عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

تبديل الامتثال بالامتثال.

ومنها : الأخبار الدالّة على إعادة صلاة الآيات في الكسوف حتّى يحصل الانجلاء مثل ما رواه الشيخ قدس‌سره في التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن فضّالة عن معاوية بن عمّار قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : صلاة الكسوف إذا فرغت قبل أن ينجلي فأعد. (١)

بدعوى أنّ مطلوبيّة الإعادة تدلّ على بقاء الأمر.

وفيه : أنّ الأمر بالإعادة ومطلوبيّتها أعمّ من بقاء الأمر السابق لاحتمال كونه من جهة الأمر الجديد الاستحبابي ولا أقلّ من احتمال ذلك فلا يكون منافيا لما استقلّ العقل عليه من سقوط الأمر بالامتثال الأوّل فلا تغفل.

وبالجملة يكفي ما ذكر في توجيه ما ورد في إعادة ما امتثل بعد ما عرفت من استحالة الامتثال عقيب الامتثال فافهم واغتنم.

الموضع الثاني :

وفيه مقامان :

المقام الأوّل : في إجزاء الأوامر الاضطراريّة :

قال في الكفاية : إنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ هل يجزي عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعيّ ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادة وفي خارجه قضاء أو لا يجزي؟

ثمّ بحث عن مقام الثبوت ومقام الإثبات.

__________________

(١) نفس المصدر ٥ / ١٥٣.

٢٢١

وجود الأوامر الواقعيّة مع الأوامر الاضطراريّة :

ولا يخفى أنّ ظاهر كلامه هو الفراغ عن وجود الأوامر الواقعيّة وكون الأوامر الاضطراريّة في طولها.

أورد عليه في نهاية الاصول بأنّ مراجعة التكاليف الاضطراريّة الثابتة في شريعتنا ترشدك إلى أنّ ما ذكره (طاب ثراه) لا يرتبط أصلا بما هو الثابت من التكاليف الاضطراريّة لكون ما ذكره مبتنيا على أن يكون لنا أمران مستقلّان.

أحدهما واقعيّ أوّليّ والآخر اضطراريّ ثانويّ.

فينازع حينئذ في كفاية امتثال أحدهما عن امتثال الآخر مع أنّ الأمر في التكاليف الاضطراريّة ليس كذلك على أنّه لو كان الأمر كذلك لم يكن معنى لكفاية امتثال أمر عن أمر آخر إذ كلّ أمر وتكليف يقتضي امتثالا على حدة.

وإنّما المتحقّق في التكاليف الاضطراريّة الثابتة في شرعنا أن يتوجّه أمر واحد من الشارع متعلّقا بطبيعة واحدة مثل الصلاة متوجّها إلى جميع المكلّفين غاية الأمر أنّ الأدلّة الشرعيّة الأخر دلّت على اختلاف أفراد هذه الطبيعة باختلاف الحالات الطارئة على المكلّفين وأنّ كلّ واحد منهم قد وجب عليه إيجاد هذه الطبيعة في ضمن ما هو فرد لها بحسب حاله مثلا الأدلّة الشرعيّة دلّت على أنّ الناس كلّهم من القادر والعاجز والصحيح والسقيم وواجد الماء وفاقده مكلّفون بإتيان الصلوات الخمس في أوقاتها ومندرجون تحت قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ). وما وجب على كل واحد منهم في هذا المقام هو إيجاد طبيعة الصلاة لا غير.

غاية الأمر إنّه دلّت الأدلّة الأخر على أنّ الصلاة في حقّ واجد الماء مثلا عبارة من الأفعال المخصوصة مقرونة بالطهارة المائيّة وأنّ الصلاة في حقّ فاقده عبارة عن هذه الأفعال مقرونة بالطهارة الترابيّة وكذلك الصلاة في حقّ القادر على القيام مشروطة بالقيام وفي حقّ العاجز عنه مشروطة بالقعود مثلا.

٢٢٢

وبالجملة : المستفاد من الأدلّة أنّ فاقد الماء أيضا مثل واجده في أنّ المتوجّه إليه أمر واحد وهو قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ولم يتوجّه إليه أمران : (واقعيّ أوّليّ وواقعيّ ثانويّ) حتّى ينازع في كفاية امتثال أحدهما عن الآخر ولم يكلّف أيضا بإيجاد فردين من طبيعة واحدة حتّى نبحث في كفاية الفرد الاضطراريّ عن الفرد الاختياريّ بل الذي وجب عليه هو إيجاد طبيعة الصلاة بإيجاد فرد منها.

غاية ما في الباب أنّ فرد الصلاة بالنسبة إلى الفاقد هو الصلاة مع التيمّم كما أنّ الصلاة في حال القعود أو الاضطجاع أو المشي أو الركوب أيضا فرد الطبيعة المأمور بها بقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ولكن بالنسبة إلى العاجز عن القيام أو عنه وعن القعود أو عن الاستقرار.

وعلى هذا فإذا أتى كلّ واحد من المكلّفين ما هو مقتضى وظيفته فقد أوجد الطبيعة المأمور بها وامتثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ).

ولازم ذلك هو الإجزاء وسقوط الأمر قهرا إذ لا يعقل بقاء الأمر بعد إتيان متعلّقه. انتهى (١)

وتبعه في تهذيب الاصول أيضا حيث قال : ولعمري أنّ هذا هو الحقّ الصراح حفظا لظواهر الأدلّة. إلى أن قال :

فإذن ليس هنا إلّا أمر واحد تعلّق بطبيعة الصلاة وإنّما القيود من خصوصيّات المصاديق إذ قوله تعالى :

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) يدلّ على وجوب الطبيعة في هذا الوقت المضروب لها ثمّ دلّ دليل على اشتراطها بالطهارة المائيّة في حال الاختيار ، واشتراطها بالترابيّة عند فقدانها بحيث يكون المأتيّ بالشرط الاضطراريّ نفس

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ١١٥.

٢٢٣

الطبيعة التي يأتيها المكلّف بالشرط الاختياريّ بلا اختلاف في المتعلّق والطبيعة والأمر كما هو ظاهر قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) إلى أن قال سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) فإنّ ظاهرها أنّ الصلاة التي سبق ذكرها وشرطيّتها بالطهارة المائيّة يؤتى بها عند فقد الماء متيمّما بالصعيد وأنّها في هذه الحالة عين ما تقدّم أمرا وطبيعة. (١)

وفيه أوّلا : إنّ ما ذهب إليه في نهاية الاصول يبتني على مختاره من أنّ لفظ الصلاة اسم للتخضّع أو التوجّه من المعاني البسيطة وعليه فالمأمور به للجميع هو التخضّع أو التوجّه وهو ينطبق بحسب الأحوال على كلّ ما يقتضيه حال الفرد وأمّا بناء على المختار كما مرّ في محلّه من أنّ المتبادر من الصلاة هي «الهيئة التركيبيّة الجامعة للأجزاء والشرائط الدخيلة في باعثيّة المولى نحو الأمر بها» فالمأمور بها في الصلاة هي الهيئة التركيبيّة وحينئذ يدور الأمر بين أن يكون المبعوث إليه مهملا أو مجملا أو ما يكون واجدا لشرائط المختار كما يؤيّده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صلّوا كما رأيتموني اصلّي ، فلا مجال للأوّلين بعد البعث والأمر بها فانحصر الأمر في كون المبعوث إليه للجميع هو الصلاة الكاملة وهي صلاة المختار وعليه فالأدلّة الاخرى الدالّة على أنّ فاقد الماء يتيمّم أو العاجز عن القيام يجلس وهكذا ، تدلّ على الإبدال وما يقوم مقام الصلاة الكاملة في الأوامر الواقعيّة التي كانت متوجّهة إلى جميع المكلّفين.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا تكون صلاة المضطرّ والمعذور في عرض صلاة المختار بل في طولهما كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ لسان أدلّة الاضطرار كنفي الحرج والضرر ورفع الاضطرار والتقيّة هو لسان الحكومة ومعناها هو كونها ناظرة إلى الأدلّة الأوّليّة ومقتضى ذلك هو

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٨١.

٢٢٤

وجود الأحكام الأوّليّة في مواردها وإلّا لزم الخلف في كونها ناظرة إليها.

وعليه فليس مفاد أدلّة الاضطرار كمفاد أدلّة التخصيص التي تخرج الأفراد عن تحت مادّة العموم بحيث لا يبقى للعموم بالنسبة إليها اقتضاء بل مفادها هو التصرّف في هيئة الأوامر الأوّليّة لسقوطها عن الفعليّة من باب حكمة الامتنان ولذا أفتوا بصحّة الوضوء والغسل مع الجهل والغفلة بكونهما ضرريّين في الواقع.

قال في العروة : الشرط السابع : أن لا يكون مانع من استعمال الماء من مرض أو خوف أو عطش أو نحو ذلك وإلّا فهو مأمور بالتيمّم ولو توضّأ والحال هذه بطل ولو كان جاهلا بالضرر صحّ وإن كان متحقّقا في الواقع والأحوط الإعادة أو التيمّم. وقال أيضا بمثله في الغسل فراجع.

فلو كان مقتضى أدلّة الاضطرار هو التنويع وإخراج مورد الاضطرار فلا وجه للصحّة مع الجهل والغفلة وليس ذلك إلّا لكون مفاد أدلّة الاضطرار هو التصرّف في ناحية هيئة الأوامر الأوّليّة لا في مادّتها كأدلّة التخصيص.

ويؤيّد ذلك أيضا ما ذهبوا إليه في باب ترك التقيّة في المعاملات حيث قالوا لو ترك المكلّف التقيّة وأتى بالعمل على طبق الوظيفة الواقعيّة فيما تقتضي التقيّة إظهار الموافقة معهم فإن كان ذلك في المعاملات كما إذا فرضنا أنّ التقيّة اقتضت الطلاق من غير شهادة العدلين والمكلّف قد ترك التقيّة وطلّق زوجته عند العدلين وشهادتهما فلا إشكال إذا كان جاهلا بل لا إشكال فيما إذا كان عالما أيضا لأنّ ترك التقيّة وإن كان محرّما إلّا أنّ النهي في المعاملات لا بعنوانها بل بعنوان آخر لا دلالة له على الفساد وحيث أنّ المعاملة مشتملة على جميع القيود والشروط فلا محالة تقع المعاملة صحيحة وإن كان المكلّف قد ارتكب معصية بل الأمر كذلك في العبادات فيما إذا لم يكن العمل المأتيّ به على خلاف التقيّة من أجزاء العبادة وشرائطها فلو خالف التقيّة وترك التأمين أو التكثّف فالظاهر صحّة عمله لموافقته للوظيفة الواقعيّة غاية الأمر أنّه

٢٢٥

ارتكب الحرام بترك التقيّة إلّا أنّ ارتكاب المحرّم في الصلاة غير مضرّ بصحّتها بعد ما فرضنا كونها مطابقة للمأمور به الواقعيّ هذا بخلاف ما إذا خالف التقيّة وسجد على التربة لأنّ السجدة على التربة لأجل كونها على خلاف التقيّة محرّمة على الفرض والمحرّم لا يعقل أن يكون مصداقا للواجب العباديّ. (١)

وكيف كان فالأوامر الاضطراريّة في طول الأوامر الواقعيّة ولا ترفع إلّا إلزامها كموارد التزاحم فكما أنّ الإتيان بالمهمّ مع الجهل بالأهمّ محكوم بالصحّة بل مع العلم أيضا بناء على الترتّب كذلك في المقام بعد ما عرفت من بقاء المادّة في موارد الاضطرار.

وإليه يؤول ما في الوقاية حيث قال : ولا شكّ في أنّ الأحكام الاضطراريّة جعلت بدلا عن الأحكام الأوّليّة لاشتمالها على مصلحة المبدل منها ولو على مرتبة ضعيفة ولا يحتمل أن يكون فقد الماء مثلا سببا لوجوب مستقل غير مرتبط بالتكليف الأوّليّ كسببيّة كسوف الشمس لصلاة الآيات مثلا فتكون نسبة الصلاة مع التيمّم إلى الصلاة مع الوضوء كنسبة صلاة الآيات إليها. فبدليّة هذه الأحكام عن تلك ينبغي أن تعدّ من الواضحات التي يستدلّ بها لا عليها. (٢)

نعم يمكن تقييد موضوع الحكم الواقعيّ بعدم الاضطرار بنحو التخصيص في بعض الموارد بحيث لا يبقى الملاك في الموضوع مع وجود الاضطرار ولعلّ من هذه الجهة استشكل في صحّة صوم من زعم عدم الضرر ثمّ بان الخلاف بعد الفراغ من الصوم مستدلّا بأنّ قرينة المقابلة بين المريض وغيره في الآية المباركة تقتضي أنّ الصوم مختصّ بالصحيح الحاضر دون المريض أو المسافر فيكون من باب تبدّل

__________________

(١) راجع التنقيح ٤ / ٣٢٤ ـ ٣٢٢.

(٢) الوقاية / ٢٢٠.

٢٢٦

الموضوع فلا مصلحة للصوم حين وجود الضرر فلا وجه للصحّة. (١)

وإن أمكن الجواب عنه كما في المستمسك بأنّ الظاهر من استثناء المريض في الآية والرواية بقرينة مناسبة الحكم والموضوع كونه من باب التزاحم بين وجوب الصوم وحفظ النفس وأهميّة الثاني لا لعدم الملاك في صوم المريض ليكون استثناؤه من باب التخصيص وحينئذ فلو صام كان صومه واجدا لملاك الأمر فيصحّ. (٢) فافهم.

وكيف كان فالموضوع لو كان متقيّدا بعدم الاضطرار فلا مجال لدعوى التزاحم أو الصحّة فاللازم هو الرجوع إلى الأدلّة هل تكون بنحو التقييد أو بنحو الحكومة فإن كان بنحو التقييد فلا ملاك في غير المتقيّد.

هذا بخلاف الحكومة فإنّها من باب حكمة الامتنان رافعة للتكليف لا اقتضاء المادّة وقد عرفت أنّ أدلّة الاضطرار كنفي الحرج أو الضرر أو قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور وأدلّة التقيّة لسانها لسان الحكومة فدعوى أنّ الأمر واحد في الأوامر الاضطراريّة كالأوامر الواقعيّة الأوّليّة كما ترى.

ثمّ بعد ما عرفت من تعدّد الأمر في الأوامر الاضطراريّة يصحّ البحث عن أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ هل يجزي عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعيّ ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادة وفي خارجه قضاء أو لا يجزي؟

ابتناء النزاع على إطلاق الأدلّة الأوّليّة :

ولا يخفى أنّ النزاع المذكور يبتني كما في بدائع الأفكار على شمول أدلّة العمل الاختياريّ لحالة طروّ الاختيار بعد الاضطرار وإلّا فلا مجال للنزاع المذكور إذ يكفي لنفي وجوب الإعادة عدم إطلاق الدليل بالنسبة إلى حالة طروّ الاختيار بعد

__________________

(١) راجع مستند العروة ١ / ٤٦٥.

(٢) المستمسك ٨ / ٤٢١.

٢٢٧

الاضطرار وذلك أنّ لمتعلّق الخطاب المطلق أفراد عرضيّة وأفراد طوليّة فكما أنّ تعذّر بعض الأفراد العرضيّة لا يوجب سقوط الخطاب إلّا من جهته ويبقى الخطاب فعليّا من جهة باقي الأفراد الممكنة كذلك تعذّر جميع الأفراد العرضيّة لا يوجب إلّا سقوط الخطاب من جهتها ويبقى إطلاق الخطاب فعليّا من جهة الأفراد الطوليّة وكذا تعذّر بعض الأفراد الطوليّة لا يوجب سقوط إطلاق الخطاب من جهة الأفراد الطوليّة الاخرى بطريق أولى والشاهد على ذلك أمران :

أحدهما : أنّ المكلّف لو اضطرّ إلى ترك المبدل ولم يأت بالبدل ثمّ ارتفع العذر في الوقت لا يرتاب أحد في وجوب الإتيان بالمبدل في باقي الوقت وما ذاك إلّا لتمسّكهم بالإطلاق الشامل لمحلّ الفرض إذ لا دليل لهم على عموم الحكم المزبور إلّا ذلك.

وثانيهما : أنّه لو لم يكن الإطلاق شاملا لأفراد المبدل الطوليّة كما ذكرنا لما كان وجه لبحث الأعلام (قدس الله اسرارهم) عن كون مصلحة البدل وافية بتمام مصلحة المبدل أو ليست بوافية وعلى فرض كونها ليست بوافية فهل يمكن استيفاء الباقي من مصلحة المبدل بالإعادة أو القضاء أو لا يمكن إذ بناء على عدم شمول الإطلاق لأفراد المبدل الطوليّة لا يمكن إحراز كونها ذات مصلحة ليتنازع في وفاء مصلحة البدل بمصلحتها وعدمه ولكان التمسّك لنفي وجوب الإعادة بعدم الدليل أولى. (١)

وعليه فمع إطلاق الأدلّة الأوّليّة يصحّ البحث بعد الإتيان بالعمل الاضطراريّ وعروض حالة الاختيار في الوقت عن أنّه هل يجزي العمل الاضطراريّ عن العمل الاختياريّ أو لا يجزي؟

بل يلزم العمل الاختياريّ بعد شمول إطلاق دليله لحالة طروّ الاختيار بعد الاضطرار؟

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ٢٧٣ ـ ٢٧٢.

٢٢٨

لا يقال : مع إطلاق الأدلّة الأوّليّة لا مجال للنزاع ضرورة أنّ مقتضى الإطلاق هو عدم إجزاء العمل الاضطراريّ وعدم وفائه بمصلحة المبدل.

لأنّا نقول : كما في بدائع الأفكار إنّ إطلاق الأدلّة الأوّليّة في حالتي الاختيار والاضطرار إنّما يكون من غير جهة العمل الاضطراريّ وأمّا من جهته فيكون مجملا وإلّا فلا وجه للنزاع ضرورة أنّ إطلاقه دليل على عدم الإجزاء وبه يستكشف عدم وفاء العمل الاضطراريّ بمصلحة المبدل مع أنّ النزاع متحقّق كما لا يخفى.

في ابتناء المسألة على الجهات الواقعيّة وعدمه :

ثمّ إنّ صاحب الكفاية جعل المسألة مبتنية على ملاحظة الجهات الواقعيّة من المصالح والمفاسد وأفاد حصر الجهات الواقعيّة في الأقسام الأربعة وقال :

إنّ المأتيّ به إمّا يكون وافيا بتمام المصلحة أو لا وعلى الثاني إمّا يكون الفائت قابلا للتدارك أو لا وعلى الأول إما يكون بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحبّ تداركه.

ثمّ قال : إن كان المأتيّ به وافيا بتمام المصلحة فيجزي عنه ولا يبقي مجال أصلا للتدارك لا قضاء ولا إعادة وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه.

وإن لم يكن وافيا وأمكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء خارج الوقت فإن كان ممّا يجب تداركه فلا يجزي فلا بدّ من إيجاب الإعادة أو القضاء وإن لم يكن الباقي ممّا يجب تداركه فيجزي. انتهى حاصل ما اختاره.

وفيه أوّلا : كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره منع حصر الجهات الواقعيّة في الأقسام الأربعة لأنّ البحث في الإجزاء لا يختصّ بمثل الصلاة التي يمكن دعوى سنخيّة اضطراريّها مع اختياريّها بل يعمّ ما يكون مصلحته مباينة مع مصلحة الاختياريّ وعليه فالأجود هو أن يقال :

إنّ التكليف الاضطراريّ : إمّا تكون مصلحته مباينة مع مصلحة التكليف

٢٢٩

الاختياريّ.

وإمّا لا تكون فإن كان الأوّل فاللازم هو الإتيان بالاختياريّ بعد رفع الاضطرار لوجود التباين والمغايرة بينهما ولذا يقع الكلام في كفاية الصيام أو الإطعام عن تحرير الرقبة عند العجز عن التحرير في كفّارة الظهار مع أنّ الكفّارة مترتّبة لاحتمال أن يكون مصلحة الإطعام أو الصيام متباينة مع مصلحة التحرير وهكذا يقع الكلام في كفاية الاستغفار عن العتق أو الإطعام فيمن أفطر متعمّدا ولم يجد مالا حتّى يطعم أو عبدا حتّى يعتق ولم يتمكّن من الصيام فاستغفر مكان تلك الخصال ثمّ وجد المال وليس ذلك إلّا لاحتمال المباينة ومنه يعلم أنّ مع المباينة لا مجال للإجزاء والكفاية للمغايرة والمباينة التي تقتضي عدم الإجزاء ما لم يرد فيه تعبّد خاصّ وعليه فلا وجه لحصر الجهات الواقعيّة في الأقسام الأربعة.

هذا مضافا إلى ما في نهاية النهاية من أنّ هناك قسم آخر وهو أن يكون الأمر الاضطراريّ وافيا بمصلحة الأمر الاختياريّ بحيث لا يفوت مقدار ملزم لكن بشرط عدم ارتفاع الاضطرار أمّا إذا ارتفع فلا. وحكم هذه الصورة حكم عدم الوفاء مطلقا.

وثانيا : كما في نهاية النهاية أنّ التحقيق هو منع ابتناء مسألة الإجزاء على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلّق بل يجري البحث ولو لم نقل بالتبعيّة كذلك كما هو مذهب صاحب الكفاية. (١)

فتحصّل أنّ البحث عن الإجزاء لا يبتني على ملاحظة الجهات الواقعيّة بل يبتني على كيفيّة اعتبار الأوامر الاضطراريّة في أدلّتها.

هذا مضافا إلى عدم إمكان الاطّلاع نوعا عن الجهات الواقعيّة فالاحالة في مثلها إحالة إلى أمر مجهول.

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ١٢٣ مع اختصار في النقل.

٢٣٠

وعليه فليبحث في مقام الإثبات وكيفيّة أدلّة اعتبار الأوامر الاضطراريّة نعم بعد إحراز مقام الإثبات يمكن الاستكشاف عن الجهات الواقعيّة ولكنّه لا حاجة إليه بعد تماميّة مقام الإثبات للدلالة على الإجزاء.

أدلّة الإجزاء في الأوامر الاضطراريّة :

ذهب سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره إلى أنّ المعتبر هو ملاحظة كيفيّة لسان أدلّة الأوامر الاضطراريّة فإن كانت كيفيّة لسانها كيفيّة لسان الحكومة فلا إشكال في كونها تدلّ على الإجزاء كما لا يبعد هذه الدعوى في مثل قوله : «التراب أحد الطهورين» لأنّ هذا اللسان يفيد التوسعة في الطهارة التي كانت الصلاة مشروطة بها. انتهى

ويعضده ما في نهاية النهاية حيث قال : واضح أنّ دليل تشريع التيمّم لا سيّما الرواية المذكورة لسانه لسان الشرح للأدلّة الأوّليّة وموسّعة لدائرة الشرط وأنّه ليس هو خصوص الطهارة المائيّة بل ما يعمّها والطهارة الترابيّة.

نعم لا في عرضها بل تلك مع التمكّن من الماء وهذه مع التعذّر فلا وجه بعد ذلك لعدم الإجزاء فإنّه قد أتى بما هو تكليفه واقعا وليس احتمال عدم الإجزاء ولزوم الإعادة بعد رفع الاضطرار إلّا كاحتمال عدم إجزاء الصلاة مع الطهارة المائيّة ولزوم الإعادة مع التيمّم عند طروّ الاضطرار وأحد الأمرين ليس بأولى من الآخر .. إلى أن قال : والعجب من المصنّف (أي صاحب الكفاية) حيث سلك هذا المسلك في قسم الاصول الموضوعيّة من المقام الثاني من غير تعرّض لمقام ثبوته مع أنّ المقام أوضح حكومة وأولى بسلوك هذا المسلك منه. (١)

وأيضا لا تبعد دعوى الحكومة في أدلّة التقيّة أيضا فإنّها في كثير من موارد

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

٢٣١

التقيّة تكون بلسان الأمر بما عدا المضطرّ إلى تركه أو كان بلسان الأمر بما هو مضطرّ إلى فعله من الموانع والقواطع ومن المعلوم أنّ الأمر بتلك الامور يدلّ على عدم دخالة المتروك جزء كان أو شرطا وعدم مانعيّة ما أتى به وليس ذلك إلّا معنى الحكومة ولعلّه لذلك قال في الوقاية :

وأمّا الحكم بحسب الأدلّة فهو يختلف باختلاف الموارد وضوحا وخفاء بل وجودا وعدما والظاهر منها الإجزاء في الصلاة مع التيمّم وفي حال التقيّة. (١)

فالأدلّة العامّة في التقيّة كالأدلّة الخاصّة في التيمّم تدلّ على الإجزاء من دون حاجة إلى دليل من الخارج على عدم وجوب أمرين وعدم وجود تكليفين ولو كان أحدهما اضطراريّا والآخر اختياريّا لا في الوقت وحده ولا فيه وفي خارجه.

وممّا ذكر يظهر ما في منتهى الاصول حيث قال : ما كان منها بلسان الأمر بما عدا المضطرّ إلى تركه أو كان بلسان الأمر بما هو مضطرّ إلى فعله من الموانع والقواطع وذلك ككثير من موارد التقيّة وغيرها فلا يدلّ إلّا على اشتمال المأمور به على المصلحة الملزمة.

وأمّا أنّ هذه المصلحة هي تمام الملاك وتمام ما هو الفرض فلا يدلّ على ذلك أصلا إلّا أن يدلّ دليل من الخارج على عدم وجوب أمرين وعدم وجود تكليفين ولو كان أحدهما اضطراريّا والآخر اختياريّا لا في الوقت وحده ولا فيه وفي خارجه نعم بالنسبة إلى القضاء بناء على أنّه بأمر جديد وتابع لفوت المصلحة التي يلزم استيفاؤها ويمكن استيفاؤها يأتي ما ذكرنا آنفا من عدم إحراز موضوعه. (٢)

وذلك لما عرفت من أنّ الأمر بتلك الامور مع ترك ما اضطرّ إلى تركه أو فعل

__________________

(١) الوقاية / ٢٠٠.

(٢) منتهى الاصول ١ / ٢٤٨.

٢٣٢

ما اضطرّ إلى فعله يدلّ عرفا على عدم مدخليّة المتروك وعدم مانعيّة المأتيّ به وليس ذلك إلّا معنى الحكومة وعليه فالأمر بها يكون توسعة في المأمور به وظاهر هذه التوسعة أنّ المأتيّ به تقيّة واف بتمام غرضه مثل المأتيّ به بشرائطه وعدم موانعه من دون حاجة إلى دليل من الخارج يدلّ على عدم وجوب أمرين وعدم وجود تكليفين.

هذا مضافا إلى أنّا لا نكلّف بالمصالح بل نكلّف بمتعلّقات التكاليف فلا تغفل.

وممّا ذكر يظهر أيضا ما في تهذيب الاصول حيث أناط الإجزاء على قيام الإجماع على عدم وجوب الزائد من صلاة واحدة في الوقت المضروب لها مع أنّك عرفت أنّ لسان أدلّة الاضطرار لسان الشرح والحكومة وهو كاف في إفادة الإجزاء من دون حاجة إلى الإجماع على عدم وجوب الزائد وهكذا لا وجه لإناطة الدلالة على الإجزاء بما إذا امتنع جعل الشرطيّة والجزئيّة استقلالا وغير ذلك. (١)

إذ المعيار هو كون لسان الأدلّة لسان الحكومة سواء كان جعل الشرطيّة أو الجزئيّة ممكنا أو ليس بممكن.

ولا يبعد أيضا دعوى الإجزاء في مثل صلاة المضطجع والغريق عن صلاة المختار كما نسب إلى إطلاق عبارة الشيخ الأعظم قدس‌سره ولعلّ وجهه هو ظهورها في بيان بدليّتهما عن صلاة المختار وليس معنى البدليّة إلّا الحكومة إذ معنى الأمر للعاجز عن القيام بالقعود مكانه هو كون القعود بدلا عن القيام ومعه يوسّع دائرة الشرط فإذا أتى بالطبيعة مع القعود أتى بالطبيعة المأمور بها بالأوامر الأوّليّة ومع الإتيان بها يسقط الأمر كما لا يخفى.

وممّا ذكر يظهر ما في الوقاية حيث قال : إنّ ذلك لا يخلو عن خفاء بل منع. (٢)

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول ١ / ١٨٦.

(٢) راجع الوقاية / ٢٠٠.

٢٣٣

وأمّا أدلة نفي الحرج والضرر أو نفي الاضطرار فقد يستشكل في استفادة الإجزاء منها من جهة أنّ غايتها هو عدم وجوب ما فيه حرج أو ضرر وأمّا الأمر بالباقي فلا يستفاد منها فيكون خارجا عن محطّ البحث إذ ليس هنا أمر اضطراريّ حتّى يبحث عن إجزائه عن الأمر الواقعيّ وعدمه.

قال في منتهى الاصول : وما كان منها بلسان رفع الاضطرار أو عدم جعل الأحكام الحرجيّة والضرريّة فلا يستفاد منها إلّا عدم وجوب ما هو مضطرّ إلى تركه أو فيه ضرر أو حرج بناء على حكومة هذه القواعد على أدلّة الأحكام الواقعيّة الأوليّة حكومة واقعيّة وأمّا أنّه هناك أمر بباقي الأجزاء ما عدا هذا الذي اضطرّ إلى تركه بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط أو إلى فعله بالنسبة إلى الموانع أو في فعله حرج أو ضرر أو في تركه كذلك فلا تدلّ تلك الأدلّة عليه فضلا عن دلالتها على الإجزاء فلا بدّ في إثبات الإجزاء من التماس دليل آخر نعم بالنسبة إلى القضاء يمكن أن يقال : بعد وفاء المأمور به بالأمر الاضطراريّ بمرتبة من الملاك والمصلحة لا نعلم بفوت المصلحة اللازمة الاستيفاء مع كونها ممّا يمكن استيفاؤه فما احرز موضوع القضاء الذي هو عبارة عمّا ذكر. (١)

ولكن يمكن الذبّ عنه بأنّ وجوب الباقي مستفاد من الأدلّة الواقعيّة الدالّة على الأجزاء والشرائط لا من حديث الرفع أو نفي الحرج أو نفي الضرر ولذا لم يلتفتوا إلى ما استشكل في جريان البراءة وحديث الرفع في نفي جزئيّة شيء مشكوك أو شرطيّته بأنّ الجزئيّة والشرطيّة وإن ارتفعتا بحديث الرفع ولكن لا دليل آخر على الأمر الآخر بالخالي عنهما وليس وجه ذلك إلّا ما أشرنا إليه من أنّ وجوب الباقي مستفاد من الأدلّة الأوّليّة الدالّة على الأجزاء والشرائط فلا حاجة إلى اثباتها بأدلّة حديث الرفع

__________________

(١) منتهى الاصول ١ / ٢٤٨.

٢٣٤

حتّى يقال أنّه متكفّل للرفع لا للإثبات كما صرّح به في الكفاية. (١)

نعم يرد عليه أنّ استفادة وجوب الباقي من الأدلّة الأوليّة ليست بأمر مغاير مع الأمر الأوليّ حتّى يجري فيه النزاع في إجزائه عن الواقع.

اللهمّ إلّا أن يقال : أنّ المتفاهم العرفيّ من بقاء الأمر بالنسبة إلى العمل مع نفي الوجوب عن الضرريّ والحرجيّ هو وجوب الباقي وكفاية المأتيّ به عن الجامع للشرائط والأجزاء وهو كاف في الإجزاء ولا حاجة إلى دلالة دليل نفي الحرج أو الضرر على وجوب الباقي.

إلّا أنّ الإنصاف أنّ موارد نفي الحرج والضرر ورفع الاضطرار خارجة عن محطّ البحث لأنّ الأمر بباقي الأجزاء هو الأمر الواقعيّ لا الاضطراريّ حتّى يبحث عن إجزائه عن الأمر الواقعيّ وعدمه نعم يتّحد تلك الموارد مع المقام في إفادة كفاية الإتيان بما عدا الحرج والضرر والاضطرار.

فتحصّل أنّ لسان غالب أدلّة الأوامر الاضطراريّة لسان الحكومة وعليه فلا إشكال في دلالتها على الإجزاء.

هذا كلّه بناء على تعدّد الأمر وكون لسان الأدلّة في الأجزاء والشرائط لسان الادلّة الأوّليّة وأدلّة الأوامر الاضطراريّة متقدّمة عليها بالحكومة. وأمّا إذا لم نقل بالتعدّد بل كان الأمر الأوّليّ يشمل المضطرّ وغير المضطرّ في عرض واحد يكون الإجزاء في غاية الوضوح كما أفاد في تهذيب الاصول :

إذ العبد يكون مخيّرا عقلا أو شرعا بين الإتيان بمصداقه الاضطراريّ في الحال وبدارا وبين انتظار آخر الوقت والإتيان بالفرد الاختياريّ ولا إشكال في أنّ امتثال كلّ واحد مسقط لأمره والمفروض أنّ المأمور به في حال الاضطرار مصداق للطبيعة

__________________

(١) راجع الكفاية ٢ / ٢٣٨ ـ ٢٣٧.

٢٣٥

المأمور بها ومشتمل لجميع الخصوصيّات المعتبرة فيها فلا معنى للبقاء بعد الإتيان. (١)

كما إذا لم يكن الأمر بالطهارة المائيّة متوجّها إلى الجميع حتّى تعدّ من الأدلّة الأوّليّة بل الأمر كان متوجّها إلى الصلاة مع الطهارة وهي مهملة وإنّما دلّ الدليل على أنّ وظيفة المختار هو الطهارة المائيّة ووظيفة المضطرّ هو الطهارة الترابيّة ومن المعلوم حينئذ أنّه لا يكون أحد الطهورين مقدّما على الآخر لأنّهما تكونان في عرض واحد كعنوان المسافر والحاضر ومقتضاه هو كفاية كلّ واحد منهما في تحقّق الامتثال.

نعم يرد عليه كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره : أنّه خلاف ظواهر الأدلّة ويشهد له أنّه لا يجوز عند الأصحاب إهراق الماء في وقت وجوب الصلاة وإقامة الصلاة مع التيمّم وليس ذلك إلّا لعدم كونهما كعنوان المسافر والحاضر فلا تغفل.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الموضوع في الأوامر الاضطراريّة هو العذر والاضطرار في بعض الوقت فإنّ في هذا الفرض يتحقّق الأوامر الاضطراريّة في مقابل الأوامر الواقعيّة.

وأمّا إذا كان الموضوع هو استيعاب الاضطرار فمع عدم الاستيعاب لا أمر اضطراريّ حتّى يبحث عن إجزائه عن الأمر الواقعيّ وعدم الحاجة إلى الإعادة.

ولذلك قال في تهذيب الاصول : ولا يخفى أنّ البحث من هذه الجهة إنّما هو فيما إذا كان المكلّف مضطرّا في جزء من الوقت فأتى بوظيفته ثمّ طرأ الاختيار وفيما إذا كان الأمر بإتيان الفرد الاضطراريّ محرزا ويكون العذر غير المستوعب موضوعا للتكليف لأنّ الكلام في أنّ الإتيان بالمأمور به الاضطراريّ مجز أولا وهو فرع وجود الأمر وبالجملة البحث فيما إذا كان الاضطرار في بعض الوقت موضوعا للتكليف بالإتيان.

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول ١ / ١٨٥.

٢٣٦

وأمّا إذا دلّت الأدلّة على أنّ استيعاب الاضطرار موضوع للإتيان فهو خارج عن محطّ البحث لأنّه مع عدم الاستيعاب لا أمر هنا ولا مصداق للمأمور به حتّى نبحث عن إجزائه كما أنّ من مقتضى البحث أيضا هو طروّ الاختيار في الوقت مع إتيان المأمور به فلو استوعب العذر ولم يظهر الاختيار فهو خارج عن موضوع الإعادة. (١)

ثمّ لا يذهب عليك أنّ بعد ما مرّ من تقريب الحكومة في الأدلّة الاضطراريّة لا حاجة في إثبات الإجزاء إلى التمسّك بالإطلاق المقاميّ كما يظهر من صاحب الكفاية لوضوح أنّ دليل تشريع موارد الاضطرار كدليل تشريع التيمّم لا سيّما الرواية المعروفة :

التراب أحد الطهورين ، لسانه لسان الشرح للأدلّة الأوّليّة المشترطة للطهارة وموسّعة لدائرتها.

نعم لا يكون الأفراد الاضطراريّة في عرض الأفراد الاختياريّة فالطهارة وإن وسعت بسبب أدلّة التيمّم وعمّت الترابيّة ولكنّ المائيّة مع التمكّن من الماء والترابيّة مع التعذّر وعليه فلا وجه بعد حكومة أدلّة الاضطرار لعدم الإجزاء فإنّه قد أتى بما هو تكليفه واقعا. (٢)

ثمّ إنّ مع دلالة الأدلّة الاضطراريّة على الإجزاء وعدم الحاجة إلى الإعادة فلا موضوع لاحتمال القضاء لأنّ القضاء فيما إذا لم يأت بالواجب والفريضة وأمّا مع الإتيان به كما هو مفاد أدلّة الاضطرار فلا مجال لاحتمال القضاء كما لا يخفى.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٨٥.

(٢) راجع نهاية النهاية ١ / ١٢٥.

٢٣٧

مقتضى الأصل عند الشكّ :

ربما يقال : إنّ مع إهمال أدلّة الاجزاء فالأصل يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة لكونه شكّا في أصل التكليف وكذا عن إيجاب القضاء بطريق أولى ، كما في الكفاية.

وفيه : كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره : أنّ مع إطلاق الأدلّة الأوّليّة لا تصل النوبة إلى الرجوع إلى الأصل المذكور.

وقد عرفت أنّ الأدلّة الأوّليّة كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ..) الآية.

تعمّ الأفراد العرضيّة والطوليّة وعليه فمع إهمال أدلّة الاضطرار فاللازم هو التمسّك بعموم أو إطلاق الأدلّة الأوّليّة فتجب عليه حينئذ الإعادة في الوقت أو القضاء في خارج الوقت بناء على تعدّد المطلوب ووحدة حقيقة القضاء مع الأداء وإليه يؤول ما في نهاية النهاية حيث قال : لو لم يكن لدليل البدل إطلاق أو عموم يرجع إلى عموم الدليل الأوّل الدالّ على شرطيّة الطهارة المائيّة أو إطلاقه ولا يكون مجال للأصل إلّا إذا لم يكن لذلك الدليل أيضا عموم أو إطلاق. (١)

لا يقال : إنّ العامّ المذكور بعد ورود دليل الاضطرار يصير كالعامّ المخصّص الذي يقع الكلام بين الأعلام في أنّ مورد الشكّ هل يؤخذ بعموم العامّ أو باستصحاب حكم المخصّص.

لأنّا نقول : كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره : إنّ قياس المقام بالعامّ المخصّص ليس في محلّه لأنّ الأدلّة الأوّليّة لا تتخصّص بشيء بحدوث الاضطرار وإنّما المضطرّ صار بعروض الاضطرار وعدم القدرة معذورا عنه بحكم العقل لعدم تمكّنه من الامتثال وليس خارجا عنها بحدوث الاضطرار كموارد تخصيص العامّ فإذا زال

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ١٢٦.

٢٣٨

الاضطرار وتجدّدت القدرة فلا مانع من تنجّز الخطاب ولا رافع للزوم الامتثال مع عدم حكومة دليل الاضطرار كما هو المفروض عند الإهمال.

بل مقتضى الأدلّة الأوّليّة هو لزوم الامتثال عند الشكّ في زوال الاضطرار لأنّ العقل حاكم بالوجوب عند الشكّ في القدرة الفعليّة.

والحاصل أنّ الأدلّة الأوّليّة لا تتخصّص بشيء حتّى تقاس بالعامّ المخصّص ويأتي فيها ما يأتي فيه بل الاضطرار يوجب عذرا للمضطرّ ما دام الاضطرار ثابتا كالمتزاحمين فإذا زال الاضطرار والتزاحم لزم الامتثال بلا مجال كما لو لم يكن بدل شرعيّ وصار المكلّف في أوّل الوقت فاقدا للماء ثمّ زال الاضطرار ووجد الماء فإنّ العقل يحكم فيه بوجوب الصلاة مع الطهارة المائيّة بعد وجدان الماء من دون كلام.

لا يقال : إنّ مع سقوط الأمر الواقعيّ عن الفعليّة حال الاضطرار لا نعلم بحدوثه بعد رفع الاضطرار.

لأنّا نقول : إنّ التكليف من أوّل الأمر معلوم في حال الاضطرار وحال رفعه وإنّما أسقطه الاضطرار في حال الاضطرار عن الفعليّة وإسقاطه في غيره يتوقّف على حكومة الأمر الاضطراريّ على الأمر الواقعيّ والمفروض عدم الحكومة أو يتوقّف على الإطلاق المقاميّ في أدلّة الاضطرار والمفروض أنّ دليل الأمر الاضطراريّ مهمل ولا إطلاق فيه وعليه فإذا زال الاضطرار والعذر فلا وجه لرفع اليد عن التكليف المتوجّه إليه المعلوم من أوّل الأمر وعدم دليل على خروج المضطرّ عن تحت إطلاق الأدلّة الأوّليّة التي تشمل الأفراد العرضيّة والطوليّة هذا كلّه مع ملاحظة إطلاق الأدلّة الأوّليّة وأمّا مع الإغماض عن ذلك ووجود الإهمال من الطرفين فالحكم بأنّ الأصل يقتضي البراءة منظور فيه أيضا كما أفاده استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره من رجوع المسألة حينئذ إلى الدوران بين التعيين والتخيير لاحتمال وفاء الاضطراريّ في أوّل الوقت بمصالح الاختياريّ فيكون مختارا بين الاضطراريّ في أوّل الوقت والاختياريّ في

٢٣٩

آخره واحتمال أن لا يكون كذلك فيتعيّن الاختياريّ عليه في آخر الوقت فالأمر مع الاحتمالين المذكورين يدور بين كون التكليف بالاختياريّ في آخر الوقت تخييريّا أو تعيينيّا فمن ذهب في مسألة الدوران بين التعيين والتخيير إلى الاشتغال حكم بلزوم الإعادة في المقام بعد الإتيان بالاضطراريّ في أوّل الوقت كما لا يخفى.

وعليه فلا وجه للقول بأنّ مقتضى الأصل في المقام هو البراءة فلا تغفل.

لا يقال : إنّ المكلّف لا يعلم بتوجّه تكليف واحد إليه وشكّ عند الإتيان في أنّ المطلوب هل هو هذا الفرد متعيّنا أو مع عدله حتّى لا يجوز العدول إلى المشكوك بحكم العقل بل المكلّف الفاقد يعلم حين الفقدان بأنّه ليس مكلّفا بتكليف الواجد ويحتمل أن يكون مرخّصا في إتيان الصلاة مع الطهارة الترابيّة كما يحتمل كونه غير مكلّف بالصلاة حال الفقدان أصلا بل يتعلّق به التكليف بالصلاة مع الطهارة المائيّة حال وجدانه فيما بعد.

والحاصل أنّه قاطع لعدم التكليف بالعنوان الاختياريّ حالة الاضطرار ويحتمل توجّه التكليف إليه بالعنوان الاضطراريّ إذا كان الشرط هو الفقدان ولو في بعض الحالات فحينئذ إذا أتى الاضطراريّ رجاء ثمّ ارتفع العذر فهو قاطع بارتفاع الأمر الاضطراريّ وسقوطه على فرض وجوده بالامتثال أو بعدم وجوده من رأس ويشكّ عند تبدّل الحالة في حدوث أمر جديد وتكليف حديث فالمحكم هو البراءة كما في تهذيب الاصول. (١)

لأنّا نقول : بأنّ مع حلول الوقت الموسّع يعلم المكلّف بكونه مكلّفا إمّا بالتكليف الاضطرارىّ حال الاضطرار أو التكليف الاختياريّ بعد رفع الاضطرار. فنفي العلم بالتكليف مع حلول الوقت الموسّع الذي عدّ وقتا واحدا كما ترى وعليه

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٨٨ ـ ١٨٩.

٢٤٠