عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

أورد عليه في منتهى الاصول أيضا أوّلا : بأنّ أخذ شيء في متعلّق الأمر بدون أن يكون له دخل في المصلحة والملاك لا يمكن لأنّ البعث إلى شيء لا مصلحة فيه جزاف.

إن قلت : بأنّ أخذه في المتعلّق من باب أنّه عنوان مشير إلى ما هو المراد الحقيقيّ فتعود المحاذير لأنّ معنى هذا الكلام هو أنّ الإرادة ـ حقيقة ـ تعلّقت بإتيان الذات بقصد الأمر وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك .. إلى أن قال :

وثانيا : بأنّ هذا الفرض أي العنوان الملازم وجودا وعدما صرف فرض لا واقع له والأثر للوجود الواقعيّ المفروض لا لصرف الفرض. والحاصل أنّه لا يوجد عنوان ملازم لخصوص قصد الأمر أو مطلق قصد القربة. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ مراد صاحب الدرر كما صرّح به في المقدّمة الثانية هو أنّ الشيء المأخوذ في متعلّق الأمر يكون كالواجب للغير (مثل الغسل للطهارة قبل طلوع الفجر في شهر رمضان المبارك) وعليه فهو مطلوب ومورد البعث بنفسه وإن كان البعث إليه والأمر به بملاحظة حال الغير فلا وجه للحكم بالجزاف في مثل البعث إليه وليس العنوان المذكور عنوانا مشيرا حتّى يعود المحاذير بل هو بنفسه مورد البعث والأمر.

وثانيا : أنّ عدم الدواعي النفسانيّة عنوان ملازم لقصد الأمر وداع إلهيّ إذ لا يمكن الإتيان بالفعل مع عدم الدواعي النفسانيّة وعدم وجود داع إلهيّ وعليه فلا وجه لقول منتهى الاصول بأنّ العنوان الملازم وجودا وعدما صرف فرض لا واقع له فلا تغفل.

فتحصّل أنّه لا مانع في الوجه المذكور لتصحيح أخذ قصد القربة في متعلّق العبادات فلا تغفل.

__________________

(١) منتهى الاصول ١ / ١٤٣ ـ ١٤٤.

١٢١

تصحيح العبادة بإنشاء سنخ الوجوب :

قال المحقّق العراقيّ قدس‌سره في المقالات : لو اريد من إنشاء الأمر سنخ من الوجوب الموجود في ضمن الفردين الطوليّين بملاحظة دخل قيام أحد الفردين بموضوعه وهو الذات في تحقّق موضوع الآخر وهو دعوة الأمر به فلا ضير حينئذ في أخذ مثل هذا القيد في حيّز شخص هذا الخطاب المشتمل على شخص هذا الإنشاء وإنّما المحذور كلّ المحذور في المقام وفي باب الإخبار مع الواسطة في صورة إرادة شخص الوجوب أو الإرادة من مثل هذا الإنشاء أو السنخ المتحقّق في ضمن أفراد عرفيّة وهذا الذي أوقعهم في المقام وفي الإخبار مع الواسطة في حيص وبيص وإلّا فلو دقّقوا النظر وفتحوا البصر في المقامين وجعلوهما من وادي إنشاء سنخ الحكم الموجود في ضمن أفراد طوليّة لما يرد عليهم محذور ولا محتاجين في المقام بناء على شرعيّة قيد دعوة الأمر إلى تعدّد خطاب وتكرار إنشاء وجوب بل للمولى أن ينشأ وجوبا متعلّقا بالذات عن دعوة مفاد أمره من الوجوب. (١)

وتوضيح ذلك كما في بدائع الأفكار : أنّ الإرادات التشريعيّة عرضيّة كانت أم طوليّة كما يمكن إظهارها وإبرازها بإنشاءات متعدّدة مثل أن يقول أكرم زيدا وأكرم عمروا وأدخل السوق واشتر اللحم كذلك يمكن إظهارها بإنشاء واحد مثل أن يقول في الأحكام العرضيّة أكرم العلماء وأكرم العالم وأحلّ الله البيع وفي الأحكام الطوليّة صلّ مع الطهارة والإرادات الطوليّة تارة تكون طوليّة باعتبار كون متعلّقاتها طوليّة كما في المثال المتقدّم واخرى باعتبار كونها بأنفسها طوليّة كما في مثل قوله : صدّق العادل.

حيث إنّ هذا الخطاب لا يتوجّه إلى المكلّف إلّا عند تحقّق موضوعه الذي له

__________________

(١) المقالات ١ / ٧٧.

١٢٢

أثر شرعيّ ولا ريب في أنّ موضوعه هو قول العادل ولكن باعتبار ما له من الآثار الشرعيّة فإذا لم يكن لقول العادل أثر شرعيّ لا معنى للأمر بتصديقه وباعتبار هذه الخصوصيّة في فعليّة خطاب صدّق العادل أشكل الأمر بشمول هذه القضيّة للخبر الذي يحكي عن السنّة بواسطة أو وسائط كخبر الشيخ قدس‌سره عن الصفّار عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام فإنّ خبر الشيخ مثلا خبر عادل بالوجدان ولكن لا أثر له في الشرع وخبر زرارة له أثر في الشرع ولكن لا وجود له في الوجدان وخبر الصفّار لا وجود له في الوجدان ولا أثر له في الشرع.

وعليه يشكل الأمر في شمول قضيّة صدّق العادل للأخبار التي بأيدينا التي هي محور الشرع الحاضر ولكن إذا عمّمنا الأثر الشرعيّ الذي باعتباره يجب تصديق العادل لكلّ حكم شرعيّ ولو حكما طريقيّا مثل صدّق العادل ، أمكن حلّ هذا الإشكال بما أشرنا إليه من أنّ قضيّة صدّق العادل وإن كانت قضيّة واحدة مشتملة على إنشاء واحد إلّا أنّه بها ينشأ طبيعيّ وجوب تصديق العادل بجامع بين الأفراد الطوليّة بحيث يكون أحد الأفراد محقّقا لموضوع الفرد الآخر فموضوعها خبر العادل المتحقّق وجدانا أو تعبّدا وحينئذ يتحقّق بانطباق هذه القضيّة على خبر الشيخ مثلا الذي هو خبر عادل بالوجدان خبر الصفّار تعبّدا وخبر زرارة كذلك باعتبار ما لهما من الآثار الشرعيّة. فأمّا خبر الصفّار فأثره الشرعيّ هو وجوب تصديقه إذا تحقّق وأمّا خبر زرارة فأثره الشرعيّ هو وجوب غسل الجمعة مثلا إذا تحقّق فانطباق قضيّة صدّق العادل على خبر الشيخ الذي هو خبر عادل بالوجدان صار سببا لحدوث أخبار عدول بالتعبّد والحكومة في آن واحد بلا تقدّم ولا تأخّر في الزمان وذلك يوجب انطباق القضيّة المزبورة على تلك الإخبار في آن واحد وإن كان صدقها على بعض في طول صدقها على الآخر .. إلى أن قال :

إذا عرفت هذه المقدّمة فاعلم أنّه يمكن أن ينشأ المولى وجوبين طوليّين

١٢٣

أحدهما يحقّق موضوع الآخر بإنشاء واحد .. إلى أن قال : وليس المراد من إنشاء وجوبين استعمال اللفظ فيهما بل يستعمل في طبيعيّ الوجوب ويبيّن الخصوصيّات بدوال أخر وبالجملة كما يمكن جمع طلبات عرضيّة في حاك واحد كذلك يمكن طلبات طوليّة في حاك واحد كما في المقام بحيث يكون بعضها محقّقا لموضوع الآخر كالطلب المتعلّق بحصّة من الصلاة وبعضه الآخر يكون ناظرا إلى الآخر كالطلب المتعلّق إلى الدعوة وبذلك ترتفع المحاذير المزبورة طرّا لأنّ حال مثل هذا الإنشاء الواحد حال الإنشاءين المتعلّقين بوجوبين .. إلخ. (١)

ويمكن أن يقال : إنّ قياس المقام بباب الإخبار مع الواسطة في غير محلّه لأنّ المشكل هناك هو عدم شمول صدّق العادل لما يحكي منه العادل من الأخبار ويرفع المشكل المذكور بتعميم الآثار المأمور بها بقوله : صدّق العادل ، لنفس تصديق العادل بالتقريب المذكور ولكن المشكل في المقام هو فرض تقدّم المتأخّر إذا اخذ داعي الأمر في المتعلّق مع أنّه لا أمر قبل تعلّق الأمر بالمتعلّق يستلزم فرض تقدّم الأمر المتأخّر حتّى يصحّ تعلّق الأمر به ولا فرق في هذا المشكل بين أن يكون المتأخّر هو شخص الحكم أو سنخ الحكم إذ على كلّ تقدير يكون الحكم متأخّرا ومع تأخّره لا يمكن فرض تقدّمه فلا يجوز أخذه في متعلّق الحكم فهذا الوجه لا يرفع الإشكال فاللازم هو الاكتفاء بما مرّ من بعض الوجوه السابقة في رفع الإشكال فلا تغفل.

المقام الثالث : في الأخذ بالإطلاق :

ولا يخفى عليك أنّه لا إشكال في الأخذ بالإطلاق اللفظيّ في متعلّق الأمر لعدم اعتبار قصد الامتثال أو قصد القربة فيه بعد ما عرفت من إمكان أخذ قصد الامتثال

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ٢٣٤ ـ ٢٣٣.

١٢٤

أو قصد القربة فيه بأمر واحد أو أوامر متعدّدة أو غيرهما من الوجوه فإنّ بعد الإمكان المذكور لا فرق بين هذا القيد وسائر القيود فكما إذا شككنا في أخذ قيد الإيمان في قولهم : أعتق رقبة ، أخذنا بإطلاق الرقبة وقلنا بعدم اعتباره ، كذلك إذا شككنا في واجب كرمي الجمرات أنّه تعبّديّ أو توصّليّ فيمكن الأخذ بإطلاق قوله عليه‌السلام : فارم الجمرات ، وقلنا بعدم اعتبار قصد القربة فيه وكفاية الرمي بدون قصد القربة.

بل لو قلنا بعدم إمكان أخذ قصد الامتثال أو قصد القربة في المتعلّق بنحو من الوجوه المذكورة أمكن الأخذ بالإطلاق لأنّ التقييد المتّصل غير ممكن وأمّا التقييد المنفصل فهو ممكن لأنّ التصرّف مع الانفصال في الإرادة الجدّيّة لا المستعمل فيه فإذا لم يقيّده بتقييد المنفصل يحكم العقل بإطلاقه بعد كون المتكلّم في مقام البيان.

قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره : يمكن الأخذ بالإطلاق من جهة أنّه لا ملازمة بين استحالة التقييد واستحالة الإطلاق كما ذهب الأصحاب إلى التمسّك بإطلاق الأدلّة في الأحكام لتسوية العالم والجاهل فيها مع استحالة أخذ العلم فيها وليس ذلك إلّا من جهة عدم الملازمة بين استحالة التقييد واستحالة الإطلاق. انتهى

ولعلّ ذلك كما في تعليقة المحقّق الاصفهانيّ قدس‌سره من جهة أنّ الإطلاق في جميع الموارد بمعنى اللابشرطيّة القسميّة لا المقسميّة ومن الواضح أنّ اللابشرط القسميّ في قبال بشرط شيء وبشرط لا لا أنّه مقسم لهما حتّى يجب قبوله لهما وليس الإطلاق بهذا المعنى متقوّما بالقيد الوجوديّ والعدميّ بل متقوّم بعدم كون الماهيّة مقترنة بهما .. إلى أن قال :

وعليه فالإطلاق المقابل للتقييد تارة من قبيل العدم والملكة كما فيما كان ممكنا واخرى من قبيل السلب والإيجاب كما فيما كان ضروريّا فالصحيح أنّ الإطلاق مع

١٢٥

إمكان التقييد ومع استحالته ثابت. (١)

وممّا ذكر يظهر ما في المحاضرات حيث قال : إنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة بحسب مقام الإثبات لأنّ الإطلاق في هذا المقام عبارة عن عدم التقييد بالإضافة إلى ما هو قابل له وبحسب مقام الثبوت يكون التقابل تقابل التضادّ لا العدم والملكة وذلك لأنّ الإطلاق في هذا المقام عبارة عن رفض القيود والخصوصيّات ولحاظ عدم دخل شيء منها في الموضوع أو المتعلّق والتقييد عبارة عن لحاظ دخل خصوصيّة من الخصوصيّات في الموضوع أو المتعلّق ومن الطبيعيّ أنّ كلّ من الإطلاق والتقييد بهذا المعنى أمر وجوديّ .. إلى أن قال : ومن الطبيعيّ إنّ النسبة بين اللحاظ الأوّل واللحاظ الثاني نسبة التضادّ فلا يمكن اجتماعهما في شيء واحد من جهة واحدة. (٢)

وذلك لما عرفت من أنّ الإطلاق في جميع الموارد بمعنى اللابشرطيّة القسميّة ولا يجب فيها قبول القيود وعليه فيشمل اللابشرط القسميّة الموارد التي لا يمكن قبول القيود وبذلك يكون التقابل بين اللابشرط وبشرط الشيء أو بشرط لا تقابل العدم والملكة فيما إذا أمكن القبول وتقابل السلب والإيجاب فيما إذا لم يمكن القبول من دون فرق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت وتفسير الإطلاق بحسب مقام الثبوت بلحاظ عدم دخل شيء من القيود في الموضوع أو المتعلّق غير سديد لأنّ حقيقة الإطلاق هو جعل طبيعة شيء موضوعا أو متعلّقا من غير تقييدها بشيء حتّى لحاظ عدم دخل شيء من القيود.

ولذا قال في تهذيب الاصول في مبحث الترتّب : إنّ الإطلاق في الاصطلاح

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) المحاضرات ٢ / ١٧٣ ـ ١٧٤.

١٢٦

جعل طبيعة مثلا متعلّقا أو موضوعا للحكم من غير تقييدها بقيد وهو لا يتقوّم باللحاظ أو بإرسال الطبيعة سارية في المصاديق بل يتقوّم بجعلها موضوعا للحكم بلا قيد ... إلى أن قال :

إنّ اللحاظ أو إمكانه أمر زائد على الإطلاق لأنّ محور الاحتجاج بين الموالي والعبيد هو جعل الشيء موضوعا للحكم بلا قيد من غير توجّه إلى أنّ المقنّن أو الحاكم أرسل الموضوع في المصاديق ولاحظه بالنسبة إلى جميع التقادير المتصوّرة في المتعلّق مع قطع النظر عن الخطاب أوّلا بل لحاظ الإرسال والتقادير على فرض إمكانه مضرّ بالإطلاق فالحكم بالإطلاق ليس إلّا على نفس الطبيعة بلا قيد ولا يكون الحاكم ناظرا إلّا إلى موضوع حكمه .. إلى أن قال : فملاك الاحتجاج هو أخذ شيء سببا أو متعلّقا أو موضوعا بلا قيد وبه يظهر أنّ الاحتجاج به ليس لأجل أنّه من الدلالات اللفظيّة بل لأجل أنّ المتكلّم بما أنّ بيده زمام البيان وهو عاقل مختار في وضع ما يطلبه ورفع ما لا يطلبه لا بدّ أن يكشف عن مقصوده ويصرّح به ويجمع ما له دخل من قيوده فلو كان قيد دخيلا في غرضه لأتى به وبيّنه إمّا في ضمن هذا الدليل أو بدليل منفصل وحيث لم يأت به لا في ضمن هذا الدليل ولا بدليل آخر يحكم العقل بأنّ ما وقع موضوعا تمام المطلوب لا بعضه فيصير من الدلالات العقليّة .. إلى أن قال : بل لو سلّم عدم إمكان التقييد بما يتأخّر من الحكم في هذا الحكم لا يضرّ ذلك بجواز التمسّك بالإطلاق بعد إمكان بيان القيد بدليل آخر فلا نحتاج في تسوية العالم والجاهل في الأحكام إلى التمسّك بالإجماع بل التمسّك بإطلاق الأدلّة كاف في إثبات المطلوب وليس الشرط إمكان بيانه في الخطاب الأوّل بل تمكّن المولى من بيانه بأيّ خطاب شاء. (١)

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

١٢٧

لا يقال : إنّ الغرض لا يخلو من أن يقوم بالطبيعيّ الجامع بين كافّة خصوصيّاته أو يقوم بحصّة خاصّة منه ولا ثالث بينهما.

فعلى الأوّل لا بدّ من لحاظه على نحو الإطلاق والسريان رافضا عنه جميع القيود والخصوصيّات الطارئة عليه أثناء وجوده وتخصّصه.

وعلى الثاني لا بدّ من لحاظ تلك الحصّة الخاصّة ولا يعقل لهما ثالث فإنّ مردّ الثالث وهو لحاظه بلا رفض الخصوصيّات وبلا لحاظ خصوصيّة خاصّة إلى الإهمال في الواقعيّات ومن الطبيعيّ أنّ الإهمال فيها من المولى الملتفت مستحيل وعليه فالموضوع أو المتعلّق في الواقع إمّا مطلق أو مقيّد. (١)

لأنّا نقول : إنّا ننكر الملازمة بين كون الغرض قائما على الطبيعيّ الجامع وبين لحاظ الإطلاق والسريان لجواز الاكتفاء كما عرفت بالطبيعيّ مع جريان حكم العقل بأنّ ما وقع موضوعا أو متعلّقا لحكم يكون تمام المطلوب لا بعضه لأنّ زمام أمر البيان بيد المتكلّم فلو كان لغير الطبيعة دخل في الغرض لأتى به في ضمن دليل الحكم أو بدليل منفصل وحيث لم يأت به يكشف ذلك عن كونه تمام المطلوب فوصف الإطلاق والإرسال عارض في الحقيقة على جعل الطبيعيّ موضوعا أو متعلّقا لحكم بدون ذكر قيد مع الاكتفاء بالدلالة العقليّة على النحو المذكور ولا يكون وصف الإطلاق والإرسال ملحوظا وإلّا لزم عدم التسرية بالنسبة إلى الأفراد المأتيّ بها لأنّ كلّ فرد منها إذا اتي به لم يكن مصداق لحاظ الإطلاق والإرسال.

وممّا ذكر يظهر عدم لزوم الإهمال في الواقعيّات مع عدم لحاظ الإطلاق والإرسال فإنّ متعلّق الحكم أو موضوعه مع جريان مقدّمات الإطلاق لا يكون مهملا.

__________________

(١) راجع المحاضرات ٢ / ١٧٤.

١٢٨

ولكن استشكل الشيخ الأعظم قدس‌سره على ما حكي عنه على الأخذ بالإطلاق في صورة عدم إمكان أخذ قصد الامتثال أو دواعي القربة في المتعلّق بأنّ رفع القيد بأصالة الإطلاق إنّما يكون فيما لو احتملنا دخول القيد في المطلوب والمفروض عدم هذا الاحتمال والقطع بعدم اعتباره فيه أصلا وإنّما الشكّ في أنّ الغرض هل هو مساو للمطلوب أو أخصّ منه وحدود المطلوب معلومة لا شكّ فيها على أيّ حال.

وأجاب عنه المحقّق الحائريّ قدس‌سره في الدرر بأنّ القيد المذكور وإن لم يحتمل دخله في المطلوب لعدم الإمكان ولكن لو فرضنا وجود مقدّمات الأخذ بالإطلاق التي من جملتها كون المتكلّم في مقام بيان تمام المقصود وما يحصل به الغرض يحكم بعدم مدخليّة شيء آخر في تحقّق غرضه إذ لولاه لبيّن ولو ببيان مستقلّ وحيث ما بيّن يكشف عن كون متعلّق الطلب تمام ما يحصل به غرضه.

نعم الفرق بين المورد وسائر الموارد أنّ فيها يحكم بعد تماميّة مقدّمات الحكمة بإطلاق متعلّق الطلب وفيه بإطلاق الغرض والأمر سهل.

ويمكن أن يستظهر من الأمر التوصّليّة من دون الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة بوجه آخر اعتمد عليه سيّدنا الاستاذ «طاب ثراه» وهو أنّ الهيئة عرفا تدلّ على أنّ متعلّقها تمام المقصود إذ لو لا ذلك لكان الأمر توطئة وتمهيدا لغرض آخر وهو خلاف ظاهر الأمر. (١)

وأورد المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره على الأخير من كلامه بأنّه مبنيّ على تخيّل أخصّيّة الغرض وحيث عرفت أنّ ذات الفعل واف بالغرض وأنّ الشرائط دخيلة في ترتّب الغرض على ما يقوم به تعرف عدم أخصّيّة الغرض وعدم كون الأمر تمهيدا

__________________

(١) الدرر / ١٠٢ ـ ١٠١.

١٢٩

وتوطئة. (١)

توضيحه أنّ مثل قصد القربة والطهارة والتستّر والاستقبال من الشرائط جزما وهي ذات دخل في تأثير المركّب من الأجزاء في الغرض القائم به ومن الواضح أنّ الغرض إنّما يدعو بالأصالة إلى إرادة ذات ما يفي بالغرض ويقوم به في الخارج وأمّا ما له دخل في تأثير السبب فلا يدعو إليه الغرض في عرض ذات السبب بل الداعي إلى إيجاد شرائط التأثير وإيجابها أغراض تبعيّة منتهية إلى الغرض الأصليّ وعليه فالمتعلّق هو تمام المقصود ولو فيما إذا توقّف تأثيره على قصد القربة ومع كونه تمام المقصود لا مجال لصيرورة الأمر توطئة وتمهيدا لغرض آخر ولكن هذا فيما إذا كان قصد القربة مأخوذا على نحو الاشتراط وأمّا إذا كان مأخوذا على نحو الجزئيّة فلا يرد عليه ذلك لأنّ قصد القربة حينئذ يكون في عرض سائر الأجزاء ولا يكون سائر الأجزاء بدونه تمام المطلوب فظهور الهيئة عرفا في كون المتعلّق تمام المطلوب يكفي في إثبات التوصّليّة في هذه الصورة.

هذا مضافا إلى أنّ الشرط إن كان من مقوّمات المشروط فهو في عرضه ولم يكن الداعي إليه تبعيّا وإن ذكر بنحو الشرطيّة.

وكيف كان فما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره من منع أصالة الإطلاق بناء على عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الحكم لا مجال له بعد ما عرفت من جواز الأخذ بمقدّمات الحكمة والحكم بعدم مدخليّة شيء آخر في المتعلّق لما مرّ من أن تقييد المتعلّق متّصلا غير ممكن لا منفصلا إذ التصرّف مع الانفصال في الإرادة الجدّيّة لا المستعمل فيه ومع احتمال التقييد بالمنفصل لا يصحّ القول بعدم جريان أصالة الإطلاق ومع إمكان جريان أصالة الإطلاق بالنسبة إلى المتعلّق بالتقريب المذكور لا حاجة إلى

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٢٠٦.

١٣٠

ما ذهب إليه صاحب الكفاية وصاحب الدرر من الإطلاق المقاميّ والقول بأنّ مقدّمات الحكمة توجب الحكم في المقام بإطلاق الغرض كما توجب الحكم في سائر الموارد بإطلاق متعلّق الطلب.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه لحدّ الآن أنّ الأخذ بالإطلاق اللفظيّ ممكن سواء أمكن أخذ قصد القربة في متعلّق التكليف متّصلا أو لم يمكن ويحكم بمقدّمات الإطلاق على إطلاق متعلّق التكليف وعدم تقييده بقصد القربة فلا تغفل.

المقام الرابع : مقتضى الأصل العمليّ :

ولا يخفى عليك أنّ الأصل العمليّ في المقام ينقسم إلى البراءة العقليّة والبراءة الشرعيّة.

أمّا الاولى فقد ذهب الشيخ الأعظم قدس‌سره على ما حكي عنه إلى منع جريانها حيث قال : المقام ممّا يحكم العقل فيه بالاشتغال وإن قلنا بالبراءة في دوران الأمر بين المطلق والمقيّد لأنّه بعد العلم بتمام المطلوب في مرحلة الثبوت لو شكّ في سقوطه بإتيان ذاته وعدم سقوطه بواسطة بقاء الغرض المحدث للأمر لا مجال إلّا للاحتياط لأنّ اشتغال الذمّة بالأمر الثابت المعلوم متعلّقه يقتضي القطع بالبراءة عنه ولا يكون ذلك إلّا بإتيان جميع ما يحتمل دخله في الغرض وممّا ذكر نعرف الفرق بين المقام وسائر الموارد وملخّص الفرق أنّ الشكّ فيها راجع إلى مرحلة الثبوت وفي المقام إلى السقوط.

وتبعه في الكفاية وقال : لا بدّ عند الشكّ وعدم إحراز كون الآمر في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه وإن لم يكن له دخل في متعلّق أمره من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل ويستقلّ به العقل وهو ليس إلّا أصالة الاشتغال ولو قيل بأصالة البراءة فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

١٣١

وذلك لأنّ الشكّ هاهنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها فلا يكون العقاب مع الشكّ وعدم إحراز الخروج عقابا بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان ضرورة أنّه بالعلم بالتكليف تصحّ المؤاخذة على المخالفة وعدم الخروج عن العهدة لو اتّفق عدم الخروج عنها بمجرّد الموافقة بلا قصد القربة وهكذا الحال في كلّ ما شكّ دخله في العهدة ممّا لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه والتمييز.

نعم يمكن أن يقال : إنّ كلّ ما يحتمل بدوا دخله في امتثال أمر وكان ممّا يغفل عنه غالبا للعامّة كان على الآمر بيانه ونصب قرينة على دخله واقعا وإلّا لأخلّ بما هو همّه وغرضه وأمّا إذا لم ينصب دلالة على دخله كشف عن عدم دخله وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة حيث ليس منهما عين ولا أثر في الأخبار والآثار وكانا ممّا يغفل عنه العامّة وإن احتمل اعتباره بعض الخاصّة فتدبّر جيّدا.

ولا يخفى عليك مع إمكان أخذ قصد الامتثال أو دواعي القربة في المتعلّق متّصلا أو منفصلا ببيان مستقلّ يكون قصد الامتثال أو دواعي القربة كسائر القيود فكما أنّ سائر القيود فيما إذا لم تجر مقدّمات الإطلاق تكون مجرى البراءة العقليّة فيما إذا شكّ في اعتبارها كذلك تجري البراءة العقليّة بالنسبة إلى قصد الامتثال أو دواعي القربة فلا فرق بين المقام وبين المطلق والمقيّد أو الأقلّ والأكثر الارتباطيّين في جريان البراءة العقليّة كما لا يخفى.

ومجرّد عدم إمكان تقييد المأمور به متّصلا بناء على امتناعه لا يوجب الفرق مع إمكان البيان مستقلّا.

هذا مضافا إلى ما أفاده استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ أخذ القيد شطرا أو شرطا في الأقلّ والأكثر لا يكون ممكنا في جميع الموارد إذ ربما يكون المورد من

١٣٢

موارد التقيّة والمتكلّم فيها لا يتمكّن من ذكر القيود والشرائط متّصلا ومع ذلك تجري البراءة في القيد المشكوك. فلو كان اللازم في جريان البراءة العقليّة هو التمكّن من ذكر القيد متّصلا فلا تجري في القيد المشكوك في الأقلّ والأكثر أيضا مع أنّ المفروض هو جريانها في مثله لعدم قيام الحجّة عليه وما لم تقم الحجّة عليه ليس بواجب كما لا يخفى.

ودعوى أنّ أصل الغرض معلوم والشكّ في حصوله للشكّ من كون المأتيّ به مسقطا للغرض وحده بلا قصد القربة والعقل يحكم في مثله بالفراغ اليقينيّ بإتيان جميع ما له دخل في ذلك ولو احتمالا مندفعة أوّلا : بما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره في تهذيب الاصول من أنّ ما ذكر من البرهان لإثبات الاشتغال جار في الأقلّ والأكثر أيضا إذ القائل بالاشتغال هناك يدّعي أنّ الأمر بالأقلّ معلوم ونشكّ في سقوطه لأجل ارتباطيّة الأجزاء وأنّ الغرض المستكشف من الأمر معلوم ونشكّ في سقوطه بإتيان الأقلّ فيجب الإتيان بكلّ ما احتمل دخله في الغرض.

وثانيا : بأنّ ما اشتهر من وجوب تحصيل العلم بحصول أغراض المولى ومقاصده لا يرجع إلى محصّل إذ الأغراض إن كانت حاصلة بنفس ما وقع تحت دائرة البيان فما هو واجب تحصيله حينئذ في محيط العبوديّة هو ما تعلّق به البيان من الأجزاء والشرائط ويتبعه الغرض في الحصول وإن كانت غير حاصلة إلّا بضمّ ما لم تقم عليه الحجّة فلا نسلّم وجوب تحصيله. (١)

وثالثا : بأنّ الغرض لو كان مركّبا أو أمكن انبساطه على المتعلّق فعلى تقدير تسليم وجوب تحصيل الغرض يمكن أن يقال إنّ الغرض يدور أمره بين المعلوم والمشكوك فتجري البراءة بالنسبة إلى ما زاد على المعلوم ولا فرق فيه بين أن يكون القيد المشكوك ممكن الأخذ وبين أن لا يكون كذلك فلا تغفل.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٦٤.

١٣٣

ورابعا : كما في تهذيب الاصول بأنّ إحالة الناس إلى حكم العقل صحيحة فيما إذا كان العقل من الواضحات عند عامّة المكلّفين بحيث يصحّ الاتّكال عليه لا في مثل المقام الذي صار مطرحا للأنظار المختلفة والآراء المتشتّتة. (١)

ثمّ لا يخفى عليك كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره أنّ دعوى صاحب الكفاية بأنّ قصد الوجه والتمييز ليس منهما عين ولا أثر في الأخبار محلّ منع لما ورد في استحباب تلفّظ الوجه والتمييز أو إضماره في باب الحجّ عند التلبية فراجع.

فتحصّل أنّ قصد الامتثال أو دواعي القربة كسائر القيود يكون مجري البراءة العقليّة إن شكّ في اعتبارها ولم تكن مقدّمات الإطلاق جارية فيها فلا تغفل.

وأمّا الثانية : أعني البراءة الشرعيّة فالأقوى جريانها فيما إذا لم يتمّ مقدّمات الإطلاق وإلّا فمع جريان مقدّمات الإطلاق لا يصل النوبة الى البراءة الشرعيّة لأنّ الأصل دليل حيث لا دليل.

ثمّ لا فرق فيما ذكر بين أن يكون أنّه قصد للامتثال أو دواعي القربة في المتعلق ممكنا بالقيد المتّصل أو المنفصل أم لا يكون ممكنا للاطلاق أدلّة البراءة.

ذهب في الكفاية الى عدم جواز التمسك مستدلا بأنّه لا بدّ في عموم أدلّة البراءة الشرعيّة من شيء قابل للرفع والوضع شرعا وليس هاهنا فان دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعيّ بل واقعيّ (مع فرض عدم التمكّن من أخذه في المتعلّق) ودخل الجزء والشرط فيه وان كان كذلك إلّا أنّهما قابلان للوضع والرفع شرعا فبديل الرفع ولو كان أصلا يكشف أنّه ليس هناك أمر فعليّ بما يعتبر فيه المشكوك يجب الخروج عن عهدته عقلا بخلاف المقام فإنّه علم بثبوت الأمر الفعليّ كما عرفت فافهم.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٦٤.

١٣٤

وفيه أوّلا أن لا نسلّم عدم إمكان أخذ قصد القربة أو دواعي القربة في المتعلّق لما عرفت من إمكانه متّصلا أو منفصلا.

ولذا قال في تهذيب الاصول إنّا لا نتصوّر للمفروض مصداقا إذ كيف يمكن دخالة شيء في الغرض ولا يمكن للمولى بيانه وإظهاره وعليه لا محيص عن جريان ادلّة الرفع بعد إمكان وضعه في نظائر المقام (١).

واليه يرجع ما في ذيل تعليقة الأصفهانيّ من أنّه غاية الأمر أنّ قصد القربة لا شرطيّة له وأمّا إيجابه للغير استقلالا فهو معقول وشمول حديث الرفع للتكليف المجهول المجعول (بقوله وليكن الصلاة عن داعي امرها) الموافق للامتنان لا مانع منه أصلا (٢).

وثانيا : كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره إنّا لا نسلّم انحصار أدلّة البراءة الشرعية فيما ذكر فيه كلمة الرفع إذ من جملتها قوله عليه‌السلام الناس في سعة ما لا يعلمون وقوله عليه‌السلام ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم فلا يرد عليهما ما اورد على حديث الرفع.

لا يقال ان معنى الموضوع عنهم هو المرفوع عنهم فلا يفيد غير معنى الرفع لأنّا نقول معناه هو سلب المسئوليّة والمؤاخذة عنهم لا رفع الموجود فلا يرد عليه ما أورد على حديث الرفع.

هذا مضافا إلى قوله عليه‌السلام كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ومن المعلوم أنّه يفيد الترخيص في الشيء ما لم يرد فيه نهي أو امر فلا يرد عليه ما اورد على حديث الرفع.

__________________

(١) ج ١ ص ١٦٦.

(٢) راجع نهاية الدراية : ج ١ ص ٢١٤.

١٣٥

يمكن أن يقال أنّ الأخير منصرف عما لم يتمكن المولى عن ذكره وأحيل فيه الى العقل الحاكم بالاشتغال فيما إذا احتمل دخالة شيء في سقوط الغرض المعلوم اذ الغاية وهي قوله حتّى يرد فيه نهي يشعر بأنّ الموضوع هو ما تمكّن المولى من بيان نهي أو أمر فيه والمفروض في المقام عدم تمكّن الشارع من تقيّد المتعلّق بقصد الامتثال أو دواعي القربة.

وثالثا : كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره أنّ معنى الرفع ليس هو رفع الحكم الإنشائيّ في الواقع وإلّا لزم التصويب الباطل لأنّ مرجّحه الى حكّ الحكم عن الواقع إذا شكّ فيه وهو كما ترى وليس أيضا بمعنى رفع الإرادة الفعليّة للحكم الواقعيّ إذ الإرادات من التكوينات والتكوينيّات لا يمكن رفعها إلّا بأسبابها وحديث الرفع من الامور التشريعيّة فلا يصلح لرفع الأمر التكوينيّ الواقعيّ بل الصحيح إنّ الإرادة الواقعيّة إذا كانت مقرونة بالموانع لم تتحقق قبل الاخبار بها بحديث الرفع فيرجع حديث الرفع إلى الأخبار عن عدم الإرادة الفعليّة بالأحكام أو القيود والأجزاء المشكوكة والإخبار عن عدم الإرادة الفعليّة أمر ممكن ولو في القيود التي لا تمكين من أخذها في المتعلق.

أو يرجع حديث الرفع الى دفع المؤاخذة وهو أمر ممكن ولو بالنسبة الى القيود التي لا تمكين من أخذها فلا تغفل.

١٣٦

الخلاصة :

والبحث يقع في مقامات :

المقام الأوّل : في تعريف التعبّديّ والتوصّليّ

واعلم أنّه يمكن تعريفهما بأنّ التعبّديّ ما لا يسقط أمره ولا يحصل الامتثال به في حاقّ الواقع إلّا بإتيانه بقصد القربة والتوصّليّ ما يسقط أمره بنفس الإتيان كيفما اتفق من دون حاجة إلى حصول قصد القربة.

ويمكن أيضا تعريفهما بأنّ التوصّليّ هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّد حصول الواجب ويسقط بمجرّد وجوده والتعبّديّ هو ما لا يكاد يحصل الغرض بذلك بل لا بدّ في حصوله وسقوطه من الإتيان به متقرّبا به منه تعالى.

المقام الثاني : في إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق التكليف وعدمه

ذهب القدماء إلى الأوّل والمتأخّرون إلى الثاني والحقّ مع القدماء لعدم تماميّة أدلّة المانعين المتأخّرين.

منها : أنّ الأمر يتوقّف على تحقّق موضوعه بتمام أجزائه توقّف العرض على معروضه فلو كان قصد الأمر مأخوذا في الموضوع لزم الدور لعدم تحقّق الموضوع بتمام أجزائه التي منها قصد الأمر إلّا بعد ثبوت الأمر فالأمر يتوقّف على الموضوع والموضوع على الأمر وهو دور.

اجيب عنه : بأنّ المراد من التوقّف إن كان توقّفه عليه في الخارج فهو باطل ضرورة أنّ الأمر لا يتعلّق بالموضوع إلّا قبل وجوده الخارجيّ وأمّا بعد وجوده الخارجيّ فيستحيل تعلّق الطلب به لأنّه تحصيل الحاصل وإن كان المراد توقّفه تصوّرا

١٣٧

فهو مسلّم ولكن لا يلزم منه الدور لأنّ الموضوع بوجوده الذهنيّ متقدّم على الأمر ولا ينافي ذلك كونه بوجوده الخارجيّ متأخّرا عن الأمر ومتوقّفا عليه وبالجملة المتوقّف على الأمر غير ما يتوقّف الأمر عليه وعليه فتوهّم الدور ناشئ من خلط الذهن بالخارج.

ومنها : أنّه يستحيل أخذ الأمر وكلّ ما ينشأ من قبله أو يضاف إليه في موضوع المأمور به ، وجه الاستحالة هو تأخّر الحكم من الموضوع رتبة مع أنّ اللازم في القيد والمقيّد هو أن يكونا في مرتبة واحدة بحيث يتمكّن الآمر من النظر إليهما معا بلحاظ واحد وطلب أحدهما مقيّدا بالآخر والحكم لتأخّره الرتبيّ لا يتصوّره الذهن إلّا بعد تصوّر موضوعه.

اجيب عنه : بأنّ تأخّر الحكم رتبة عن الموضوع لا يمنع عن إمكان لحاظهما معا ألا ترى أنّ السبب والمسبّب يمكن ملاحظتهما معا ولا يمنع عن ذلك التقدّم والتأخّر الوجوديّ بينهما وعليه فيمكن تصوّر الحكم بشخصه قبل وجوده وتصوّر الموضوع كالصلاة ثمّ يتقيّد الموضوع كالصلاة بتصوّر الحكم إذ تصوّرهما في مرتبة واحدة ولا تقدّم وتأخّر في تصوّرهما وإن كانا بحسب الوجود متقدّما ومتأخّرا.

ومنها : أنّ تعلّق التكليف بذلك المقيّد يوجب الجمع بين اللحاظ الآليّ والاستقلاليّ لأنّ الموضوع بقيوده لا بدّ وأن يكون ملحوظا استقلالا والأمر بما أنّه طرف لإضافة القيد المأخوذ في الموضوع لا بدّ من لحاظه أيضا استقلالا مع أنّ الأمر بما أنّه آلة البعث إلى المطلوب لا يمكن لحاظه إلّا آلة إليه.

اجيب عنه : بأنّ اللحاظين المتنافيين لم يجتمعا في وقت واحد إذ اللحاظ الاستقلاليّ مقدّم على اللحاظ الآليّ منها لأنّ الموضوع بتمام قيوده مقدّم تصوّرا على تعلّق الأمر والبعث.

ومنها : أنّ فعليّة الحكم متوقّفة على فعليّة موضوعه فإذا كان الحكم نفس

١٣٨

موضوعه أو جزءا منه لزم توقّف فعليّة الشيء على فعليّة نفسه.

اجيب عنه : بأنّ فعليّة الحكم متوقّفة على فعليّة فرض وجود موضوعه وتقديره في الذهن وهو لا يتوقّف على فعليّة الحكم خارجا كما لا يخفى.

ومنها : أنّ الإنشاء حيث كان بداعي جعل الداعي فجعل الأمر داعيا إلى جعل الأمر داعيا يوجب علّيّة الشيء لعلّيّة نفسه وهو محال للزوم تقدّم الشيء على نفسه.

واجيب عنه : بعد مقدّمتين :

الاولى : أنّ الموضوع في المقام ليس إلّا الصلاة المتصوّرة مع قصد أمرها والأمر إنشاء على ذلك المقيّد.

والثانية أنّ الأمر ليس إلّا المحرّك والباعث الإيقاعيّ لا المحرّك الحقيقيّ والباعث التكوينيّ ولهذا ليس شأنه إلّا تعيين موضوع الطاعة من غير أن يكون له تأثير في بعث المكلّف تكوينا وإلّا لوجب اتّفاق الأفراد في الإطاعة بل المحرّك حقيقة ليس إلّا بعض المبادئ الموجودة في نفس المكلّف فنسبة التحريك إلى الأمر يكون بضرب من التشبيه.

بأنّه إن أراد القائل من كون الأمر محرّكا إلى محرّكيّة نفسه أنّ الأمر الإنشائيّ المتعلّق بالعنوان المقيّد موجب لذلك المحال ففيه أنّ الإنشاء لا يحتاج إلى مئونة زائدة من تصوّر الطرفين.

وإن أراد أنّ الأمر المحرّك للمكلّف تكوينا محرّك حقيقة إلى محرّكيّة نفسه فهو خلاف ما عرفت من أنّ نسبة التحريك إليه بضرب من التشبيه والمحرّك الأصليّ هو بعض المبادئ الموجودة في النفس كإدراك استحقاق المولى للإطاعة أو الخوف من ناره وغضبه ومعرفة أنّ الإطاعة لا تحقّق لها إلّا بإتيان الصلاة المقيّدة فلا محالة يقوم بامتثاله على نحو ما أمر.

ومنها : أنّ متعلّق التكليف هو المقيّد وهو الصلاة بداعي الأمر إليها وليست

١٣٩

الصلاة بنفسها متعلّقة للأمر حتّى يمكن الإتيان بها بداعي أمرها وحيث إنّ ذات المقيّد لا تكون مأمورا بها لأنّ الجزء التحليليّ لا يتّصف بالوجوب أصلا إذ المأمور به ليس إلّا وجودا واحدا وهو المقيّد وهو يكون واجبا بالوجوب النفسيّ فلا مجال لدعوى أنّ نفس الصلاة تكون مأمورا بها بالأمر بالصلاة مقيّدة بداعي الأمر بها.

واجيب عنه بوجوه :

أحسنها أن نقول : أنّا لا نحتاج في إيجاد الصلاة بداعي الأمر إلى تعلّق الأمر بذات الصلاة بل نفس الأمر بالمقيّد أو المركّب يدعو إليها أيضا ويكفي أيضا في مقرّبيّتها وعباديّتها إتيانها بداعي هذا الأمر وذلك لأنّه يكفي في عباديّة الأجزاء التحليليّة والخارجيّة والمقدّمات الوجوديّة والعلميّة إتيانها بداعي الأمر المتعلّق بالكلّ وبذي المقدمة فإنّ الأمر كما يكون داعيا إلى نفس متعلّقة فكذلك يكون داعيا إلى كلّ ما له دخل في تحقّقه من غير احتياج في مدعويّتها للأمر إلى تعلّق أمر بها على حدة.

فانقدح من جميع ما ذكر أنّ أخذ قصد القربة في متعلّق التكليف شرعا ممكن ولا يلزم منه المحذورات المذكورة لا في ناحية التكليف ولا في ناحية الامتثال.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه ذهب المانعون إلى تصحيح اعتبار أخذ قصد القربة في متعلّق التكليف بوجوه اخرى بعد فرض امتناع أخذه في المتعلّق بأمر واحد :

أحدها : أنّه يمكن أخذ قصد القربة بتعدّد الأمرين أحدهما بذات المتعلّق وثانيهما بالإتيان به بداعي أمره المتعلّق به.

ولا مانع منه إذ لا حيلة للمولى في بيان كون مطلوبه عباديّا إلّا بذلك بعد فرض امتناع قصد القربة في المتعلّق بالأمر الواحد ويدلّ على وقوع ذلك وجود العبادات التي قامت الضرورة والإجماع على اشتراطها بقصد القربة ولا مجال للتمسّك باصل الاشتغال عند الشكّ في عباديّة أمر لاختصاص جريانه بما إذا لم يتمكّن المولى من البيان والمفروض أنّه متمكّن بتعدّد الأمرين فإذا لم يبيّن وشكّ في عباديّة أمر تجري

١٤٠