عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

إلّا ذلك الفعل الإراديّ الصادر من العبد ، وبعثه النفسيّ والمقدّميّ إيجاد تسبيبيّ للفعل ومقدّمته ، وليس حكم العقل إلّا الإذعان بالملازمة بين الإرادتين ، لا أنّه حكم ابتدائيّ بوجوب الفعل عقلا حتّى لا يكون له معنى إلّا الإذعان بحسنه الملازم حيث لا بعث ولا زجر من العاقلة. ينتج أنّ الحسن في نظر العقل هو التوصّل لا الفعل لغاية التوصّل.

وأورد على الثاني : فبأنّ الممدوح عليه هو التأديب بالحمل الشائع ، كما أنّ الواجب هنا هو التوصّل بالحمل الشائع إلّا أنّ التأديب بالحمل الشائع اختياريّته بقصد عنوان التأديب لا باختياريّة الضرب ، فإنّه إذا صدر الضرب فقط بالاختيار لم يصدر منه تأديب اختياريّ ، بخلاف التوصّل بالحمل الشائع فإنّ عنوانه لا ينفكّ عن المشي إلى السوق ، فإذا صدر المشي بالاختيار كان توصّلا اختياريّا من دون لزوم قصد عنوان التوصّل (١).

حاصله أنّ العقل في المقام لا يتكفّل إلّا الإذعان بالملازمة ولا حكم ابتدائيّ له بوجوب الفعل عقلا ليرجع إلى أنّ الحسن في نظر العقل هو التوصّل لا الفعل لغاية التوصّل. هذا بخلاف العقل العمليّ ، فإنّ العقل فيه يحكم بحسن التاديب لا الفعل لغاية التأديب.

ولو سلّم ذلك الفرق بين المقام ومثل التأديب واضح ، فإنّ اختياريّة التأديب منوطة بقصد عنوان التأديب لا باختياريّة الضرب ، إذ مع صدور الضرب اختيارا فقط لم يصدر منه تأديب اختياريّ ، بخلاف اختياريّة التوصّل فإنّها تحصل باختياريّة المشي وذلك لعدم انفكاك التوصّل عن المشي إلى السوق ، بخلاف التأديب فإنّ الضرب ربّما لا يكون للتأديب ، بل لسائر الدواعي. وعليه فاعتبار قصد التوصّل للمصداقيّة للواجب مع اختياريّة المشي إلى السوق أمر لا موجب لاعتباره.

يمكن أن يقال : إنّ العقل كما له الحكم بحسن ضرب اليتيم للتأديب وهو في الواقع يرجع إلى الحكم بحسن التأديب ، كذلك له الحكم بتلازم إرادة ذي المقدّمة

__________________

(١) تعليقة نهاية الدراية : ١ / ٣٤٨.

٥٦١

لإرادة المقدّمات من جهة التوقّف والتوصّل. وهذا الحكم يرجع إلى التلازم بين إرادة ذي المقدّمة وإرادة المقدّمات متقيّدة بالتوصّل بها إليها ، لأنّ الإدراكات العقليّة التي عبّر عنها بالأحكام العقليّة من جهة أو لغاية ترجع إلى الحيثيّات التقيّديّة من دون فرق في ذلك بين العقل العمليّ وبين العقل النظريّ ألا ترى أنّ الحكم باستحالة شيء بسبب استلزامه الدور أو التسلسل ويرجع إلى الحكم باستحالة الدور أو التسلسل بالذات. وهكذا حكم العقل باستحالة اجتماع الأمر والنهي في عنوان واحد من جهة استلزامه اجتماع الضدّين يرجع إلى الحكم باستحالة اجتماع الضدّين ذاتا.

وهكذا مع أنّها من الأحكام العقليّة النظريّة فيستفاد من هذه الأمثلة أنّ الجهة التعليليّة هي بعينها هي الموضوع لحكم العقل ، لأنّ الجهات التعليليّة في الأحكام العقليّة سواء كانت عمليّة أو نظريّة ترجع إلى الحيثيّات التقيّديّة ؛ فلا وجه للتفصيل بين العمليّ والنظريّ وإنكار هذه المقدّمة ، كما لا وجه لما في المحاضرات من أنّ الجهات التعليليّة في الأحكام العقليّة وإن ترجع إلى الجهات التقييديّة إلّا أنّه أجنبيّ عن محلّ الكلام في المقام ، لما تقدّم في أوّل البحث من أنّ وجوب المقدّمة عقلا بمعنى اللابدّيّة خارج عن مورد النزاع وغير قابل للإنكار ، وإنّما النزاع في وجوبها شرعا الكاشف عنه العقل ؛ وكم فرق بين الحكم الشرعيّ الذي كشف عنه العقل والحكم العقليّ. وقد عرفت أنّ الجهات التعليليّة في الأحكام الشرعيّة لا ترجع إلى الجهات التقييديّة (١).

وذلك كما أفاد سيّدنا الإمام قدس‌سره أنّ العقل إذا كشف عن حكم بملاكه العقليّ لا يمكن أن يكشف أوسع أو أضيق من ملاكه ولا في موضوع آخر غير حيثيّة الملاك. وهذا واضح جدّا (٢).

هذا كلّه بالنسبة إلى المقدّمة الاولى ، وأمّا ما أفاده بالنسبة إلى المقدّمة الثانية فهو في محلّه لعدم توقّف حصول التوصّل الاختياريّ على قصد التوصّل لحصوله

__________________

(١) المحاضرات : ٢ / ٤٠٧.

(٢) مناهج الوصول : ١ / ٣٩١.

٥٦٢

باختياريّة ما أتى به من المقدّمات ، فقصد التوصّل غير دخيل في ملاك المقدّميّة وتعلّق الوجوب والإرادة ، كما لا دخالة لقصد التوصّل في اتّصاف المقدّمة بالوجوب. نعم ، له دخل في تحقّق امتثال أمر المقدّمة ، إذ الامتثال لا يمكن إلّا أن يكون الداعي إلى إيجاد الفعل هو الأمر ، ولمّا كان الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلّقه والمفروض أنّه المقدّمة بالحيثيّة التقييديّة ، فامتثال الأمر بالمقدّمة يتوقّف على قصد عنوان المأمور به ، فقصد عنوان المأمور به متحيّثا بحيثيّة المقدّميّة لا ينفكّ عن القصد بالتوصّل إلى ذي المقدّمة.

ولكنّ الكلام في لزوم قصد امتثال أمر المقدّمة لأنّه لا ملزم له ، إذ لا دخل له في ملاك المقدّميّة قطعا ، بل لا فائدة له فيما إذا كان اللّازم هو الإتيان بالمقدّمة عبادة ، لما عرفت من أنّه لا إطاعة ولا مثوبة ولا قرب لامتثال أمر المقدّمة ، فلا تغفل.

ثمّ إنّ صاحب الوقاية حكى عن السيّد الأستاذ السيّد محمّد الأصفهانيّ أنّ القول بوجوب ذات المقدّمة من غير مدخليّة لقصد الإيصال فيه لا ينافي الالتزام به في بعض الموارد لجهة خارجيّة ، كما لو توقّف إنقاذ الغريق على التصرّف في الأرض المغصوبة ، فإنّه يختصّ جواز التصرّف فيها بما كان للإنقاذ بأنّ إذن الشارع في الغصب مع حرمته ذاتا لم يكن إلّا لأهمّيّة مصلحة الإنقاذ ، والإذن في المبغوض من الضرورات التي تقدّر بقدرها ، فيكفي الإذن في خصوص التصرّف بقصد الإنقاذ ولا يتجاوزه إلى غيره (١).

وحكى في المحاضرات أيضا عن المحقّق النائينيّ قدس‌سره أنّ مراد الشيخ قدس‌سره من اعتبار قصد التوصّل إنّما هو اعتباره في مقام المزاحمة ، كما إذا كانت المقدّمة محرّمة. ونقل قدس‌سره أنّ شيخه العلّامة السيّد محمّد الأصفهانيّ قدس‌سره كان جازما بأنّ مراد الشيخ من اعتبار قصد التوصّل هو ذلك ، ولكن كان شيخنا الأستاذ قدس‌سره متردّدا بأنّ هذا كان استنباطا منه أو أنّه حكاه عن استاذه السيّد الشيرازي قدس‌سره.

وكيف كان ، فحاصل هذا الوجه هو أنّه لو توقّف واجب نفسيّ كإنقاذ الغريق

__________________

(١) الوقاية : / ٢٥٥.

٥٦٣

مثلا على مقدّمة محرّمة بنفسها ، كالتصرّف في مال الغير أو نحوه ، فبطبيعة الحال تقع المزاحمة بين الوجوب الغيريّ والحرمة النفسيّة. وعليه فإن جاء المكلّف بالمقدّمة قاصدا بها التوصّل إلى الواجب النفسيّ ارتفعت الحرمة عنها ، وذلك لأنّ إنقاذ النفس المحترمة من الهلاك أهمّ من التصرّف في مال الغير ، فلا محالة يوجب سقوط الحرمة عنه. وأمّا إن جاء بها لا بقصد التوصّل ، بل بقصد التنزّه أو ما شاكله فلا موجب لسقوط الحرمة عنه أبدا (١).

اورد عليه في الوقاية بأنّ هذا حقّ لو كان وجوب المقدّمة ممّا تناله يد الجعل والتصرّف وأمّا بناء على ما يذهب إليه المحقّقون ـ وهو سيّدهم ـ من أنّه لازم لوجوب ذي المقدّمة بحيث يستحيل انفكاكه عنه بحكم العقل ولا مناط في حكمه سوى التوقّف من غير مدخليّة شيء في غيره ، فلازمه أن يكون الحرام المهمّ إذا كان مقدّمة للواجب الأهمّ كالمباح ، إذ القصد لا مدخليّة له في التوقّف الذي هو مناط حكم العقل ، والحكم العقليّ لا يقبل التخصيص (٢).

وهذا هو الذي ذهب إليه في الكفاية أيضا.

ويمكن أن يقال : إنّ مناط مطلوبيّة المقدّمة ليس مجرّد التوقّف ، بل سيأتي إن شاء الله تعالى أنّ المناط هو حيثيّة التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ، إذ لا مطلوبيّة للمقدّمة إلّا لأجل الوصول إلى الغير.

وعليه ، فلا يكون الدخول في ملك الغير متّصفا بالوجوب بمجرّد توقّف الإنقاذ عليه ولو لم يكن في طريق الإنقاذ ، بل الذي يقع على صفة الوجوب هو ما يقع في طريق الإنقاذ. وعليه ، فقصد التوصّل لا دخل له في صورة المزاحمة كما لا دخل له في غيرها ، وإنّما المدخليّة للتوصّل فقط.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية أيضا حيث ذهب إلى أنّ الملاك هو التوقّف من

__________________

(١) المحاضرات : ٢ / ٤٠٩.

(٢) الوقاية : / ٢٥٥.

٥٦٤

دون مدخليّة للقصد أو التوصّل ، ولذا صرّح بوقوع الفعل المقدّميّ على صفة الوجوب لا على حكمه السابق الثابت لو لا عروض صفة توقّف الواجب الفعليّ المنجّز عليه.

وذلك لما عرفت من أنّ الملاك ليس هو مجرّد التوقّف بل للتوصّل دخل وإن لم يكن لقصده مدخليّة ، فلا تغفل.

ولقد أفاد وأجاد في المحاضرات حيث قال : إنّ الواجب في المقام بما أنّه أهمّ من الحرام فبطبيعة الحال ترتفع حرمته ، فالسلوك في الأرض المغصوبة عندئذ إذا وقع في طريق الإنقاذ لا يكون محرّما بداهة أنّه لا يعقل بقاؤه على حرمته مع توقّف الواجب الأهمّ عليه ، ولا فرق في ارتفاع الحرمة عنه ـ أي عن خصوص هذه الحصّة من السلوك ـ بين أن يكون الآتي به قاصدا للتوصّل به إلى الواجب المذكور أم لا ؛ غاية الأمر إذا لم يكن قاصدا به التوصّل كان متجرّيا. وأمّا إذا لم يقع السلوك في طريق الإنقاذ فتبقى حرمته على حالها ضرورة أنّه لا موجب ولا مقتضي لارتفاعها أصلا ، فإنّ المقتضي لذلك إنّما هو توقّف الواجب الأهمّ عليه ، والمفروض أنّه ليس هذه الحصّة من السلوك ممّا يتوقّف عليه الواجب المزبور كي ترتفع حرمته (١).

فتحصّل أنّه لا دليل على اعتبار قصد التوصّل ولو في حال المزاحمة ، كما أنّه لا وقع للقول بأنّ المقدّمة الواجبة هي نفس المقدّمة التي بها يتمكّن من ذيها ، لأنّ تفسير المقدّمة الواجبة بذلك محلّ إشكال ونظر من وجوه ، أفادها استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره : أحدها : أنّه يصدق على أحد المتلازمين ، إذ لا يتمكّن من كلّ واحد إلّا بالآخر مع أنّه ليس واحد منهما مقدّمة للآخر.

وثانيها : أنّ الوجدان يشهد على أنّ المقدّمات لا تكون مرادة مطلقا ، ولو كانت منفكّة عن ذيها فكيف يكون ذلك مع أنّ غرض المولى من إرادة المقدّمات هو ترتّب ذيها.

وثالثها : أنّ العقلاء يحكمون باستحقاق من دخل في دار الغير عند غرق من وجب إنقاذه لداع التنزّه ، أو من شقّ بطن المريض بداع غير المعالجة للمذمّة ، والمذمّة

__________________

(١) المحاضرات : ٢ / ٤١٠.

٥٦٥

لا تختصّ بترك الإنقاذ أو المعالجة ، بل من جهة الدخول في دار الغير أو شقّ بطن المريض أيضا ، وهو آية بقائهما على الحرمة عند انفكاكهما عن ذي المقدّمة.

اعتبار الإيصال

صرّح في الفصول بأنّ الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة ؛ بمعنى أنّ الإيصال قيد للواجب لا شرط للوجوب.

قال : تنبيهات :

الأوّل : قد ذكرنا أنّ وجوب مقدّمة الواجب غيريّ ، وبيّنّا أيضا أنّه يعتبر في اتّصاف الواجب الغيريّ بالوجوب كونه بحيث يترتّب عليه الغير الذي يجب عليه ، حتّى إنّه لو انفكّ عنه كشف عن عدم وقوعه على الوجه الذي يجب ، فلا يتّصف بالوجوب. ونقول هنا توضيحا لذلك وتأكيدا له : إنّ مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب والمطلوبيّة من حيث كونها مقدّمة إلّا إذا ترتّب عليها وجوب ذي المقدّمة ، لا بمعنى أنّ وجوبها مشروط بوجوده فيلزم أن لا يكون خطاب بالمقدّمة أصلا على تقدير عدمه فإنّ ذلك متّضح الفساد ، كيف وإطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع لإطلاق وجوبه وعدمه ، بل بمعنى أنّ وقوعها على الوجه المطلوب منوط بحصول الواجب ، حتّى إنّها إذا وقعت مجرّدة عنه تجرّدت عن وصف الوجوب والمطلوبيّة لعدم وجودها على الوجه المعتبر.

فالتوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب ، وهذا عندي هو التحقيق الذي لا مزيد عليه وإن لم أقف على من يتفطّن له.

والذي يدلّ على ذلك أنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة فالعقل لا يدلّ عليه زائدا على القدر المذكور.

وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : أريد الحجّ وأريد المسير الذي يتوصّل به إلى فعل الحجّ له ، دون ما لا يتوصّل به إليه ، وإن كان من شأنه أن يتوصّل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز التصريح بمثل ذلك ، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّتها له مطلقا أو على تقدير التوصّل بها إليه.

٥٦٦

وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدّمته على تقدير عدم التوصّل بها إليه.

وأيضا حيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله ، فلا جرم يكون التوصّل إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيّتها فلا تكون مطلوبة إذا انفكّت عنه.

وصريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئا لمجرّد حصول شىء آخر لا يريده إذا وقع مجرّدا عنه. ويلزم منه أن يكون وقوعه على الوجه المطلوب منه منوط بحصوله ، انتهى.

حاصله أنّ صاحب الفصول اعتبر التوصّل في اتّصاف المقدّمة بالوجوب بوجوه.

منها أنّ العقل لا يدلّ على أزيد من ذلك ، ولعلّه لأنّ مناط المطلوبيّة الغيريّة منحصر في المقدّمات الموصلة لا غيرها والعقل لا يحكم بدون المناط ، وعليه فلا يدلّ على أزيد من ذلك.

ومنها أنّ تجويز العقل بتصريح الآمر الحكيم بأنّي لا أريد إلّا الموصلة ممّا يشهد على أنّ دائرة حكم العقل في الموصلة ، وإلّا فلا مجال لتجويز ذلك ، إذ لا تخصيص في الاحكام العقليّة كما أنّ تقبيح العقل بالتصريح بعدم مطلوبيّة مطلق المقدّمة أو الموصلة ممّا يدلّ على وجود الملازمة العقليّة بين وجوب ذي المقدّمة ومقدّماته.

وممّا ذكر يظهر أنّ المراد من المقدّمة الواجبة ليس ما لو لاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة من دون تقييده بالتوصّل ، لما عرفت من عدم مطلوبيّة المقدّمة المنفكّة ، مع أنّها ممّا لو لاها لما أمكن حصول ذي المقدّمة. هذا مضافا إلى ما أفاده استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّه يلزم من هذا التعريف صدقه على أحد المتلازمين ، إذ لا يتمكّن من كلّ واحد إلّا بالآخر مع أنّه ليس بمقدّمة.

ومنها أنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله ، فلا جرم يكون التوصّل إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيّتها ، فلا تكون مطلوبة إذا انفكّت عنه.

٥٦٧

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : إنّ مقصوده بتوضيح منّا يرجع إلى مقدّمتين :

إحداهما : أنّ ملاك مطلوبيّة المقدّمة ليس مجرّد التوقّف ، بل ملاكها هو حيثيّة التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ؛ فذات المقدّمة وحيثيّة توقّف ذي المقدّمة عليها لا تكونان مطلوبتين بالذات ، وهذه مقدّمة وجدانيّة يرى كلّ أحد من نفسه أنّ المطلوبيّة الغيريّة إنّما هي لأجل الوصول إليه ، بل لو فرض انفكاك التوقّف عن التوصّل خارجا كان المطلوب هو الثاني لا الأوّل.

وثانيهما : أنّ الغايات عناوين الموضوعات في الأحكام العقليّة والجهات التعليليّة فيها ترجع إلى التقييديّة ، وهذه مقدّمة برهانيّة لأنّ الوجوب هاهنا مستكشف من حكم العقل ولا يمكن تخلّفه عمّا هو مناطه في نظره ضرورة أنّ العقل إذا أدرك حيثيّة تكون تمام المناط لتعلّق حكم مولويّ يكشف عن كون الحكم متعلّقا بتلك الحيثيّة من غير دخالة شيء آخر جزء للموضوع أو تمامه.

فحينئذ نقول : إنّ وجوب المقدّمة إذا كان لأجل التوصّل إلى ذي المقدّمة تكون تلك الحيثيّة ـ أي التوصّل إلى ذي المقدّمة ـ تمام الموضوع لمناط حكم العقل ، فيكشف عن ثبوت الحكم على المقدّمة بهذه الحيثيّة لا غيرها ، فاللّازم هو وجوب المقدّمة المتحيّثة بها من حيث هي كذلك.

ولا يمكن أن تصير تلك الحيثيّة علّة لسراية الحكم إلى غيرها. نعم يمكن تعلّق بعث مولويّ بشيء لأجل غاية ، بحيث يكون البعث متوجّها إلى عنوان تترتّب عليه الغاية ، لكنّ الكلام في الوجوب المنكشف بحكم العقل ولا يمكن كشف العقل عن ثبوت حكم على غير ما هو المناط ذاتا ، فكون الأحكام الشرعيّة متعلّقة بالعناوين لأجل المصالح والمفاسد لا يكون نقضا على ما ذكرنا لو أعطى التدبّر حقّه (١).

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٤٠٠ و ٤٠١ و ٣٩٨.

٥٦٨

ويشهد على ما ذكره صاحب الفصول كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره حكم العقلاء باستحقاق مذمّة من دخل في أرض مغصوبة لغير الإنقاذ مع وجوب الإنقاذ عليه ، وهكذا حكموا باستحقاق مذمّة طبيب جرّح المريض لا للعلاج ؛ بل لمشاهدة ما في أحشائه وغيرها. مع أنّ وظيفته هو علاجه ، وليس تلك المذمّة لمجرّد ترك الإنقاذ أو العلاج ، بل للدخول في الدار المغصوبة ولجرح المريض أيضا.

ومن المعلوم أنّ المقدّمة لو كانت من دون تقييد بالتوصّل مطلوبة لم يكن المذمّة المذكورة في محلّها لأنّها مع توقّف ذيها عليها غير محرّمة. نعم يمكن المذمّة باعتبار التجرّي بها ، والمفروض أنّ المذمّة على نفس المقدّمة ، وليس ذلك إلّا لبقائها على حكمها من الحرمة الفعليّة ، فليست المقدّمة إلّا المقدّمة الموصلة التي تكون واجدة لمناط المطلوبيّة ، فلا تغفل.

وإليه يؤول ما في المحاضرات حيث قال : إنّ قضيّة الارتكاز والوجدان تقتضي وجوب خصوص هذا القسم اللّازم لوجود الواجب في الخارج بداهة أنّ من اشتاق إلى شراء اللّحم مثلا فلا محالة يحصل له الشوق إلى صرف مال واقع في سلسلة مبادئ وجوده لا مطلقا.

ولذا لو فرض أنّ عبده صرف المال في جهة اخرى لا في طريق امتثال أمره بشراء اللّحم لم يعدّ ممتثلا للأمر الغيريّ ، بل يعاقبه على صرف المال في تلك الجهة ، إلّا إذا كان معتقدا بأنّ صرفه في هذا الطريق يؤدّي إلى امتثال الواجب في الخارج ، ولكنّه في الواقع غير مؤدّ إليه (١).

الاشكالات

أوردوا على صاحب الفصول إشكالات ثبوتا وإثباتا :

__________________

(١) المحاضرات : ٢ / ٤١٥.

٥٦٩

منها : ما أورده في الكفاية من أنّ الغرض الداعي إلى وجوب المقدّمة ليس إلّا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة ضرورة أنّه لا يكاد يكون الغرض إلّا ما يترتّب عليه من فائدته وأثره ، ولا يترتّب على المقدّمة إلّا ذلك ، ولا تفاوت فيه بين ما يترتّب عليه الواجب (من الافعال التسبيبيّة) وما لا يترتّب عليه أصلا (كالأفعال المباشريّة التي تحتاج إلى الإرادة والاختيار) ، وأنّه (الغرض المذكور) لا محالة يترتّب عليهما.

وأمّا ترتّب الواجب فلا يعقل أن يكون الفرض الداعي إلى إيجابها والباعث على طلبها ، فإنّه ليس بأثر تمام المقدّمات فضلا عن إحداها في غالب الواجبات ، فإنّ الواجب إلّا ما قلّ في الشرعيّات والعرفيّات فعل اختياريّ يختار ، للمكلّف تارة إتيانه بعد وجود تمام مقدّماته واخرى عدم إتيانه ، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضا من إيجاب كلّ واحدة من مقدّماته مع عدم ترتّبه على تمامها فضلا عن كلّ واحدة منها؟!

نعم ، فيما كان الواجب من الأفعال التسبّبية والتوليديّة كان مترتّبا لا محاله على تمام مقدّماته لعدم تخلّف المعلول عن علّته (١).

وفيه كما في تعليقة الأصفهانيّ : أنّ ما أفاده وإن كان من الجهة الجامعة لجميع المقدّمات من السبب والشرط والمعدّ إلّا أنّ هذا المعنى السلبيّ التعليقيّ ليس أثر وجود المقدّمة ولا هو متعلّق الغرض كما أنّ إمكان ذي المقدّمة ذاتا وقوعيّا وكذا التمكّن منه غير مترتّب على وجود المقدّمة ، بل إمكانه مطلقا والقدرة عليه يتبع إمكانها والقدرة عليها لا وجودها فذو المقدّمة لا يوجد بدونها ، لا أنّه لا يمكن بدونها أو لا يتمكّن منه بدونها (٢).

وعليه ، فالتمكّن من ذي المقدّمة من دون قيد الايصال ليس غاية للأمر بالمقدّمة لأنّه حاصل قبل الأمر بتبع التمكّن من المقدّمة.

__________________

(١) الكفاية : ١ / ١٨٥.

(٢) نهاية الدراية : ١ / ٣٥٠.

٥٧٠

ولذلك قال في المحاضرات : إنّ تمكّن المكلّف من الإتيان بذي المقدّمة ليس الغرض من إيجاب المقدّمة ضرورة أنّ التمكّن بذيها ليس من آثار الإتيان بها ، بل هو من آثار التمكّن من الإتيان بالمقدّمة ، لوضوح أنّه يكفي في التمكّن من الإتيان بالواجب النفسيّ وامتثاله التمكّن من الإتيان بمقدّمته فإنّ المقدور بواسطة مقدور ، فالتمكّن لا يمكن أن يكون غرضا لإيجابها ، بل الغرض منه ليس إلّا إيصالها إلى الواجب ، حيث إنّ الاشتياق إلى شيء لا ينفكّ عن الاشتياق إلى ما يقع في سلسلة علّة وجوده دون ما لا يقع في سلسلتها (١).

هذا مضافا إلى ما أفاده استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ التمكّن من ذي المقدّمة أمر أعمّ من المقدّمة لصدقه على أحد المتلازمين أيضا ، لأنّ كلّ واحد منهما لا يتمكّن منه إلّا بوجود الآخر. أضف إلى هذا أنّ عنوان ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة صادق على عدم الضدّ في كلّ ضدّ ، لأنّ التمكّن منه لا يكون إلّا بعدم ضدّه المقارن له ، مع أنّه ليس من المقدّمات ، كما لا يخفى.

ومنها : ما أورده في الكفاية من منع دلالة العقل الحاكم بالملازمة على جواز تصريح الآمر الحكيم بأنّي اريد الحجّ واريد المسير الذي يتوصّل به إلى فعل الواجب ، دون ما لم يتوصّل به إليه ، لثبوت مناط الوجوب في مطلقها وعدم اختصاصه بالمقيّد بذلك منها ، ودعوى أنّ الضرورة قاضية بجوازه مجازفة كيف يكون ذا مع ثبوت الملاك في الصورتين (٢).

وفيه ما مرّ من أنّ مناط الوجوب في المقدّمات ليس هو التمكّن لوجوده قبل الوجوب ، بل المناط هو الإيصال وهو يختصّ ببعض المقدّمات ، فالتفاوت بين المقدّمات الموصلة وغيرها في الموصليّة أوجب التفاوت بينهما في المطلوبيّة وعدمها وجواز التصريح بهما.

__________________

(١) المحاضرات : ٢ / ٤١٦.

(٢) الكفاية : ١ / ١٨٨ ـ ١٩٠.

٥٧١

والقول بأنّ الموصليّة تنتزع من وجود الواجب وترتّبه عليها ، فالاتّصاف ببعض المقدّمات بعنوان الموصليّة ليس من ناحية المقدّمات مندفع بما أفاده المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ الموصليّة وشبهها من العناوين منتزعة من المقدّمة عند بلوغها إلى حيث يمتنع انفكاكها عن ذيها ، لا أنّها منتزعة من ترتّب ذيها ؛ نظير عنوان العلّيّة والمعلوليّة بنحو التماميّة فإنّهما عنوانان متضائفان متلازمان ينتزع كلّ منهما عن ذات العلّة وعن ذات المعلول ؛ فالعلّة التامّة لا تنتزع إلّا عن الشىء عند بلوغه إلى حيث يكون المعلول به ضروريّا لا عن المعلول ، وكذلك المعلول ينتزع من الشىء عند بلوغه إلى حيث يكون سبب العلّة ضروريّ الثبوت لا عن العلّة (١).

وعليه ، فالموصليّة تنتزع من المقدّمات الموصلة لا غيرها ولا من وجود الواجب وترتّبه عليها ، بل من ناحية المقدّمات عند بلوغها إلى حيث يمتنع انفكاكها عن ذيها ، ومع هذا التفاوت دعوى عدم التفاوت بين الموصلة وغيرها مجازفة.

ومنها : ما في الكفاية أيضا من أنّ الإيصال ليس أثر تمام المقدّمات فضلا عن إحداها في غالب الواجبات ، فإنّ الواجب إلّا ما قلّ في الشرعيّات والعرفيّات فعل اختياريّ يختار المكلّف تارة إتيانه بعد وجود تمام مقدّماته واخرى عدم إتيانه ، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضا من ايجاب كلّ واحدة من مقدّماته مع عدم ترتّبه على تمامها فضلا عن كلّ واحدة منها؟! نعم ، فيما كان الواجب من الأفعال التسبّبيّة والتوليديّة (كإلقاء النار على القطن) كان مترتّبا لا محالة على تمام مقدّماته لعدم تخلّف المعلول عن علّته. ومن هنا قد انقدح أنّ القول بالمقدّمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدّمة في غالب الواجبات ، والالتزام بوجوب الإرادة في الباقي التزام بالتسلسل لعدم كون الإرادة بالاختيار (٢).

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٥٥.

(٢) كفاية : ١ / ١٨٥ ـ ١٨٦.

٥٧٢

وفيه كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره أنّ المراد من الإيصال أعمّ من الإيصال مع الواسطة ؛ فالقدم الأوّل بالنسبة إلى الحجّ قد يكون موصلا ولو مع الوسائط إليه أي يتعقّبه الحجّ ، وقد لا يكون كذلك ، والواجب هو الأوّل.

وأمّا الإشكال بالإرادة ففيه : أوّلا : أنّ الإرادة قابلة لتعلّق الوجوب بها كما في الواجب التعبّدي.

وثانيا : أنّ الإشكال فيها مشترك الورود ، إذ بناء على وجوب المقدّمة المطلقة تكون الإرادة غير متعلّقة للوجوب لو لزم منه التسلسل (١).

ومنها : ما في الكفاية من أنّه ما أفاده صاحب الفصول من أنّ مطلوبيّة المقدّمة حيث كانت بمجرّد التوصّل بها فلا جرم يكون التوصّل بها إلى الواجب معتبرا فيها محلّ منع ، لأنّه إنّما كانت مطلوبيّتها لأجل عدم التمكّن من التوصّل بدونها لا لأجل التوصّل بها ، لما عرفت من أنّه ليس من آثارها ، بل ممّا يترتّب عليها أحيانا بالاختيار بمقدّمات اخرى وهي مبادئ اختياره ، ولا يكاد يكون مثل ذا غاية لمطلوبيّتها وداعيا إلى إيجابها. وصريح الوجدان إنّما يقضي بأنّ ما أريد لأجل غاية وتجرّد عن الغاية بسبب عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها يقع على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة كيف وإلّا يلزم وجودها من قيوده ومقدّمته لوقوعه على نحو يكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو ووجوبها. وهو كما ترى ضرورة أنّ الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية بحيث كان تخلّفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة وإلّا يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه كسائر قيوده ـ إلى أن قال ـ : ولعلّ منشأ توهّمه خلطه بين الجهة التقييديّة والتعليليّة ... الخ ... حاصله أنّ هنا إشكالات : أوّلا :

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٩٥.

٥٧٣

أنّ الغرض من وجوب المقدّمة هو التمكّن من التوصّل لا التوصّل.

وثانيا : أنّ الوجدان صريح في أنّ المقدّمة وقعت على ما هي عليه من المطلوبيّة الغيريّة عند عدم حصول سائر ما له دخل في حصول الغاية.

وثالثا : أنه لو قلنا بعدم وقوع المقدّمة على المطلوبيّة الغيريّة عند عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها لزم أن يكون وجود الغاية من قيود المقدّمة ومقدّمة لوقوع المقدّمة على نحو يكون الملازمة معكوسة بين وجوب المقدّمة بذاك النحو ووجوب غايتها وهي ذو المقدّمة.

ومن المعلوم أنّ ذا المقدّمة لا يكون قيدا للمقدّمة بحيث كان تخلّف ذي المقدّمة موجبا لعدم وقوع المقدّمة على ما هي عليه من المطلوبيّة الغيريّة ، وإلّا يلزم أن يكون ذو المقدّمة مطلوبا بطلب المقدّمة كسائر قيوده. ومنشأ توهّم صاحب الفصول هو خلطه بين الجهة التقييديّة والتعليليّة.

وفيه : أوّلا : أنّ الغرض من وجوب المقدّمة هو الإيصال لا التمكّن ، لما عرفت من أنّ التمكّن لا يتوقّف على الوجوب.

وثانيا : أنّ المقدّمة إذا انفكّت عن سائر ما له دخل في تحقّق ذي المقدّمة لا تقع على ما هي من المطلوبيّة الغيريّة ، إذ لم تكن حينئذ موصلة ، والمقدّمة مطلوبة بهذه الحيثيّة.

وثالثا : بمنع لزوم أن يكون وجود ذي المقدّمة من قيودها ومقدّمة لوقوعها على نحو يكون الملازمة بين وجوب المقدّمة بذاك النحو ووجوب ذي المقدّمة ، لما عرفت من أنّ عنوان الإيصال مأخوذ في المقدّمة وليس لوجود ذي المقدّمة دخل في ذلك ، إذ منشأ انتزاع الإيصال هو نفس المقدّمات عند بلوغها إلى حيث يمتنع انفكاكها عن ذيها لا وجود ذي المقدّمة أو ترتّبه.

وممّا ذكر يظهر أنّه لا يلزم من دخل التوصّل أن يكون ذو المقدّمة مطلوبا بطلب المقدّمة لعدم دخل وجود ذي المقدّمة في المقدّمة ، كما لا يخفى.

٥٧٤

ورابعا : أنّ الغاية في الأحكام العقليّة عنوان لموضوعاتها ، فهي المطلوبة بالحقيقة كما مرّ مرارا.

ومنها : ما في الكفاية من أنّ الإتيان بالمقدّمة بناء على وجوب الموصلة لا يوجب سقوط الطلب منها إلّا أن يترتّب الواجب عليها ، مع أنّ السقوط بالإتيان واضح ، فلا بدّ وأن يكون بالموافقة ؛ ومعها يستكشف عن أنّ الواجب هو مطلق المقدّمة ولو لم توصّل إلى ذيها (١).

أجاب عنه سيّدنا الإمام قدس‌سره بأنّ الأمر غير ساقط بعد فرض تعلّقه بالمقيّد ، وهو لا يتحقّق إلّا بقيده كما في المركّبات ، فإنّ التحقيق فيها أنّ الأمر بها لا يسقط إلّا بإتيان تمام المركّب وليس للأجزاء أمر أصلا ، فبناء على المقدّمة الموصلة ليست ذات المقدّمة متعلّقة للأمر بل للمتقيّدة أمر واحد لا يسقط إلّا بإتيان قيدها ، فدعوى وضوح سقوطه في غير محلّها (٢).

نعم ، كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره لا يجب الإتيان بما أتى ثانيا إذا انضمّ سائر المقدّمات لأنّ المأمور به ـ وهو المقدّمة الموصلة ـ يحصل بالانضمام ولا حاجة في امتثاله إلى التكرار ، فالمكلّف يتخيّر في إسقاط الأمر بين تتميم ما في يده بجعله موصلا وبين رفع اليد عنه والإتيان بفرد آخر موصل ، كما كان قبل الشروع مخيّرا في الإتيان بأيّ فرد شاء. اللهمّ إلّا إن اعتبرت الموالاة بين المقدّمات فعدم الإتيان ببقيّة المقدّمات يضرّ بما أتى ، ولكنّه لم يعهد ذلك في المقدّمات ، خلافا للأجزاء فإنّها ربّما اعتبرت على نحو يعتبر فيها الموالاة كأجزاء الصلاة ، فلا تغفل.

ومنها : ما نسب إلى درر الفوائد ونهاية الاصول من لزوم كون ذي المقدّمة مقدّمة لمقدّمته فيتعلّق به الوجوب الغيريّ ، بل وجوبات متعدّدة غيريّة بعدد المقدّمات.

__________________

(١) الكفاية : ١ / ١٨٦.

(٢) مناهج الوصول : ١ / ٣٩٦.

٥٧٥

وفيه : أنّ الدخيل في المقدّمة ليس وجود ذي المقدّمة حتّى يلزم ذلك ، بل هو الإيصال ، وهو عنوان منتزع عن نفس المقدّمات عند بلوغها إلى حيث يمتنع انفكاكها عن ذيها.

وممّا ذكر يظهر ما في مناهج الوصول ، حيث إنّ ما ذكره في الجواب لا يغني مع أنّ وصف الإيصال لا يتوقّف على وجود ذي المقدّمة ، اللهمّ إلّا أن يكون مراده من توقّف وصف المقدّمة على وجود ذي المقدّمة هو توقّف كشفه عليه لا توقّف وجوده عليه.

ومنها : ما نسب إلى فوائد الاصول من لزوم الدور لأنّ وجود ذي المقدّمة يتوقّف على وجود المقدّمة ، وبناء على قيديّة الإيصال فوجود المقدّمة يصير متوقّفا على وجود صاحبها.

وفيه : أنّ توقّف وجود ذي المقدّمة على وجود المقدّمة واضح ، وأمّا توقّف وجود المقدّمة الموصوفة على وجود ذيها فممنوع بعد كون منشأ انتزاع الوصف هو نفس المقدّمات عند بلوغها إلى حيث يمتنع انفكاكها عن ذيها ، فإنّ المقدّمات البالغة إلى ذلك الحدّ متلازمة مع وجود ذيها وليست موقوفة على وجوده ، كما أنّ تماميّة أجزاء العلّة متلازمة مع وجود المعلول وليست متوقّفة على وجوده ، كما لا يخفى.

فالجواب عنه بتغاير الموقوف مع الموقوف عليه لأنّ وجود ذي المقدّمة يتوقّف على ذات المقدّمة لا بقيد الإيصال واتّصافها بالموصليّة يتوقّف على وجود ذي المقدّمة كما في مناهج الوصول (١).

منظور فيه لما عرفت من عدم توقّف الاتّصاف على وجود ذي المقدّمة ، فلا تغفل.

ومنها ما حكى عن المحقّق النائينيّ قدس‌سره من لزوم التسلسل ، حيث إنّ الواجب لو كان خصوص المقدّمة الموصلة فبطبيعة الحال كانت ذات المقدّمة من مقدّمات تحقّقها في

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٩٢.

٥٧٦

الخارج نظرا إلى أنّ ذاتها مقوّمة لها ومقدّمة لوجودها ، فعندئذ إن كان الواجب هو ذات المقدّمة على الإطلاق لزم خلاف ما التزم به قدس‌سره من اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، وإن كان هو الذات المقيّدة بالإيصال اليها ننقل الكلام إلى ذات هذا المقيّد بالإيصال ، وهكذا ... فيذهب إلى ما لا نهاية له ؛ فالنتيجة أنّه لا يمكن القول بأنّ الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة.

اورد عليه في المحاضرات بأنّ ذات المقيّد وإن كانت مقوّمة له إلّا أنّ نسبته إليه ليست نسبة المقدّمة إلى ذيها. ننقل الكلام إليها ونقول إنّها واجبة مطلقا أو مقيّدة بالإيصال ، وحيث إنّ الأوّل خلاف الفرض ، فالثاني يستلزم الذهاب إلى ما لا نهاية له ، بل نسبته إليه نسبة الجزء إلى المركّب ، إذ على هذا القول تكون المقدّمة مركّبة من جزءين : أحدهما ذات المقيّد والآخر تقيّدها بقيد وهو وجود الواجب في الخارج. كما هو الحال في كلّ واجب مقيّد بقيد ، سواء كان وجوبه نفسيّا أم كان غيريّا.

وعلى هذا فلا يبقى موضوع للقول بأنّ ذات المقيّد هل هي واجبة مطلقا أو مقيّدة بالإيصال (١).

ولقد أفاد وأجاد وإن كان قوله «والآخر تقيّدها بقيد وهو وجود الواجب في الخارج» لا يخلو عن المسامحة ، لما عرفت من أنّ معنى تقييد المقدّمة بالإيصال ليس تقييدها بوجود ذي المقدّمة ، بل المراد تقييدها ببلوغها إلى حيث يمتنع انفكاكها عن وجود ذيها.

وكيف ما كان ، فالذات لا تكون مقدّمة للمقيّد حتّى يجيء فيها ما تقدّم ، وربّما يجاب عن التسلسل بأنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة إلى ذي المقدّمة لا إلى المقدّمة ؛ فالذات لم تكن واجبة بقيد الإيصال إلى المقيّد ، بل واجبة بقيد الإيصال إلى ذي المقدّمة ، وهو

__________________

(١) المحاضرات : ٢ / ٤١٤.

٥٧٧

حاصل بلا قيد زائد (١).

ولا يخفى عليك أنّ مع الغمض عمّا ذكرنا من عدم مقدّميّة الذات بالنسبة إلى المقيّد لا يكفي الجواب المذكور ، لأنّ ملاك وجوب المقدّمات ـ وهو الإيصال ـ موجود في الذات التي تكون مقدّمة بالنسبة إلى المقيّد أيضا ؛ فكما أنّ المقيّد واجب بوجوب غيريّ بملاك الإيصال ، وهكذا الذات ليست من حيث هي مطلوبة ، بل من حيث إنّها تكون موصلة إلى المقيّد تكون مطلوبة وهكذا. ثمّ إنّه ربّما استشهد على ما ذهب إليه صاحب الفصول بجواز منع المولى عن غير الموصلة ، وهو آية عدم استحالة وجوب خصوص الموصلة ، إذ لو استحيل وجوب خصوص الموصلة لما جاز منع المولى عن غير الموصلة ، وحيث إنّ منع المولى عن غير الموصلة ممكن وجائز فوجوب خصوص الموصلة ليس بمستحيل.

اورد عليه في الكفاية بأنّ غير الموصلة وإن لم يكن حينئذ واجبا ولكنّه ليس لأجل اختصاص الوجوب بالموصلة ، بل لأجل المنع من غير الموصلة ، فإنّ مع المنع لا يؤثّر مقتضى الوجوب في غير الموصلة. هذا مضافا إلى أنّ لازم المنع المذكور هو عدم التمكّن من ذي المقدّمة لاختصاص جواز المقدّمة بصورة الإتيان بذي المقدّمة ، كما أنّ وجوبها أيضا مختصّ بصورة الإتيان وهو محال ، فإنّه يكون من طلب الحاصل (٢).

يمكن الجواب عنه بما في نهاية الدراية من أنّ الغرض من الاستدلال هو إبطال دعوى استحالة وجوب الموصلة ، وهو حاصل بنفس جواز المنع عن غير الموصلة ، هذا مضافا إلى أنّ معنى الإيصال مباين مع حقيقة ترتّب ذي المقدّمة وإن كانا متلازمين ، فيرجع المنع إلى المنع عن غير العلّة التامّة فلا يتوقّف الجواز على إتيان ذي المقدّمة ، بل المقدّمة الجائزة ملازمة لذيها ، وحيث إنّه قادر على المقدّمة المباحة فهو قادر شرعا

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٩٤.

(٢) الكفاية : ١ / ١٩١ و ١٩٢.

٥٧٨

على ذيها ، فلا يرد شىء من المحاذير (١).

وبالجملة منشأ الإشكال في نظر صاحب الكفاية فيه ونظائره هو توهّم أنّ الإيصال مساوق لترتّب وجود ذي المقدّمة ، مع أنّ بينهما مباينة وليسا مترادفة ، بل هما متلازمان. وعليه فتقييد المقدّمات بالإيصال لا يوجب المحاذير.

فتحصّل أنّه لا إشكال فيما ذهب إليه صاحب الفصول من أنّ الواجب هو المقدّمات الموصلة.

اعتبار حال الإيصال

ذهب شيخ مشايخنا المحقّق اليزدي في الدرر إلى أنّ الطلب متعلّق بالمقدّمات في لحاظ الإيصال لا مقيّد به حتّى يلزم المحذورات السابقة ، والمراد أنّ الآمر بعد تصوّر المقدّمات بأجمعها يريدها بذواتها ، لأنّ تلك الذوات بهذه الملاحظة لا تنفكّ عن المطلوب الأصليّ ، ولو لاحظ مقدّمة منفكّة عمّا عداها لا يريدها جزما فإنّ ذاتها وإن كانت موردا للإرادة ، لكن لمّا كانت المطلوبيّة في ظرف ملاحظة باقي المقدّمات معها لم تكن كلّ واحدة مرادة بنحو الإطلاق بحيث تسرّي الإرادة إلى حال انفكاكها عن باقي المقدّمات.

وهذا الذي ذكرنا مساوق للوجدان ولا يرد عليه ما ورد على القول باعتبار الإيصال قيدا وإن اتّحد معه في الأثر (٢).

وإليه يؤول ما في بدائع الأفكار حيث قال : والتحقيق في المقام هو القول أنّ الواجب هو المقدّمة في ظرف الإيصال بنحو القضيّة الحينيّة. وبعبارة اخرى : الواجب هو الحصّة من المقدّمة التوأم مع وجود سائر المقدّمات الملازم لوجود ذي المقدّمة ـ إلى أن قال ـ : إن قلت ما وجه العدول عن كون الواجب هو المقدّمة الموصلة إلى اختيار

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٥٦.

(٢) الدرر : ١ / ١١٩.

٥٧٩

أنّ الواجب هو المقدّمة في ظرف الإيصال مع الاعتراف بأنّ الغرض الداعي إلى إيجاب المقدّمات هو التوصّل إلى وجود ذي المقدّمة ، وهي ما تقرّر في محلّه من أنّ الجهات التعليليّة في الأحكام العقليّة جهات تقييديّة ، فإن ضمّ ذلك إلى ما اعترفتم به ينتج اختصاص الوجوب بالمقدّمة المعنونة بالإيصال ، وما تقدّم من محذور عدم ترتّب الغرض المزبور على مجموع المقدّمات لخروج الإرادة عن دائرة الاختيار فهو مضافا إلى اندفاعه بما ذكر مشترك الورود بين الرأيين؟

قلت : إنّ منشأ انتزاع عنوان الموصليّة وحمله على المقدّمة إمّا أن يكون ثبوت خصوصيّة في المقدّمة بها يترتّب ذو المقدّمة ، كالسبب التوليديّ ، وكمجموع المقدّمات حتّى الإرادة بناء على تعلّق الأمر الغيريّ بها أيضا ، وكمجموع المقدّمات ما سوى الإرادة بناء على عدم تعلّقه بها على ما تقدّم آنفا من إمكان اتّصاف مجموع المقدّمات بصفة الإيصال عند تحقّق الإرادة ، فإنّ عنوان الإيصال في هذه الموارد إنّما ينتزع من ذات المقدّمة وإمّا أن يكون هو ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة.

وحيث إنّه لا يمكن المصير إلى الوجه الثاني ، لما يرد عليه من المحاذير المتقدّمة في صدر البحث ـ إلى أن قال ـ : يتعيّن اختيار الوجه الأوّل ، وهو يقتضي تعيّن كون الإيصال ظرفا للمقدّمة الواجبة لا قيدا.

وتقريب ذلك هو أنّ الغرض الداعي إلى إيجاب المقدّمات ـ أعني به التوصّل إلى وجود ذي المقدّمة ـ حيث إنّه لا يترتّب على كلّ مقدّمة بالاستقلال ، بل غاية ما يترتّب عليها حفظ وجوده من ناحيتها فقط ، فلا محيص في مقام تعلّق الوجوب الغيريّ الناشئ من هذا الغرض بكلّ مقدّمة من أحد أمور ثلاثة :

الأوّل : تقييد المقدّمة الواجبة بترتّب ذي المقدّمة عليها الملازم بوجود سائر المقدّمات.

الثاني : تقييدها بوجود سائر المقدّمات الملازم لترتّب ذي المقدّمة.

الثالث : تخصيص الوجوب بالحصّة الخاصّة من المقدّمة التوأم مع وجود سائر

٥٨٠