عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

لا يقال إنّ الإرادة بالنسبة إلى الأمر الاستقباليّ ربما لا تبقى كما إذا عرض له الجنون أو الموت أو الغفلة فالعلّة حينئذ تحقّقت ولم يتحقّق المعلول فلزم الانفكاك لأنّا نقول إنّ في هذه الموارد يكشف عن أنّ العلّة لم تتحقّق لأنّ العلّة هي التي تبقى إلى وقت حدوث المعلول فما لم تبق ليس بعلّة.

هذا مضافا إلى أنّ ذلك ربما يتّفق بالنسبة إلى ما ربما يحتاج إلى المقدّمات في الواجبات الحاليّة كما إذا حصلت الإرادة نحو فعل شيء في وقته مع عدم حصول مقدّماته الوجوديّة ثمّ بعد الإتيان ببعض المقدّمات عرض له الجنون ونحوه ولم تبق له إرادة ذيه فالإشكال مشترك الورود فكلّما قيل لجوابه فهو الجواب في الواجبات الاستقباليّة أيضا.

وممّا ذكر يظهر ما في إفاضة العوائد حيث قال : إنّ الإرادة على ما قرّرنا عبارة عن حالة نفسانيّة جزميّة وعبّرنا عنها بتجمّع النفس على فعل شيء بنحو لا تنفكّ تلك الحالة عن تحريك العضلات ومعلوم أنّ تلك الحالة في النفس لا تتحقّق ما لم تجزم بأنّها لو تحرّكت نحوه تقدّر على إتيانه وتصديق ذلك موكول إلى الوجدان. أترى تحقّق تلك الحالة لأحد بالنسبة إلى الطيران إلى السماء كما تتحقّق عند شرب الماء مثلا ولو كان الشوق إلى الطيران أشدّ بمراتب من الشرب ويكفيك ذلك برهانا وليس الفعل الموقّت قبل وقته إلّا كالطيران فعلا فلا يمكن تلك الحالة قبل الوقت (١).

لما عرفت من أنّ الإرادة ليست ملازمة لتحريك العضلات بل ربما تتحقّق من دون ذلك كاراداتنا في أنفسنا وإرادة الله تعالى بالنسبة إلى الأشياء هذا مضافا إلى أنّ إرادة كلّ شيء مستلزمة للتحرّك بحسب ذلك الشيء فإن كان الشيء فعليّا فالتحرّك نحوه فعليّا وإن كان استقباليّا فالتحرّك نحوه استقباليّا فالإرادة لا تنفكّ عن التحرّك.

__________________

(١) افاضة العوائد : ج ١ ص ١٧٦.

٤٦١

وأيضا قياس الأمر الاستقباليّ بالطيران في غير محلّه لأنّ المراد ليس هو الفعل الموقّت قبل وقته حتّى يصير كالطيران بل المطلوب هو الفعل الموقّت في وقته وتجمع النفس على فعله في وقته حاصل دون الطيران إلى السماء فإنّ الشوق إليه كلّما زيد فيه لا يوجب تجمّع النفس نحو فعله فلا تغفل.

هذا كلّه بالنسبة إلى المقيس عليه وهو الإرادة التكوينيّة.

وأمّا الجواب عن المقيس وهو الإرادة التشريعيّة فبأن يقال إنّ الانبعاث في الواجبات الاستقباليّة ممكن أيضا على طبق البعث فإذا كان البعث نحو أمر فعليّ فالانبعاث ممكن بالنسبة إليه وإذا كان نحو أمر استقباليّ فالانبعاث أيضا ممكن بالنسبة إليه وما ليس بممكن هو الانبعاث نحوه قبل مجيء وقته وهو ليس بمبعوث إليه.

فالممنوع هو إمكان الباعثيّة في الزمان المتقدّم لا الزمان المتأخّر وليس هو من أغراض البعث نحو الأمر الاستقباليّ وإلّا لزم الخلف كما لا يخفى.

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال وأمّا التشريعيّة فإمكان تعلّقها بأمر استقباليّ أوضح من أن يخفى ولو سلّمنا امتناعه في التكوينيّة فإنّها وإن تتعلّق بالأمر لغرض البعث ومعه لا بدّ وأن يكون الانبعاث ممكنا لكنّ يكفي إمكانه على طبق البعث في إمكانه وصحّته والبعث إلى أمر استقباليّ يقتضي إمكان الانبعاث إليه لا إلى غيره والأغراض المتعلّقة للبعث في الحال كثيرة بل قد عرفت أنّ البعث القانونيّ لا يمكن إلّا بهذا النحو فلا ينبغي الإشكال فيه (١).

وأيضا أفاد وأجاد المحقّق العراقيّ قدس‌سره حيث قال إنّ التكليف المعلّق يمكن أن يكون داعيا للمكلّف في ظرف العمل وهو الزمان المتأخّر إذا حضر أو الزمانيّ المتعذّر إذا حصل وأكثر من هذا الإمكان لا يعتبر في كون التكليف هو جعل ما يمكن أن يكون

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ١ ص ٣٦٣.

٤٦٢

داعيا ولو سلّمنا أنّ المراد من الإمكان في كون التكليف هو ما يمكن أن يكون داعيا هو إمكان الدعوة إلى المكلّف به في حين التكليف لكان التكليف في الواجب المعلّق واجدا لهذا الإمكان أيضا.

وذلك فيما لو كانت له المقدّمات المقوّمة فإنّ وجوب الواجب المعلّق يمكن أن يدعو المكلّف ويحرّكه إلى الإتيان به قبل تحقّق قيده (١).

وربما يجاب عن المقيس بأنّ البعث من الاعتباريّات والإرادة من التكوينيّات فلا يسري أحكام التكوين إلى الاعتباريّات فيجوز البعث نحو أمر متأخّر وإن لم يمكن إرادة أمر استقباليّ وتفصيل ذلك أنّ الإرادة إمّا هي الشوق النفسانيّ ولا إشكال في أنّه كما يتعلّق بأمر حاليّ كذلك يتعلّق بأمر استقباليّ من دون حاجة إلى إقامة برهان لكونه وجدانيّا وهذه الإرادة مهما بلغت ذروتها من القوّة والشدّة لا تكون علّة تامّة لتحريك العضلات نحو الفعل ولا يختلف باختلاف متعلّقه فإنّها عبارة عن الشوق الحاصل في أفق النفس سواء يكون متعلّقه أمرا تكوينيّا أو يكون أمرا تشريعيّا وسواء يكون متعلّقه فعل الإنسان نفسه وسواء يكون متعلّقه فعل غيره وتسمية الأوّل بالإرادة التكوينيّة والثاني بالإرادة التشريعيّة لا تتعدّى عن مجرّد الاصطلاح بلا واقع موضوعيّ لها أصلا وأمّا الإرادة تكون بمعنى الاختيار وإعمال القدرة ولكنّها لا تتعلّق بفعل الغير بل لا تتعلّق بفعل الإنسان نفسه إذا كان في زمن متأخّر فضلا عن فعل غيره ولا تختلف باختلاف متعلّقها فإنّ متعلّقها سواء كان من التشريعيّات أو التكوينيّات فهو واحد حقيقة وذاتا فالإرادة سواء كانت بمعنى الشوق أو بمعنى إعمال القدرة والاختيار تكوينية ولا نعقل للإرادة التشريعيّة معنى محصّلا في مقابل الإرادة التكوينيّة.

__________________

(١) بدائع الافكار : ج ١ ص ٣٥٦.

٤٦٣

نعم قد يقال إنّ المراد من الإرادة التشريعيّة هي الطلب والبعث باعتبار أنّه يدعو المكلّف إلى إيجاد الفعل في الخارج ولكنّه صرف التسمية ولا يترتّب عليها أحكام الإرادة التكوينيّة إذ لا جامع بينهما حتّى يوجب تسرية حكم إحداهما إلى الأخرى فإنّه من الاعتباريّات لا واقع موضوعيّ له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار وعليه فعدم تعلّق الإرادة التكوينيّة بالأمر المتأخّر زمنا لا يستلزم عدم تعلّق البعث بأمر متأخّر.

بل ما اعتبره المولى قد يكون متعلّقه حاليّا وقد يكون استقباليّا ولا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفيّة والأحكام الوضعيّة فكما أنّ الوصيّة بالملك بعد الموت معقولة كذلك البعث نحو أمر متأخّر معقول وقد تحصل من ذلك في تسرية أحكام الإرادة على الطلب والبعث مغالطة ظاهرة ولا منشأ لها إلّا الاشتراك في الإسم فلا مانع من الالتزام بالواجب المعلّق بالمعنى الذي ذكرناه وهو كون وجوبه مشروطا بشرط متأخّر (١).

وفيه أوّلا : أنّ البعث الانشائيّ ناش من الإرادة الجدّية بالنسبة إلى فعل الغير عن اختياره فإنّ المريد بعد ملاحظته أنّ صدور الفعل عن الغير يحتاج إلى الداعي قام بصدد إيجاب ما يصلح للداعويّة.

فهذه الإرادة الفعليّة بالنسبة إلى أمر متأخّر توجب إرادة البعث والطلب الإنشائيّ بغرض إمكان انبعاث الغير والإرادة بالنسبة إلى فعل الغير تسمّى بالإرادة التشريعيّة باعتبار توقّف المراد على البعث والحكم والتشريع ومقابلتها مع الإرادة التكوينيّة بفعل النفس من جهة التوقّف المذكور واشتراكهما من جهة كون الإرادة في الصورتين أمرا نفسانيّا وعليه فأحكام الإرادة التكوينيّة تجري فيها أيضا فإن قلنا بإمكان تعلّق

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٢ ص ٣٥١.

٤٦٤

الإرادة بالمتأخّر فلا إشكال فيها أيضا وإن قلنا باستحالة ذلك يشكل هنا أيضا وهكذا إرادة البعث الناشئة من إرادة فعل الغير أيضا إرادة نفسانيّة وهي ممكنة إذا كان الغرض من البعث هو إمكان الانبعاث طبق ما بعث إليه اذ مع البعث نحو أمر حالي فالانبعاث الحالي ممكن كما أنّ مع البعث نحو أمر استقباليّ فالانبعاث الاستقباليّ في الوقت المذكور ممكن ولا يلزم أزيد من ذلك في إمكان البعث هذا بخلاف ما إذا كان الغرض من البحث نحو أمر متأخّر هو إمكان الانبعاث الحالي فإنّه غير ممكن للزوم الخلف وهذه الإرادة ايضا تسمى ايضا بالارادة التشريعية باعتبار تعلقها بالبعث والحكم والتشريع فالإرادة فيه أيضا ليست اعتباريّة كما لا يخفى والقول بأنّ الإرادة التشريعيّة هي نفس البعث وهو أمر اعتباريّ كما ترى فتقسيم الإرادة إلى التكوينيّة والتشريعيّة لا إشكال فيه.

وثانيا : إنّ تفسير الإرادة بإعمال القدرة ناش من توهّم عدم انفكاكها عن تحرك الأعضاء مع أنّ الإرادة ليست ملازمة لذلك لما عرفت من تعلّق الإرادة بايجاد الصور الذهنيّة مع أنّه لا تحريك للأعضاء هنا وأيضا أنّ الله سبحانه وتعالى مريد للأشياء مع أنّه لا تحريك للأعضاء هذا مضافا إلى أنّ إعمال القدرة متفرّع على الإرادة وهو عين الإرادة بل هي بمعنى العزم والتصميم الموجب لتحريك الأعضاء كثيرا ما.

وثالثا : إنّه لو سلّمنا أنّ الإرادة بمعنى إعمال القدرة فهي تابعة لكيفيّة المراد فإن كان متأخّرا فإعمال القدرة بالنسبة إليه في المتأخّر لا المتقدّم وإلّا لزم الخلف.

وعليه فمن أراد وقوع المتدرّجات اختارها كذلك وأعمل القدرة كذلك تابعا لتدرّجها ولا يعمل القدرة قبل مجيء وقتها لأنّه خلف في إرادة المتدرّجات ولعلّ صدور المتدرّجات في موقعها بالإرادة الارتكازيّة من دون توجّه تفصيليّ إليها شاهد على أنّ المؤثّر فيها هو الإرادة الأوّليّة المتعلّقة بوقوعها وعليه فرفع الإشكال في تعلّق البعث بأمر متأخّر يحتاج إلى ما عرفت في الإرادة التكوينيّة من إمكان تعلّقها بالمتأخّر

٤٦٥

كالمقارن فيصح البعث بداعي إمكان الانبعاث على طبق البعث فاذا كان البعث نحو الأمر الاستقباليّ فهو لا يقتضي إلّا إمكان الانبعاث نحوه لا نحو أمر آخر وأمّا جعل الوجوب مشروطا بلحاظ شرط متأخّر فهو التزام بالإشكال لأنّ اللحاظ مقارن وليس بمتأخر كما لا يخفى.

وأيضا يجاب عن المقيس بأنّ الواجبات التشريعيّة على قسمين :

أحدهما : الفعليّ من جميع الجهات وينشئه الأمر بداعي تحريك المأمور فعلا بلا انتظار شيء ولا بدّ فيه من اجتماع جميع شرائط التكليف التي منها القدرة الفعليّة ولا يمكن تعلّق مثل تلك الإرادة بغير المقدور الفعليّ ولو من جهة تقيّد المراد بأمر استقباليّ وإن كان نفس الوقت.

ثانيهما : ما ينشئه الأمر بعنوان جعل القانون من دون لحاظ إلى الجهات الفعليّة فالمرجع في هذه الجهات هو العقل فكلمّا يراه العقل مانعا من فعليّة التكليف بالمعنى الأوّل ويحكم بقبح العقوبة فلا يؤثّر في نفس المأمور شيئا وإذا حكم العقل بعدم المانع من العقوبة يحكم بالفعليّة ويؤثر أثره ولا مانع من تعلّق مثله بذات الفعل وإن لم تجتمع فيه الشرائط الفعليّة إلى أن قال :

فعلى هذا يمكن أن يقال : إنّ ما ليس وجوبه مشروطا بشيء ولا بفرض شيء عند وجوبه بل لا يلحظ عند الجعل إلّا نفسه إن كان جميع الشرائط العقليّة فيه موجودا فهو منجّز سواء كان الجعل فيه كالقسم الأوّل أو كالقسم الثاني.

وما لم تجتمع فيه الشرائط فهو معلّق لكنّه لا يمكن فيه الجعل إلّا بالنحو الثاني فالواجب قبل الوقت إن أخذ الوقت فيه مفروض الوجود عند الجعل فهو مشروط وإن لم يلحظ فيه إلّا الذات المقيّدة بالوقت مع قطع النظر عن لحاظ كونه مقدورا أو غير مقدور فهو معلّق.

وأمّا جعل الوجوب الفعليّ من جميع الجهات له قبل الوقت فغير ممكن هذا غاية

٤٦٦

توجيه الواجب المعلّق فراجع كلام الفصول فإن كان لا يأبى ما ذكرنا فهو وإلّا فهذا تصوير بنفسه (١).

وفيه أوّلا : أنّ اللازم في فعليّة الوجوب والتكليف هو إمكان الانبعاث ولو نحو أمر متأخّر وهذا حاصل في المعلّق دون تحريك المأمور فعلا بلا انتظار شيء فإنّه من خواصّ الواجب المطلق المنجّز بل لا يجوز ذلك في المعلّق لتوقّف العمل على أمر استقباليّ وهو الوقت وعليه فحصر الفعليّ في المنجّز بمجرّد فقدان خواصّ الواجب المنجّز من تحريك المأمور فعلا في المعلّق مع أنّ المعلّق فعليّ وموجب لإمكان الانبعاث نحو أمر متأخّر وإنّما الواجب استقباليّ كما ترى.

وثانيا : إنّه لو سلّمنا أنّ فعليّة الوجوب بمعنى إمكان تحريك المأمور حين التكليف لقلنا بحصول ذلك في الواجب المعلّق أيضا فيما إذا كانت له المقدّمات المفوّتة فإنّ وجوب الواجب المعلّق يمكن أن يدعو المكلّف ويحرّكه إلى الإتيان بالمقدّمات المفوّتة قبل تحقّق الوقت فالتكليف في المعلّق أيضا يوجب التحريك في الجملة نعم لو اعتبر التحريك نحو ذي المقدّمة فهو كما عرفت لا يمكن قبل الوقت وليس بلازم في فعليّة الوجوب.

وثالثا : إنّ البعث القانونيّ لا يمكن من دون داع فإن كان الداعي فيه تحريك المأمور فعلا بلا انتظار عاد المحذور لعدم اجتماع الشرائط وإن كان الداعي هو إمكان الانبعاث ولو نحو أمر متأخّر فهو عين ما قلناه ولا يكون شيئا آخر وأيضا لا وجه لحصر المعلّق في البعث القانونيّ بل يجوز ذلك فيما إذا كان التكليف متوجّها إلى أشخاص خاصّ هذا مضافا إلى أنّ ضرب القانون بالنسبة إلى الموضوع أعني المكلّف واضح وأما بالنسبة إلى قيود الفعل فلا يكون واضحا بعد لزوم بيان المراد من القيود فتأمّل.

__________________

(١) افاضة العوائد : ج ١ ص ١٧٨ ـ ١٧٧.

٤٦٧

ومنها : ما عن المحقّق النائينيّ قدس‌سره وهو بتوضيح مني أنّه لا تعقل فعليّة الحكم قبل تحقّق فعليّة الموضوع بجميع ما اعتبر فيه من القيود وتحقّقه في الخارج فكلّ حكم مشروط بوجود الموضوع بماله من القيود من غير فرق بين الموقّتات وغيرها وأيّ خصوصيّة للوقت من بين القيود حتّى يقال بتقدّم الوجوب عليه دون غيره كالبلوغ والاستطاعة مع أنّ الكلّ مشترك في كونها من قيود الموضوع فكما أنّ فعليّة الحكم في غيره متوقّفة على فعليّة الموضوع كذلك في الموقّتات بل الأمر في الوقت أوضح من جهة أنّه لا يتعلّق القدرة به فالقيود كلّها تؤخذ مفروضة الوجود في مقام الاعتبار فلا يجب على المكلّف تحصيل شيء منها وإن كان بعضها مقدورا وعليه فعليّة الحكم في الموقّتات وغيرها متوقّفة على تحقّق الموضوع بقيودها فلا يعقل الواجب المعلّق بحيث يكون الحكم فيه فعليّا والواجب استقباليّا.

يمكن الجواب عنه بأنّ الفرق بين القيود بتبع اختلاف الأغراض واضح لأنّ بعضها راجع إلى المادّة وبعضها الآخر راجع إلى الهيئة وبعضها مطلوب الحصول وبعضها مطلوب التحصيل وكلّ قيد راجع إلى المادّة لا يكون بنفسه تحت الأمر والبعث بل التقيّد به يكون تحت الأمر وعليه فإذا كان القيد راجعا إلى الهيئة كما هو المعروف والمشهور فعليّة الحكم متوقّفة على تحقّق الموضوع بقيوده وقبل التحقّق لم يكن إلّا صورة الحكم.

وأمّا إذا كان القيد راجعا إلى المادّة فالحكم ليس مشروطا بل هو مطلق ومتعلّق بالموضوع فإن كان القيد فعليّا وقابلا للتحصيل فهو مطلق منجّز كقوله صلّ مع الطهارة وإن لم يكن كذلك ولكنّ علم بمجيئه فهو مطلق معلّق وعليه فقوله فحجّ في الموسم أو صلّ في الظهر واجب مطلق معلّق ويكون الحكم فيه فعليّا والمقيّد المأمور به هو الصلاة في الظهر والحجّ في الموسم وهو مقدور وليس إيجاد الوقت في الحجّ أو الصلاة مأمورا به لأنّ القيد خارج عن المتعلّق والتقيّد داخل.

٤٦٨

فإذا لم يكن الحكم مشروطا وتعلّق على الموضوع بنحو القضيّة الحقيقيّة فلا وجه لعدم فعليّته نعم يتوقّف تنجّزه على تحقّق الموضوع في الخارج فالحكم في مثل قولهم المسافر يجب عليه القصر فعليّ ولكنّ تنجّزه متوقّف على تحقّق المسافرة في الخارج.

وما حكي عن المحقّق النائينيّ قدس‌سره من أنّ الموضوع في القضايا الحقيقيّة بما أنّه أخذ مفروض الوجود فيستحيل تحقّق الحكم وفعليّته قبل فعليّة موضوعه بقيوده (١).

غير سديد لأنّ القضايا الحقيقيّة قضايا حمليّة وإمكان إرجاعها إلى الشرطيّة لا يوجب خروجها عن الحمليّة وترتّب الحكم في القضايا الحمليّة على موضوعها فعليّ وليس بتعليقيّ.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره وظنّي إنّ عمدة ما أوقعه في الإشكال هو دعوى أنّ القيود في المقيّدات تحت الأمر والبعث ولمّا رأى عدم إمكان البعث إلى الأمر الغير الاختياريّ أنكر المعلّق.

وهي بمكان من الضعف فانّ الأمر المتعلّق بالمقيّد لا يمكن أن يتعدّى من متعلّقه إلى أمر آخر والقيد خارج عن المتعلّق والتقيّد داخل فالأمر إنما يتعلّق بالمقيّد لا بالقيد والعقل يحكم بتحصّل القيد إذا لم يكن حاصلا وأمّا مع حصوله بنفسه فلا فإذا أمر المولى بالصلاة تحت السماء لا يكون ذلك أمرا بايجاد السماء بل بإيجاد الصلاة تحتها وهو أمر مقدور كذلك الأمر بإيجاد صلاة المغرب ليس أمرا إيجاد المغرب نعم لا يمكن الأمر بمقيّد لا يصير قيده موجودا في ظرفه ولا يكون تحت اختيار العبد وأمّا إذا كان موجودا في ظرف الإتيان أو كان تحت اختياره فالأمر بالمقيّد ممكن والواجب مطلق لا مشروط (٢).

الأمر الثالث : في أنّ التفصّي عن إشكال لزوم الإتيان بالمقدّمة قبل زمان

__________________

(١) المحاضرات : ج ٢ ص ٣١٤.

(٢) مناهج الوصول : ج ١ ص ٣٦٤.

٤٦٩

الواجبات الموقتة إذا لم يقدر عليه بعد زمانه هل ينحصر في تعليق الوجوب أم لا ذهب في الكفاية إلى عدم انحصار ذلك بالتعلّق بالتعليق كما ذهب إليه صاحب الفصول أو بما يرجع إلى التعليق من جعل الشرط من قيود المادّة في المشروط كما أفاد الشيخ الأعظم في الواجب المشروط.

بل يمكن التفصّي عن هذه العويصة لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخّر الذي كان معلوم الوجود فيما بعد ضرورة فعليّة وجوبه وتنجّزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدّمته فيترشّح منه الوجوب عليها على الملازمة ولا يلزم منه محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها وإنّما اللازم الإتيان بها قبل الاتيان بذي المقدّمة.

بل لزوم الإتيان بها عقلا ولو لم نقل بالملازمة لا يحتاج إلى مزيد بيان ومئونة برهان كالإتيان بسائر المقدّمات في زمان الواجب قبل إتيانه (١).

أضاف إليه في المحاضرات إمكان الالتزام بوجوب المقدّمات وجوبا نفسيّا لكنّ لا لأجل مصلحة في نفسها بل لأجل مصلحة كامنة في غيرها فيكون وجوبها للغير لا بالغير. إذن تكون هذه المقدّمات واجبة مع عدم وجوب ذيها فعلا (٢).

ولا يخفى عليك أنّ الشرط المتأخّر بمعنى اشتراط اللحاظ دون نفس وجود الملحوظ خارجا لا يساعد ظواهر أدلّة اشتراط الأشياء فلا يصار إليه بدون قرينة تدلّ على أنّ الشرط هو نفس لحاظ الشرط ولذلك نقول بامتناع الكشف الحقيقيّ في الإجازة المتأخّرة عن العقد الفضوليّ لأنّ الظاهر من أدلّة اشتراط طيب المالك في صحّة النقل والانتقال هو وجوده الخارجيّ لا لحاظ الطيب وهكذا. وعليه فالشرط المتأخّر لا يوجب حلّ العويصة في أكثر الموارد هذا مضافا إلى أنّ الشرط المتأخّر لا يغني عن الالتزام بالواجب المعلّق لما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ مع القول بالشرط المتاخر

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ١٦٦.

(٢) المحاضرات : ج ٢ ص ٣٥٥.

٤٧٠

وإن كان الوجوب فعليّا ولكن ينفكّ زمان الوجوب عن زمان الواجب إمّا مطلقا أو في خصوص الموقّتات فلا بدّ من تصوّر المعلّق والقول به ومعه فلا مجال للالتزام بشرطيّة المتأخّر أيضا (١).

ثمّ أنّ الشرط على مختار الشيخ من رجوع القيود إلى المادّة وفعليّة الوجوب قبل تحقّق القيد لا يقيد في حلّ العويصة أيضا كما وفي الواجبات المشروطة وإن زعم صاحب الكفاية أنّه كان لحلّها وأنّ مجرّد الفعليّة بدون الفاعليّة لا يكفي لتنجيز وجوب المقدّمات. والمفروض على مختار الشيخ أنّ الوجوب فعليّ ولكنّ لا فاعليّة ولا تنجيز له قبل حصول القيد في الخارج وعليه فهو من هذه الجملة كالواجبة المشروط الذي يكون القيد راجعا الى الطّلب والهيئة فكما أنّ الوجوب الفعليّ المنجّز للمقدّمات لا معنى له بدون الوجوب الفعليّ المنجّز لذيها في الواجب المشروط بمعناه لا معنى لوجوب الفعليّ المنجّز في المقدّمات بدون تنجّز ذيها في الوقت المشروط بالمعنى الذي اختاره الشيخ الأعظم قدس‌سره.

وأمّا حكم العقل بلزوم الإتيان بالمقدّمات فإن كان من باب الحكم العقليّ الارشاديّ الموجود في كلّ مقدّمة ولو لم نقل بالوجوب الشرعيّ المعلوليّ لوجوب ذيها فهو كما في تعليقة الأصفهانيّ موقوف على وجوب فعليّ لذي المقدّمة وإلّا فلا يحكم العقل بمدح من أتى بمقدّمة ما لم يكن واجبا فعليّا كما لا يحكم بقبح من ترك مقدّمة ما لم يكن واجبا فعليّا.

وإن كان من باب قبح تفويت التكليف ومنع المولى عن استيفاء غرضه تشريعا بالبعث ففيه كما في تعليقة الأصفهانيّ منع كون تفويت التكليف قبيحا بنفسه إذ لو كان كذلك لزم أن يكون الذمّ والعقاب على نفس التفويت لا على ترك الواجب في ظرفه

__________________

(١) راجع التعليقة : ج ١ ، ص ٣١٣ و ٣١٥.

٤٧١

بترك مقدّمته هذا مضافا إلى أنّ التكليف ليس إلّا مقدّمة لتحصيل الأغراض المولويّة القائمة بفعل العبد وعليه فلو لم يكن تلك الأغراض المولويّة القائمة بفعل العبد لازم التحصيل لم يكن دفع التكليف قبيحا بالعرض.

فالصحيح من تقريب حكم العقل أنّه يقال إذا علم أنّ التكليف تامّ الاقتضاء وأنّ مصلحة الفعل غير متوقّفة على دخول الوقت بل الفعل الموقت ذا مصلحة أزلا وأبدا لا أنّه بعد دخول الوقت يتّصف بصيرورته ذا مصلحة. فلا محالة يكون الغرض من الفعل تامّ الغرضيّة وتحصيل الغرض التامّ الغرضيّة بحكم العقل لازم ولو لم يكن التكليف به فعليّا ولكنّه متوقّف على العلم بتماميّة الاقتضاء في التكليف وأنّ مصلحة الفعل غير متوقّفة على دخول الوقت وإلّا فالتفويت غير قبيح لأنّه ليس من المنع من وصول المولى إلى غرضه بل يرجع إلى المنع من صيرورته غرضا للمولى (١).

اللهم إلّا أن يقال يمكن استكشاف تماميّة الاقتضاء من خطابات الموقتات كوجوب صلاة الظهر من دون ترخيص لتركها فإنّها حاكية عن تماميّة الاقتضاء في التكاليف الموقّتة وعدم توقّف مصلحة متعلّقها بالأوقات نعم يمكن أن يقال إنّ مع العلم بأنّ التكليف تامّ الاقتضاء وأنّ مصلحة الفعل غير متوقّفة على دخول الوقت وعدم المانع من تعلّق التكليف الشرعي بالفعل الموقّت الذي تمّ مصلحته تعلّق به التكليف الفعليّ وهو عين الواجب المعلّق ومعه لا حاجة في لزوم الإتيان بالمقدّمات في الواجبات الموقّتة إلى حكم العقل بل وجوب المقدّمة حينئذ بناء على الملازمة تابع لوجوب ذيها كما لا يخفى.

وقد تفصّى في الدّرر عن العويصة بعد حصر الواجب في المطلق والمشروط وإرجاع الطلب المتعلّق بالفعل المقيّد بالزمان إلى الطلب المشروط بأنّا نلتزم بعدم صيرورة

__________________

(١) راجع نهاية الدراية : ج ٢ ص ٣١١ و ٣١٥.

٤٧٢

الخطاب مطلقا ولكنّ نقول إنّ الواجب المشروط بعد العلم بتحقّق شرطه في محلّه يقتضي التأثير في نفس المكلّف بإيجاد كلّ شيء منه ومن مقدّماته الخارجيّة في محلّه مثلا لو قال أكرم زيدا إن جاءك فمحلّ الإكرام بعد مجيئه ومحلّ مقدّماته إن كان قبل المجيء فمجرّد علم المكلّف بالمجيء يقتضي إيجادها قبله ، إلى أن قال : والحاصل أنّ طلب الشيء على فرض تحقّق شيء لا يقتضي إيجاد ذلك الشيء المفروض وجوده ولكنّ بعد العلم بتحقّق ذلك الشيء يؤثّر في المكلّف ويقتضي منه أن يوجد كلّا من الفعل ومقدّماته في محلّه إلى أن قال والمقصود أنّ الوجوب المعلّق على شيء بعد الفراغ عن ذلك الشيء يجب بحكم العقل متابعته (١).

وفيه أوّلا : بعد الغمص عمّا في حصره كما مرّ أنّ ما ذكره هنا ينافي ما أفاده سابقا في ص ١٠٤ من أنّ تاثير الخطاب في المشروط يتوقّف على وجود ذلك القيد المفروض وجوده حقيقة.

وثانيا : كما أفاده المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره أنّ دعوى تنجّز وجوب ذي المقدّمة مع كونه مشروطا إذا علم بوجود شرطه في ظرفه راجعة إلى الخلف فإنّ مقتضى شرطيّة نفس ذلك الأمر فعليّة التكليف بفعليّة ذلك الأمر لا بالعلم بوجوده في ظرفه (٢).

ويمكن أن يقال إنّ صاحب الدّرر لم يقل بتنجّز خطاب ذي المقدّمة قبل وجود الشرط بل يقول بوجوب المقدّمات من باب حكم العقل بمتابعة هذا الحكم المعلّق على شيء كما أشار إليه في آخر العبارة نعم يرد عليه أنّه لا يكون غير التفصّي بحكم العقل فلا تغفل.

وأمّا إمكان الالتزام بوجوب المقدّمات وجوبا نفسيّا لكن لا لأجل مصلحة في نفسها بل لأجل مصلحة كامنة في غيرها فيكون وجوبها للغير لا بالغير ففيه أنّ هنا سؤال

__________________

(١) الدرر : ج ١ ص ١١٠.

(٢) نهاية الدراية : ج ١ ص ٣١٤.

٤٧٣

كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد وهو أنّ الداعي إلى وجوب المقدّمة نفسيّا تهيّئيّا إن كان هو حفظ الصلاة في أوّل وقتها فالإرادة بالنسبة إلى الصلاة قبل وقتها هل تكون موجودة أم لا فإن كانت الإرادة موجودة الآن فلا ريب في فعليّة الوجوب قبل وقت الصلاة. فوجوب المقدّمة غيريّ وإن لم تكن الإرادة بالنسبة إلى الصلاة في أوّل وقتها موجودة فكيف يمكن أن يتحقّق مع ذلك وجود الداعي إلى حفظ الصلاة في أوّل وقتها وعليه فلا معنى للوجوب النفسيّ التهيّئيّ وكيف كان فتحصل ممّا ذكر لحد الآن أنّ المخلّص عن العويصة منحصر في الوجوب التعليقيّ أو حكم العقل بعد إحراز تماميّة اقتضاء التكليف وعدم توقّف مصلحة الفعل على دخول الوقت لكنّ عرفت عدم الحاجة إليه لكفاية تعلّق التكليف الفعليّ الشرعيّ فتدبّر.

ثمّ إنّ قام دليل شرعيّ خاصّ على وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها فهو كاشف عن سبق الوجوب بنحو التعليق بالنسبة إلى ذي المقدّمة أو لزوم حفظ الغرض بناء على الحاجة إليه فلا تغفل.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه ذهب في المحاضرات بعد تصوير مقام الثبوت وإمكان وجوب المقدّمات بإحدى الطرق المذكورة قبل زمان وجوب ذيها إلى أنّ ظواهر الأدلّة في مسألتي الحجّ والصوم تساعد ما التزم به في الفصول من كون الوجوب حاليّا والواجب استقباليّا فإنّ قوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ظاهر في فعليّة وجوب الحجّ عند فعليّة الاستطاعة كما أنّ قوله عزوجل (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ظاهر في فعليّة وجوب الصوم عند شهود الشهر والشهود كناية عن أحد الأمرين إمّا الحضور في مقابل السفر وإمّا رؤية الهلال وعلى كلا التقديرين فالآية تدلّ على تحقّق وجوب الصوم عند تحقّق الشهود.

نعم ظواهر الأدلّة في الصلوات الخمس لا تساعده فإنّ قوله عليه‌السلام إذا زالت الشمس

٤٧٤

فقد وجب الطهور والصلاة ظاهر في تحقّق الوجوب بعد الزوال (١).

ولا يخفى عليك ما فيه فإنّ مقتضى ما عرفت سابقا من أنّ ظاهر القواعد العربية يرفع اليد عنه بقرينة وجدان الإرادة فعلا بالنسبة إلى المقيّد أنّ التقيّد في مثل قوله عليه‌السلام إذا زالت الشمس إلخ ليس في ناحية الطلب وإلّا لما كان الطلب موجودا بالفعل بل هو راجع إلى المطلوب والفرق حينئذ بين أمثال هذه الشرطيّة وقوله فمن شهد منكم الشهر الآية هو أنّ التكليف في الأوّل وإن كان موجودا بالفعل ولكنّه لا يصير منجّزا ما لم يأت الشرط خارجا بخلاف الثاني فإنّه فعليّ منجّز بالنسبة الى الموقّتة.

وعليه فالتفصيل المذكور في الظواهر بعد حكم الوجدان بوجود الطلب والإرادة بالنسبة إلى المقيّد بالوقت أو أمر متأخّر لا طائل تحته لأنّ المقصود إن كان من جهة وجود التكليف الفعليّ في بعض الأمثلة دون الآخر ففيه أنّ التكليف فعليّ في كلّ واحد من الأمثلة وإن كان المقصود أنّ التكليف منجّز في بعض دون الآخر فهو صحيح ولكنّه لم يقل به.

الأمر الرابع : في حكم دوران الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة وأنت خبير بأنّ ظواهر الخطابات فى جميع الموارد عند مثل الشيخ محمولة على رجوع القيد إلى المادّة لأنّه قائل بعدم إمكان رجوع القيد إلى الهيئة وعلى قوله فلا مجال للترديد بين رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة وعليه فما حكي عن الشيخ من الترديد بينهما وترجيح رجوع القيد إلى المادّة مبنيّ على مذاق المشهور فلا تغفل وكيف كان فلو شكّ في وجوب تحصيل قيد وعدمه من جهة أنّه راجع إلى الهيئة حتّى لا يجب تحصيله أو راجع إلى المادّة على نحو يجب تحصيله فإن دلّ دليل على تعيين الأمر فهو وأنّ فالمرجع هو الأصل.

__________________

(١) المحاضرات : ج ٢ ص ٣٥٥.

٤٧٥

واستدلّ لترجيح إطلاق الهيئة بوجوه : منها ما حكى عن الشيخ الأعظم قدس‌سره من أنّ إطلاق الهيئة شموليّ بمعنى أنّ مفادها هو الوجوب على كلّ تقدير يمكن أن يتوجّه معه الخطاب إلى المكلّف وليس كذلك إطلاق المادّة فإنّه بدليّ بمعنى أنّ مفاده صلوح أيّ فرد من أفراد الطبيعة المأمور بها للامتثال به وإذا دار الأمر بينهما فيؤخذ بالإطلاق الشموليّ لكونه أقوى في العموم ويرفع اليد عن الإطلاق البدليّ.

أورد عليه صاحب الكفاية بأنّ الإطلاق في كلا المقامين مستفاد من مقدّمات الحكمة فلا يمكن تقديم أحدهما على الآخر بمجرّد كونه شموليّا والآخر بدليّا نعم لو كان أحدهما بالوضع والآخر بمقدّمات الحكمة لكان تقديم ما بالوضع على الآخر موجّها لكونه صالحا لأن يكون قرينة على الآخر دون العكس وذلك لأنّ الوضع تنجيزيّ بخلاف ما يكون بالمقدّمات فإنّه معلّق على عدم قيام قرينة على الخلاف فالوضع قرينة على الخلاف انتهى.

هذا مضافا إلى ما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من أنّ تقسيم الإطلاق إلى الشموليّ والبدليّ غير صحيح لا في المقام ولا في باب المطلق والمقيّد أمّا هناك فلأنّ اللفظ الموضوع للطبيعة أو لغيرها لا يمكن أن يدلّ ويحكي عن شيء آخر وراء الموضوع له وخصوصيّات الأفراد أو الحالات لا بدّ لإفادتها من دالّ آخر ومقدّمات الحكمة لا تجعل غير الدالّ دالّا وغير الحاكي حاكيا فلا يستفاد من مقدّمات الحكمة إلّا كون ما جعل موضوعا تمام الموضوع للحكمة من غير دخالة قيد آخر فيه وهذا ليس من قبيل دلالة اللفظ ففي قوله (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) بعد مقدّمات الحكمة يحكم العقلاء بأنّ الطبيعة من غير دخالة شيء فيها محكومة بالحلّيّة لا أفرادها فإنّها أيّ الأفراد ليست مفاد اللفظ ولا مفاد الإطلاق ومقدّمات الحكمة فالإطلاق الشموليّ ممّا لا معنى له.

كما أنّ الأمر كذلك في الإطلاق البدليّ أيضا فإنّ قوله اعتق رقبة لا يستفاد منه البدليّة لا من اللفظ (ولا من التنوين) فإنّ الرقبة وضعت لنفس الطبيعة والتنوين إذا كان

٤٧٦

للتنكير يدلّ على تقيّدها بقيد الوحدة الغير المعيّنة لكنّ بالمعنى الحرفيّ وذلك غير البدليّة كما يأتي في العامّ والخاصّ توضيحه وأمّا كونها تمام الموضوع فيستفاد من مقدّمات الحكمة لا الوضع.

فما هو مفاد الاطلاق في المقامين شيء واحد وهو كون ما جعل موضوعا تمام الموضوع من غير تقييد وأمّا الشمول والبدليّة فغير مربوطين بالإطلاق رأسا بل هما من تقسيمات العامّ فدوران الأمر بين الإطلاق الشموليّ والبدليّ ممّا لا معنى محصّل له حتّى يتنازع في ترجيح أحدهما إلى أن قال.

وأمّا في المقام ممّا تعلّق البعث بالطبيعة كقوله أكرم عالما فالإطلاق الشموليّ في الهيئة والبدليّ في المادّة بعد تسليم صحّتهما في غير المقام ممّا لا يعقل فإنّ معنى الشموليّ أن يكون البعث على جميع التقادير عرضا كما مثلوا له بالعدم بحيث يكون في كلّ تقدير إيجاب ووجوب ومعه كيف يمكن أن يكون إطلاق المادّة بدليّا فهل يمكن ان تتعلّق إرادات أو إيجابات في عرض واحد بفرد ما؟!

والقول بأنّ المراد من الشموليّ هو كون البعث واحدا لكنّ من غير تقييد بقيد فالمراد من وجوبه على كلّ تقدير أنّه لا يتعلّق الوجوب بتقدير خاصّ رجوع عن الإطلاق الشموليّ فحينئذ لا فرق بين إطلاق المادّة والهيئة فإنّ المادّة أيضا مطلقة بهذا المعنى (١).

ولكنّ يمكن أن يقال :

اوّلا : إنّ الطبيعة بما هي هي ليست إلّا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة كما أنّ الأفراد الخارجيّة ليست مورد الخطاب لأنّ الخارج ظرف السقوط لا ظرف الثبوت فالبعث إلى الطبيعة بحكم العقل والعقلاء بعث إلى إيجاد الطبيعة وتحصّلها في الخارج والبعث

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ١ ص ٣٦٨ ـ ٣٦٦.

٤٧٧

إلى الإيجاد ليس بعثا إلى طبيعة الإيجاد وإلّا لعاد المحذور بل هو بعث إلى الإيجاد في الخارج وهو إمّا مع الإرسال ونتيجته الشيوع والاستغراق أو الإيجاد البدليّ بحسب اختلاف مقتضيّات الأحكام المتعلّقة بها عقلا وعرفا وإن كان معنى الإطلاق في جميع الموارد هو جعل حيثيّة الطبيعة تمام الموضوع للحكم كما أنّ الوجوب والندب مستفادان من البعث بحكم العقلاء مع أنّهما ليسا ممّا وضع صيغة الأمر له وعليه فتقسيم الإطلاق إلى الشموليّ والبدليّ لا إشكال فيه.

وثانيا : إنّ المراد من الشموليّ ليس تعلّق الإرادات أو الإيجابات بل المراد أنّ البعث واحد من غير تقييد بقيد المادّة ومقتضى عدم تقييده هو فعليّته قبل مجيء قيد المادّة وتقيّد المادّة بقيدها لا يوجب تقييد الهيئة بقيد المادّة بل هي مطلقة كما لا يوجب تضييقها بعد فعليّتها ولو لم يتحقّق قيد المادّة فقولهم أكرمه إكراما حال مجيئه يدلّ على تقييد المادّة بقيد المجيء ولكنّ الهيئة مطلقة من جهة تحقّق المجيء ولذا تكون فعليّة كالوجوب في الواجب المعلّق وتقيّد الإكرام بحال المجيء لا ربط له بتقيّد الهيئة ولا يكون موجبا لتضييق دائرة البعث بل التضيّق في المبعوث إليه كما أن تضييق مدخول أداة العموم لا يوجب تضيّقا في مفاد الأداة فلفظة كلّ في مثل كلّ إنسان وفي مثل كلّ إنسان روميّ تحكي عن الاستغراق وتضييق مدلولها لا يوجب تضييقا في الأداة كذلك تقييد المادّة لا يوجب تضييقا في ناحية البعث فتدبّر جيّدا.

ومنها ما حكي عن الشيخ قدس‌سره أيضا من أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة بخلاف العكس وكلّما دار الأمر بين التقييدين كذلك كان تقييد ما لا يوجب ذلك أولى أمّا الصغرى فلأنّه لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ بيان لإطلاق المادّة لإنّها لا تنفكّ عن وجود قيد الهيئة بخلاف تقييد المادّة فإنّ محلّ الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه.

وأمّا الكبرى فلأنّ التقييد خلاف الأصل ولا فرق بين التقييد وإبطال محلّ الإطلاق في

٤٧٨

ذلك فالأولى هو تقييد المادّة حتّى يكون ارتكاب خلاف الأصل أقلّ.

اورد عليه في الكفاية بأنّ التقيّد وإن كان خلاف الأصل إلّا أنّ العمل الذي يوجب عدم جريان مقدّمات الحكمة وانتفاء بعض مقدّماتها لا يكون على خلاف الأصل أصلا إذ معه لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل وبالجملة لا معنى لكون التقيّد خلاف الأصل إلّا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدّمات الحكمة ومع انتفاء المقدّمات لا يكاد ينعقد له هناك ظهور نعم إذا كان التقيّد بمنفصل ودار الأمر بين الرجوع إلى المادّة أو الهيئة كان لهذا التوهّم مجال حيث انعقد للمطلق إطلاق وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة الحكمة فتأمّل انتهى.

حاصله أنّ خلاف الأصل فيما إذا انعقد الظهور وهو فيما إذا كان القيد منفصلا وأمّا إذا كان القيد متّصلا فلا ينعقد الظهور حتّى يكون التقيّد وإبطال محلّ الإطلاق خلاف الأصل من جهة مخالفتهما مع الظهور هذا بناء على لزوم المقدّمات في الإطلاق كما ذهب إليه صاحب الكفاية وإلّا فالإطلاق ذاتيّ وينعقد الظهور بمجرّد تعلّق الحكم على ذات المتعلّق بحيث يسري إلى جميع الأفراد كما أنّ العامّ لا يحتاج إلى المقدّمات في تسرية الحكم إلى الأفراد فالظهور منعقد في المتّصل أيضا.

اللهم إلّا أن يقال إنّ الظهور لا ينعقد مع اقترانه بما يصلح للقرينية في المتّصل أيضا فلا بدّ أن يكون محلّ الكلام في المنفصل وقد عرفت أنّ صاحب الكفاية اعترف بأنّ رجوع القيد إلى الهيئة مستلزم للتقيدين في المنفصل بخلاف رجوع القيد إلى المادّة.

واستشكل فيه بأنّ تقييد كلّ من الهيئة والمادّة لا ترجع إلى صاحبتها لأنّ لكلّ موردا خاصّا وعليه فتقيّد المادّة لا يوجب تقييد الهيئة وهكذا بالعكس. نعم تقييد كلّ منهما يوجب تضييق لصاحبتها وابطالا لمحلّ إطلاقها مثلا إطلاق أكرم زيدا يقتضي الوجوب بلا قيد كما يقتضي وجوب نفس طبيعة الإكرام من غير تقييد فإذا رجع قيد

٤٧٩

إلى الهيئة نحو وإن جاء زيد فأكرمه تكون الهيئة مقيّدة دون المادّة أي يجب على فرض مجيئه نفس طبيعة الإكرام بلا قيد لكن يوجب ذلك تضييقا قهريّا في الإكرام أيضا لا بمعنى التقييد بل بمعنى ابطال محلّ الإطلاق وكذلك إذ ورد قيد على المادّة نحو أكرمه إكراما حال مجيئه فإنّ الهيئة مطلقة ولو من جهة تحقّق المجيء ولا تحقّقه كما في الواجب المعلّق لكنّ مع ذلك لا تدعو إلى نفس الإكرام بلا قيد فأكرم بعث إلى نفس الطبيعة وأكرم إكراما حال مجيئه بعث إليها مقيّدة لا مطلقة فدائرة البعث في الفرض الأوّل أوسع منها في الثاني إلى أن قال فلا فرق بين تقييد الهيئة والمادّة من جهة أنّ تقييد كلّ لا يوجب تقييد الآخر ولا من جهة أنّ تقييده يوجب إبطال محلّ إطلاقه (١).

وعليه فلا ترجيح لإطلاق الهيئة بالنسبة إلى إطلاق المادّة فبعد العلم الإجماليّ بتقييد أحدهما فأصالة الإطلاق متعارضة فلا يصحّ الرجوع إليها لإلغاء احتمال تقييد إطلاق الهيئة بل اللازم هو الرجوع إلى مقتضى الأصل.

ويمكن الذبّ عنه بأنّ تضييق المبعوث إليه لا يوجب تضييقا في البعث.

كما أنّ تضييق مدخول أداة العموم لا يوجب تضييق مفهوم نفس الأداة والهيئة مطلقة من جهة قيد المادّة فإنّها قبل تحقّق القيد متحقّقة فلا تضييق من هذه الناحية فيه وعليه فالأمر يدور بين التقيد والتقيّدين ولكنّ الإشكال في أنّه لا دليل على الترجيح المذكور كما أفاد سيّدنا الإمام قدس‌سره ولعلّ إليه يشير صاحب الكفاية حيث تأمّل.

ومنها ما عن المحقّق الايروانيّ والمحقّق العراقيّ (قدس‌سرهما) من أنّ تقييد المادّة حيث إنّه متيقّن ومعلوم بالتفصيل لأنّها إمّا مقيّدة ابتداء أو تبعا فينحلّ العلم الإجماليّ إلى المعلوم بالتفصيل والشكّ البدويّ فيبقى أصالة الإطلاق في جانب الهيئة سليمة عن المعارض فيصحّ التمسّك بإطلاقها لإلقاء احتمال التقيّد (٢).

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ١ ص ٣٦٩.

(٢) راجع بدائع الافكار : ج ١ ص ٣٦٦.

٤٨٠