيّ وإن كثرت أفرادها ضعيف في الغاية. (١)

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ١١١.

١٧٩

وفيه كما في تهذيب الاصول : أنّ وحدة الامتثال وكثرته بوحدة الطلب وكثرته لا بوحدة الطبيعة وكثرتها ضرورة أنّه لو لا البعث لم يكن معنى لصدق الامتثال وإن اوجد آلاف من أفراد الطبيعة.

وبالجملة فرق بين تعلّق الأمر بإكرام كلّ فرد من العلماء وبين تعلّقه بنفس الطبيعة متوجّها إلى مكلّف واحد فعلى الأوّل يكون كلّ فرد واجبا برأسه ولو بالانحلال في جانب الوجوب على وجه معقول فيتعدّد امتثاله ولذا يعاقب بعدد الأفراد.

وعلى الثاني يكون مركز الحكم نفس الطبيعة فهنا حكم واحد ومتعلّق فارد وتكثّرها في الوجود لا يوجب تكثّر الوجوب ولو انحلالا كما لا يوجب تكثّر الامتثال ولذا لو ترك الإكرام المتعلّق بالطبيعة مطلقا لم يكن له إلّا عقاب واحد .. إلى أن قال :

ولا يقاس المقام بالواجب الكفائيّ أيضا لأنّ البعث في الواجب الكفائيّ يتوجّه إلى عامّة المكلّفين بحيث يصير كلّ مكلّف مخاطبا بالحكم فهناك طلبات كثيرة وامتثالات عديدة لكن لو أتى واحد منهم سقط البعث عن الباقي لحصول الغرض وارتفاع الموضوع ولو تركوها رأسا لعوقبوا جميعا ولو أتاها الجميع دفعة قد امتثلوا كافّة لكون كلّ فرد منهم محكوم بحكمه ومخاطب ببعثه المختصّ بخلاف المقام. (١)

المقام السادس : في عدم اختصاص ما ذكر بالأمر الوجوبيّ :

قال الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره إنّ النزاع في دلالة الأمر على المرّة والتكرار لا يختصّ بما إذا كان للوجوب بل يجري فيه على تقدير إرادة الندب أو ظهوره فيه أيضا كما لا يخفى.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٧٢ ـ ١٧٣.

١٨٠