عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

المقصود من كونه نورا أو طهورا أنّه موجب للنور والطهارة لا أنّه بنفسه نور وطهارة.

ذهب السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره في التنقيح إلى أنّ الصحيح أنّ الوضوء مستحبّ في نفسه ، وهذا لا للحديث القدسيّ المرويّ في إرشاد الديلميّ قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يقول الله سبحانه : «من أحدث ولم يتوضّأ فقد جفاني ، ومن أحدث وتوضّأ ولم يصلّ ركعتين فقد جفاني ، ومن أحدث وتوضّأ وصلّى ركعتين ودعاني ولم أجبه فيما سألني من أمر دينه ودنياه فقد جفوته ، ولست بربّ جاف». ولا للمرسلة المرويّة عن الفقيه : «الوضوء على الوضوء نور على نور». ولا لرواية محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهّروا» وذلك لعدم قابليّتها للاستدلال بها لضعفها بل لقوله عزّ من قائل : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ، بضميمة الأخبار الواردة في أنّ الوضوء طهور ، وذلك لأنّ الآية المباركة دلّتنا على أنّ الطهارة محبوبة لله سبحانه ، ولا معنى لحبّه إلّا أمره وبعثه ، فيستفاد منها أنّ الطهارة مأمور بها شرعا. والمراد بالطهارة في الآية المباركة ما يعمّ النظافة العرفيّة ، وذلك لما ورد فيما رواه جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ، من أنّ الناس كانوا يستنجون بالكرسف والأحجار ، ثمّ أحدث الوضوء وهو خلق كريم ، فأمر به رسول الله وضعه ، فأنزل الله في كتابه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)».

وفي بعض الأخبار : أنّ الناس كانوا يستنجون بالأحجار فأكل رجل من الأنصار طعاما فلان بطنه فاستنجى بالماء ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

ويقال : إنّ هذا الرجل كان البراء بن معرور الأنصاريّ ، فإنّ الاستنجاء بكلّ من الماء والأحجار وإن كان نظافة شرعيّة إلّا أنّ استنجاء بالماء يزيد في التنظيف لأنّه يذهب العين والأثر ، والأحجار لا تزيل إلّا العين فحسب.

٥٢١

فالآية المباركة دلّت على أنّ الله يحبّ التطهير بالماء ، وحيث أنّ ورود الآية في مورد لا يوجب اختصاصها بذلك المورد فيتعدّى عنه إلى مطلق النظافات العرفيّة والشرعيّة ـ إلى أن قال ـ : وأمّا تطبيقها على الوضوء فلأنّ الطهارة اسم لنفس الوضوء ، أعني المسحتين والغسلتين ، لا أنّها أثر مترتّب على الوضوء كترتّب الطهارة على الغسل في تطهير المتنجّسات ، فإذا قلنا الصلاة يشترط فيها الطهارة فلا نعني به أنّ الصلاة مشروطة بأمرين ، وإنّما المراد أنّها مشروطة بشيء واحد وهو الغسلتان والمسحتان المعبّر عنهما بالطهارة. وعلى هذا جرت استعمالاتهم فيقولون الطهارات الثلاث ، ويريدون بها الوضوء والتيمّم والغسل ـ إلى أن قال ـ :

وبما ذكرنا ظهر أنّ قصد الكون على الطهارة هو بعينه قصد الكون على الوضوء لا أنّه قصد أمر آخر مترتّب على الوضوء ، لما عرفت من أنّ الوضوء هو بنفسه طهارة لا أنّ الطهارة أمر يترتّب على الوضوء ، فمن قصد الوضوء فقد قصد الكون عليه ، فلا وجه لعدّ الكون على الطهارة من الغايات المترتّبة على الوضوء (١).

وفيه : أولا : أنّ الطهارة بمعنى النظافة الظاهريّة كيف تكون قابلة للانطباق على التيمّم والمفروض أنّ التيمّم من الطهارات الثلاث؟

وثانيا : أنّ الظاهر من الأخبار أنّ الطهارة أمر مستمرّ ولها دوام وبقاء ولا ينقضها الرعاف والقيء والمذي والوذي والودي بخلاف البول والغائط والنوم والمني فإنّها موجبة للنقض ، ومن المعلوم أنّ الطهارة المذكورة التي ينقضها بعض الأشياء دون الاخرى لا يساعدها النظافة الظاهريّة فإنّها تدوم بدوامها ، فإذا رفعت نظافة الأعضاء بالمرور أو عروض الطوارئ لا بقاء لها سواء عرضت النواقض أم لا.

والعجب أنّه استدلّ بهذه الاخبار على اعتبار دوام النظافة الظاهريّة الاعتباريّة

__________________

(١) التنقيح : ٣ / ٥١٣ ـ ٥١٧.

٥٢٢

بمعناها الاسم المصدريّ مع أنّها أظهر في أنّ المراد من الطهارة أمر آخر يدوم ما لم يعرضه النواقض.

وثالثا : أنّ مجرّد كون شيء مورد الأمر والبعث لا يستلزم كونه عبادة ، والنظافة المأمور بها في تطهير المتنجّسات محبوبة ومبعوثة اليها ومع ذلك لا تكون إلّا توصّليّا ، فافهم.

وبالجملة ، إثبات الاستحباب النفسي وعباديّة الطهارات في نفسها بتلك الاستدلالات محلّ إشكال ونظر ، وبقيّة الكلام في محلّه.

ودعوى أنّ الطهارات الثلاث صالحة ذاتا للعباديّة من دون إقامة دليل على استحبابها نفسا كما ترى.

فتحصّل أنّ الوجه في عباديّة الطهارات الثلاث بعد ما عرفت من عدم ثبوت الاستحباب النفسيّ هو قصد التوصّل بها إلى إحدى الغايات المطلوبة ، ولا يفيد قصد الأمر الغيريّ بناء على ثبوت الملازمة بعد ما مرّ سابقا من عدم كون موافقة الأمر الغيريّ موجبا للإطاعة والقرب والمثوبة ، لعدم عدّ موافقته ومخالفته موافقة ومخالفة اخرى في قبال موافقة الأمر النفسيّ ومخالفته.

هذا مع الغمض عن اشكال الدور ، لأنّ كلّ من الأمر الغيريّ والعباديّة يتوقّف على صاحبه إذ يمكن الجواب عنه باختلاف موطن التوقّف كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال :

إنّ توقّف الموضوع في الخارج على الأمر صحيح ، لكنّ الأمر يتوقّف على الموضوع في الذهن لا الخارج ، فيدفع الدور (١).

أو يمكن الجواب عنه بتعدّد الأمر الغيريّ ، إذ جزء المقدّمة مقدّمة أيضا ، فإذا

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٢٦٢.

٥٢٣

كانت الطهارات الثلاث مع التقرّب بها من المقدّمات فجزؤها وهو ذات الأفعال من جهة كونه من المقدّمات مأمورا بها ، كما أنّ قيدها أي إتيانها بداعويّة أمرها أيضا يكون مأمورا به بملاك المقدّميّة ، فالأمر الأوّل يدعو إلى ذات الأفعال والأمر الثاني يدعو إلى أن يأتي ذات الأفعال بداعي الأمر المتوجّه إليها ، فلا تغفل (١).

ولكنّه متفرّع على انحلال الأمر المقدّميّ إلى الذات والقيد ، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنّ حيثيّة المقدّميّة حيثيّة تقييديّة لا حيثيّة تعليليّة لأنّ الجهات التعليليّة في الأحكام العقليّة ترجع إلى الحيثيّات التقييديّة. وعليه فالأمر الغيريّ المنكشف بحكم العقل لا يتعلّق بذات الأفعال من دون حيثيّة المقدّميّة.

وأيضا لا يكفي قصد الأمر النفسيّ المتوجّه إلى ذي المقدّمة في جعل الطهارات الثلاث عبادة ، لأنّ الأمر النفسيّ المذكور لا يدعو إلّا إلى متعلّقه والمقدّمات خارجة عن حيطة دعوته ، ولا يكون الإتيان بمقدّماته من الطهارات وغيرها شروعا في إطاعة الأمر النفسيّ.

نعم من أتى بالمقدّمات بقصد التوصّل إلى إطاعة الأمر النفسيّ في موطنه عدّ منقادا وأهلا للمدح والثواب ، وهو كاف في صلوحيّة الشيء للتقرّب وحصول العباديّة ، ولا دليل على لزوم ورود أمر آخر على صلاحيّته للتقرّب والعباديّة ، خلافا لما يظهر من مناهج الوصول (٢).

نكات فقهية

منها : أنّ الوضوء التهيّئي قبل الوقت صحيح لما عرفت من تحقّق القربة بإتيان الطهارات بقصد التوصّل إلى إطاعة الأمر النفسيّ المتوجّه إلى غاياتها من دون حاجة إلى قصد الأمر النفسيّ المتوجّه إلى الطهارات لو قلنا به ، أو من دون

__________________

(١) راجع مناهج الوصول : ١ / ٣٨٢ ـ بدائع الأفكار : ١ / ٣٨١.

(٢) راجع : ١ / ٣٨٦.

٥٢٤

حاجة إلى الأمر الغيريّ لو قلنا بالملازمة الشرعيّة وكون امتثاله موجبا للقربة ، أو من دون حاجة إلى داعويّة الأمر النفسي المتوجّه إلى الغايات ، فإنّ مقتضى تحقّق القربة بإتيانها بقصد التوصّل هو جواز الإتيان بالطهارات الثلاث قبل أوقات غاياتها لحصول عباديّتها بأن يكون الداعي له إلى إيجادها ـ كما في نهاية الاصول ـ هو وقوعها في طريق امتثال الأمر الذي يعلم بتحقّقه بعد دخول الوقت ؛ ولعلّ هذا هو المبنيّ للقول بصحّة الوضوء التهيئي. ويؤيّده المرسل المرويّ عن الذكرى من قولهم عليهم‌السلام : «وما وقّر الصلاة من أخّر الطهارة لها حتّى يدخل وقتها» (١).

وعليه فيمكن أن يأتي المكلّف بالوضوء بقصد التوصّل إلى غايته قبل حلول وقت غايته لكفاية ذلك في عباديّته ، فيحصل بذلك الوضوء المقدّمي الذي يشترط بأن يؤتى به بقصد العبادة ولا دخل في صيرورته عبادة حلول الوقت ، وممّا ذكر يظهر أنّه لا وجه للقول بأنّ إتيان الوضوء بتلك الغاية ـ أعني غاية التهيّؤ للصلاة ـ لم يثبت مشروعيّته في الشرع ، لما عرفت من وضوح مقدّميّة الوضوء للصلاة مع قصد القربة والعبادة وكفاية قصد التوصّل به إلى غايته وهي الصلاة في تحقّق قصد القربة والعبادة ، فلا حاجة في إثبات مشروعيّته قبل الوقت إلى ورود دليل آخر.

وربّما يستدلّ على استحباب الوضوء التهيّئي بالآيات الآمرة باستباق الخيرات والمسارعة إلى مغفرة الله سبحانه بتقريب أنّ أفضليّة الصلاة في أوّل وقتها تدلّ بدلالة الاقتضاء على جواز الإتيان بالوضوء للتهيّؤ قبل الوقت ، لوضوح أنّه إذا لم يخيّر للمكلف الإتيان بالوضوء للتهيّؤ قبل الوقت لم يتمكّن من الإتيان بالصلاة في أوّل وقتها ، ولكان الحثّ على الإتيان بها وقتئذ في تلك الأدلّة لغوا ظاهرا ، ومع سقوطها لم يمكن الحكم بأفضليّة الصلاة في أوّل وقتها.

__________________

(١) الوسائل : أبواب الوضوء ، الباب الرابع.

٥٢٥

وفيه أوّلا : أنّ الاستباق والمسارعة في كلّ شيء بحسبه ، فإذا كان الصلاة مشروطة بالوقت كانت المبادرة إليها أيضا مشروطة بالوقت ، فإذا كانت المبادرة إلى الصلاة مشروطة بالوقت كان استحباب مقدّميّتها أيضا مشروطا بالوقت ، والتفكيك بين استحباب الشىء واستحباب مقدّماته في الاشتراط والإطلاق غير معقول ، ودعوى إمكان التفكيك في كيفيّة الاشتراط بأن تكون المسارعة مشروطة بالوقت على نحو الشرط المتقدّم والوضوء مشروطا به بنحو الشرط المتأخّر كما في المستمسك (١) مندفعة بأنّ الآيات المذكورة لا تدلّ على التفكيك المذكور بين المقدّمة وذيها. وعليه ، فلا دليل على التفكيك.

وثانيا : أنّه لو سلّمنا بدلالتها على جواز الإتيان بالوضوء قبل وقت الصلاة ، فهي كما في التنقيح لا تدلّ بوجه على أنّ الإتيان به بتلك الغاية ـ أعني غاية التهيّؤ للصلاة ـ أمر مشروع في الشريعة المقدّسة وأنّه موجب لصحّته وتماميّته ؛ وذلك لإمكان الإتيان به قبل الوقت بغاية الكون على الطهارة أو بغاية صلاة مندوبة أو لأجل استحبابه النفسيّ بناء على ثبوته ، على أنّا لو سلّمنا بدلالتها على مشروعيّة الوضوء للتهيّؤ قبل وقت الصلاة فلما ذا خصّصوا استحبابه بما إذا أتى به قريبا من الوقت؟! لأنّه على ذلك لا فرق في استحبابه للتهيّؤ بين الإتيان به قريبا من الوقت أم بعيدا عنه ، كما إذا توضّأ أوّل طلوع الشمس مثلا للتهيّؤ لصلاة الظهر (٢).

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ إمكان الإتيان بالوضوء بسائر الغايات لا ينافي دلالة الأدلّة المذكورة على استحباب إتيان الوضوء قبل وقت الصلاة للتهيّؤ وتحقّق المسارعة المندوبة ، لأنّ كلّ سبب يقتضي مقتضاه.

واستدلّ في التنقيح على استحباب مشروعيّة الوضوء للتهيّؤ قبل الوقت

__________________

(١) ٢ / ٣٨٩.

(٢) التنقيح : ٤ / ٨ ـ ٧.

٥٢٦

بإطلاق قوله عزّ من قائل : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ...)(١) نظرا إلى أنّ القيام نحو الشيء على ما يستعمل في غير اللغة العربيّة أيضا إنّما هو الاستعداد والتهيّؤ له ، وقد دلّت الآية المباركة على أنّ من تهيّأ للصلاة فشرع له الوضوء أعني الغسلتين والمسحتين.

ومقتضى إطلاقها عدم الفرق في ذلك بين القيام لها قبل الوقت أو بعده ، نعم يختصّ ذلك بما إذا أتى بالوضوء قريبا من وقت الفريضة لعدم صدق القيام لها ، في مثل ما إذا توضأ في أوّل الصبح مثلا تهيّؤا لصلاة الظهر ، هذا (٢).

ويشكل ذلك أنّ الآية في مقام بيان كيفيّة الوضوء من الغسلتين والمسحتين عند إرادة الصلاة والتهيّؤ لها بمالها من الشرائط ، ومن جملتها وقوعها في الوقت. وعليه فلا إطلاق لها من جهة القيام لها قبل الوقت ، فتدبّر جيّدا.

ومنها الوضوء في الوقت ، فإن أتى به بداعي أمره الغيريّ متقرّبا به إلى الله تعالى صرّح في منهاج الوصول بصحّته لصلوح الموضوع للتقرّب ، وهو كاف في الصحّة.

وفيه : أنّ ذلك صحيح إذا ثبت استحباب النفسيّ للطهارات ، فإنّ الحسن الفعليّ موجود على المفروض والحسن الفاعليّ المعتبر انضمامه إلى الحسن الفعليّ في تحقّق الطاعة أيضا متحقّق ، إذ لا يعتبر فيه أن يكون ناشئا من قبل قصد التقرّب بذلك الحسن الفعليّ ، بل يكفي وإن كان ناشئا من قصد التقرّب بجهة اخرى ولو لم تكن تلك الجهة موجبة للتقرّب ، كالأمر الغيريّ ، لما عرفت من أنّه لا طاعة ولا قرب ولا مثوبة للأمر الغيريّ.

وأمّا بناء على عدم ثبوت استحباب النفسيّ للطهارات ، فالإتيان بداعي أمره

__________________

(١) المائدة : ٢.

(٢) التنقيح : ٤ / ٨.

٥٢٧

الغيريّ سواء كان وجوبيا أو ندبيا لا يصحّحه لعدم صلوحيّة الموضوع للتقرّب وعدم الإطاعة والقرب والمثوبة في الأوامر الغيريّة.

نعم لو أتى بها بقصد التوصّل إلى الغاية المندوبة من دون أن يقصد الأمر الغيريّ الندبيّ المتعلّق بالوضوء وأخويه يكفي ذلك في الصحّة ، لأنّ قصد التوصّل إلى الغاية المندوبة غير مناف لوجوب الوضوء وأخويه بالأمر الغيريّ ، فإنّ للمكلّف أن يأتي بالوضوء الواجب بداعي الوصول به إلى تلك الغاية المندوبة كنافلة الفجر فإنّها مستحبّة سواء كان الوضوء أيضا مستحبّا أم لم يكن.

وبعبارة اخرى لا ينافي الوجوب الوصفيّ في الوضوء وأخويه للندب الغائيّ كما أفاد السيّد في العروة والشرّاح عليهم الرحمة.

وسرّ ذلك أنّ المكلّف قد أتى بالطهارات متقرّبا بها إلى الله سبحانه وتعالى : والمفروض هو توقّف الغاية على الإتيان بها متقرّبا بها إلى الله وهو حاصل ، فلا بدّ من أن يحكم بالصحّة ، كما إذا أتى بها للتوصّل إلى الغايات الواجبة المترتّبة عليه لتحقّق الطهارات التي هي المقدّمة للصلاة الواجبة بذلك مع قصد التقرّب ؛ فالتوصّل إلى الغاية المندوبة أو الغاية الواجبة يكفي في تحقّق العبادة. ولا يلزم لشيء آخر ، بل الأمر الغيريّ سواء كان استحبابيّا أو وجوبيّا لا يفيد في تحقّق العبادة. لما عرفت من أنّه لا إطاعة ولا قرب ولا مثوبة للأمر الغيريّ ، فلو أغمضنا عن ذلك فقد وقع الكلام في صحّة الطهارات إذا أتى بها بقصد الأمر الندبيّ المتعلّق بها بناء على الاستحباب النفسيّ أو الأمر الندبيّ المتوجّه إليه من جهة الغاية المندوبة من جهة أنّ صحّتها فرع بقاء أمرها وهو فرع أن تكون الطهارات الثلاث متّصفة بالاستحباب مع عروض الوجوب المقدّميّ الغيريّ الشرعيّ عليها بناء على ثبوت الملازمة بين وجوب ذيها ووجوبها شرعا ، والمفروض هو استحالة اجتماع الوجوب والاستحباب في شيء واحد لأنّهما ضدّان لا يجتمعان في محلّ واحد ؛ فمقتضى حلول الوقت أن تكون الطهارات

٥٢٨

الثلاث متّصفة بالوجوب لكونها مقدّمة للغاية الواجبة وهي الصلاة الفريضة ، ومقتضى كونها مستحبّات نفسيّة أو مقدّمة للغايات المندوبة كالنوافل وغيرها أن تكون متّصفة بالاستحباب ، وهما لا يجتمعان ، فمع سقوط الأوامر الاستحبابيّة لا مجال لقصدها في تحقّق العبادة .. اجيب عن ذلك بانّه لا مانع من اجتماع الوجوب الغيريّ والاستحباب الغيريّ في شيء واحد من جهتين ، بناء على ما هو المختار من جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بالجهتين ، وحيث إنّ في المقام تكون الجهات متعدّدة فإنّ جهة الوجوب الغيريّ من المقدّميّة للغاية الواجبة ، وجهة الاستحباب الغيريّ من جهة المقدّميّة للغاية المندوبة ، فلا مانع من اجتماعهما كما لا يخفى.

اورد عليه في المحاضرات بأنّ تعدّد الجهة إنّما يجدي في جواز اجتماع الأمر والنهي إذا كانت الجهة تقييديّة ، وأمّا إذا كانت تعليليّة كما في المقام فلا أثر لتعدّدها أصلا.

وتوضيح ذلك أنّ الجهات إذا كانت تقييديّة تعدّدت العناوين ، فإنّ الطهارات بعنوان كونها مقدّمة للصلاة الواجبة تصير واجبة ، وبعنوان كونها مقدّمة للصلاة النافلة مثلا تصير مستحبّة ، أو باعتبار ذواتها تكون مستحبّات نفسيّة ، كما هو الظاهر من المحكيّ عن سلطان العلماء في حاشيته على الروضة ، حيث قال :

لا نسلّم بأنّه لا يكون في وقت العبادة الواجبة إلّا الوضوء الواجب ، لأنّ الوضوء في كلّ وقت مستحبّ.

وكيف كان ، فمع تعدّد العناوين لا يجتمع الوجوب والاستحباب في شيء واحد ، ولا يلزم الاستحالة.

وأمّا إذا كانت الجهات حيثيّات تعليليّة ، فهي توجب تعلّق الوجوب والاستحباب بشيء واحد وهي الطهارات الثلاث وهو يلزم الاستحالة ، وحيث إنّ الطهارات مورد الأمر والنهي بجهة المقدّميّة ، فالمقدّميّة حيثيّة تعليليّة فيجتمع الأمر

٥٢٩

الندبيّ والوصوليّ في نفس الطهارات ، وهو مستحيل.

ويمكن الذبّ ، عنه بأنّ الغايات والحيثيّات التعليليّة عناوين الموضوعات في الأحكام العقليّة ، فالجهات التعليليّة في الأحكام العقليّة ترجع إلى التقييديّة وحيث إنّ الكاشف عن وجوب المقدّمة هو العقل بالملاك العقليّ ، والعقل يحكم بوجوب المقدّمة من حيث هي مقدّمة ، فلا بدّ من كشف الحكم الشرعيّ بذلك الملاك على الحيثيّة التقييديّة.

ولا مجال لإنكار رجوع الحيثيّات التعليليّة في الأحكام العقليّة إلى التقييديّة ، لأنّ إنكاره كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره مستلزم لإسراء حكم العقل من موضوعه إلى غيره بلا ملاك ، فإنّ الظلم مثلا إذا كان قبيحا عقلا فوقع عمل في الخارج معنونا بعنوان الظلم وعناوين أخر ، فحكم العقل بقبحه إذا لم يرجع إلى حيثيّة الظلم ، فإمّا أن يرجع إلى حيثيّات أخر وهو كما ترى أو إلى الذات بعليّة الظلم بحيث تكون الذات قبيحة لا الظلم ، وإن كان هو علّة لقبحها فهو أيضا فاسد وخلف ، فإنّ الذات تكون قبيحة بالعرض ، فلا بدّ وأن يكون الظلم قبيحا بالذات فيصير الظلم موضوعا بالحقيقة للقبح. وهذا معنى رجوع الحيثيّات التعليليّة إلى التقييديّة (١).

وعليه ، فالوجوب الغيريّ يتعلّق بالمقدّمة الموصلة للغاية الواجبة ، فلا ينافي تعلّق الاستحباب بذوات الطهارات بناء على ثبوت الاستحباب الذاتيّ أو تعلّق الاستحباب بالمقدّمة الموصلة للغاية الندبيّة لتعدّد العناوين ، فإنّ الطهارات الثلاث بحيثيّة المقدّميّة الموصلة للغاية الواجبة أو المستحبّة مورد تعلّق الأمر الغيريّ.

نعم ، لو قيل بانحلال المقدّمة إلى الذات والقيد ، وتكون الذات متعلّقة للأمر الغيريّ فينافي الأمر الندبيّ المتعلّق بالذات بناء على استحباب الذاتيّ كما لا يخفى.

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٩٠.

٥٣٠

اللهمّ إلّا أن يقال : في دفع الإشكال حينئذ بأنّ اختلاف الوجوب والاستحباب ليس إلّا من قبيل اختلاف الرتبة مع تحقّق أصل الرجحان في حكميهما ، ومقتضى ذلك بقاء الرجحان فيها مع تبدّل رتبته بعروض الوجوب الغيريّ.

ولكنّه متفرّع على كون الاستحباب والوجوب من باب الإرادة إلّا من باب البعث ، فإنّ الفارق بين الندب والوجوب حينئذ هو اختلاف الطلب فيهما بالشدّة والضعف.

وأمّا إذا كان الوجوب والاستحباب من باب البعث فلا وجه لتصوّر الاشتداد فيه ، لأنّهما أمران اعتباريّان بسيطان ، والفارق بينهما بورود الترخيص وعدمه ، فيكون الندب منتزعا من الطلب المرخّص في تركه ، والوجوب منتزعا من الطلب غير المرخّص في تركه. ومع اختلافهما وتضادّهما لا مجال للأمر الاستحبابيّ بوجود الأمر الوجوبيّ ، إذ الترخيص في الترك ينافي عدم الترخيص في الترك.

نعم ، لو قيل ـ كما في المستمسك ـ إنّ المقدّميّة دائما إنّما تقتضي سراية الحيثيّة الاقتضائيّة من ذي المقدّمة إلى المقدّمة ولا تقتضي سراية الحيثيّة اللّااقتضائيّة ، ولذا لا تجد التنافي بين إباحة الشيء وتحريم مقدّمته ، ولكن تجد التنافي بين إباحة الشيء وتحريمه ، فإنّ الإباحة لمّا كانت لا اقتضاء لا تسري من ذي المقدّمة إلى المقدّمة ليلزم التنافي بينها وبين تحريم المقدّمة.

فالوضوء الذي يكون مقدّمة لغاية مندوبة لا يسري إليه الندب بذاته وقيده ، بل إنّما يسري إليه الندب بذاته لا غير ، وأمّا قيده ـ أعني جواز الترك ـ فإنّما يكون للوضوء لقصور ذات الندب في نظر العقل عن اقتضاء الإلزام لا بالسراية من الغاية المندوبة. ومثل هذه المرتبة من الطلب لا تنافي وجوبه الغيريّ الناشئ من مقدّميّته للغاية الواجبة ، إذ يمكن ان يكون حينئذ واجدا المرتبتين : إحداهما لا اقتضاء لها في المنع من الترك والاخرى لها هذا الاقتضاء ، فيمكن الإتيان به بداعي تلك المرتبة

٥٣١

فيكون امتثالا لذات الندب (١) ، لارتفع التنافي بين الأمر الندبيّ الغيريّ والأمر الوجوبيّ ، ولكن يبقى الإشكال في اجتماع الأمر الندبيّ النفسيّ المتعلّق بالطهارات بناء على ثبوت الأمر النفسيّ مع الأمر الوجوبيّ الغيريّ المتعلّق بها للغاية الواجبة ، فإنّ حيثيّة لا اقتضاء بالنسبة إلى المنع من الترك لا تأتي من ناحية ذي المقدّمة حتّى يدّعى بأنّها لا تسري من ذي المقدّمة إلى المقدّمة ، بل هي من مقوّمات الاستحباب الذاتيّ ، فتدبّر.

فتحصّل أنّ اللّازم في تحقّق قصد القربة في الطهارات الثلاث المأتيّ بها في وقت الصلاة الواجبة هو أن يؤتى بها للتوصّل إلى الغاية الواجبة أو الغاية المندوبة ، وأمّا قصد الأمر النفسيّ المتوجّه إلى الطهارات الثلاث فهو مبنيّ على ثبوت الاستحباب الذاتيّ ، ولا دليل له. كما أنّ قصد الأمر الغيريّ سواء كان وجوبيّا أو ندبيّا لا ينفع مع ما عرفت من أنّ الأمر الغيريّ لا طاعة ولا قرب ولا مثوبة له.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ قصد الأمر الغيريّ يحتوي قصد التوصّل إلى الغاية واجبة كانت أو مستحبّة ، فإنّ الأمر الغيريّ لا يكاد يمتثل إلّا إذا قصد التوصّل إلى الغير ، حيث لا يكاد يصير داعيا إلّا مع هذا القصد.

قال في الكفاية : لو كان المصحّح لاعتبار قصد القربة في الطهارات أمرها الغيريّ لكان قصد الغاية ممّا لا بدّ منه في وقوعها صحيحة ، فإنّ الأمر الغيريّ لا يكاد يمتثل إلّا إذا قصد التوصّل إلى الغير ، حيث لا يكاد يصير داعيا إلّا مع هذا القصد ، بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدّمة عبادة ولو لم يقصد أمرها ، بل ولو لم نقل بتعلّق الطلب بها أصلا (٢) فالملاك في وقوع المقدّمة عبادة في الوقت ، بل قبله أيضا ، هو قصد التوصّل إلى إحدى الغايات من دون فرق بين كونها مستحبّة أو واجبة.

__________________

(١) المستمسك : ٢ / ٣١٠.

(٢) الكفاية : ١ / ١٨٠.

٥٣٢

وهذا هو الذي أصرّ عليه سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره حيث قال : إنّ الاستحباب النفسيّ غير ثابت ولا أثر في كلمات الأصحاب بالنسبة إلى قصد الأمر الغيريّ ، هذا مضافا إلى أنّ قصد الأمر الغيريّ لا يكون مقرّبا : فعباديّة الطهارات الثلاث من جهة قصد التوصّل بها إلى ذيها ، وهذا أمر واضح. وصاحب الكفاية وإن ذهب إلى ثبوت الأمر النفسيّ ولكنّه اعترف بأنّ الملاك في وقوع المقدّمة عبادة هو قصد التوصّل في قوله الآنف ، فلا تغفل.

وانقدح ممّا ذكر جواز قصد التوصّل إلى أزيد من الغاية الواحدة ، فيجوز أن يتوضّأ للكون على الطهارة ولصلاة النافلة ولصلاة الفريضة وغيرها ، لأنّ عباديّة الوضوء تحقّقت بالتوصّل إلى الغاية الشرعيّة سواء كانت منفردة أو متعدّدة.

٥٣٣

الخلاصة :

المقام الثامن : في تقسيمات الواجب

منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط

ويقع الكلام في مواضع :

الموضع الأوّل : في تعريفهما :

والأقرب هو ما عرّفه العميديّ من أن المطلق هو ما لا يتوقّف وجوبه على أمر زائد على الأمور المعتبرة في التكليف من العقل والعلم والبلوغ والقدرة وأنّ المشروط هو ما كان وجوبه موقوفا على أمر آخر أيضا.

والمطلق بناء على هذا التعريف يقابل المشروط تقابل العدم والملكة وهو مساعد مع العرف كما لا يخفى.

الموضع الثاني : إنّ الشروط في القضايا الشرطيّة وإن كانت راجعة إلى الهيئة بحسب القواعد العربيّة ولكنّها منصرفة عنها إلى المادّة بقرينة الوجدان لأنّا نجد بالوجدان أنّ الإرادة موجودة بالنسبة إلى المشروط قبل تحقّق الشرط والإنشاء الحقيقيّ تابع للإرادة النفسانيّة فإذا كانت الإرادة النفسانيّة موجودة في النفس قبل تحقّق الشرط كان الإنشاء أيضا كذلك فالإرادة والوجوب فعليّة ولا تعليق فيهما والشرط والقيد شرط وقيد للمادّة ولذا لا فرق بين قوله صلّ مع الطهارة وقوله إذا كنت طاهرا فصلّ من جهة فعليّة الإرادة وإنشاء الوجوب وإنّما الاختلاف بينهما من

٥٣٤

جهة أنّ القيد لازم التحصيل في الأوّل دون الثاني لإطلاق المادّة في الأوّل دون الثاني.

وما ذكرناه لا يكون من جهة استحالة رجوع القيود والشروط إلى الهيئة بدعوى أنّ معنى الهيئة من المعانيّ الحرفيّة فلا إطلاق فيها حتّى يصحّ تقييدها لإمكان أن يقال إنّ عدم إمكان التقيّد بعد وجود المعانيّ الحرفيّة وأمّا تقييدها حال تحقّقها فلا مانع منها كما لا يخفى.

بل يكون من جهة حكم الوجدان بالتقريب المذكور ومقام الإثبات يتبع مقام الثبوت.

وبالجملة فالمعنى المستفاد من الهيئة والمنشأ بها متحقّق بالفعل في فرض وجود الشروط والقيود من دون ابتنائه على تحقّقها وإنّما المتوقّف تأثيره في المكلّف فلا حالة منتظرة للإرادة والإنشاء بل هما موجودان بالفعل وإنّما باعثيّتهما موقوفة على تحقّق الشروط والقيود فلا تغفل.

الموضع الثالث : إنّ النزاع يعمّ المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط كالمقدّمات الوجوديّة للواجب المطلق ولا وجه لتخصيص النزاع بالثاني لعموم الملاك لأنّ الملازمة الشرعيّة إن كانت ثابتة فلا فرق فيها بين كون الواجب مطلقا أو مشروطا.

نعم لا يعمّ النزاع المقدّمات الوجوبيّة وإلّا لزم وجوب الشيء بشرط وجوده أو على تقدير وجوده وهو محال.

الموضع الرابع : إنّ بناء على رجوع القيود والشروط إلى المادّة لا الهيئة هل تكون المقدّمات الوجوديّة متعلّقة للطلب في الحال أم لا.

والحقّ أنّها تكون متعلّقة للطلب في الحال على نحو تعلّق الطلب بذيها فإن كان ذو المقدّمة واجبا في الحال فكذلك المقدّمات ولكنّ حيث كان وجوب ذي المقدّمة

٥٣٥

غير منجّز أي لا يجب البدار إلى امتثاله قبل حصول الشرط كان وجوب مقدّماته أيضا كذلك لتبعيّة وجوب المقدّمات عن وجوب ذيها في جميع الخصوصيّات وعليه فالوجوب حاليّ وفعليّ ولكنّ لا فاعليّة له ما لم يتحقّق التنجّز بوجود الشرط وحصوله.

الموضع الخامس : إنّ الحقّ هو وجوب المقدّمات المفوّتة قبل حصول شرط الوجوب فيما إذا علم بأنّ غرض الشارع على نحو لا يرضى بتركه وعلم بتوقّفه على الإتيان بمقدّماته المفوّتة قبل الوقت بل لو كان المولى غافلا عن مجيء صديقه لكن يعلم العبد مجيئه وتعلّق غرض المولى بإكرامه على تقدير مجيئه وتوقّفه على مقدّمات كذائيّة يحكم العقل بإتيانها حفظا لغرضه اللزوميّ ولا يجوز التقاعد عنه.

والوجوب المتعلّق بالمقدّمات المذكورة قبل الوقت وجوب فعليّ منجّز كما لا يخفى.

الموضع السادس : إنّ الظاهر هو وجوب تعلّم الأحكام حتّى في الأحكام المشروطة قبل حصولها.

أمّا في الأحكام المطلقة فلاستقلال العقل بتنجّز الأحكام على الأنام بمجرّد قيام احتمالها إلّا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف فيستقلّ بعده بالبراءة العقليّة والإتيان بها يتوقّف على تعلّمها في الغالب.

وأمّا في المشروطة فلمّا عرفت من وجوب مقدّمات المفوّتة فيما إذا علم أنّ الشارع لا يرضى بتركها مطلقا ولم يسع الوقت للتعلّم بعد حصول الشرط.

هذا مضافا إلى روايات خاصّة تدلّ على وجوب التعلّم والتفقّه في الدين كموثّقة أبي جعفر الأحول عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

لا يسع الناس حتّى يسألوا ويتفقّهوا.

ومرسلة يونس قال سئل أبو الحسن عليه‌السلام هل يسع للناس ترك المسألة عمّا

٥٣٦

يحتاجون إليه قال : لا.

ومرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسّلوه فمات فقال : قتلوه ألا سألوا؟! فإنّ شفاء العيّ السؤال وغير ذلك من الأخبار.

ولكنها غير شاملة لما يكون خارجا عن محلّ الابتلاء فلا يجب تعلّم ما يكون خارجا عن محلّ الابتلاء إلّا من باب الواجبات الكفائيّة.

والظاهر أنّ الوجوب المذكور إرشاديّ لا نفسيّ ولا غيريّ ولا نفسيّ طريقيّ ومنها تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز.

ويقع الكلام في امور.

الأمر الأوّل : إنّه يصحّ تقسيم الواجب المطلق إلى المنجّز والمعلّق إذ امتثال المطلق إمّا لا يتوقّف على أمر متأخّر فهو منجّز ، وإمّا يتوقّف على أمر متأخّر فهو معلّق وعليه فلا مانع من تقسيم الواجب إلى ثلاثة أقسام المطلق والمشروط والمطلق إلى المنجّز والمعلّق.

ولا يصحّ إرجاع الواجب المعلّق إلى المشروط لاتّصاف الفعل في الواجب المعلّق بالمصلحة التامّة الداعية إلى التكليف به قبل تحقّق قيده فلا محالة تتعلّق به الإرادة لتمام المقتضي وعدم المانع نعم امتثاله لا يصحّ إلّا بعد حصول قيده.

هذا بخلاف المشروط على مذهب المشهور فإنّ قبل تحقّق الشرط ليست المصلحة تامّة وداعية إلى التكليف به وعلى المختار وإن كان التكليف فيه قبل تحقّق القيد خارجا فعليّا ولكنّه على فرض وجود القيد لا مطلقا.

وعليه فلا وقع لما في الوقاية من إنكار المعلّق وإرجاعه إلى المشروط معلّلا بأنّ القيد قد يكون داخلا في حيّز الإرادة وقد يكون خارجا والأوّل هو المطلق والثاني هو المشروط ولا ثالث لهما بحكم العقل لكي يثبت به الأقسام ويسمّى المعلّق وحيث

٥٣٧

إنّ الزمان خارج عن القدرة والقيود الخارجة عن قدرة المكلّف من قبيل الثاني لاستحالة التكليف بغير المقدور فالأوامر المتعلّقة بقيد الزمان يكون من قبيل المشروط قطعا.

وذلك لما عرفت من أنّ المنوط بوجود الزمان هو الامتثال لا المصلحة الباعثة على التكليف فإنّها تامّة ولا يتوقّف على وجود الزمان ولذا تكون الإرادة بتبعها موجودة بالفعل وله الفاعليّة.

هذا بخلاف المشروط فإنّ الطلب والإرادة في فرض حصول الشيء ولازمه هو إناطة الفاعليّة بوجود الشيء في الخارج والفرق بينهما ظاهر فلا وجه لإرجاع المعلّق إلى المشروط كما لا وجه لإنكار المشروط وإرجاعه إلى المعلّق لما عرفت من الفرق بينهما هذا مضافا إلى أنّ بعض القيود لا يصلح لأن يكون قيدا للواجب كقول الطبيب إن مرضت فاشرب المسهل فإنّ شرب المسهل لدفع المرض فلا يعقل أن يكون المرض دخيلا في مصلحة شرب المسهل فتحصّل أنّ الواجب على ثلاثة أقسام لأنّه إمّا مطلق أو مشروط والمطلق إمّا منجّز أو معلّق.

الأمر الثاني : في الإشكالات الواردة على ثبوت الواجب المعلّق والجواب عنها وهي مختلفة.

منها : إنّ الإرادة التامّة لا تنفكّ عن المراد فكذلك الإيجاب غير منفكّ عن الواجب وعليه فلا يمكن أن يتعلّق الإيجاب بأمر استقباليّ للزوم التفكيك كما لا يخفى.

وفيه أوّلا : إنّ الإرادة تتعلّق بالوجدان بالنسبة إلى أمر متأخّر استقباليّ كما تتعلّق بأمر حاليّ ويشهد له تحمّل المشاقّ في تحصيل المقدّمات فيما إذا كان المقصود بعيدة المسافة إذ ليس ذلك إلّا لأجل تعلّق الإرادة بالمقصود البعيد فإذا كان المقيس عليه كذلك فالمقيس أيضا كذلك.

هذا مضافا إلى أنّ الواجبات التدريجيّة يكون أجزائها تدريجيّة الحصول مع أنّه

٥٣٨

لا إشكال في وجوب جميع هذه الأجزاء المتدرّجة قبل الإتيان بها فالوجوب المتعلّق بها فعليّ مع أنّ الواجب وهي أجزاء المركّب استقباليّ.

وثانيا : أنّ دعوى عدم إمكان تعلّق الإرادة بأمر استقباليّ يحتاج إلى برهان مستأنف ولم يقم عليه لو لم نقل بقيامه على إمكانه بعد ما عرفت من قضاء الوجدان بوقوعه.

كيف وإرادة الله تعالى قد تعلّقت أزلا بإيجاد ما لم يكن موجودا على الترتيب السببيّ والمسبّبيّ من غير إمكان التغيير والحدوث في ذاته وإرادته.

ولا يمكن أن يقال في حقّه تعالى كان له شوق ثمّ بلغ الشوق حدّ النصاب فصار إرادة إذ لا تغيّر ولا تحوّل في ذاته سبحانه وتعالى.

وتوهّم أنّ الإرادة هي التي لا تنفكّ عن تحريك العضلات فلا يمكن تحقّق الإرادة من دون تحريك العضلات مدفوع بأنّ الإرادة لا تكون ملازمة لذلك ألا ترى أنّا نريد في أذهاننا وجود أشياء مع أنّه لم يكن فيها تحريك العضلات وهكذا تكون المجرّدات مريدة للأشياء مع أنّه لا معنى لتحريك العضلات بالنسبة إليهم وعليه فلا مانع من تعلّق الإرادة بأمر استقباليّ من دون تحريك للعضلات قبل حلول وقته من دون فرق بين الإرادة التكوينيّة أو التشريعيّة.

ومنها : أنّه لا يعقل فعليّة الحكم قبل تحقّق فعليّة الموضوع بجميع ما اعتبر فيه من القيود وتحقّقه في الخارج ولا فرق فيه بين الموقّتات وغيرها إذ فعليّة الجميع متوقّفة على تحقّق الموضوع بقيودها وعليه فلا يعقل الواجب المعلّق بحيث يكون الحكم فيه فعليّا والواجب استقباليّا.

وفيه أنّ القيود إن كانت راجعة إلى الهيئة ففعليّة الحكم متوقّفة على تحقّق الموضوع بقيوده ولا يكون قبل تحقّق الموضوع إلّا صورة الحكم ودعوى عدم تعقل فعليّة الحكم قبل تحقّق فعليّة الموضوع صحيحة في هذه الصورة.

٥٣٩

وأمّا إذا كانت القيود راجعة إلى المادّة فالحكم مطلق ومتعلّق بالموضوع فإن كان القيد فعليّا وقابلا للتحصيل فهو مطلق منجّز كقوله صلّ مع الطهارة وإن لم يكن كذلك ولكنّ علم بمجيئه فهو مطلق معلّق كقوله حجّ في الموسم أو صلّ في الظهر ويكون الحكم فيه فعليّا نعم يتوقّف تنجّزه على تحقّق الموضوع في الخارج وبالجملة أنّ الحكم في القضايا الحقيقة فعليّ وإنّما تنجّزه متوقّف على تحقّق موضوعها في الخارج فقولهم المسافر يجب عليه القصر يدلّ على الحكم الفعليّ وإنّما تنجّزه متوقّف على تحقّق المسافر في الخارج ولا فرق في القضايا الحقيقة بين أن تكون الموقّتة أو غيرها والقضايا الحقيقيّة قضايا حمليّة وإمكان إرجاعها إلى الشرطيّة لا يوجب خروجها عن الحمليّة ومن المعلوم أنّ ترتّب الحكم في القضايا الحمليّة على موضوعها فعليّ وليس بتعليقيّ كما لا يخفى.

الأمر الثالث : إنّ مقتضى ما مرّ من تصوير تعليق الوجوب هو ارتفاع الإشكال الذي يرد على الحكم بلزوم الإتيان بالمقدّمة قبل إتيان زمان الواجبات الموقّتة فيما إذا فرض عدم التمكّن منها بعد مجيء زمان الواجبات الموقّتة.

فإنّ الوجوب على الفرض فعليّ وله الفاعليّة وعليه يلزم الإتيان بالمقدّمة التي لا يتمكّن منها بعد إتيان زمان الواجبات الموقّتة ولا كلام فيه.

وإنّما الكلام في أنّ هذا الإشكال هل يرتفع من طريق آخر أو ينحصر في الوجوب التعليقيّ.

ذهب في الكفاية إلى عدم انحصار رفع الإشكال في التعليق أو ما يرجع إليه بدعوى إمكان التفصّي عنه بما إذا فرض أنّ الشرط مأخوذ بنحو الشرط المتأخّر الذي يكون معلوم الوجود فيما بعد ضرورة فعليّة وجوبه وتنجّزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدّمته.

وفيه أنّ الشرط المتأخّر لا يصلح لرفع الإشكال في أكثر الموارد إذ الشرط هو

٥٤٠