عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

أصالة البراءة.

ولا وقع لبعض الإشكالات في هذا المقام.

ثانيها : أنّه يمكن أخذ دواعي التقرّب في المتعلّق بمعنى اشتراط الإتيان بفعل بداعي حسنه أو بداعي كونه ذا مصلحة أو بداعي محبوبيّته لله تعالى.

أورد عليه بأنّ اعتبارها في متعلّق الأمر وإن كان بمكان من الإمكان إلّا أنّه غير معتبر فيه قطعا لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال فإنّه يكشف عن تعلّق الأمر بنفس الفعل وإلّا يلزم اجتماع داعيين على فعل واحد أو كون داعي الأمر من قبيل داعي الداعي وهو خلف لفرض كفاية إتيانه بداعي الأمر بنفسه.

واجيب عنه : بأنّ كفاية قصد الامتثال لا ينافي أخذ سائر الدواعي في المتعلّق تصحيحا لقصد القربة فإنّ اعتبار سائر الدواعي يكون فيما إذا لم يأت بقصد الأمر وإلّا فمع إمكان قصد الأمر والإتيان به فلا حاجة في التقرّب إلى الإتيان بسائر الدواعي حتّى يلزم الاجتماع المذكور أو الداعي على الداعي.

نعم يرد على أخذ الدواعي الثلاثة في متعلّق الأوامر ما اورد على أخذ قصد الأمر في المتعلّق ولكن يمكن الجواب عنه بالجواب كما في تهذيب الاصول.

ثالثها : أنّ العبادة عبارة عن إظهار عظمة المولى والشكر على نعمائه بما يستحقّ ويليق به وإظهار العظمة والشكر المذكور بما يستحقّ ويليق به مقرّب بالذات وعبادة من دون توقّف على وجود الأمر أو قصد الأمر نعم لمّا كان المكلّف لا طريق له إلى استكشاف أنّ المناسب بمقام هذا المولى تبارك وتعالى ما هو إلّا بإعلامه تعالى لا بدّ أن يعلمه أوّلا ما يتحقّق به تعظيمه ثمّ يأمر به وعليه فالعبادة بهذا المعنى ليست ممّا يتوقّف تحقّقه على قصد الأمر حتّى يلزم محذور الدور.

اورد عليه بأنّ قصد التعظيم التعبّديّ بالمعنى المذكور يؤول إلى قصد ما أمر به تعبّدا ومعه لا يصحّ دعوى خلوّ العبادة عن قصد الأمر.

١٤١

هذا مضافا إلى ما فيه من عدم صحّة تفسير العبادة بمطلق إظهار العظمة والشكر فإنّ العبادة هي التأليه وهو التعظيم في مقابل الغير بعنوان أنّه ربّ وخالق سواء كان التعظيم بما يكون تعظيما ذاتا كالسجدة أو بما لا نطّلع بكونه تعظيما إلّا بالنصّ الشرعيّ كالصوم ونحوه من العبادات الشرعيّة.

رابعها : أنّ الفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانيّة وثبوت الداعي الآلهيّ الذي يكون موردا للمصلحة الواقعيّة وإن لم يكن قابلا لتعلّق الأمر به بملاحظة الجزء الأخير للزوم الدور إمّا من دون ضمّ القيد الأخير فلا مانع منه ويكون ملازما مع القربة وعليه فيقع الطلب به من دون ضمّ القيد الأخير.

ولا يرد عليه أنّ هذا الفعل من دون ملاحظة تمام قيوده التي منها القيد الأخير لا يكاد يتصف بالمطلوبيّة فكيف يمكن تعلّق الطلب بالفعل من دون ملاحظة تمام القيود التي يكون بها قوام المصلحة.

لأنّا نقول : الفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانيّة وإن لم يكن تمام المطلوب النفسيّ مفهوما لكن لمّا لم يوجد في الخارج إلّا بداعي الأمر لعدم إمكان خلوّ الفاعل المختار عن كلّ داع يصحّ تعلّق الطلب به لأنّه يتّحد في الخارج مع ما هو مطلوب حقيقة فهذا الوجه يرجع إلى إمكان اعتبار قصد القربة بالعنوان اللازم كما لا يخفى.

المقام الثالث : في الأخذ بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار قصد القربة في واجب وعدمه

ولا يخفى أنّه لا إشكال في جواز الأخذ بالإطلاق اللفظيّ سواء قلنا بإمكان أخذ قصد القربة في المتعلّق أو لم نقل.

أمّا إذا قلنا بالإمكان فواضح وأمّا إذا لم نقل فإنّ التقييد المتّصل غير ممكن وأمّا المنفصل أو العنوان الملازم فهو ممكن فيجوز الحكم بإطلاق متعلّق التكليف وعدم

١٤٢

تقييده بقصد القربة بمقدّمات الحكمة.

المقام الرابع : في الأصل العمليّ عند فرض عدم جريان مقدّمات الإطلاق

ولا يخفى عليك أنّ المراد من الأصل العمليّ إمّا هو البراءة العقليّة أو البراءة الشرعيّة.

أمّا الاولى فقد يمنع جريانها بدعوى أنّه لا بدّ عند الشكّ وعدم إحراز كون الأمر في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل ويستقلّ به العقل وهو ليس إلّا أصالة الاشتغال لأنّ الشكّ هاهنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها.

وفيه أنّ مع إمكان أخذ قصد الامتثال أو دواعي القربة في المتعلّق متّصلا أو منفصلا فلا فرق بين قصد الامتثال أو دواعي القربة وبين سائر القيود فكما أنّ مع الشكّ في سائر القيود عند عدم جريان مقدّمات الإطلاق تجري البراءة العقليّة فكذلك مع الشكّ في اعتبار قصد الامتثال ودواعي القربة تجري البراءة العقليّة ومجرّد عدم إمكان تقييد المأمور به متّصلا بناء على امتناعه لا يوجب الفرق مع إمكان البيان مستقلّا.

ودعوى أنّ أصل الغرض معلوم والشكّ في حصوله بإتيان المأتيّ به من دون قصد الأمر أو دواعي القربة ومقتضى الاشتغال اليقينيّ هو الفراغ اليقينيّ مندفعة بأنّ الأغراض إن كانت حاصلة بنفس ما وقع تحت دائرة البيان فما هو واجب تحصيله هو ما تعلّق به البيان من الأجزاء والشرائط ويتبعه الغرض في الحصول وإن كانت غير حاصلة إلّا بضمّ ما لم تقم عليه حجّة فلا نسلّم وجوب تحصيله.

وأمّا الثانية أعني البراءة الشرعيّة فهي جارية كالبراءة العقليّة بعد عدم جريان

١٤٣

مقدّمات الإطلاق.

ودعوى أنّه لا بدّ في عموم أدلّة البراءة الشرعيّة من شيء قابل للرفع والوضع شرعا وليس هاهنا كذلك فإنّ دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعيّ بل واقعيّ ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك إلّا أنّهما قابلان للوضع والرفع شرعا فبدليل الرفع ولو كان أصلا يكشف أنّه ليس هناك أمر فعليّ بما يعتبر فيه المشكوك يجب الخروج عن عهدته عقلا بخلاف المقام فإنّه علم بثبوت الأمر الفعليّ مندفعة بأنّا لا نسلّم عدم إمكان أخذ قصد الأمر أو دواعي القربة في المتعلّق ولو منفصلا.

هذا مضافا إلى أنّه كيف يمكن دخالة شيء في الغرض ولا يمكن للمولى بيانه وإظهاره.

وعليه فلا محيص عن جريان أدلّة الرفع بعد إمكان وضعه في نظائر المقام.

١٤٤

المبحث الخامس : في حمل الأمر على النفسيّ والعينيّ والتعيينيّ :

ذهب في الكفاية إلى أنّ مقتضى مقدّمات الإطلاق والحكمة هو الوجوب النفسيّ لا غيريّ والتعيينيّ لا التخييريّ والعينيّ لا الكفائيّ.

واستدلّ لذلك بأنّ مقابلاتها تحتاج إلى تقييد الوجوب وتضييق دائرته لعلّه لما قيل من أنّ الوجوب في الواجب الغيريّ تتضيّق بوجوب ذلك الغير فلا يجب إلّا فيما إذا وجب ذاك الغير والوجوب في الواجب التخييريّ تتضيّق بعدم الإتيان بالآخر الذي هو طرف التخيير والوجوب في الكفائيّ تتضيّق بعدم إتيان الآخرين ممّن يحتمل أن يكون مكلّفا بالمتعلّق.

وعليه فإذا كان المتكلّم في مقام البيان ولم ينصب قرينة على الغيريّة أو التخيير أو الكفائيّة فالحكمة تقتضي الإطلاق في الوجوب ، وجب هناك شيء آخر أو لا فهو النفسيّ أتى بشيء آخر أو لا فهو التعيينيّ أتى به آخر أو لا فهو العينيّ.

أورد عليه استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره أوّلا : بأنّ قوله في الواجب النفسيّ بأنّ الحكمة تقتضي وجوبه مطلقا وجب هناك شيء آخر أو لا منظور فيه ، حيث يمكن أن يكون الواجب النفسيّ متلازما مع واجب نفسيّ آخر كوجوب القصر والإتمام مع إفطار الصوم إلّا ما استثني وعليه فلا يتمّ القول بأنّ الحكمة تقتضي وجوب القصر سواء وجب شيء آخر أو لا.

يمكن أن يقال : إنّ الإطلاق يتصوّر من جهات مختلفة ربما تتمّ المقدّمات من حيث دون حيث آخر وفي مثل المقام تتمّ المقدّمات من حيث عدم مدخليّة شيء

١٤٥

آخر في وجوب الشيء الذي تعلّق به الخطاب فإذا أفادت المقدّمات إطلاق الوجوب من هذا الحيث فلا ملازمة بين هذا الإطلاق وإطلاقه من جهة اخرى وهي عدم وجوب شيء آخر مقارنا ومتلازما معه مع عدم تماميّة المقدّمات بالنسبة إليه.

وثانيا : بأنّ تعريف التعيينيّ بأنّ مقتضى مقدّمات الحكمة هو إطلاق وجوبه سواء أتى بشيء آخر أو لا يصحّ فيما إذا كان الوجوب في الواجب التخييريّ متقيّدا بترك الآخر فمقدّمات الإطلاق تفيد عدم تضييق وجوب الشيء بترك الآخر فيصحّ أن يقال إنّ مقدّمات الحكمة تقتضي إطلاق الوجوب التعيينيّ سواء أتى بشيء آخر أو لا. ولكن ليس التخييريّ كذلك وإلّا يكون العقاب متعدّدا إذا ترك المكلّف الواجبين التخييريّين إذ بتركهما يترك الواجبان حينئذ ومع ترك الواجبين يتعدّد العقاب مع أنّه كما ترى.

والقول بأنّ في التخييريّ يكون الجامع واجبا فالإتيان بفرد منه يوجب سقوطه فيصحّ أن يقال إنّ وجوب كلّ فرد منه متقيّد بترك الآخر هذا بخلاف الواجب التعيينيّ فإنّ كلّ فرد منه لم يتقيّد بترك الآخر فمقدّمات الإطلاق تفيد عدم تضييق وجوب كلّ فرد بترك الآخر مردود بأنّ مقتضى المذكور في تعريف التخييريّ هو كون التخيير عقليّا في أفراد الجامع وكون التكليف تعيينيّا لتعلّقه بالجامع المعيّن مع أنّه خلاف المفروض.

والقول بأنّ الوجوب التخييريّ سنخ آخر من الوجوب في قبال الوجوب التعيينيّ غير سديد لأنّ مقتضاه هو المباينة والمغايرة بين الوجوب التعيينيّ والوجوب التخييريّ ومع المباينة لا مجال لتعيين أحدهما بمقدّمات الحكمة إذ المقدّمات جارية فيما إذا احتاج أحدهما إلى مئونة زائدة والمفروض مع المباينة هو حاجة كلّ واحد منهما إلى المئونة.

ويمكن الجواب عن تعدّد العقاب بما في منتهى الاصول من أنّه أوّلا : لا مانع من

١٤٦

الالتزام بتعدّد العقاب لأجل مخالفته وعدم امتثاله للإرادات المتعدّدة.

وثانيا : أنّ العقاب تابع لفوت المصلحة الملزمة أي المصلحة التي يجب ويلزم تحصيلها ففيما نحن فيه إن قلنا بأنّ مصلحة جميع الأطراف واحدة فلم تفت إلّا مصلحة واحدة فلا يكون إلّا عقاب واحد وإن قلنا بتعدّدها .. إلى أن قال :

وإمكان اجتماعها فعلى الفرض وإن فاتت مصالح متعدّدة لكن حيث إنّ كلّها غير لازمة التحصيل بل إيجاد أحدها كان كافيا عند المولى بحيث ما كان يطالب بالبقيّة لو كان يأتي بأحدها فلا يستتبع إلّا عقابا واحدا وذلك لأنّ فوت المصلحة التي يجب تحصيلها يكون مستتبعا للعقاب لا فوت كلّ مصلحة (١).

ولا يخفى أنّه لا وجه للالتزام بتعدّد العقاب لأجل مخالفة الإرادات المتعدّدة بعد كون الإرادات تابعة للمصالح التي تكون الملزمة منها واحدة فالإرادة الحتميّة أيضا واحدة فلا تتحقّق مخالفة الإرادة الحتميّة إلّا في واحدة منها فالأولى هو الجواب بالثاني.

وثالثا : بأنّ تعريف العينيّ بأنّ مقدّمات الحكمة تقتضي إطلاق وجوبه سواء أتى به آخر أو لا محلّ إشكال لإمكان أن يقال :

إنّ وجوب الكفائيّ أخفّ مئونة من الوجوب العينيّ لكفاية لحاظ صدور صرف الوجود مطلقا من أيّ مكلّف كان في الوجوب الكفائيّ دون الواجب العينيّ فإنّه لحاظ صدور صرف الوجود من كلّ واحد من المكلّفين بخصوصه.

يمكن أن يقال : إنّ تخصيص الخطاب بكلّ واحد من المكلّفين لا يستلزم اعتبار خصوصيّة كلّ واحد في نفس خطابه وإن استفيدت الخصوصيّة من خطابه إلى الجميع بعد كونه منحلّا ومتوجّها إلى كلّ واحد. وعليه فلا فرق بين خطابه إلى جميع المكلّفين

__________________

(١) منتهى الاصول ١ / ٢١٨.

١٤٧

بنحو الاستغراق أو بين خطابه إلى واحد منهم. فلا وجه لدعوى كون الثاني أخفّ مئونة بعد عدم اعتبار الخصوصيّة في نفس الخطاب وإن استفيدت الخصوصيّة من الاستغراق كما أنّ الإجمال لم يعتبر في الخطاب وإن استفيد من أخذ عنوان واحد من المكلّفين.

هذا مضافا إلى أنّ المستفاد من التعريف المذكور أنّ الكفائيّ هو ما يكون واجبا عند عدم إتيان الغير به مع أنّ الوجوب في الواجب الكفائيّ متعلّق بجميع آحاد الناس.

نعم يسقط ذلك الوجوب عن كلّ فرد بفعل الآخر ولا يؤول السقوط بفعل فرد إلى كون الوجوب مشروطا بترك الآخر كما يظهر من المحاضرات. (١)

لأنّ المفروض هو توجّه التكليف إلى عموم المكلّفين بنحو العموم الاستغراقيّ.

لا يقال : إنّ تخصيص الجميع بذلك على نحو العموم الاستغراقيّ بلا مقتض وسبب بعد افتراض أنّ الغرض واحد يحصل بفعل بعض منهم.

لأنّا نقول : لعلّ الغرض من تخصيص الجميع بالخطاب على نحو العموم الاستغراقيّ من جهة إفادة أهمّيّة الغرض بحيث يجعل كلّ واحد من المكلّفين مأمورا بإتيانه بحيث لو لم يأت به أحد منهم لكان كلّ واحد منهم عاصيا وليس ذلك إلّا من جهة كون الخطاب متوجّها إلى جميعهم وإلّا فلا يكون العاصي إلّا واحدا منهم.

وعليه فإذا شكّ في واجب أنّه عينيّ أو كفائيّ يرجع الشكّ فيه إلى الشكّ في بقاء الخطاب بعد إتيان فرد من المكلّفين لاحتمال كونه كفائيّا واكتفى بفعل واحد من فعل الجميع بحيث لم يجب إتيان غيره من الآحاد وعدمه فمقتضى إطلاق الخطاب من جهة أنّه أتى به آخر أم لا هو بقاء الخطاب وهو ليس إلّا الوجوب العينيّ إذ لو كان

__________________

(١) راجع المحاضرات ٢ / ٢٠٣.

١٤٨

كفائيّا لزم تقييد بقاء الخطاب بما إذا لم يأت به أحد من المكلّفين وحيث لم يتقيّد البقاء بذلك فهو واجب عينيّ لا كفائيّ.

وبالجملة فما ذهب إليه صاحب الكفاية من تعيين الوجوب النفسيّ والتعيينيّ والعينيّ بمقدّمات الإطلاق ممكن التصوّر ولا وجه للإشكال فيه عدى ما في تهذيب الاصول من أنّ لازم القول بكونه موضوعا لمطلق البعث والطلب أن يكون نتيجة الإطلاق مطلق البعث المشترك بين النفسيّ والغيريّ مثلا لأنّ ميزان الإطلاق كون ما وقع تحت البيان تمام الموضوع للحكم وما ورد به البيان ليس غير البعث المطلق. ولكنّه مع كونه خلاف المقصود ممتنع لعدم إمكان تصوّر الجامع الحقيقيّ بين المعاني الحرفيّة كما تقدّم توضيحه مستوفى.

والحاصل أنّ تقسيم مفهوم إلى قسمين يلازم اشتمال كلّ فرد بخصوصيّة بها يتميّز عن المقسم ويغاير قسيمه وإلّا صار عين المقسم وكان من باب تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره وهذا بعد التدبّر واضح فإذن لا بدّ وأن يكون كلّ من النفسيّة والغيريّة متخصّصة بقيد وجوديّ أو عدميّ به يمتاز كلّ واحد من مقسمه وقسيمه ويقال النفسيّ ما يكون إليه البعث لذاته لا لغيره والغيريّ بخلافه ويكون كلّ واحد منهما في مقام التحديد مشتملا على قيد زائد على نفس البعث ولو من باب زيادة الحدّ على المحدود وتصير النفسيّة متباينة عن الغيريّة لا تتعيّن إلّا بدالّ آخر.

ثمّ نقل توضيح المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره وهو أنّ المراد من النفسيّة ليست إلّا عدم كون الوجوب للغير وكذا البواقي وعدم القرينة على القيود الوجوديّة دليل على عدمها وإلّا لزم النقض بالغرض لا أنّ النفسيّة والغيريّة قيدان وجوديّان بل أحد القيدين عدميّ يكفي فيه عدم نصب القرينة على الوجوديّ المقابل له فمقتضى الحكمة تعيين المقيّد بالقيد العدميّ.

وأورد عليه بأنّ القول بأنّ النفسيّة ليست إلّا عدم الوجوب للغير بيّن البطلان

١٤٩

إذ عدم كون الوجوب للغير إن كان بنحو السلب التحصيليّ كما هو ظاهر كلامه فلازمه كون الوجوب النفسيّ نفس العدم الصادق مع عدم الوجوب رأسا وهو كما ترى.

وإن كان بنحو الإيجاب العدوليّ أو الموجبة السالبة المحمول فيستلزم كونهما مقيّدين بقيد فيحتاج الوجوب لا لغيره إلى بيان زائد على أصل الوجوب كما يحتاج إليه الوجوب لغيره. (١)

يمكن أن يقال :

أوّلا : أنّ نتيجة الإطلاق في المقام ليس مطلق البعث حتّى يكون مشتركا بين النفسيّ والغيريّ مثلا ويكون خلاف المقصود أو ممتنعا لعدم إمكان تصوّر الجامع الحقيقيّ بين المعاني الحرفيّة بل يكون نتيجة الإطلاق هو عدم اقتران المعنى بشيء آخر من دون فرق بين كونه معنى اسميّا أو حرفيّا إذ الإطلاق في جميع الموارد بمعنى اللابشرط القسميّة واللابشرط القسميّ في قبال بشرط شيء وبشرط لا لا أنّه مقسم لهما حتّى يجب قبوله لهما فالإطلاق بهذا المعنى ليس جامعا ومقسما حتّى يكون خلاف المقصود أو ممتنعا.

وثانيا : أنّ الإطلاق بهذا المعنى ليس متقوّما بقيد الوجوديّ أو العدميّ بل يكون غير مقترن بقيد الوجوديّ أو العدميّ والقول بأنّ تقسيم المفهوم إلى القسمين يلازم اشتمال كلّ فرد بخصوصيّة بها يتميّز عن المقسم ويغاير قسيمه وإلّا صار عين المقسم وكان من باب تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره ، كما ترى بعد ما أفاد المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره في محلّه من أنّ المقسم يلاحظ مقيسة إلى ما عداها وهي بهذه الملاحظة لها تعيّنات ثلاثة واللابشرطيّة في الماهيّة بهذا الاعتبار هي اللابشرطيّة من حيث

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٦٧ ـ ١٦٨.

١٥٠

التعيّنات الثلاثة لا اللابشرطيّة بالقياس إلى أيّ شيء كان وحيث إنّ الماهيّة المقيسة إلى ما عداها لا بشرط مقسميّ فلا تعيّن لها إلّا التعيّنات الثلاثة لأنّ المقسم لا ينحاز عن أقسامه وإلّا لزم الخلف والتعيّنات الثلاثة هي تعيّن الماهيّة من حيث كونها بشرط شيء أو بشرط لا أو لا بشرط بالإضافة إلى ما كانت الماهيّة بالنسبة إليه بشرط شيء وبشرط لا مثلا إذا قيست ماهيّة الإنسان إلى الكتابة فتارة يلاحظ الإنسان مقترنا بالكتابة واخرى يلاحظ مقترنا بعدم الكتابة وثالثة يلاحظ غير مقترن بالكتابة ولا بعدمها وهذا تعني اعتباري لا مطابق له في الخارج لأنّه إمّا يوجد في الخارج مقترنا بوجود الكتابة أو بعدمها وهذا اللابشرط القسميّ غير المقسميّ لأنّه لا بشرط بالإضافة إلى ما كانت الماهيّة بالإضافة إليه بشرط شيء وبشرط لا والمقسميّ ما كان لا بشرط بالإضافة إلى هذه الاعتبارات الثلاثة التي هي فعليّة القياس إلى ما عداها. (١)

وعليه فتقسيم المفهوم إلى القسمين مطلق ومقيّد لا يلازم اشتمال كلّ فرد على خصوصيّة بل المقيّد مشتمل على الخصوصيّة دون المطلق ولا يوجب ذلك عينيّة اللابشرط القسميّ مع اللابشرط المقسميّ. فالقول بإطلاق المعنى لا يرجع إلى مطلق البعث حتّى يكون خلاف المقصود أو ممتنعا.

بل يؤول إلى النفسيّ فإنّه بعث من دون اقتران ما يدلّ على أنّه مقدّمة لواجب آخر.

ثمّ إنّ عدم الاقتران ليس قيدا للمعنى حتّى يحتاج إلى اللحاظ بل المعنى من دون اقترانه بشيء آخر موضوع للإطلاق ولا يلزم من ذلك أن يكون الوجوب النفسيّ نفس العدم لأنّ عدم الاقتران لا يساعد مع العينيّة كما لا يلزم من ذلك أن

__________________

(١) راجع تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره ١ / ذيل ص ٢٠٤.

١٥١

يؤخذ عدم الاقتران بنحو الإيجاب العدوليّ أو الموجبة السالبة المحمول لأنّ ذلك كلّه فرع الأخذ والمفروض أنّ عدم الاقتران ليس بقيد لأنّ عدم الاقتران غير لحاظ عدم الاقتران.

وممّا ذكر يظهر أنّ مراد المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من قوله : إنّ النفسيّة ليست إلّا عدم كون الوجوب للغير هو عدم اقتران الوجوب بقرينة تدلّ على أنّ الوجوب للغير لا أنّ الوجوب النفسيّ عين العدم حتّى يكون بيّن البطلان إذ من المعلوم أنّ بيّن البطلان لم يصدر من مثل المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره وكيف كان فما ذهب إليه صاحب الكفاية في إثبات النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة بمقدّمات الحكمة لا دليل على امتناعه وإن كان الأظهر هو أنّه لا حاجة إلى مقدّمات الحكمة كما مرّ في استفادة الوجوب من الصيغة إذ صدور الأمر عن المولى وتعلّقه بشيء كما يكون حجّة عقلائيّة على أصل الوجوب كذلك يكون حجّة على لزوم الإتيان بشيء الذي تعلّق به الأمر ولا يجوز له تركه بمجرّد احتمال كونه واجبا للغير مع سقوط الوجوب عن الغير كما لا يجوز له العدول عنه إلى غيره باحتمال التخيير وكذلك يكون حجّة على لزوم إتيانه بنفسه ولا يجوز له تركه مع إتيان الغير به بمجرّد احتمال كونه كفائيّا كلّ ذلك لقيام بناء العقلاء عليه ولذلك قال في تهذيب الاصول :

الأمر المطلق يحمل على النفسيّ العينيّ التعيينيّ ما لم يقم دليل على مقابلاتها وليس ذلك لأجل دلالة اللفظ أو انصرافه أو كشفه عنها لدى العقلاء بل لما مرّ في حمله على الوجوب والندب من أنّ بعث المولى تمام الموضوع لاحتجاجه على العبد في باب الإطاعة ولا يجوز له التقاعد باحتمال إرادة الندب ويجري ذلك في مطلق بعثه وإغرائه سواء صدر باللفظ أم بالإشارة وما ذكر من أنّ صدور الأمر عن المولى تمام الموضوع للطاعة جار في المقام بعينه فإذا تعلّق أمر بشيء يصير حجّة عليه لا يسوغ له العدول إلى غيره باحتمال التخيير في متعلّق الأمر كما لا يجوز له الترك مع إتيان الغير

١٥٢

باحتمال الكفائيّة ولا التقاعد عن إتيانه باحتمال الغيريّة مع سقوط الوجوب عن غيره الذي يحتمل كون الأمر المفروض مقدّمة له كلّ ذلك لا لأجل دلالة بل لبناء منهم على ذلك وإن لم نعثر على علّة البناء وملاكه لكنّا نشاهده مع فقدان الدلالة اللفظيّة كإفادة البعث بنحو الإشارة. (١)

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٦٦.

١٥٣

الخلاصة :

ولا يخفى عليك أنّ بعث المولى إلى شيء عند العقلاء يكون تمام الموضوع لاحتجاجه على العبد في باب الإطاعة ولذا حكموا بأنّه لا يجوز له التقاعد عن المبعوث إليه باحتمال إرادة الندب وهذا البيان بعينه جار في المقام فإذا تعلّق أمر المولى بشيء يصير حجّة عليه بحيث لا يجوز للعبد أن يعدل عنه إلى غيره باحتمال إرادة تخيير في متعلّق الأمر كما لا يجوز له الترك مع إتيان الغير باحتمال الكفائيّة ولا التقاعد عن الإتيان باحتمال الغيريّة مع سقوط الوجوب عن غيره الذي يحتمل كون الأمر المفروض مقدّمة له.

كلّ ذلك لما عرفت من بناء العقلاء فإنّهم يحكمون بأنّ البعث المذكور حجّة على لزوم الإتيان به بنفسه سواء أتى به الغير أو لم يأت وسواء سقط الوجوب عن الغير المحتمل كون ذلك مقدّمة له أو لم يسقط وسواء أتى بشيء آخر يحتمل أن يكون عدلا لذلك أو لم يأت ومع قيام بناء العقلاء لا حاجة إلى الاستدلال بمقدّمات الحكمة حتّى يرد عليه الإشكالات وإن أمكن الجواب عنها.

١٥٤

المبحث السادس : في الأمر عقيب الحظر أو توهّمه :

الأقوال :

اختلف القائلون باستفادة الوجوب من صيغة الأمر وضعا أو إطلاقا أو من جهة حكم العقل أو الحجّة العقلائيّة ما دام لم تقم قرينة على الخلاف في أنّ وقوع الأمر عقيب الحظر أو توهّمه هل يصلح لأن يكون قرينة صارفة له عن الوجوب إلى غيره أو لا؟

ذهب إلى الثاني جماعة منهم على ما حكي ؛ الشيخ الطوسيّ والعلّامة والشهيد الثاني وجماعة من العامّة منهم الرازيّ والبيضاويّ.

والأكثر ذهبوا إلى الأوّل ولكن اختلفوا على أقوال :

أحدها : أنّ الأمر حينئذ يفيد الإباحة والمراد بها هو رفع الحجر الذي يجامع مع غير الحرام دون الإباحة الخاصّة.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث إنّ ظاهرها هو نسبة الإباحة الخاصّة إلى المشهور مع أنّه ليس كذلك لعدم معاملة الأصحاب بين الإباحة المستفادة من الأمر الوارد عقيب الحظر وبين ما يدلّ على الاستحباب أو الكراهة معاملة المعارضة ، مثلا لو ورد في قبال قوله :

وإذا حللتم فاصطادوا ، انّ الاصطياد مكروه ، لا يعاملون معه معاملة المعارضة ، وهو دليل على أنّهم لم يقولوا بالإباحة الخاصّة كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى ما سيأتي من دليل الإباحة فإنّه لا يقتضي إلّا الإباحة بمعنى

١٥٥

الأعمّ فإنّ كون الأمر في مقام رفع الحظر السابق ظاهر في أنّ غرضه هو مجرّد رفع النهي السابق الحاصل بأحد الأحكام الأربعة غير الحرمة فلو كان غرضه أحد الأربعة بالخصوص لما كان غرضه مجرّد ارتفاع النهي السابق بل يكون غرضه بيان الحكم المقابل للحرام وهو خلاف ظاهر مقامه فلا تغفل.

وثانيها : التفصيل بين ما إذا علّق الأمر بارتفاع علّة عروض النهي وما لم يعلّق عليه فيفيد الإباحة في الأوّل دون الثاني بمعنى أنّ وقوعه عقيب الحظر حينئذ لا يصلح للصرف بل محمول على الوجوب.

ثالثها : أنّ وقوعه عقيبه صارف عن ظاهره إذا لم يكن حكم ما قبل النهي هو الوجوب وإلّا فهو ظاهر في الوجوب أيضا كسائر الموارد. هذا القول وإن ذكر في تقريرات الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره ولكن بعد ما سيأتي من تنقيح محلّ النزاع يظهر أنّه خارج عن محلّ النزاع إن استفيد الوجوب من دليل عامّ يعمّ قبل النهي وبعده.

رابعها : أنّ وقوعه عقيبه صارف مطلقا ويدلّ على الندب.

وخامسها : الوقف بمعنى إجمال اللفظ كما حكى نسبته إلى الاحكام في اصول الأحكام على ما في تقريرات الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث نسب الوجوب إلى بعض العامّة مع ما عرفت من حكايته عن جماعة من الخاصّة أيضا كما في تقريرات الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره.

هذا مضافا إلى أنّه اكتفى على حكاية ثلاثة أقوال مع أنّ الأقوال كما حكاه في تقريرات الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره خمسة.

تقرير محلّ النزاع :

وكيف كان فمحلّ النزاع كما عن الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره هو الأمر الحادث عقيب الحظر لا الأمر الحاصل قبله الشامل بعمومه أو إطلاقه لما بعد الحظر بأن يكون النهي من قبيل المخصّص أو المقيّد له بالنسبة إلى زمان النهي فعليه يخرج أمر الحائض

١٥٦

بالصلاة بعد كونها منهيّة عنها حال الحيض عن محلّ النزاع فإنّها تكون مأمورة بها بعد القرء بالأمر السابق على النهي لإطلاقه بالنسبة إلى جميع حالاتها وإنّما ورد التقيّد بسبب النهي بالنسبة إلى حال قرئها فقطّ فتبقى جميع حالاتها الآخر داخلة في إطلاق الأمر السابق فالحكم بوجوب الصلاة عليها بعد القرء لذلك لا لأنّ هذا المورد من موارد وقوع الأمر عقيب الحظر ومع ذلك حكم بوجوب الصلاة عليها من ناحية عدم صلاحيّة وقوع الأمر بعد الحظر للصرف. (١)

وينبغي تقييد محلّ البحث كما في نهاية النهاية بما إذا كان الآمر المتكلّم ملتفتا إلى النهي حال الأمر وكان الغرض قطعا أو احتمالا من الأمر رفع الحظر أو توهّمه وشكّ في أنّ تمام غرضه هو ذلك أو أنّه أراد مع ذلك ما هو مدلول صيغة الأمر. (٢)

وعليه فلو لم يلتفت إلى النهي حال الأمر لم يكن غرضه رفع الحظر أو توهّمه لا قطعا ولا احتمالا فلا وجه لرفع اليد عن ظهور صيغة الأمر في الوجوب كما لا يخفى.

بل الظاهر من تقريرات الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره لزوم التفات المخاطب أيضا إلى النهي السابق حال الأمر. وقال : ولا بدّ أن يكون كلاهما عالمين به وملتفتين إليه حينئذ. (٣)

ولكنّه محلّ تأمّل وإشكال إذ المخاطب لو لم يعلم بالنهي السابق حال الأمر ولكن علم به بعد الأمر وأنّ المتكلّم الآمر أراد بالأمر رفع الحظر أو توهّمه عند بعض كفى في كونه مورد النزاع ومحلّ الخلاف.

نعم يشترط علم المخاطب والتفاته إلى النهي السابق في الجملة سواء كان حال

__________________

(١) راجع تقريرات الميرزا ٢ / ٤٤.

(٢) راجع نهاية النهاية ١ / ١١١.

(٣) تقريرات الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره ٢ / ٤٤.

١٥٧

الأمر أو بعده حتّى يكون الأمر واردا مورد الحظر أو توهّمه وإلّا فلا يكون الأمر عنده كذلك حتّى يبحث عن ظهور الصيغة في الوجوب وعدمه.

ثمّ إنّ المراد من التوهّم ما يعمّ التوهّم النوعيّ والتوهّم الناشئ من شخص المخاطب. وعليه فيندرج في البحث الأمر الشخصيّ الصادر من المولى بالنسبة إلى عبده بعد الحظر أو توهّمه والأمر النوعيّ الصادر من الشارع بالنسبة إلى المكلّفين بعد الحظر أو توهّمه.

ثمّ إنّ المراد من النهي هو النهي التحريميّ لا التنزيهيّ لأنّه ليس بحظر. هذا مضافا إلى أنّه لا معنى لإيراد الأمر عقيب النهي التنزيهيّ لإفادة الرخصة فإنّها كانت حاصلة من قبل. وعليه كما في تقريرات الميرزا لو كان شيء مكروها وورد أمر به فلا وجه للخروج عن ظاهر الأمر بمجرّد وقوعه عقيب النهي التنزيهيّ اللهمّ إلّا أن يقال كما أشار إليه في أواخر عباراته : إنّ التقابل قرينة على ظهور الأمر في رفع النهي التنزيهيّ والكراهة فإنّ المكلّف وإن لم يكن له حالة منتظرة إلى الرخصة إلّا أنّ له حالة انتظار رفع الكراهة فتدبّر جيّدا. (١)

أدلّة الأقوال :

والظاهر هو القول الأوّل كما في تقريرات الميرزا.

والدليل عليه هو أنّ وقوع الأمر عقيب الحظر بنفسه موجب لظهور الأمر في توجّهه إلى ارتفاع النهي السابق وأنّ المراد منه الرخصة في الفعل ظهورا نوعيّا غير مختصّ بمقام دون آخر أو بمتكلّم دون آخر بحيث يكون بمثابة الوضع في أنّه لو كان المراد به حينئذ غير ما ذكر لكان خلاف ظاهر اللفظ ومحتاجا إلى قرينة صارفة عن هذا الظهور النوعيّ العرفيّ.

__________________

(١) راجع تقريرات الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره ٢ / ٤٧ و ٥٣.

١٥٨

وكان السرّ في كون الوقوع المذكور موجبا لذلك أنّه لمّا كان المفروض في المقام التفات كلّ من الآمر والمأمور إلى النهي السابق وعلم الآمر والتفاته إلى التفات المأمور إلى النهي السابق وأنّ حالته حالة انتظار الرخصة فحينئذ لو كان المراد بالأمر غير الرخصة لبعد وروده في تلك الحال.

وهذا نظير ما إذا استأذن الشخص المنهيّ من الناهي ارتكاب ما نهي عنه بقوله : أفعله؟ فقال : افعل. فإنّه يمكن إعراضه عن جوابه وإرادة حكم آخر إلّا أنّه بعيد عن ظاهر المقام فكما أنّ ذلك يوجب ظهور الأمر في مجرّد الرخصة وصرفه عن الوجوب إليه بلا خلاف أجده فكذلك حالة انتظاره للإذن والرخصة مع علم الآمر والتفاته إليها توجب ذلك من غير فرق أصلا فيكون دلالة الأمر على الرخصة من قبيل دلالة التنبيه والإيماء.

ومنشأ ظهور المقام في ذلك ليس هو الغلبة بل إنّما هو ظهور حال الأمر فإنّ الظاهر من حاله حينئذ أنّ غرضه إنّما هو رفع الحظر السابق.

وإنّما قلنا بإفادة الأمر حينئذ مجرّد الرخصة أعني الرخصة النوعيّة التي هي جنس للأحكام الأربعة غير الحرمة مع أنّ ارتفاع النهي يمكن بإرادة أحد الأربعة بالخصوص من الوجوب والندب والكراهة والإباحة الخاصّة لظهور المقام في أنّ المراد بهذا إنّما هو مجرّد رفع النهي السابق فحينئذ لو كان المراد منه أحد الأربعة بالخصوص فليس النظر فيه أصالة إلى رفع النهي السابق وإن كان يرتفع حينئذ تبعا بل النظر إنّما هو إلى إثبات حكم جديد مستقلّ مقابل للحرمة يلزمه تبعا ارتفاع الحظر السابق. (١)

وهذا هو المراد من الإباحة المنسوبة إلى المشهور لا الإباحة الخاصّة وحينئذ

__________________

(١) تقريرات الميرزا ٢ / ٤٩ ـ ٤٧.

١٥٩

يكون مفاد الأمر الوارد عقيب الحظر رفع الحظر السابق وفرضه كالعدم.

وبالجملة فمع قرينة ظهور المقام لا مجال للأخذ بالظهور الوضعيّ أو الإطلاقيّ أو بناء العقلاء لأنّ الظهور الوضعيّ متّبع ما لم تقم قرينة على الخلاف والظهور الإطلاقيّ منعقد مع تماميّة المقدّمات ومع قيام القرينة على الخلاف لا تتمّ المقدّمات وهكذا بناء العقلاء فيما إذا لم تقم قرينة على عدم إرادة الحتميّة.

وممّا ذكر يظهر ضعف ما ذهب إليه جماعة من الوجوب مستدلّا بعدم صلاحيّة المقام المذكور لصرف ظهور الصيغة عن الوجوب لما عرفت من الصلاحيّة.

وهكذا يظهر ضعف ما ذهب إليه بعض آخر من دلالته على الندب بعد تسليم كون المقام صالحا لصرف الصيغة عن الوجوب لما عرفت من أنّ الأمر الوارد في ذلك المقام لا يفيد إلّا رفع النهي السابق وهو يجتمع مع الأحكام الأربعة الأخر فلا وجه لإفادة الندب.

وممّا ذكر ينقدح أنّه لا مجال للتوقّف والإجمال كما ذهب إليه صاحب الكفاية ، لما عرفت من أنّ قرينة المقام تصلح لرفع اليد عن ظهور الصيغة في الوجوب ومعه لا إجمال بالنسبة إلى إفادة الإباحة ورفع الحظر لأنّ المتكلّم في مقام بيان أمد الحظر وعليه فلا يكون المأمور به بالأمر المذكور حراما.

وإن اريد من الإجمال أنّه لا يعلم أنّه واجب أو مندوب أو مكروه أو مباح ففيه أنّه يعلم حاله بالاصول الجارية في مورده. فإن كان حاله قبل النهي معلوما من الوجوب أو الاستحباب وقلنا بجواز الاستصحاب فهو محكوم بالوجوب أو الاستحباب وإلّا فهو مجرى البراءة بالنسبة الى احتمال الوجوب ، واما اذا كان قبل النهي مشمولا لدليل عامّ يدلّ على الوجوب أو الاستحباب وإنّما خصّصه النهي في مدّة من الزمن فهو خارج عن محلّ النزاع كما عرفت فإنّه بعد رفع النهي وحصول أمده يرجع إلى عموم الدليل من دون توقّف كما عرفت في الحائض ونحوها.

١٦٠