عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

وممّا ذكر يظهر ما في بدائع الأفكار ومنتهى الاصول حيث ذهبا إلى الظهور الإطلاقيّ (١) وما في المحاضرات ونهاية النهاية حيث ذهبا إلى الظهور العقليّ فراجع. (٢)

ولعلّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين صيغة الأمر ومادّة الأمر أو جعل معنى الأمر هو الطلب مع أنّ الأمر بمعنى (فرمان) في اللغة الفارسيّة هو الطلب مع الإلزام لا صرف الطلب.

وكيف كان فمع دلالة اللفظ بوضعه على الإلزام لا حاجة إلى مقدّمات الحكمة أو الدليل العقليّ لإثبات الإلزام كما لا يخفى.

ويستبين ممّا تقدم أنّ لفظ الأمر ظاهر بنفسه في طلب الفعل على سبيل الإلزام والوجوب.

وعليه فكلّما ورد خطاب في الكتاب والسنّة بلفظ الأمر فهو يفيد الوجوب إلّا إذا قامت قرينة على الخلاف فإذا قيل «هذا ممّا أمر الله به» يعلم منه أنّه من الواجبات كما أنّ مادّة النهي بقرينة المقابلة ظاهرة في طلب ترك الشيء على سبيل الإلزام والإيجاب فإذا ورد «أنّ ذلك من النواهي» يعلم منه أنّه من المحرّمات إلّا إذا قامت قرينة على الخلاف ويتفرّع على ذلك أنّ الواجب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو طلب فعل المعروف وطلب ترك المنكر على سبيل الإلزام والإيجاب إذ المأمور به هو الأمر والنهي في مثل قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(٣) وقول الرضا عليه‌السلام : «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليستعملنّ عليكم شراركم

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ١٩٧ ومنتهى الاصول ١ / ١١٢.

(٢) المحاضرات ٢ / ١٣ ونهاية النهاية ١ / ٩١.

(٣) لقمان / ١٦.

٢١

فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم» (١).

ومقتضى الأمر والنهي هو طلب الفعل أو الترك على سبيل الإلزام والإيجاب وعليه فلا يكفي في إطاعة هذين الواجبين مجرّد الطلب من دون إلزام وإيجاب كالاستدعاء أو الالتماس إذا لم يوجبا إتيان المعروف وترك المنكر بل اللازم فيما إذا احتمل التأثير هو الأمر أي طلب الفعل على سبيل الإلزام أو النهي أي طلب ترك الفعل على سبيل الإيجاب.

الجهة الرابعة : في اتّحاد الطلب والإرادة وعدمه

ويقع البحث في المقامين :

المقام الأوّل : في مفهومهما بحسب اللغة

ذهب جماعة منهم صاحب الكفاية إلى أنّ الطلب المستفاد من مادّة الأمر أو صيغة الأمر متّحد مع الإرادة مفهوما ومصداقا وإنشاء بحسب الوضع وإن اختلفا بحسب الانصراف وكثرة الاستعمال وذلك أنّ لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد ويكون ما بإزاء أحدهما في الخارج عين ما بإزاء الآخر والطلب المنشأ بلفظ الأمر أو بصيغته عين الإرادة الإنشائيّة ولكنّ المنصرف إليه في الطلب المطلق هو الطلب الإنشائيّ والمنصرف إليه في الإرادة المطلقة هي الصفة النفسانيّة وليس منشأ الانصراف فيهما إلّا كثرة الاستعمال فيهما. (٢)

وفيه أوّلا : أنّ المتبادر من لفظ «الإرادة» هي الصفة النفسانيّة ، والمتبادر من

__________________

(١) الوسائل : الباب «١» من أبواب الأمر والنهي ، ح ٤.

(٢) الكفاية ١ / ٩٥.

٢٢

لفظ «الطلب» هو الفعل وهو التصدّي نحو تحصيل شيء.

والأوّل من مقولة الكيف النفسانيّ على المشهور.

والثاني من مقولة الفعل فلا يمكن اتّحادهما.

قال في المحاضرات : إنّ الإرادة بواقعها الموضوعيّ من الصفات النفسانيّة ومن مقولة الكيف القائم بالنفس وأمّا الطلب فقد سبق أنّه من الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الإنسان بالإرادة والاختيار ، حيث أنّه عبارة عن التصدّي نحو تحصيل شيء في الخارج ومن هنا لا يقال : طالب الضالّة أو طالب العلم إلّا لمن تصدّى خارجا لتحصيلهما. وأمّا من اشتاق إليهما فحسب وأراد فلا يصدق عليه ذلك ولذا لا يقال : طالب المال أو طالب الدنيا لمن اشتاق وأرادهما في افق النفس ما لم يظهر في الخارج بقول أو فعل.

إلى أن قال : ولا فرق في ذلك بين أن يكون الطلب متعلّقا بفعل نفس الإنسان وعنوانا له كطالب الضالّة وطالب العلم وما شاكلها ، وأن يكون متعلّقا بفعل غيره. وعلى كلا التقديرين فلا يصدق على مجرّد الإرادة وقد تحصّل من ذلك أنّ الطلب مباين للإرادة مفهوما ومصداقا. انتهى. (١)

ولا فرق فيما ذكر بين المشتقّات الاسميّة والفعليّة في التبادر المذكور لوحدة معنى الإرادة في : أراد أو يريد أو مريد ومعنى الطلب في طلب ويطلب وطالب.

وممّا ذكر يظهر ما في نهاية النهاية حيث قال : الصحيح أن يقال : إنّه يختلف ذلك حسب المتفاهم العرفيّ باختلاف مشتقّاته فمثل طالب ومطلوب ظاهر في معنى الإرادة ومثل طلب ويطلب ظاهر في معنى الأمر والبعث الخارجيّ وذلك يكشف عن أنّ معنى المادّة هو تلك الصفة النفسانيّة وظهورها في خلافها في بعض الهيئات

__________________

(١) المحاضرات ٢ / ١٦.

٢٣

يكون بالعرض وبالانصراف وإلّا فلا يعقل اختلاف معنى المادّة في ضمن الهيئات. انتهى (١)

وثانيا : أنّ الإرادة ليست قابلة للإنشاء لأنّها أمر تكوينيّ والإنشاء قاصر عن إيجاد التكوينيّات ، هذا بخلاف الطلب فإنّه مفهوم قابل للانطباق على الفعل الخارجيّ والإنشائيّ والإنسان إمّا أن يتصدّى بنفسه تحصيل شيء ويصدق عليه الطالب بسبب تصدّيه لتحصيل الشيء ، وإمّا أن يتصدّى لإتيان الغير إيّاه وهو على نوعين :

أحدهما : هو أن يأخذ الطالب يد غيره ويجرّه نحو العمل.

وثانيهما : أن يقول لغيره اضرب أو آمرك بكذا وكلاهما بعث وتحريك نحو العمل ويصدق عليهما عنوان الطلب كما لا يخفى.

قال في نهاية الاصول : إنّ ما ذكره (أي صاحب الكفاية) من اتّحاد الطلب والإرادة مفهوما وخارجا وإنشاء فاسد أصله فإنّ لفظ الإرادة موضوع لصفة خاصّة من صفات النفس والصفات النفسانيّة من الامور الحقيقيّة التي تكون بحذائها شيء في الخارج فلا تقبل الوجود الإنشائيّ لإباء الامور الحقيقيّة هذا النحو من الوجود بخلاف الطلب فإنّ له معنى قابلا لأن يوجد بالإنشاء وهو البعث والتحريك إذ ليس معناه سوى البعث والتحريك نحو العمل وكما أنّهما يحصلان بالتحريك الفعليّ بأن يأخذ الطالب بيد المطلوب منه ويجرّه نحو العمل المقصود فكذلك يحصلان بالتحريك القوليّ بأن يقول الطالب (اضرب) أو (أطلب منك الضرب) أو (آمرك بكذا مثلا). فقول الطالب : (افعل كذا) بمنزلة أخذه بيد المطلوب منه وجرّه نحو العمل المقصود والحاصل أنّ حقيقة الطلب مغايرة لحقيقة الإرادة. إلى أن قال : نعم الطلب بكلا معنييه مظهر للإرادة ومبرز لها فمن أراد من عبده تحقّق فعل خاصّ أو وجود مقدّماته بقصد

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ٩٣.

٢٤

التوصّل بها إلى الفعل قد يحرّكه نحو الفعل تحريكا عمليّا وقد يقول له : (افعل كذا) مريدا بهذا القول تحقّق ذلك التحريك فمفاد (افعل) تحريك تنزيليّ يعبّر عنه بالطلب الإنشائيّ. انتهى (١)

ثمّ إنّ الطلب عنوان عامّ يصدق على الطلب الخارجيّ وعلى الطلب الإنشائيّ وهو البعث والتحريك الإنشائيّ إذ كلاهما مصداقان للطلب ولا وجه لتخصيص الطلب بأحدهما.

وممّا ذكر يظهر ما في المحاضرات حيث قال : إنّ الطلب عنوان للفعل الخارجيّ أو الذهنيّ وليس منشأ بمادّة الأمر أو بصيغتها أو ما شاكلها (٢) لما عرفت من عدم اختصاص الطلب بتصدّي النفس بل يشمل البعث والتحريك الإنشائيّ لأنّه أيضا من الأفعال التي ينطبق عليه عنوان الطلب فتخصيصه بغير الإنشائيّ تخصيص بلا وجه.

ثمّ إنّ إنشاء الطلب ليس بمعنى إنشاء الطلب بالحمل الأوّليّ بل المراد منه هو إنشائه بالحمل الشائع الصناعيّ بمعنى الذي عرفته من إنشاء البعث والتحريك الذي يكون معنون الطلب الإنشائيّ والإيقاعيّ.

وعليه فلا وجه لما في تهذيب الاصول من كون صيغة الأوامر موضوعة لإنشاء الطلب غير واضح المراد إذ المقصود من الطلب إن كان هو الطلب الحقيقيّ الذي هو عين الإرادة على مسلكه (أي مسلك صاحب الكفاية) فيصير مآله إلى إنشاء الإرادة التكوينيّة وهو واضح الفساد إذ لا معنى لإنشاء الإرادة التي هي أمر تكوينيّ أوّلا.

ويلزم أن يكون معنى «اضرب» هو اريد منك الضرب مع أنّ التبادر على خلافه ثانيا.

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ٩٢.

(٢) المحاضرات ٢ / ١٦.

٢٥

وإن كان المراد هو الطلب الإيقاعيّ كما هو غير بعيد من سوق كلامه ، إنّا لا نتصوّر هنا غير البعث والإغراء شيئا آخر حتّى نسمّيه طلبا إغرائيّا. ولو فرض له معنى محصّل فيردّ بحكم التبادر إذ هو غير متبادر من الهيئة. انتهى (١)

لما عرفت من أنّ المراد من إنشاء الطلب هو إنشاء ما يصدق عليه عنوان الطلب بالحمل الشائع الصناعيّ وهو ليس شيئا آخر غير البعث والإغراء حتّى يستبعد ويحكم بكونه خلاف التبادر من الهيئة فلا تغفل.

ثمّ إنّ القول بتغاير الطلب والإرادة لا يؤول إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من الاعتقاد بالطلب النفسانيّ لأنّ ما ذهبوا إليه من الطلب النفسانيّ يكون من الصفات النفسانيّة هذا بخلاف ما نختاره فإنّ الطلب عنوان الفعل وهو مغاير مع الإرادة التي هي تكون من الصفات النفسانيّة فالقول بالتغاير كما ذهبنا إليه لا يستلزم الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة.

ثمّ إنّ الدليل في البحث عن مفاد الإرادة والطلب هو التبادر وصحّة السلب لا الوجدان لأنّ اللغة تثبت بتلك العلامات فإثبات اللغة بالوجدان كما يظهر من صاحب الكفاية حيث قال : إنّا لا نجد غير الإرادة صفة اخرى قائمة بالنفس يكون هو الطلب فلا محيص إلّا عن اتّحاد الإرادة والطلب وأن يكون ذاك الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك العضلات مسمّى بالطلب والإرادة ، (٢) كما ترى.

هذا مضافا إلى إمكان منع عدم وجدان شيء آخر وراء الإرادة كما أفاد الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره لوجدان الفرق بين الإرادة والعزم فإنّ الإرادة لا تكون إلّا في مورد فيه المصلحة حتّى يصير التصديق بها حبّا وشوقا مؤكّدا. هذا بخلاف العزم فإنّه

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٣٥.

(٢) الكفاية ١ / ٩٥ ـ ٩٦.

٢٦

أعمّ منها فإنّه قد يكون ويتحقّق فيما لا مصلحة فيه كقصد الإقامة فيما إذا لم تكن في الإقامة مصلحة ، فقصد الإقامة يمكن تحقّقه ويصير موضوعا لإتمام الصلاة للمسافر وليست الإرادة بمعنى الشوق المؤكّد موجودة وتسمية قصد الإقامة في المثال بالإرادة أحيانا ليس إلّا من باب المسامحة إذ ليس في نفس الإقامة مصلحة حتّى توجب الحبّ والشوق المؤكّد إليها.

وعليه فنجد في أنفسنا صفة اخرى غير الإرادة التي تسمّى بالعزم والقصد والطلب ولعلّ ذلك هو مقصود من ذهب إلى مغايرة الإرادة والطلب ولا ضير في التزامه في المبدأ المتعال لأنّه أمر نفسيّ مثابته مثابة سائر صفاته في اتّحادها مع الذات وليس ذلك قولا بتوصيفه بالحادث. لأنّا لا نقول بتوصيفه بالكلام اللفظيّ الحادث. بل نقول بتوصيفه بالكلام النفسيّ القديم كسائر الصفات النفسيّة القديمة فتأمّل.

يمكن أن يقال : إنّ تسمية العزم بالطلب ممنوعة بعد ما مرّ من أنّه عنوان للفعل بحكم التبادر فما ذكره الاستاذ على فرض التسليم لا يفيد لإثبات كون الطلب صفة نفسانيّة وراء الإرادة.

هذا مع إمكان أن يقال : إنّ الإقامة ولو ليس فيها بنفسها مصلحة ولكن بعد العلم بأنّ الإقامة القصديّة موضوعة للحكم الشرعيّ بإتمام الصلاة تصير ذا مصلحة وموردة للحبّ والشوق المؤكّد.

نعم لا يكون الحكم الشرعيّ مترتّبا على نفس الإقامة بل مترتّب على قصد المضاف إلى الإقامة إلّا أنّ القصد المذكور لا يتحقّق إلّا بالإقامة القصديّة وذلك يوجب الحبّ والشوق نحوها حتّى يتحقّق موضوع الحكم وهو قصد الإقامة فلا يكون المورد خاليا عن الحبّ والشوق حتّى يسمّى بالعزم وعليه فلا ينفكّ العزم عن الإرادة كما لا يخفى وستأتي بقيّة الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

٢٧

المقام الثاني : في حقيقة الكلام النفسيّ والطلب النفسيّ على ما ذهب إليه الأشاعرة وأدلّتها

والمحكيّ عن شرح المواقف : إنّ الذي قالته المعتزلة لا ننكره نحن بل نقوله ونسمّيه كلاما لفظيّا ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ولكنّا نثبت أمرا وراء ذلك وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبّر عنه بالألفاظ ونقول هو الكلام حقيقة وهو قديم قائم بذاته تعالى ونزعم أنّه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة ولا يختلف ذلك المعنى النفسيّ بل نقول ليس تنحصر الدلالة عليه في الألفاظ إذ قد يدلّ عليه بالإشارة والكتابة كما يدلّ عليه بالعبارة والطلب الذي هو معنى قائم بالنفس واحد لا يتغيّر مع تغيّر العبارات ولا يختلف باختلاف الدلالات وغير المتغيّر أي ما ليس متغيّرا وهو المعنى مغاير للمتغيّر الذي هو العبارات.

ونزعم أنّه أي المعنى النفسيّ الذي هو الخبر غير العلم إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه وأنّ المعنى النفسيّ الذي هو الأمر غير الإرادة لأنّه يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا فإنّ مقصوده مجرّد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به وكالمتعذّر من ضرب عبده بعصيانه فإنّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه. انتهى موضع الحاجة. (١)

ولا يخفى عليك أنّ الأشاعرة على ما في هذا الكلام المحكيّ عن بعض أعلامهم ذهبوا إلى امور :

١ ـ إنّهم ذهبوا إلى ما ذهبوا اليه من الكلام النفسيّ مضافا إلى ما اعتقدوه من الكلام اللفظيّ الذي لم يكن قائما بذاته تعالى وكان حادثا.

٢ ـ إنّ الكلام النفسيّ في ذاته تعالى قديم ولا يعتريه ما يعتري الحادث ولذا

__________________

(١) المحاضرات ٢ / ١٨.

٢٨

لا يختلف باختلاف الألفاظ واللغات ولكن يعبّر عنه بالألفاظ ويكون مدلولا للكلام اللفظيّ وغيره.

٣ ـ إنّ الدالّ على الكلام النفسيّ لا يكون منحصرا باللفظ إذ قد يدلّ عليه بالإشارة والكتابة كما يدلّ عليه بالعبارة.

٤ ـ إنّ الخبر هو الكلام النفسيّ لا العلم والدليل عليه أنّ الرجل قد يخبر عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه.

٥ ـ إنّ المعنى النفسيّ الذي هو الأمر والطلب غير الإرادة لأنّه يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا فإنّ مقصوده مجرّد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به وكالمتعذّر من ضرب عبده بعصيانه فإنّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه.

وبعد اتّضاح حقيقة ما ذهبوا إليه فليعلم أنّه استدلّ لمختارهم بأمور :

الأوّل : إنّ الكلام النفسيّ أمر وراء العلم والدليل عليه أنّ الرجل قد يخبر عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه.

فمنه يظهر أنّ الخبر هو النسبة الحكميّة بين الموضوع والمحمول والمراد منها هو حكم النفس وإذعانها بها وهو غير انكشاف ثبوت شيء لشيء والإذعان بالوقوع المأخوذ في الجمل الخبريّة ليس هو العلم الواقعيّ بوقوع النسبة ضرورة أنّه قد يخبر المتكلّم وهو شاكّ بل قد يخبر وهو عالم بعدم الوقوع بل المراد منه هو عقد القلب على الوقوع جعلا على نحو ما يكون القاطع معتقدا وهو الذي يعبّر عنه بالتجزّم.

والحاصل أنّه كما أنّ العلم قد يتحقّق في النفس بوجود أسبابه فكذلك قد يخلق النفس حالة وصفة على نحو العلم حاكية عن الخارج فإذا تحقّق هذا المعنى في الكلام يصير جملة ويصحّ السكوت عليها لأنّ تلك الصفة الموجودة تحكي جزما عن تحقّق النسبة في الخارج ويتّصف الكلام بالقابليّة للصدق والكذب بالمطابقة والمخالفة.

٢٩

وعليه فيمكن القول بوجود الكلام النفسيّ فإنّه إيجاد نسبة بين الموضوع والمحمول سواء كان في الخارج أم لا كما مال اليه بعض الأشاعرة وهو الخبر.

يمكن أن يقال كما أفاد المحقّق الأصفهانيّ : إنّ النسبة التي دلّت الجملة عليها ليست شيئا آخر وراء العلم إذ النسبة المتصوّرة بين المحمول والموضوع أعني «هذا ذاك» في الخارج تقوم بالنفس لا بنفسها بل بصورتها فهي كالمعلومات الأخر من حيث أنّ قيامها قيام علميّ لا كقيام العلم والذي يجب على الأشعريّ إثباته قيام شيء بالنفس بنفسه على حدّ قيام العلم والإرادة لا على حدّ قيام المعلوم والمراد فإنّ هذا القيام لا يوجب صفة اخرى بالنفس حتّى ينفع في إثبات الكلام القائم بذاته تعالى وراء علمه وسائر صفاته العليا.

نعم هنا امر آخر له قيام بالنفس بنفسه وهو نحو من الوجود النوريّ القائم بالنفس قيام المعلول بعلّته لا قيام العرض بموضوعه وقد اشرنا اليه سابقا وهذا المعنى وان لم يبلغ اليه نظر الأشعريّ إلّا أنّه مجد في تعقّل أمر غير العلم والارادة وارتباطه بالكلام ايضا ظاهر كما عرفت سابقا إلّا أنّه لا يجدي للاشعريّ لأنّه يجعله مدلولا للكلام اللفظيّ وحقيقة الوجود كما عرفت لا يقبل المدلوليّة للكلام بنفسه لأنّ المدلوليّة ليست إلّا بحصوله في المدارك الإدراكيّة والوجود لا يقبل وجودا آخر سواء كان العارض من سنخ المعروض ام لا ، فتدبّر (١).

فتحصّل أنّ الخبر هو الكلام اللفظيّ وأنّ مدلوله هو النسبة وأمّا التصوّر والتصديق والجزم والتجزّم والإقرار والإذعان كلّها خارجة عن مدلول الكلام لا يقال :

إنّ النسبة المتصوّرة نسبة ناقصة لا يصحّ السكوت عليها وأنّ مدلول الجملة

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ١٥٥ ـ ١٥٩).

٣٠

الخبريّة هو الجزم بالنسبة أو التجزّم بها فيما إذا كان المخبر شاكّا أو معتقدا لخلافها فتوجد النفس صفة علم وجزم بالنسبة ويخبر عنها. لأنّا نقول كما في تعليقة المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره بأنّ ثبوت القيام لزيد الذي هو مدلول الجملة ليس هو هذا المفهوم الاسميّ فأنّه عنوان النسبة لا نفسها بل هو النسبة الحرفيّة التي هي معنون هذا المفهوم وهو معنى يصحّ السكوت عليه في حدّ ذاته وهذا المعنى الذي يصحّ السكوت عليه ربّما يتصوّر بتصوّر طرفيه وربما يجزم به فتماميّة النسبة ونقصها وإن لم تكن بلحاظ الخارج لأنّها نحو واحد بل بحسب مدلوليّتها للكلام فقد يكون مدلولا بمقدار لا حالة منتظرة للسامع وقد لا يكون كذلك. نعم إذا كان بمقدار لا يصحّ السكوت عليه لا يقبل التصديق لا أنّ ما يصحّ السكوت عليه يتقوّم بالتصديق ومنه يعلم أنّه لا حاجة إلى التجزّم الذي هو بظاهره غير معقول إلّا بالحمل على البناء على وقوع النسبة وهو فعل قلبيّ مرّ الكلام فيه وفي امثاله. انتهى (١)

هذا مضافا إلى أنّ التجزّم مسبوق بتخيّل النسبة في الخارج والبناء عليه وكيف كان فالتجزّم ليس بمدلول للكلام اللفظيّ.

الثاني : إنّ الطلب النفسانيّ أمر وراء الإرادة حيث أنّ الأوامر الامتحانيّة والاعتذاريّة محتاجة إلى وجود سبب في نفس المتكلّم وبدونه لا وجه لتحقّقها وحيث لا إرادة ولا الجدّ لها في نفس المتكلّم عند تلك الأوامر فلا بدّ من وجود صفة اخرى لتكون هي الباعثة للأوامر المذكورة وهذه الصفة تسمّى بالطلب النفسيّ فإذا ثبت ذلك في الأوامر الامتحانيّة ثبت وجوده في جميع الأوامر ، لعدم القول بالفصل.

وفيه كما في نهاية الاصول : أنّ المنشأ للأوامر مطلقا هو الإرادة غاية الأمر أنّ المنشأ للأوامر الجدّيّة إرادة نفس المأمور به والمنشأ للأوامر الامتحانيّة إرادة إتيان

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ١٥٩ ـ ١٦٠.

٣١

مقدّماته بقصد التوصّل بها إلى المأمور به.

وعليه فلا حاجة إلى الطلب النفسيّ في تحقّق الأوامر الامتحانيّة والاعتذاريّة ووجودها. (١)

لا يقال : إنّ اللازم في الأوامر والبعث نحو الأفعال هو وجود إرادة نفس الأفعال التي تكون مأمورا بها لا مقدّماتها فإنّ الأوامر متعلّقة بنفسها لا بمقدّماتها وعليه فالحاجة إلى حقيقة اخرى دون الإرادة باقية حتّى يصحّ تلك الأوامر.

لأنّا نقول : إنّ الأوامر والبعث نحو الأفعال في الأوامر الامتحانيّة والاعتذاريّة إنشاءات بعث إليها وهذه الإنشاءات تصدر بداع الامتحان أو الاعتذار والداعي للامتحان أو الاعتذار ليس إلّا الإرادة ، فالإرادة تعلّق بإنشاء البعث نحو الأفعال امتحانا أو اعتذارا فلا يكون البعث إليها خاليا عن الإرادة حتّى يحتاج إلى الطلب النفسانيّ وهذه الإرادة الامتحانيّة والاعتذاريّة ليست في الحقيقة إلّا إرادة المقدّمات حقيقة كما أفاده المحقّق السيّد البروجرديّ قدس‌سره. (٢)

وقد أجاب صاحب الكفاية عنهم بعد ذهابه إلى وحدة الإرادة والطلب بأنّه كما لا إرادة حقيقة في صورة الامتحان والاعتذار لا طلب كذلك فيهما والذي فيهما إنّما هو الطلب الإنشائيّ الإيقاعيّ الذي هو مدلول الصيغة أو المادّة. (٣)

وهذا الجواب لا يقبله الأشعريّ لأنّ مبناه هو مغايرة الطلب مع الإرادة كما أنّا لا نقبل ذلك بعد ما مرّ من اختيار أنّ الإرادة من مقولة الكيف النفسانيّ والطلب من مقولة الفعل وعليه فهو جواب مبنائيّ على مختاره.

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ٩٤.

(٢) نفس المصدر.

(٣) الكفاية ١ / ٩٦ ـ ٩٧.

٣٢

وممّا ذكر يظهر ما في بدائع الأفكار حيث قال : إنّ الأمر في مثل هذه الموارد ليس أمرا في الحقيقة بل هو إنشاء كلام لصورة الأمر إذ هو كما أنّه خال عن الإرادة كذلك خال عن الطلب. انتهى (١)

لما عرفت من أنّ هذا الجواب مبنائيّ هذا مضافا إلى ما فيه من أنّ الطلب أعمّ من الطلب الانشائيّ فصدق الطلب على الإنشائيّ بالحقيقة كصدق الأمر عليه لأنّه إنشاء الطلب الإلزاميّ ولا فرق بين الطلب الانشائيّ أو الأمر الامتحانيّ والاعتذاريّ وبين الطلب الانشائيّ والأمر الحقيقيّ إلّا في الدواعي فإنّ الداعي في الثاني هو الإرادة الحقيقيّة دون الأوّل فإنّ الداعي فيه هو الاختبار والامتحان لا إرادة الفعل بالحقيقة وأمّا الطلب والأمر الإنشائيّ فيهما واحد من دون فرق بينهما كما لا يخفى.

وأجاب في الدرر عن الأشعريّ بأنّ تحقّق صفة الإرادة أو التمنّي أو الترجّي في النفس قد يكون لتحقّق مباديها في متعلّقاتها كمن اعتقد المنفعة في ضرب زيد فتحقّقت في نفسه إرادته أو اعتقد المنفعة في شيء مع الاعتقاد بعدم وقوعه فتحقّقت في نفسه حالة تسمّى بالتمنّي أو اعتقد النفع في شيء مع احتمال وقوعه فتحقّقت في نفسه حالة تسمّى بالترجّي.

وقد يكون تحقّق تلك الصفات في النفس لا من جهة متعلّقاتها بل توجد النفس تلك الصفات من جهة مصلحة في نفسها كما نشاهد ذلك وجدانا في الإرادة التكوينيّة قد توجدها النفس لمنفعة فيها مع القطع بعدم منفعة في متعلّقها ويترتّب عليها الأثر.

مثال ذلك أنّ إتمام الصلاة من المسافر يتوقّف على قصد الإقامة عشرة أيّام في بلد من دون مدخليّة لبقائه في ذلك البلد بذلك المقدار وجودا وعدما ولذا لو بقي في

__________________

(١) بدائع الأفكار للمحقّق العراقيّ ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٣٣

بلد بالمقدار المذكور من دون القصد لا يتمّ وكذا لو لم يبق بذلك المقدار ولكن قصد من أوّل الأمر بقائه بذلك المقدار يتمّ ومع ذلك يتمشّى منه قصد البقاء من المكلّف مع علمه بأنّ ما هو المقصود ليس منشأ للأثر المهمّ وإنّما يترتّب الأثر على نفس القصد.

ومنع تمشّى القصد منه مع هذا الحال خلاف ما نشاهد من الوجدان كما هو الواضح.

فتعيّن أنّ الإرادة قد توجدها النفس لمنفعة فيها لا في المراد فإذا صحّ ذلك في الإرادة التكوينيّة صحّ في التشريعيّة أيضا لأنّها ليست بأزيد مئونة منها. وكذا الحال في باقي الصفات من قبيل التمنّي والترجّي. انتهى (١)

أورد عليه بوجوه :

منها : ما في رسالة الطلب والإرادة لسيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من امتناع تعلّق الإرادة بالبقاء من غير مصلحة فيه وفي المثال لا محيص إلّا من تعلّق رجحان ولو بالعرض والواسطة بالبقاء وإلّا فتعلّق الإرادة به بلا ترجيح واصطفاء ممّا لا يعقل. انتهى (٢)

وفيه أنّ المصلحة مترتّبة على المتقيّد وهو القصد المضاف إلى الإقامة لا على القيد وهو الإقامة كما في مثل : أكرم (غلام زيد) ، فإنّ مصلحة وجوب الإكرام مترتّبة على الغلام المضاف إلى زيد ولا مصلحة في زيد إذ غلام زيد هو عالم أو مؤمن ويكون بذلك مستحقّا للإكرام وزيد ليس بعالم أو مؤمن ولا دخل له في وجوب الإكرام ولكن مع ذلك يكون الإقامة من المقدّمات الوجوديّة للموضوع ولذا تعلّق

__________________

(١) الدرر ١ / ٧١ ـ ٧٢ الطبع الجديد.

(٢) رسالة الطلب والإرادة / ١٠١.

٣٤

القصد إليها من جهة كونها دخيلا في تحقّق الموضوع فلا يلزم من تعلّق الإرادة بالإقامة مع عدم ترتّب مصلحة وجوب الإتمام عليها ترجيح بلا مرجّح كما لا يخفى.

ومنها : ما في تعليقة المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ الإقامة القصديّة أي المقوّمة للقصد في نحو وجوده لها دخل في وجوب الإتمام فيقصدها لأجل أن يتمّ بسبب تحقّق وجودها القصديّ فتعلّق القصد إليها أيضا لفائدة فيما يتعلّق بها بحيث لولاها لما وجب الإتمام وفناء المقصود في الإقامة الخارجيّة أيضا لازم وإلّا أمكن إيجاد القصد مع العلم بعدم الإقامة خارجا. انتهى (١)

وفيه المنع من دخالة الإقامة في وجوب الإتمام إذ المفروض أنّ المصلحة مترتّبة على المتقيّد بالإقامة التي تكون مرآة للإقامة الخارجيّة فالتقيّد داخل والقيد خارج والمتقيّد هو قصد الإقامة نعم الإقامة تكون من المقدّمات الوجوديّة لتحقّق المقيّد بها كما عرفت.

ومنها : ما في بدائع الأفكار من أنّ الأثر الشرعيّ وإن رتّب على قصد إقامة العشرة وإن لم يتمّها لكن نمنع تحقّق هذا القصد من ناحية هذا الأثر بل هو ناش من جهة مصلحة المتعلّق وإن التفت إلى ترتّب ذاك الأثر على نفس هذا القصد. هذا واضح لمن راجع وجدانه ولو أغمض عن ذلك نقول : إنّ الأثر المزبور أيضا مرتّب على المراد غايته لا بوجوده المطلق بل قد رتّب على حصّة من وجوده وهو المتحقّق من ناحية إحدى مقدّماته وهو القصد. انتهى (٢)

وفيه أوّلا : أنّ المفروض هو خلوّ المتعلّق عن المصلحة ومعه كيف يكون القصد ناشئا عنه والوجدان لا يرى في المتعلّق شيئا يقتضي القصد المذكور وعليه

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ١٦٣.

(٢) بدائع الأفكار للمحقّق العراقيّ ١ / ٢٠٨.

٣٥

فالمنشأ هو الآثار المترتّبة على الموضوع وهو قصد الإقامة فبعد العلم بأنّ قصد الإقامة له مصلحة لوجوب الإتمام يقصد الإقامة كما أنّ العلم بترتّب الآثار الاخرويّة يوجب الإتيان بالموضوعات كالإنفاق ونحوه.

وثانيا : أنّ إرجاع الآثار إلى المراد والمقصود وهو الإقامة وتخصيص الإقامة بحصّة منها وهي التي تكون متحقّقة بالقصد تبعيد المسافة مع ما فيه من التكلّف فإنّ الموضوع للآثار في النهاية هو قصد الإقامة لا الإقامة كما لا يخفى.

لا يقال : تكفي تخيّل الفائدة وتصوّرها في الإقامة لكونها منشأ لقصد الإقامة.

لأنّا نقول : كما أفاد استاذنا الأراكيّ «مدّ ظلّه العالي» إنّ لازم منشئيّة الإقامة بالتخيّل المذكور هو أن يقال : إنّ ذلك موجب للعلم بالمصلحة وتعلّق الشوق المؤكّد إليها مع أنّه مستحيل لخلوّ الإقامة عن الملاءمة والصلاح كما هو المفروض.

ألا ترى هل يمكن امتثال الأمر بالعلم بكون زيد شاعرا مع أنّه ليس بشاعر ومن المعلوم أنّه ليس بممكن وإن جعل الآمر للعلم المذكور جوائز نفيسة.

وهل يمكن امتثال الأمر بحبّ ما يتنفّر الطبع منه كالخبائث ومن الواضح أنّه غير ممكن وإن جعل الآمر للحبّ المذكور جعائل كثيرة.

وعليه فلا أثر لتخيّل الفائدة في الإقامة لتكون منشأ للإرادة والقصد. هذا مضافا إلى أنّ الإقامة المتصوّرة كسائر المتصوّرات فانية في الإقامة الخارجيّة والمفروض هو أنّها لا مصلحة فيها فكيف يتخيّل الفائدة فيها.

وعليه فلا مدخليّة للإقامة إلّا من جهة عدم إمكان تحقّق العرض من دون معروضه.

فاتّضح من ذلك أن ليس للإقامة المتصوّرة دخالة في صيرورة قصد الإقامة ذا فائدة كما لا يخفى.

فما ذهب إليه صاحب الدرر في جواب الأشعريّ الذي يقول بعدم وجود

٣٦

الإرادة في الأوامر الامتحانيّة والاعتذاريّة من وجود الإرادة لمصلحة في نفسها تامّ وكاف في الجواب.

اللهمّ إلّا أن يقال كما افاده أستاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره بمنع كلّيّة ذلك في جميع الموارد ، إذ ربّما يسند الترجّي أو الإرادة مثلا إلى ما لا يمكن أن يكون مترجّيا أو مريدا بالنسبة اليه كالجمادات ، ففي مثل هذه الموارد لا إرادة ولا ترجّي في الحقيقة فاللازم هو الالتزام بالمجاز في تلك الموارد إذ إمكان إرادة الإرادة في الموارد الأخر لا ينفع في إمكان سائر الموارد فلا تغفل.

فتحصّل عدم تماميّة استدلالهم على وجود الطلب النفسانيّ وراء الإرادة النفسانيّة.

الثالث : إنّ أمر الكفّار بالإسلام والإيمان والطاعة ليس مع إرادة جدّيّة من قبل المولى وإلّا لزم تخلّف الإرادة عن المراد ففي مثل هذه الموارد لزم أن يكون صفة نفسانيّة اخرى غير الإرادة موجودة في النفس حتّى يكون متمكّنا من الأمر وتسمّى هذه الصفة بالطلب النفسانيّ والحقيقيّ.

واجيب عنه بالفرق بين الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة وما لا يتخلّف عن المراد هي الإرادة التكوينيّة دون التشريعيّة.

قال في الكفاية : انّ استحالة التخلّف إنّما تكون في الإرادة التكوينيّة وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف وما لا محيص عنه في التكليف إنّما هو هذه الإرادة التشريعيّة لا التكوينيّة. (١)

وقال في بدائع الأفكار إنّ الاستدلال على مغايرة الإرادة للطلب بتحقّقه دونها في موارد تكليف العصاة وإلّا لزم امتناع العصيان لاستحالة تخلّف مراده تعالى عن

__________________

(١) الكفاية ١ / ٩٩.

٣٧

إرادته.

إنّما نشأ من عدم تشخيص الارادة التشريعيّة عن الإرادة التكوينيّة في موارد الإرادة التشريعيّة التي هي عبارة عن إرادة الإنسان صدور بعض الأفعال عن غيره باختياره فيتسبّب إلى ذلك بجعل الداعي له إليه أعني به أمره إيّاه بذلك الفعل فالإرادة التي نلتزم بوجودها في موارد الأمر بشيء هو هذا السنخ من الإرادة ومثلها لا يعقل أن يستتبع وجوده وجود المراد قهرا وإلّا لزم من فرض تحقّقه كذلك عدم تحقّقه بما هو مراد بتلك الإرادة. لأنّ متعلّقها هو صدور الفعل من الغير باختياره فصدوره قهرا بسبب الإرادة يلزم منه عدم كون الصادر متعلّقا للإرادة التشريعيّة. هذا خلف. انتهى (١)

والحاصل أنّ الإرادة التشريعيّة تعلّقت على إتيان الفعل مع الاختيار وهذه الإرادة جدّيّة من قبل المولى ولكن ليس مقتضاها هو إتيان الفعل قهرا بدون الاختيار وإلّا لزم الخلف في تعلّق الإرادة بإتيان الفعل مع الاختيار وعليه فمقتضى الاختيار هو وقوع الفعل بالاختيار ومعه لا حاجة إلى وجود صفة اخرى نفسانيّة وراء الإرادة كما لا يخفى.

تبصرة :

ولا يخفى عليك أنّ أصحابنا الاصوليّين خرجوا في المقام عن دائرة المباحث الاصوليّة وذهبوا إلى المباحث العقليّة التي لا دخل لها بالنسبة إلى القواعد المقرّرة لاستنباط الأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة.

وذلك أنّهم بعد إتمام مسألة اتّحاد الطلب والإرادة بحثوا عن مسألة كلاميّة و

__________________

(١) بدائع الأفكار للمحقّق العراقيّ ١ / ٢٠٣.

٣٨

هي الجبر والتفويض واختياريّة الأفعال وملاكها وسلكوا في إثبات الاختيار مسالك صعبة.

مع أنّ الوجدان أدلّ دليل على اختياريّة الأفعال حيث أنّا نجد في أنفسنا أنّا متمكّنون من طرفي الفعل والترك في الامور وهو دليل الاختيار.

قال استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره : إنّ الميزان في اختياريّة الأفعال والتروك هو التمكّن من خلافهما والتمكّن المذكور أمر وجدانيّ يدركه الإنسان في حال إرادة الفعل أو الترك وهو المعيار في استحقاقه للمثوبة والعقاب عند الموالي والعبيد والمجتمع البشريّ.

فنحن في عين كوننا مخلوقين نكون متمكّنين من الفعل والترك وهذا التمكّن والقدرة ممّا أعطانا الله تعالى فلا نكون مجبورا كما لا نكون مستقلّا بل أمر بينهما كما اشير إليه في الأخبار بالأمر بين الأمرين.

وأمّا تعريف الاختياريّ بما كان نفس الفعل أو الترك مسبوقا بالإرادة ففيه :

أوّلا : أنّ ما يصدر من العشّاق الذين لم يتمكّنوا من الخلاف يكون مسبوقا بالإرادة ومع ذلك لا يعدّ اختياريا لعدم تمكّنهم من الخلاف.

وثانيا : أنّ مقتضى التعريف المذكور هو عدم صدق الاختياريّ على الترك إذا أراد الفعل ولا على الفعل إذا أراد الترك لعدم كون الترك في الأوّل والفعل في الثاني مسبوقا بالإرادة مع أنّهما ممّا يصدق عليهما الاختياريّ لتمكّنه منهما. وليس ذلك إلّا لكون الميزان في صدق الاختياريّ هو التمكّن من الخلاف لا الاستناد إلى الإرادة.

قال في نهاية الاصول : والفعل الاختياريّ هو ما كان مسبوقا بشعور طرفي الفعل والترك والقدرة على كليهما واختيار أحدهما على الآخر. لا ما كان مسبوقا بالإرادة مطلقا.

نعم اختيار أحد الطرفين مستتبع لإرادته ولكنّ المناط في الثواب والعقاب هو

٣٩

الاختيار لا الإرادة فبطل ما في الكفاية من أصله وأساسه. (١)

وفيه : أنّ التمكّن من طرفي الفعل والترك والقدرة عليهما يكفي في صدق الاختياريّ عليهما كما عرفت ولا حاجة إلى تحقّق اختيار أحدهما على الآخر بل لو كان ذلك دخيلا ، لما يصدق الاختياريّ على خلافه مع أنّ المعلوم هو صدق الاختياريّ على الفعل والترك معا فمنه يعلم أنّ الميزان هو التمكّن من الخلاف لا الاستناد إلى الإرادة أو اختيار أحدهما على الآخر.

ولا يضرّ بصدق الاختياريّ على الفعل والترك كون التمكّن المذكور مفاضا من ناحية المبدأ المتعال كما هو مقتضى الأمر بين الأمرين.

وممّا ذكر يظهر وجه صدق الاختياريّ على أفعاله تعالى مع كونها مستندة إلى صفاته وأسمائه الذاتيّة الواجبة لوجود ملاك الصدق وهو التمكّن والقدرة على الخلاف فوجوب القدرة بالذات فيه تعالى أو بالغير فينا لا ينافي صدق الاختياريّ كما لا يخفى.

فإذا عرفت أنّ الملاك في اختياريّة الأفعال أو التروك ليس هو مسبوقيّتهما بالإرادة ، فالمباحث التي أوردها في الكفاية حول الإرادة ساقطة ولا مجال لها مع ما فيها من النقد والإيراد إذ الإنسان في أيّ حال قادر على إصلاح أو إفساد حاله وإلّا فلا مورد للتوبيخ والترغيب ولا للإنذار والتبشير ولا الإرشاد والهداية مع أنّ الضرورة من الدين والعقلاء على استحقاق الإنسان لتلك الامور فلو كان الصلاح والفساد ذاتيّين للمصلحين والمفسدين فلا مجال لها كما لا يخفى.

وعليه فما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّه قال : الشقيّ من شقي في بطن أمّه والسعيد

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ٩٧.

٤٠