عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

المقدّمات ، بحيث يكون وجود سائر المقدّمات ظرفا للمقدّمة الواجبة لا قيدا.

وقد عرفت فساد الأمر الأوّل ، كما أنّ الأمر الثاني فاسد أيضا باستلزامه تقدّم وجود كلّ مقدّمة من مقدّمات الواجب على وجود نفسها لفرض أخذ وجود كلّ مقدّمة قيدا للمقدّمة الاخرى ، فيتعيّن الأمر الثالث ، وهو ما اخترناه من القضيّة الحيثيّة (١).

ولا يخفى عليك أنّه لا وجه لما ذهبا إليه بعد ما عرفت من عدم لزوم المحذورات من اعتبار الإيصال وتقييد المقدّمات به ، لأنّ المراد من الإيصال ليس هو اعتبار وجود المتأخّر في المتقدّم حتّى يلزم المحال من تجافي الموجود مرتبته ، بل المراد منه هو اعتبار بلوغ المقدّمة أو المقدّمات إلى حيث لا ينفكّ المترتّب عليه عنها من المقدّمة الاخرى أو ذي المقدّمة. ومن المعلوم أنّ المقدّمات البالغة إلى تلك الحيثيّة تكون بنفسها منشأ لانتزاع الإيصال ، ولا دخل لترتّب المقدّمة الاخرى أو ترتّب ذي المقدّمة في ذلك وإن كان ترتّب المترتّب ملازما لبلوغ المقدّمات إلى تلك الحيثيّة. وعليه فتقييد المقدّمات بالإيصال لا محذور فيه حتّى يضطرّ إلى العدول عنه. هذا مضافا إلى عدم خلوّ اعتبار حال الايصال عن المحذور أيضا.

بعد الاعتراف بأنّ الحيثيّة التعليليّة في الأحكام العقليّة ترجع إلى الحيثيّة التقيّديّة ، إذ لحاظ الإيصال ممّا له مدخليّة في وجوب المقدّمات بحكم العقل ، ودعوى أنّ الإيصال لا دخل له ، يساوق أن يكون الواجب هو مطلق المقدّمة ، وهو ممّا لا يلتزم به. وعلى فرض مدخليّة لحاظ الإيصال فالمقدّمة متّصفة ومتقيّدة بلحاظ الإيصال ولا تكون مطلقة ، كما لا يخفى.

ولذلك أورد عليهما سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بأنّ حال عدم انفكاك المقدّمات عن المطلوب إن لم تكن دخيلة في وجوب المقدّمة يكن تعلّق الوجوب بها في هذه الحالة

__________________

(١) بدائع الأفكار : ١ / ٣٨٩ ـ ٣٩٢.

٥٨١

من باب الاتّفاق لا الدخالة ، فلا يعقل رفع الوجوب عنها مع زوال تلك الحالة ولا توقّف تعلّقه عليها ، لأنّ تمام الموضوع للوجوب إذا كان ذات المقدّمة من غير دخالة شيء آخر ، فمع بقائها على ما هي عليه لا يمكن انفكاك الحكم عنها (١).

ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة

قال في الوقاية : وأمّا ما يترتّب على هذا الأصل ويمتاز فيه القولان فقد ذكر الإمامان (الجدّ والعمّ) عدّة أمور : أهمّها أمران :

أوّلهما ما سبقت الإشارة إليه من جواز المقدّمة المحرّمة للواجب الأهمّ مطلقا ترتّب عليه الواجب أم لا بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمة ، وتخصيصه بما يترتّب عليه بناء على تخصيص الوجوب بالموصلة.

وثانيهما : ما يأتي في المسألة الآتية إن شاء الله من تصحيح العبادة إذا كانت ضدّ الواجب (٢).

والأمر الأوّل واضح ؛ إذ لو قلنا بأنّ الواجب مطلق المقدّمة سواء كانت موصلة أو غير موصلة ، فإذا توقّف الواجب الأهمّ كإنقاذ الغريق على المقدّمة المحرّمة كالدخول في دار الغير من دون إذن كان الدخول مقدّمة للواجب الأهمّ ، ومقتضى الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة هو سقوط الحرمة عن الفعليّة وصار الدخول من دون قيد الإيصال جائزا.

وأمّا لو قلنا بأنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة ، ففي الفرض المذكور يختصّ جواز الدخول بما إذا كان موصلا إلى الواجب ، فهذا الفرق يكفي في الثمرة ولا كلام فيه.

وإنّما الكلام في الأمر الثاني فحاصله أنّه إذا كان ترك الصلاة في أوّل الوقت مقدّمة لواجب أهمّ ، كإزالة النجاسة عن المسجد مثلا ؛ فإن قلنا بوجوب مطلق المقدّمة فهذا

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٩٧.

(٢) الوقاية : / ٢٧٤.

٥٨٢

الترك كان واجبا بناء على أنّ ترك الضدّ من المقدّمات لا المقارنات ، فإذا كان الترك من دون قيد واجبا فبطبيعة الحال كان الفعل منهيّا عنه بناء على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ، وهذا النهي يوجب الفساد بناء على أنّ النهي الغيريّ كالنهي النفسيّ في الدلالة على الفساد ، ولم نقل بالترتّب. ولكن كلّ هذه البناءات محلّ إشكال أو منع كما قرّر في محلّه ، فالحكم بالبطلان في هذه الصورة ليس بواضح ، بل ممنوع.

وأمّا إن قلنا بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة ، فالصلاة في المثال المزبور لا تقع فاسدة ، إذ إنّ المقدّمة الواجبة بناء على هذا القول هي الترك الموصل لا مطلق الترك ، ونقيض الترك الموصل هو رفعه ، أي ترك هذا الترك الخاصّ ؛ والرفع المذكور ليس عين الصلاة في الخارج ، بل هو مقارن مع الفعل والترك المجرّد ، بل كان الفعل المطلق والترك غير الموصل نقيضين للترك الموصل لزم ـ كما أفاد المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره ـ أن يرتفع النقيضان لإمكان الترك غير الموصل مع ارتفاع الفعل المطلق والترك غير الموصل معا ، ولإمكان الفعل المطلق مع ارتفاع الترك الموصل والترك غير الموصل معا ، ومن المعلوم أنّ النقيضين لا يرتفعان. وهذا شاهد على أنّ النقيض للترك الموصل هو رفعه وهو مقارن مع الفعل أو الترك المجرّد. وعليه ، فإذا وجب الترك الموصل حرم رفعه ؛ والحرمة من الرفع المذكور لا تسري إلى مقارناته ، فلو عصى المكلّف بعدم إتيان الأهمّ وأتى بالصلاة كانت صلاته صحيحة.

وممّا ذكر يظهر ما في كلام الشيخ الأعظم ، حيث قال في ردّ الفرق المذكور : إنّ الفعل على كلا القولين ليس نقيضا للترك ، لأنّ نقيض كلّ شيء رفعه ، ونقيض الترك رفع الترك وهو غير الفعل ، غاية الأمر على القول بوجوب مطلق المقدّمة ينحصر مصداق النقيض في الفعل فحسب. وعلى القول بوجوب خصوص الموصلة فله فردان في الخارج : أحدهما الفعل والآخر الترك غير الموصل ، حيث إنّ نقيض الأخصّ أعمّ ،

٥٨٣

ومن الواضح أنّ حرمة النقيض كما تسري إلى فعل الصلاة على الأوّل كذلك تسري إليه على الثاني ، لفرض أنّ الفعل على كلا القولين ليس عين النقيض ، بل هو فرده ، وثبوت الحرمة له من باب السراية. وبديهي أنّه لا فرق في السراية بين انحصار فرده في الفعل وعدم انحصاره فيه أبدا ، فإذن تقع الصلاة على كلا القولين فاسدة ، فلا تظهر الثمرة بينهما ، انتهى.

وذلك لما عرفت من أنّ الفعل والترك المجرّد ليسا مصداقين لنقيض الترك الموصل للمحذور المذكور من لزوم ارتفاع النقيضين ، بل هما مقارنان للنقيض وهو رفع الترك الموصل.

اللهمّ إلّا أن يقال كما يستفاد من نهاية الدراية : إنّ نقيض كلّ شيء رفعه والمركّب لا وجود له إلّا وجود أجزائه والرفع بديل الوجود ، فذوات الأجزاء حيث إنّها متعدّدة الوجود فهي متعدّدة الرفع حقيقة ، والوحدة الاعتباريّة المصحّحة للتركّب والكلّيّة نقيضها رفعها بحسب ذلك النحو من الوجود الاعتباري لا بحسب نحو وجود الأجزاء خارجا ؛ فإذا فرض وجودان جمعهما وحدة اعتبارية فرفع ذين الوجودين عدمهما حقيقة ، إلّا أنّ عدم تلك الوحدة الاعتبارية بالذات والواحد بالاعتبار بالعرض تارة يساوق عدم الجزءين واخرى يساوق عدم أحد الجزءين ، وبهذا الاعتبار يقال رفع المجموع أعمّ ، ونقيض الأخصّ أعمّ.

وعليه فنقيض المجموع من الأمرين مجموع النقيضين ، فلا يتعدّد النقيضان للمقدّمة حتّى يلزم المحذور ؛ فإذا قلنا بأنّ المراد من المقدّمة الموصلة العلّة التامّة أو المقدّمة التي لا تنفكّ عن ذيها فهي مركّبة ، أمّا الأوّل فمن ترك الصلاة ووجود إرادة الإزالة ، وأمّا الثاني فمن الترك وتقيّده بخصوصيّة عدم الانفكاك.

وعليه ، ففي الأوّل نقيض الترك هو الفعل ونقيض الإرادة عدمها ؛ فإذا وجب مجموع الترك والإرادة بوجوب واحد حرم مجموع الفعل وعدم الإرادة بحرمة واحدة. ومن

٥٨٤

الواضح تحقّق مجموع الفعل وعدم الإرادة عند إيجاد الصلاة بداهة عدم إمكان إرادة الإزالة مع فعل الصلاة ، فلا يلزم من ذلك محذور ارتفاع النقيضين.

وفي الثاني نقيض الترك المرفوع به هو الفعل ونقيض خصوصيّة عدمها الرافع لها ، فيكون الفعل محرّما لوجوب نقيضه. ومن الواضح أنّ الفعل مقترن أيضا بنقيض تلك الخصوصيّة المأخوذة في طرف الترك ، فلا يلزم أيضا محذور ارتفاع النقيضين (١).

أورد عليه سيّدنا الامام المجاهد قدس‌سره بأنّ فيه ـ بعد الغضّ عمّا مرّ من الاشكال في كون الواجب هو العلّة التامّة أو المقدّمة الفعليّة غير المنفكّة ـ إنّ العلّة التامّة إذا كانت متعلّقة للإرادة الواحدة فلا محالة تكون ملحوظة في مقام الموضوعيّة بنعت الوحدة ، وإلّا فالمتكثّر بما هو كذلك لا يمكن أن تتعلّق به إرادة واحدة لأنّ تشخّص الإرادة بالمراد وتكثّرها تابع لتكثّره ؛ فالموضوع للحكم إذا كان واحدا يكون نقيضه رفعه ، وهو رفع الواحد الاعتباريّ في المقام لا فعل الصلاة وعدم الإرادة ، ضرورة أنّ نقيض كلّ شيء رفعه أو كونه مرفوعا به ، والصلاة لم تكن رفع هذا الواحد الاعتباري ولا مرفوعة به. أمّا عدم كونها رفعا فواضح ، وأمّا عدم كونها مرفوعة به فلأنّه أمر وجوديّ لا يمكن أن يكون رفعا ، فرفعه عدمه المنطبق على الصلاة عرضيّا وعلى الترك المجرّد.

وكذا الحال في المقدّمة الخاصّة ، أي الترك غير المنفكّ ، فإنّه في مقام الموضوعيّة للإرادة الواحدة غير متكثّر وعدم هذا الواحد نقيضه ، والمفردات في مقام الموضوعيّة غير ملحوظة حتّى تلاحظ نقائضها.

نعم ، مع قطع النظر عن الوحدة الاعتباريّة العارضة للموضوع يكون نقيض الترك هو الفعل ونقيض الخصوصيّة عدمها ، ولم يكن للخاصّ بما هو وجود حتّى يكون له رفع ،

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٦٠ مع تغييرها.

٥٨٥

وكذا المجموع في الفرض الأوّل ، فالخلط إنّما هو من أجل إهمال الحيثيّات والوحدة الاعتباريّة اللّاحقة لموضوع الحكم الذي هو محطّ البحث (١).

وعليه ، فلا مجال لما ذهب إليه الشيخ للزوم ارتفاع النقيضين لو كان الفعل والترك المجرّد مصداقين لنقيض الترك الموصل.

هذا مضافا إلى ما أفاده سيّدنا الإمام قدس‌سره في ردّ الشيخ أيضا من أنّ رفع الترك الخاصّ لا يمكن انطباقه على الفعل ذاتا للزوم كون الحيثيّة الوجوديّة عين الحيثيّة العدميّة ؛ وعليه فلا يكون الفعل مصداقا ذاتيّا له ، والانطباق العرضيّ لا يوجب سراية الحرمة ، وعليه فتقع صحيحة. هذا بخلاف ترك الصلاة بناء على وجوب مطلق المقدّمة فإنّ نقيضه هو فعل الصلاة لأنّ النقيضين هما المتقابلان إيجابا وسلبا ، والفعل ـ أعني الصلاة ـ عين النقيض في الترك المطلق ، فعليه فحرمة النقيض حكم نفس الفعل وهو يوجب الفساد (٢).

ويمكن أن يقال : إنّ رفع الترك الخاصّ لا يخلو عن حيثيّة الإثبات والوجود ، لأنّ سلب السلب إثبات ، فلا محذور في انطباقه على الفعل ذاتا ، فمع قطع النظر عن محذور لزوم ارتفاع النقيضين ليس هذا اشكالا آخر ولا مانع من سراية الحكم من الرفع إلى الفعل ذاتا ، هذا مضافا إلى أنّ جعل النقيض لترك الصلاة عين فعل الصلاة ولترك الصلاة الموصل مفهوم الرفع تفصيل بلا وجه ، فإنّ نقيض كلّ شيء رفعه لا يختصّ بمورد دون مورد ، ودعوى أنّ التقابل بين ترك الصلاة وبين فعل الصلاة بالإيجاب والسلب دون ترك الصلاة ورفع ترك الصلاة مندفعة بما مرّ من أنّ رفع الترك هو سلب السلب ، وهو يرجع إلى حيثيّة الإثبات ، فيكون التقابل بين ترك الصلاة وبين رفع ترك الصلاة أيضا بالإيجاب والسلب ، فلا وجه للتفرقة ، كما لا يخفى.

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٤٠٤ و ٤٠٥.

(٢) مناهج الوصول : ١ / ٤٠٢ و ٤٠٣.

٥٨٦

وأيضا لا يرد على جعل الرفع نقيضا لترك الصلاة أنّه يستلزم التسلسل في الأعدام من دون نهاية إلى الإثبات ، لأنّ نقيض الترك عدم الترك ونقيض عدم الترك عدم عدم الترك وهكذا إلى ما لا نهاية له ؛ فيلزم أن لا يكون الوجود نقيضا للعدم ، وهو كما ترى (١).

لما عرفت من أنّ عدم ترك الصلاة سلب السلب وهو يفيد الإثبات والوجود مفهوما فيناقض مع الترك الذي هو عدم ، فلا يلزم من جعل نقيض كلّ شيء رفعه استلزام الأعدام من دون انتهائه إلى الإثبات.

وعليه فنقيض ترك الصلاة سواء قلنا بوجوب مطلق المقدّمة أو الموصلة هو رفع الترك ، كما يظهر ذلك أيضا من صاحب الكفاية في المقام دون مبحث الضدّ كما حكى عنه في المحاضرات ، وكيف كان ، فانحصر الإشكال على ما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره في أنّ النقيض في المقدّمة الموصلة هو الرفع ولا يسرى إلى الخارج لمحذور ارتفاع النقيضين ، بخلاف ما إذا قلنا بوجوب مطلق المقدّمة فإنّه لا مانع من سراية الحكم من النقيض وهو الرفع إلى الفعل ، فمقتضى الفرق المذكور هو القول بالفساد في ما إذا قلنا بوجوب مطلق المقدّمة دون ما إذا قلنا بالمقدّمة الموصلة. وكفى هذا للثمرة بين القول بوجوب مطلق المقدّمة والقول بالمقدّمة الموصلة ، ولكن عرفت أنّ سراية الحرمة من الرفع إلى الفعل مبنيّ على البناءات الفاسدة. وعليه فلا تسري الحرمة من الرفع إلى الفعل بناء على وجوب مطلق المقدّمة وفرض صحّة البناءات إتلاف الوقت. هذا مع كفاية الثمرة الاولى التي أشار اليها في الوقاية في الفرق ، فلا وجه للإطالة.

تذنيب

ولا يخفى عليك أنّ الثمرة في المسألة الاصوليّة هي الاكتشاف بها الحكم

__________________

(١) المحاضرات : ٢ / ٤٢٦.

٥٨٧

الكلّيّ الفقهيّ ، وذلك بأن يجعل المسألة الاصوليّة صغرى ، كأن يقال ـ كما في نهاية الدراية ـ كلّ مقدّمة يستلزم وجوب ذيها وجوبها ، وكلّ ما كان كذلك فهو واجب شرعا ، فيستنتج منه أنّ كلّ مقدّمة واجب شرعا (١).

وعليه ، فالبحث عن الملازمة مسألة اصوليّة ، فإنّه يكتشف بها الحكم الكلّيّ الفقهيّ ، وهو أنّ كلّ مقدّمة واجب شرعا ، وهو حكم فقهيّ متوقّف على المسألة الاصوليّة ، وأمّا جعل شيء كالوضوء مثلا مقدّمة وجعل المسألة الاصوليّة كبرى ، ويقال مثلا كلّ مقدّمة يستلزم وجوب ذيها وجوبها ينتج أنّ الوضوء يستلزم وجوب ذيه وجوبه ، ففيه كما أفاد المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره تطبيق النتيجة الكلّيّة الاصوليّة على مصاديقها لا أنّه منتج لوجوب المقدّمة لتكون نتيجة القياس حكما كلّيّا فقهيّا.

كما أنّ جعل الوضوء مقدّمة والحكم على كلّ مقدّمة بالوجوب ينتج أنّ الوضوء واجب وهو تطبيق الحكم الكلّيّ الفقهيّ على مصاديقه ، وهو يتوقّف على الفراغ عن وجوب كلّ مقدّمة حتّى يصحّ القياس المزبور ، وهو ـ أعني وجوب كلّ مقدّمة ـ مستفاد من المسألة الاصوليّة وهي ثبوت الملازمة.

فاستكشاف الحكم الشرعيّ الكلّيّ من المسألة الاصوليّة يتوقّف على جعل المسألة الاصوليّة صغرى للقياس ، خلافا لما مرّ مرارا من جعل المسألة الاصوليّة كبرى للقياس ، فإنّه ـ كما عرفت ـ ينتج تطبيق المسألة الاصوليّة على مواردها لا كشف الحكم الكلّيّ الفقهيّ ، فلا تغفل.

وممّا ذكر يظهر أنّ جعل مثل وفاء النذر بإتيان مقدّمته واجبا عند نذر الواجب أو حصول الفسق بترك واجب واحد بمقدّماته إذا كانت له مقدّمات عديدة من جهة صدق الإصرار على الحرام بسبب تعدّد المعصية ، أو عدم جواز أخذ الاجرة على

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٦٧.

٥٨٨

المقدّمة لكونها واجبة ، وغير ذلك ، كلّها من باب تطبيق الحكم الفقهيّ على مصاديقه ، لا استكشاف الحكم الفقهيّ الكلّيّ من المسألة الاصوليّة ، وإن توقّف وجود الحكم الفقهيّ على المسألة الاصوليّة.

وتقريب التطبيق المذكور بأن يقال : هذا الشيء الذي تعلّق به النذر مقدّمة للواجب ، وكلّ مقدّمة واجب ؛ فالذي تعلّق به النذر واجب. فهذا التطبيق تطبيق الحكم الكلّيّ الفقهيّ وهو كلّ مقدّمة واجب على مصاديقه ، وليس هذا القياس كاشفا للحكم الكلّيّ الفقهيّ من المسألة الاصوليّة ، فلا وجه لجعل أمثاله ونظائره نتيجة للمسألة الاصوليّة ، فلا تغفل. نعم ، هذه الأمور لو صحّت لكانت ثمرة ، لكون المقدّمة واجبة شرعا.

هذا مع الغمض عمّا في بعض الأمثلة المذكورة ، فإنّه لا وقع لجعل صدق الإصرار ثمرة المسألة ، مع أنّ الوجوب الغيريّ لا إطاعة ولا عصيان له في عرض الوجوب النفسيّ ، وليس له الباعثيّة وراء باعثيّة وجوب ذي المقدّمة. وعليه فلا تتعدّد المعصية بتعدّد المقدّمات حتّى يصدق الإصرار على المعصية. وهكذا ليس اخذ الاجرة على الواجبات التوصّليّة محرّما ، بل الواجبات التعبّديّة إذا كان الأخذ على إتيانها بداعي امتثالها لا على نفس الإتيان بها حتّى ينافي عباديّتها ، بل يكون من قبيل الداعي إلى الداعي ، اللهمّ إلّا أن يقال كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد بأنّ الداعي إلى الداعي ربّما يكون محرّما كالزنا وشرب الخمر ونحوهما ، كما إذا قال شخص لغيره لو صلّيت ركعتين فأنا أسقيك الخمر ، فلا إشكال في عدم كون الركعتين عبادة عند العرف ، إذ ليس محرّكه إلّا فعلا محرّما ، مع أنّ العبادة هي التي يكون محرّكها هو التقرّب إليه تعالى فقط.

ولا يقاس ذلك بالصلاة الاستيجاريّة لأنّ الأجير بعد المعاملة يحصل له التقرّب إليه تعالى ، إذ لا يحرّكه نحو الصلاة في غياب المستأجر إلّا الخوف منه تعالى ، وهو كاف في صدق العبادة ، فإنّه لم يأت بها إلّا خوفا من الله تعالى ، إذ مع عدم الإتيان بالعبادة في

٥٨٩

غياب المستأجر لا يستحقّ المال شرعا ويكون تصرّفه في المال المأخوذ أكلا للمال بالباطل ، وهو معاقب عليه. فهو أتى بالعبادة لله تعالى حتّى يستحقّ المال شرعا ولا يعاقب ويصير المال المأخوذ حلالا له.

فالعمل القربيّ للاستحقاق الشرعيّ كالعمل القربيّ للنيل إلى الحوائج الأخروية ، بل الدنيويّة في عدم منافاته مع عباديّتها.

وهذا لا يأتي في أخذ الاجرة على عبادات نفسه فإنّها واجبة على نفسها وليس عملا للغير حتّى أتى بها مع التقرّب للاستحقاق الشرعيّ ، فالإتيان بها لأخذ الاجرة ينافي العباديّة والإخلاص فيها عرفا انتهى ما أفاده مع توضيح ما عنّى.

نعم ، لو أعطى شيئا لمن لم يكن له داع قويّ نحو العبادة حتّى يحصل له بذلك قوّة الداعي ويأتي بالعبادة لله تعالى ، صار الإعطاء داعيا إلى الداعي ويصحّ عمله ، لأنّ الأخذ صار مقدّمة للعبادة لا أنّ العبادة صارت مقدّمة للأخذ ، ولعلّ كثيرا ما يقع مثل هذا للأطفال الذين يقرّبون الحلم لأن يعتادوا بالعبادة ويميلوا إليها.

هذا مضافا إلى جريان الوجوه الأخر في العبادات الاستيجاريّة دون المقام ، كما ذهب السيّد الحكيم قدس‌سره إلى أنّ فعل العبادة بداعي غير الله سبحانه إنّما يمتنع من مقرّبيّتها للفاعل نفسه ، فإن كان فعله لنفسه بطلت العبادة ، لأنّه يعتبر في جميع العبادات أن تقع على وجه مقرّب للفاعل ، أمّا إذا كان فعله لغيره متقرّبا عنه فلا موجب لبطلانها بالإضافة إلى غيره (١).

وكما ذهب السيّد الخوئيّ قدس‌سره إلى أنّ النيابة إنّما وقعت متعلّقا للأمر الاستحبابيّ النفسيّ ، كما هو مقتضى النصوص ، ولا ينبغي الشكّ في كون الأمر المذكور عباديّا فيما إذا كان مورد النيابة من العبادات كالصلاة والصيام ونحوهما.

__________________

(١) المستمسك : ٧ / ٨٩.

٥٩٠

كما أنّه لا بدّ من قصد التقرّب بالأمر المذكور في سقوطه ، وإلّا لم تتحقّق العبادة ، وبالتالي لم تتحقّق النيابة المأمور بها حسب الفرض ؛ فعباديّة العمل النيابيّ تستدعي تعبّديّة الأمر المتعلّق به بعنوان النيابة لا محالة ، فلا مناص للنائب من قصد التقرّب بهذا الأمر لكي يتّصف متعلّقه بصفة العبادة التي هي مورد النيابة ، فإنّه بدونه لم تصدر منه العبادة التي تصدّى للنيابة فيها ، فما في بعض الكلمات ، من أنّ الأمر النيابيّ توصّليّ لا تعبّديّ فلا يلزم على النائب قصد التقرّب به ، كلام لا أساس له.

وكيف لا يكون عباديّا بعد فرض تعلّقه بما هو عبادة ضرورة أنّ مورد النيابة ليس هو ذات الصلاة كيفما اتّفقت وإنّما هي على النحو الذي اشتغلت به ذمّة المنوب عنه ، ولا شكّ في اتّصاف ذمّة المنوب عنه بالصلاة المتّصفة بكونها عبادة المتقوّمة بقصد القربة ، فلو لم يقصدها النائب كذلك لم يكن آتيا بما اشتغلت الذمّة به ولا كان ممتثلا للأمر النيابيّ (١).

وكيف كان ، فلا يقاس المقام بالعبادات الاستيجاريّة ، فلا وجه لتصحيح أخذ الأجرة على الواجبات العباديّة من باب الداعي إلى الداعي ، ومعه فأخذ الاجرة عليها محرّم فلا يرد على المثال المذكور إلّا ما عرفت من أنّ تطبيق وجوب المقدّمة على أخذ الاجرة والحكم بالحرمة من باب تطبيق الحكم الفقهيّ على مصاديقه ، لا من باب استكشاف الحكم الكلّيّ الفقهيّ من المسألة الاصوليّة.

وممّا ذكر إلى الآن يظهر أنّ مسألة الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة مسألة أصوليّة لوقوعها في القياس المنتج الحكم الفقهيّ الكلّيّ ، وهو أنّ المقدّمة واجبة شرعا لا للثمرات المذكورة ، لا يقال : لا ثمرة عمليّة لإثبات الوجوب للمقدّمة شرعا لأن الوجوب المقدّميّ (على فرضه) وعدمه سواء ، لأنّه وجوب غير قابل للباعثيّة

__________________

(١) مستند العروة : ٥ / ٢٥٠.

٥٩١

ولا يترتّب عليه ثواب وعقاب ، ولزوم الإتيان بالمقدّمة عقليّ كانت واجبة أو لم تكن (١).

وفيه أنّ الوجوب المقدّميّ ليس له باعثيّة مستقلّة ، وأمّا الباعثيّة الغيريّة فهي لها موجودة بضرورة الوجدان على أنّ قوله ادخل السوق واشتر اللّحم بعث نحو الخروج إلى السوق. وعليه ، فلا وجه لإنكار الثمرة العمليّة لإمكان تحقّق التقرّب بقصد أمرها ، كما يمكن التقرّب بقصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة المأمور به فيتّسع بذلك منطقة التقرّب بها ، وذلك لأنّ الأمر الغيريّ بناء على ثبوت الملازمة أمر شرعيّ وقصد امتثاله تقرّب إلى المولى ، كما أفاده المحقّق العراقيّ (٢).

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المكلّف إن كان مريدا لإتيان ذي المقدّمة ويكون أمره باعثا له فلا محالة تتعلّق إرادته بمقدّماته ، فيكون البعث التبعيّ غير صالح للباعثيّة ، وإن لم يكن مريدا لإتيان ذي المقدّمة فلا يمكن أن يكون أمر المقدّمة الداعي إلى التوصّل به باعثا ، ومع عدم الباعثيّة لا يمكن التقرّب به (٣).

يمكن أن يقال : إنّ البعث الشرعيّ نحو ما يريده بحكم عقله غير مناف ، بل مؤكّد وإن لم يرده ؛ فالبعث المقدّميّ كالبعث إلى نفس ذي المقدّمة ، فكما أنّه ليس لغوا كذلك البعث المقدّمي ، وكما لا يضرّ عدم الانبعاث الفعليّ في الأمر بذي المقدّمة كذلك في الأمر الغيريّ لكفاية صلاحيّة البعث على نحو الضرب القانونيّ ، ولا يلزم البعث الفعليّ في كليهما ، فلا تغفل.

تأسيس الأصل

ولا يخفى عليك أنّه لا أصل بالنسبة إلى الملازمة لعدم وجود حالة سابقة

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٤٠٨.

(٢) راجع بدائع الأفكار : ١ / ٣٩٧.

(٣) راجع مناهج الوصول : ١ / ٤٠٩.

٥٩٢

معلومة لوجودها أو عدمها حتّى يجري عند الشكّ في بقائها الاستصحاب ، لأنّها إمّا ثابتة أزلا أو معدومة أزلا.

فالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة إمّا تكون أزلا أو لا تكون كذلك ، من دون توقّف على فعليّة الوجوب النفسيّ لذي المقدّمة ، فإنّ القضيّة الشرطيّة صادقة وإن لم يكن طرفاها موجودين بالفعل ، بل وإن كانا ممتنعين ، كقولنا : لو كان شريك الباري موجودا لكان العالم فاسدا ؛ فالملازمة بين الوجوبين على تقدير ثبوتها وعدمها على تقدير عدم ثبوتها كاستحالة اجتماع النقيضين أو اجتماع الضدّين وما شاكلهما من الأمور الأزليّة التي لم تكن محدودة بالحدّ الخاصّ لا زمانا ولا مكانا. فإن كان الملازمة موجودة فكلّما رجعت إلى السابق كانت كذلك ولا تصل إلى زمان لم تكن الملازمة فيه حتّى تكون حالة سابقة لها ، وإن لم تكن الملازمة موجودة كان الأمر أيضا كذلك. هذا مضافا إلى أنّ الملازمة نفسها ليست حكما شرعيّا ولا موضوعا ذا أثر شرعيّ حتّى يجري فيها الاستصحاب.

وهكذا لا تجري فيها البراءة لعدم كونها حكما شرعيّا حتّى يمكن أن تجري فيها البراءة.

هذا كلّه بالنسبة إلى جريان الأصل بالنسبة إلى المسألة الاصوليّة وهي الملازمة ، وأمّا جريان الأصل الحكميّ ـ أعني جريان الاستصحاب ـ في نفس وجوب المقدّمة فقد ذهب في الكفاية إلى جريان الاستصحاب فيه لكونه مسبوقا بالعدم ، إذ قبل تعلّق الوجوب بذي المقدّمة لم تكن المقدّمة واجبة ، حيث إنّ وجوب المقدّمة يكون حادثا بحدوث وجوب ذيها ، فحينئذ إن شكّ في وجوب المقدّمة من جهة الشكّ في وجود الملازمة فمقتضى الاستصحاب عدم وجوب المقدّمة.

اورد عليه بأنّ وجوب المقدّمة على تقدير الملازمة من قبيل لوازم الماهيّات التي ليست مجعولة ، فكما أنّ الزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة ليست مجعولة بالذات لا بالجعل

٥٩٣

البسيط الذي هو مفاد كان التامّ ولا بالجعل التأليفيّ الذي هو مفاد الناقص ، بل هي مجعولة بجعل الأربعة ، كذلك وجوب المقدّمة لا يكون مجعولا بالجعل البسيط ولا بالجعل التأليفيّ.

ولا أثر آخر مجعول شرعيّ مترتّب على وجوب المقدّمة حتّى يجري الاستصحاب فيه باعتبار أثره الشرعيّ ، ولو كان له أثر كبّر النذر ، فليس بمهمّ وقابل للاعتناء ، فلا مجال للاستصحاب في نفس الوجوب لعدم كونه مجعولا ولا أثر آخر مجعول شرعيّ مهم مترتّب عليه.

أجاب عنه صاحب الكفاية بأنّ وجوب المقدّمة مجعول بالعرض وبتبع وجوب ذي المقدّمة ، وهو كاف في جريان الأصل.

أورد عليه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره بما حاصله أنّ ظاهر كلامه تسليم كون المورد من قبيل لوازم الماهيّة إلّا أنّ حاله حالها في عدم قبول الجعل استقلالا وبالذات (سواء كان بسيطا أو تأليفيّا) وقبول الجعل بالعرض ، وهو كاف في جريان الأصل.

والتحقيق كونه من قبيل لوازم الوجود لا لوازم الماهيّة ، إذ ليست إرادة المقدّمة بالنسبة إلى إرادة ذيها كالزوجيّة بالإضافة إلى الأربعة ، وإلّا فنفس وجوب ذي المقدّمة كاف في وجود وجوب المقدّمة ، إذ لا وجود للازم الماهيّة غير وجودها ، فيكفي جعل للواحد المتعلّق بذي المقدّمة لنسبته إلى ذي المقدّمة ذاتا وإلى المقدّمة عرضا مع أنّ إرادة المقدّمة بحسب الوجود غير إرادة ذيها ، لا أنّ إرادة واحدة متعلّقة بذيها بالذات وبالمقدّمة بالعرض ، ومع تعدّد الوجود بحسب تعدّد الجعل فلا يعقل كون الوجوب المقدّمي بالإضافة إلى الوجوب النفسيّ من قبيل لوازم الماهيّة التي لا اثنينيّة لها مع الماهيّة وجودا وجعلا (١).

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٧٢.

٥٩٤

فالأولى هو أن يقال : إنّ المقام ليس من قبيل لوازم الماهيّة لتعدّد وجود وجوب المقدّمة ووجوب ذيها.

هذا مضافا إلى أنّ الجعل العرضيّ ليس شيئا منحازا حتّى يجري فيه الأصل.

ولو سلّم أنّ وجوب المقدّمة من قبيل اللّوازم فلا نسلّم عدم ترتّب أثر شرعيّ مجعول عليه ، لما مرّ من صحّة بعض الآثار كقصد القربة بوجوب الأمر المقدّمي الشرعيّ ، فباعتبار كونه ذا أثر شرعيّ يجري فيه الاستصحاب.

لا يقال : جريان الاستصحاب في نفس وجوب المقدّمة مع الشكّ في وجود الملازمة وعدمها ينافي الملازمة إن كانت ويستلزم التفكيك بين المتلازمين لكون وجوب المقدّمة من قبيل لوازم الماهيّة أو من قبيل لوازم الوجود ، والتفكيك بين المتلازمين محال ، ومع الاستحالة لا مجال لإطلاق أدلّة الاستصحاب ، فاللّازم هو إحراز الإمكان في مورد الجريان ، وهو غير محرز لاحتمال وجود الملازمة ، فيلزم من جريان الأصل في وجوب المقدّمة التفكيك بين المتلازمين إن كانت الملازمة بينهما ، وهو محال.

أجاب عنه في الكفاية بأنّ الملازمة إن كانت بين الوجوبين الواقعيّين فلا منافاة ، لأنّ غايته هو تخالف الحكم الظاهريّ مع الحكم الواقعيّ ، وكم له من نظير ، وإن كانت بين الوجوبين الفعليّين أو كانت الملازمة مطلقة حتّى في المرتبة الفعليّة لما صحّ التمسّك بأصالة عدم وجوب المقدّمة مع وجوب ذي المقدّمة لاحتمال الملازمة ، ومعه يلزم التفكيك بين المتلازمين.

وفيه كما أفاد المحقّق الأصفهانيّ : أنّ الدعوى في خصوص مرتبة الفعليّة ، فإنّ الوجدان والبرهان ليس إلّا على استلزام إرادة ذي المقدّمة لإرادة المقدّمة وعلى استلزام البعث الحقيقيّ نحوه للبعث الحقيقيّ نحوها بلا نظر إلى مرتبة الإنشاء بما هي إنشاء بداهة عدم الوجدان والبرهان في مثلها ؛ فالجواب حينئذ ما ذكرناه مع أمثال المقام أنّ إحراز الإمكان في موارد العمل غير لازم ، بل إحراز الاستحالة مانع ، وإلّا فالدليل الظاهر في

٥٩٥

شمول المورد حجّة على التعبّد به ما لم تقم حجّة على خلافها ، واحتمال الاستحالة غير حجّة ، فلا يمنع عن تصديق الحجّة ، فتدبّر جيّدا (١).

وعليه ، فالملازمة سواء كانت بين الواقعيّين أو بين الفعليّين لا تمنع عن جريان الأصل عند الشكّ فيها لأن إطلاق أدلّة الاستصحاب حجّة ما لم يحرز المانع ، وهي الملازمة ، فتحصّل إلى مقتضى الأصل في المسألة هو أنّه لا أصل في نفس الملازمة لو شكّ فيها ، ولكنّ الأصل الحكميّ ـ أعني أصالة عدم وجوب المقدّمة عند وجوب ذيها ـ جارية. أدلّة وجود الملازمة

منها شهادة الوجدان ، ذهب شيخنا الأعظم قدس‌سره إلى شهادة الوجدان على وجود الملازمة بين طلب ذي المقدّمة وطلب المقدّمة ، وتبعه صاحب الوقاية والدرر والمحقّق العراقيّ وصاحب الكفاية (٢).

والمحصّل من تقريباتهم أنّ من راجع وجدانه وأنصف من نفسه يقطع بثبوت الملازمة بين الطلب المتعلّق بالفعل والمتعلّق بمقدّماته ، وليس المراد تعلّق الطلب الفعليّ بها ؛ كيف والبداهة قاضية بعدمه لجواز غفلة الطالب عن المقدّمة. نعم في مثل الشارع الذي لا يغفل يصحّ دعوى ذلك ، ولكنّ النزاع ليس منحصرا في الطلب الصادر من الشارع ، فالمدّعي أنّ المولى إذا التفت إلى مقدّمات مطلوبة لكان طالبا لها وهو كاف في ترتّب جميع آثار الأمر الفعليّ حتّى لزوم الامتثال ، ولذا لو غرق ولد المولى وهو لا يعلم أو لا يعلم أنّ الغريق ولده فالطلب الفعليّ وإن لم يكن متحقّقا لتوقّفه على الالتفات المفروض عدمه ، لكن حيث إنّ المعلوم من حاله أنّه لو التفت إلى ذلك لكان طالبا لإنقاذه يكفي في ترتّب آثار الأمر الفعليّ ، بحيث لو لم ينقذ العبد ابن المولى في المثال المذكور عدّ عاصيا ويستحقّ العقاب. فكما أنّ التقرير المذكور كاف في الواجبات

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٧٤.

(٢) راجع الوقاية : / ٢٤٩ ـ الدرر : / ١٢٥ ـ بدائع الأفكار : ١ / ٣٩٩ ـ الكفاية : ١ / ٢٠٠.

٥٩٦

النفسيّة كذلك يكون كافيا في الواجبات الغيريّة.

وبعبارة اخرى أنّ الفاعل لفعل إذا رأى توقّفه على شيء أراده وأتى به ليتمكّن من الفعل الذي يكون مطلوبه ، وإذا كان طالبا لفعل الغير لكان بالنسبة إلى مقدّماته أيضا طالبا ولو لم يكن طلبه فعليّا بعدم التفاته إلى ذلك بجهة من الجهات.

وبتقدير آخر أنّ الإرادة التشريعيّة تابعة للإرادة التكوينيّة إمكانا وامتناعا ووجودا وعدما ؛ فكلّ ما أمكن تعلّق الإرادة التكوينيّة به أمكن تعلّق التشريعيّة به ، وكلّ ما استحال تعلّق التكوينيّة به استحال أن يكون متعلّقا للتشريعيّة ؛ وهكذا كلّ ما يكون موردا للإرادة التكوينيّة عند تحقّقه من نفس المريد يكون موردا للتشريعيّة عند صدوره من غير المريد. ومن الواضح أنّ المريد لفعل بالإرادة التكوينيّة تتعلّق إرادته أيضا بالتبع بإيجاد مقدّماته وإن كان غافلا عن مقدّميّتها لذلك الفعل ، بمعنى أنّه لو التفت إلى توقّفه عليها في مقام وجوده لأرادها ، ولازم ذلك بمقتضى التبعيّة المتقدّمة أن يكون تعلّق الإرادة التشريعيّة من الأمر بفعل مستلزما لتعلّق الإرادة التشريعيّة التبعيّة بمقدّمات ذلك الفعل (١).

يرد على التقريب الثاني أنّ المولويّة والإرشاديّة من شئون الأمر لا من شئون الإرادة أيضا ، حيث لا يعقل أن تكون الإرادة لجعل الداعي. نعم ، يشهد وجدان الإرادة التشريعيّة ـ أي إرادة المقدّمة من الغير عند إرادة ذيها ـ على كون الأمر المتعلّق بها تبعا للإرادة التشريعيّة أمرا ، مولويّا إذ ـ كما أفاد المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره ـ لا إرادة تشريعيّة في المقدّمة بناء على الإرشاديّة إذ لا شأن للناصح والمرشد إلّا إظهار النصح والإرشاد إلى ما في نفس الشيء من الصلاح والفساد. وهذا لا يقتضي إرادة المرشد لذات المأمور به ، قلنا وإرادة الإرشاد تكوينيّة لا تشريعيّة (٢).

__________________

(١) بدائع الافكار : ١ / ٣٩٩.

(٢) نهاية الدراية : ١ / ٣٧٤.

٥٩٧

فإرادة وجود المقدّمات من الغير ولو كانت تقديريّة ممّا يشهد عليها الوجدان ، وهي حيث تعلّقت بذات المقدّمات تدلّ على أنّها تشريعيّة لا إرشاديّة ، إذ لا شأن للإرشاديّة إلّا إظهار النصح والإرشاد إلى ما يترتّب على المقدّمات من الصلاح وهو النيل إلى ذي المقدّمة ، والفساد وهو عدم النيل بترك المقدّمة ؛ والمفروض في المقام إرادة ذات المقدّمات ولو بتبع ذيها.

أورد على الاستدلال المذكور في نهاية النهاية بأنّ الوجدان حاكم بأنّ المولى بما هو مولى لا يريد سوى ما هو مطلوبه الأوّليّ الذاتيّ وأمّا مطلوبه الثانويّ العرضيّ فذلك مطلوبه بما أنّه أحد العقلاء وبتلك الجهة التي يشاركه فيها عبده وسائر العقلاء ، فيكون أمره بالمقدّمات وطلبه لها إرشاديّا محضا ، ولذا ربّما ينفي إرادة غير ذي المقدّمة ويصرّح بأنّي لا اريد منك إلّا الكون على السطح ، وأمّا ما عداه فالإتيان به وعدمه على حدّ سواء (١).

وفيه أنّ نفي الإرادة لا يصحّ إلّا إذا كان المقصود منه نفي الإرادة الذاتيّة ، وإلّا فمع الالتفات بأنّ المطلوب الأوّليّ الذاتيّ لا يمكن الإتيان به إلّا من طريق الإتيان بمقدّماته نمنع نفي الإرادة التبعيّة ، بل يشهد الوجدان على وجودها فيما إذا رأى أنّ التأخير في المقدّمات يوجب تفويت المطلوب الأوّليّ ، فإنّه نادى بأعلى صوت بالأمر بالإتيان بالمقدّمات مع التأكيدات المكرّرة حتّى لا يفوت المطلوب الأوّليّ ولا يكتفى بمجرّد إظهار النصح والإرشاد إلى ما في نفس الشيء من الصلاح والفساد ، بل يريد من الغير تشريعا أن يأتي بالمقدّمة ، وهذا هو الشاهد على أنّ الأمر المتعلّق بالمقدّمة مولويّ لا إرشاديّ كأحد من العقلاء ، وإلّا لا كتفى بمجرّد إظهار النصح والإرشاد. ودعوى أنّ المولى يكون بالنسبة إلى إتيان المقدّمات وعدمها على

__________________

(١) نهاية النهاية : ١ / ١٨٢.

٥٩٨

حدّ سواء كما ترى ، ويكذبها الوجدان.

وممّا ذكر يظهر ما في نهاية الاصول حيث قال : إنّ الوجدان من أقوى الشواهد على عدمه بداهة أنّه بعد مراجعة الوجدان لا نرى فيما ذكرت من المثال إلّا بعثا واحدا ، ولو سئل المولى بعد ما أمر بشيء له مقدّمات هل لك في هذا الموضوع أمر واحد أو أوامر متعدّدة؟ فهل تراه يقول أنّ لي أوامر متعدّدة؟ لا ، بل يجيب بأنّ لي بعثا واحدا وطلبا فاردا متعلّقا بالفعل المطلوب.

نعم ، لا ننكر أنّ العقل يحكم بوجوب إتيان المقدّمات حفظا لغرض المولى وتمكّنا من إتيانه ، ولكن أين هذا من الوجوب الشرعيّ والطلب المولويّ! وبالجملة ، الوجدان أقوى الشواهد على عدم تعدّد البعث من قبل المولى بتعدّد المقدّمات. ولذا لو التزم المولى بأن يعطي بإزاء كلّ أمر امتثله العبد دينارا فامتثل العبد أمرا صادرا عنه متعلّقا بفعل له ألف مقدّمة ـ مثلا ـ فهل ترى للعبد أن يطالب المولى بأكثر من دينار واحد؟ وليس ذلك إلّا لعدم وجود البعث بالنسبة إلى المقدّمات ، بل الموجود بعث واحد متعلّق بالفعل المطلوب حتّى في صورة جعل المقدّمة في قالب الطلب أيضا ، لما عرفت من أنّ البعث نحو المقدّمة بما هي مقدّمة عين البعث نحو ذيها بالنظر الدقيق (١).

وذلك لما قرّرناه من شهادة الوجدان على وجود الإرادة التشريعيّة إذا التفت المولى إلى المقدّمات مطلوبة وعدم كونه بلا تفاوت بالنسبة إلى الإتيان وعدمه.

وقوله : «لو سئل المولى بعد ما أمر» إلخ ، لا يفيد ؛ لأنّه إن أراد به أنّ الآمر نفى الأمر النفسيّ بالمقدّمات فهو كذلك ولا يدّعيه أحد ، وإن أراد به أنّه نفى الأمر الغيريّ فهو أوّل الكلام ، وليس ذلك ببديهيّ. هذا هو الذي صرّح بوجوده الشيخ ومن تبعه بالوجدان ، فكيف يستدلّ بأمر يكون موردا للإنكار ، وهكذا لا مجال للاستشهاد

__________________

(١) نهاية الاصول : ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٥٩٩

بقوله : «أنّه لو التزم المولى بأن يعطي الخ ، فإنّه تابع لما التزمه ، فإنّه إن التزم بإعطاء الدينار على امتثال الأمر النفسيّ فليس عليه إلّا الدينار ، وأمّا إذا التزم بامتثال الأمر ولو كان غيريّا فعليه ألف دينار ، فالاستحقاق تابع لمقام الإثبات ولا ارتباط له بمقام ثبوت الأمر ، وعدم استحقاق الزائد تبعا لعدم التزامه إلّا بإتيان الواجب النفسيّ لا يكون شاهدا على عدم تعلّق الأمر الغيريّ الشرعيّ بالمقدّمات ، كما لا يخفى.

نعم ، يرد على الاستدلال المذكور ما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من أنّ الضرورة قاضية بعدم إرادة البعث نحو المقدّمات لعدم تحقّق البعث في غالب الموارد ، فيلزم تفكيك الإرادة عن معلولها ، فإرادة البعث غير حاصلة (١) ، إذ عدم تحقّق البعث المتعدّد بتعداد المقدّمات ولو مع الالتفات إلى مقدّميّتها يكفي في عدم وجود إرادة البعث نحو المقدّمات وإلّا لزم التفكيك بين إرادة البعث ومعلولها وهو البعث وهو مستحيل ، ووجود البعث عند التأخير في الإتيان بالمقدّمات لا يستلزم وجوده في سائر الموارد. هل ترى من امر بطبخ الغذاء للعشاء أمر بعده على مقدّماته العديدة من اشتراء اللّحم والبقولات وغيره من المقدّمات العديدة؟! فدعوى الملازمة بين البعث إلى ذي المقدّمة والبعث إلى مقدّماته ممنوعة ، كما أنّ دعوى الملازمة بين إرادة البعث إلى ذي المقدّمة وإرادة البعث إلى مقدّماته كذلك ، لما عرفت من أنّ وجود إرادة البعث إلى المقدّمات تشريعا مع عدم الأمر المولويّ اليها في جميع الموارد حتّى مع الالتفات يستلزم التفكيك بين الإرادة ومعلولها ، وهو مستحيل.

وأمّا إرادة نفس عمل الغير ؛ ففي مناهج الوصول أنّها غير معقولة ، لأنّ عمل كلّ أحد متعلّق إرادة نفسه لا غيره ؛ نعم ، يمكن اشتياق صدور عمل من الغير ، لكن قد عرفت مرارا أنّ الاشتياق غير الإرادة التي هي تصميم العزم على الإيجاد ، وهذا محالا يتصوّر

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٤١٣.

٦٠٠