عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

المقام السابع : في الفرق بين النواهي والأوامر :

ولا يخفى عليك أنّ المادّة في كليهما واحدة وهي الماهيّة المبهمة إذ النهي منحلّ إلى مادّة وهيئة والمادّة تدلّ على نفس الماهيّة والهيئة تدلّ على الزجر عن الماهيّة وحيث إنّ الزجر عن نفس الماهيّة لا معنى له كالبعث نحو نفس الماهيّة يقدّر بحكم العقل الوجود أو إيجاد الماهية فينزجر الناهي عن إيجادها.

ومع ذلك يختلف مفادهما بحكم العرف والعقلاء إذ مقتضى مقدّمات الحكمة في الأوامر كما عرفت هو الشيوع البدليّ بخلاف مقتضاها في النواهي فإنّ العرف يحكم فيها بالشيوع الساري ولزوم ترك جميع الأفراد عرضيّة كانت أو طوليّة بنحو الاستغراق إذ من البديهيّ عدم إرادة ترك ما او الزجر عن مجموع الأفراد وإلّا لزم أن يكون للنهي امتثال واحد ومعصية واحدة لعدم انحلاله إلى النواهي والعرف لا يساعده إذ مع المخالفة في مورد لا يحكم العرف بسقوط النهي بل يحكم بأنّ النهي بحاله وليس ذلك إلّا من جهة كون المراد من النهي هو الشيوع الساري.

قال في تهذيب الاصول ـ عند بيان وجه الفرق بين النواهي والأوامر مع وحدة المادّة فيهما ـ إنّ الأولى التشبّث في جانب النهي بذيل فهم العرف المتّبع في تلك المقامات في كلتا المرحلتين :

أي مرحلة أنّ الطبيعيّ ينعدم بعدم جميع الأفراد.

ومرحلة أنّ النهي إذا تعلّق بالطبيعة ينحلّ إلى النواهي من غير أن تستعمل الطبيعة في الأفراد ومن غير فرق بين كون النهي زجرا أو طلب ترك فتأمّل. (١)

وأوضح ذلك في بدائع الأفكار بأنّ أسماء الأجناس موضوعة للطبيعة المهملة

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ٢٧٦.

١٨١

التي تكون مقسما لاعتبارات الماهيّة ووظيفة المقدّمات رفض القيود وبيان أنّ ما هو مدلول اللفظ يكون تمام الموضوع للحكم ضرورة أنّ المتكلّم إذا ألقى كلاما لمخاطبه ولم يذكر قيدا فلا محالة يكون مدلول اللفظ مرادا ويضاف إلى المقدّمات حكم العقل بعدم إمكان إرادة المقسم لإهماله.

وحينئذ إذا تعلّق الأمر بلفظ فهو يقتضي إيجاد ما يكون مدلولا لذلك اللفظ ومن المعلوم أنّ إيجاد الطبيعة المهملة يتحقّق بإيجاد أحد أقسامها واللابشرط القسميّ أي الطبيعة المرسلة ذاتا يكون أقلّ مئونة من سائر الأقسام وذلك يكشف عن أنّ المراد هو الطبيعة المرسلة ذاتا. وبما أنّ الطبيعة المرسلة على ما تقدّم تكون قابلة لتعلّق الحكم بها بنحو الشيوع البدليّ وبنحو الشيوع الساري يتوقّف تعيين أحدهما على معيّن. وحيث أنّ الشيوع البدليّ أقلّ مئونة من الساري يتعيّن الحمل عليه وهو مساوق لكون صرف الوجود مرادا.

وأمّا إذا صار مدلول اللفظ متعلّقا للنهي فهو يقتضي الزجر عن الطبيعة المهملة أعني تركها ومن المعلوم أنّ ترك الطبيعة المهملة أعني المقسم يتحقّق بترك جميع أقسامها ونتيجة ذلك مطلوبيّة ترك الطبيعة على نحو السريان وقد تحصّل من بيان هذا الوجه أنّ الفرق بين الأوامر والنواهي يكون من جهة اختلاف مقتضى البعث إلى المهملة والزجر عنها. (١)

ولا يخفى عليك أنّ إفادة السريان والاستغراق في طرف النهي لا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة حتّى يقال :

يختلف مقتضى المقدّمات في الأمر والنهي فإنّها تقتضي في الأوّل الشيوع البدليّ وفي الثاني الشيوع الساري إذ وقوع المادّة المهملة في حيّز النفي أو النهي المستفاد من

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

١٨٢

الهيئة يفيد العموم والسريان والاستغراق من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة ولعلّ إليه يرجع ما ذكره المحقّق العراقيّ فتدبّر جيّدا.

قال الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره : لكنّ التحقيق أنّ تعليق النفي الذي منه النهي على الطبيعة من حيث هي بمعنى عدم ملاحظة شيء معها يدلّ التزاما عقلا على نفي جميع أفرادها ولا حاجة إلى ملاحظة إطلاق الطبيعة ووحدتها بل يكفي ملاحظة نفس الطبيعة مع قطع النظر عن كلّ القيود الطارئة عليها كما أنّ تعليق الإيجاب على النحو المذكور لا يستلزم إلّا إيجاب فرد واحد بمعنى أنّ الذي يتوقّف عليه صدق وجود الطبيعة عقلا ليس أزيد من ذلك. (١)

.. إلى أن قال : إنّ المصحّح لصدق انتفائها وتركها عقلا حينئذ إنّما هو انتفاء وترك جميع الأفراد كما أنّ المصحّح لصدق وجودها حينئذ عقلا وجود فرد منها فيدلّ اللفظ بالالتزام العقليّ من جهة إطلاق معنى المادّة الذي هي الطبيعة في صورة النفي على انتفاء وترك جميع الأفراد بحيث يكون ظاهرا في عموم النفي على وجه لو جاء دليل من الخارج على خروج بعض الأفراد لعارض ظهوره ذلك الدليل فيلاحظ قاعدة التعارض بينهما من التعادل والترجيح وفي صورة الإثبات على إرادة وجود أحد الأفراد على البدل دون الأزيد فالظاهر منه حينئذ ليس أزيد من فرد واحد على البدل لا غير فلذا يحتاج عموم الحكم لجميع الأفراد إلى ملاحظة شاهد خارجيّ من دليل لفظيّ أو إجماع إن وجد أحدهما وإلّا فيرجع إلى دليل الحكمة لو جرى في المورد فيتوقّف الحكم بالعموم حينئذ على إحراز مقدّمتي دليل الحكمة .. إلخ. (٢)

ظاهره هو عدم الحاجة إلى المقدّمات حتّى في الأمر مع أنّك عرفت أنّه لو لا

__________________

(١) تقريرات الميرزا ٢ / ١٠٥.

(٢) نفس المصدر ٢ / ١١٠.

١٨٣

المقدّمات تردّدت المادّة المبهمة في الأمر بين اللابشرط وبشرط لا وبشرط شيء ومقتضى الحكم العقليّ هو كفاية أحدها فلا يفيد المقصود وعليه فالحاجة إلى المقدّمات في تعيين اللابشرط من بين سائر الاعتبارات وهكذا في تعيين البدليّ من اللابشرط من الساري واضحة فلا يكفي فيه تعلّق الهيئة بالمادّة المبهمة.

نعم لا حاجة كما أفاد وأجاد إلى المقدّمات في جانب النهي ولكن ليس بين العموم المستفاد من وقوع الماهيّة في حيّز النفي وبين دليل خارجيّ يدلّ على خروج بعض الأفراد تعارض حتّى يحتاج فيه إلى التعادل والتراجيح لأنّ مع الجمع الدلاليّ لا مجال للتعارض والأخبار العلاجيّة جارية في المتعارضين فلا تغفل.

نعم يمكن أن يقال إنّ وجه اختلاف الأمر والنهي في كيفيّة الامتثال هو كثرة الاستعمال فإنّ صيغة الأمر تكون ظاهرة في مطلوبيّة الطبيعة بصرف وجودها بسبب كثرة استعمالها فيها بخلاف صيغة النهي فإنّها ظاهرة في مبغوضيّة الطبيعة بجميع أفرادها لا حكم العقل أو مقدّمات الحكمة وسيأتي تتمّة الكلام في المقصد الثاني.

وكيف كان فتحصّل ممّا ذكر أنّ إفادة النواهي للاستغراق والسريان مع كون المادّة فيها ماهيّة مهملة من جهة كثرة الاستعمال أو من جهة وقوع الماهيّة المهملة في حيّز النفي وعلى كلّ تقدير لا حاجة فيه إلى إجراء مقدّمات الحكمة.

ثمّ لا فرق فيما ذكر بين كون النواهي للتحريم أو للتنزيه كما لا فرق في ذلك بين كون الجملة إنشائيّة أو خبريّة أو كون المنفي هو الجملة أو المصدر كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(١). فلا تغفل.

__________________

(١) البقرة / ١٩٧.

١٨٤

الخلاصة :

الكلام يقع في مقامات :

المقام الأوّل :

أنّ محلّ النزاع فيه هو هيئة الأمر دون مادّة الأمر ودون مجموعهما لنصّ جماعة من الاصوليّين عليه.

هذا مضافا إلى تحرير أكثرهم النزاع في الصيغة وهي ظاهرة في الهيئة لو لم نقل بأنّها صريحة فيها ، على أنّه لا كلام في أنّ المادّة كالضاد والراء والباء في مثل المصدر وهو الضرب لا تدلّ إلّا على الماهية من حيث هي إذ لو كانت دالّة على المرّة والتكرار لزم أن تدلّ عليه كلّ صيغة تحتوي تلك المادّة باعتبار دلالة مادّتها مع أنّه ليس كذلك فالبحث عن دلالة صيغة الأمر ترجع إلى البحث عن دلالة هيئة الأمر.

المقام الثاني :

أنّ الحقّ هو عدم دلالة الأمر على المرّة والتكرار لأنّ هيئة الأمر موضوعة للبعث نحو وجود الطبيعة بنحو الوجود اللافراغيّ من دون دلالة على المرّة والتكرار هذا بناء على ما قرّر في محلّه من أنّ الطبيعة بما هي الطبيعة لا تكون مطلوبة ولا مرادة فاللازم هو تعلّق البعث إلى وجود الطبيعة بالنحو المذكور وأمّا إذا قلنا بأنّ البعث متعلّق بنفس الطبيعة المهملة التي تكون مقسما لاعتبارات الماهيّة التي يعبّر عنها باللابشرط المقسميّ فالعقل يحكم بأنّ البعث يرجع إلى إيجاد ما يكون مدلولا لذلك اللفظ لأنّ الطبيعة بالمعنى المذكور لا يمكن إرادتها لإهمالها وخلوّها من جميع الحيثيّات وعليه فالإيجاد مستفاد من حكم العقل وليس داخلا في الماهيّة والطبيعة.

١٨٥

فلا دلالة للهيئة أيضا على المرّة والتكرار نعم يتحقّق الامتثال بوجود الطبيعة أو بإيجادها في المرّة الاولى إذ بعد الإتيان بالطبيعة سقط الأمر وتحقّق الامتثال ولا مجال للامتثال الثاني كما لا يخفى.

المقام الثالث : في المراد من المرّة والتكرار

هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد والفرق بينهما واضح لاحتياج الدفعة والدفعات إلى تعدّد الأزمنة وتعاقبها بخلاف الفرد والأفراد.

ذهب في الفصول إلى أنّ المراد هو الدفعة والدفعات مستدلّا بالتبادر وبأنّ المراد لو كان هو الفرد والأفراد لكان الأنسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمّة للمبحث الآتي من أنّ الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو بالفرد فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضى التعلّق بالفرد الواحد أو المتعدّد أو لا يقتضى شيئا منهما ولم يحتج إلى إفراد كلّ منهما بالبحث كما فعلوه وأمّا لو اريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين.

وفيه أنّ الأمر لو كان متعلّقا بالطبيعة يجري البحث المذكور في هذه الصورة أيضا لأنّ الطبيعة لا يمكن وجودها إلّا في ضمن فرد ما فحينئذ يقع الكلام في أنّ المطلوب بالأمر هل هو الطبيعة بإيجادها في ضمن فرد أو أفراد أو الدفعة أو الدفعات.

ودعوى الفرق بين أن يكون المطلوب هو وجود الطبيعة كما هو الظاهر أو نفس الطبيعة وتقدير الإيجاد بحكم العقل بأنّ البحث في الأوّل لغويّ وفي الثاني عقليّ. لا يوجب أن يكون البحث تتمّة للمبحث الآتي بعد جريانه في الصورتين ولو كان البحث على تقدير لغويّا وعلى تقدير عقليّا.

فالتحقيق أن يقع النزاع بكلا المعنيّين.

فكلّ مورد تقوم فيه القرينة على إرادة الفرد أو الدفعة أو الأفراد أو الدفعات

١٨٦

فلا كلام ومع عدم قيام القرينة فإن كان إطلاق فالمرجع هو الإطلاق وهو يقتضى جواز الاكتفاء بالمرّة والدفعة إلّا أنّ الاكتفاء بهما ليس من جهة كونهما مأخوذتين في الهيئة أو المادّة لما عرفت من عدم أخذهما فيها بل من جهة صدق الامتثال بإتيان الطبيعة مرّة أو دفعة ومع صدق الامتثال لا يبقى الأمر حتّى تحتاج إلى امتثال آخر.

وإن لم يكن إطلاق وشكّ في أنّ المطلوب هو الفرد أو الأفراد أو الدفعة أو الدفعات فالمرجع هو الأصل العمليّ وهو ليس إلّا أصالة البراءة عن تكليف الزائد فلا تغفل.

المقام الرابع : في تبديل الامتثال بالامتثال

ولا يخفى عليك أنّ بعد الإتيان بالمأمور به وسقوط الأمر لا مجال للامتثال الثاني بالنسبة إلى الأمر الأوّل الساقط لأنّ الامتثال متوقّف على الأمر والمفروض هو سقوطه بالامتثال الأوّل.

ولا فرق في ذلك بين أن نقول بدلالة الأمر على المرّة وضعا أو بعدمها وتقدير الوجود أو الإيجاد في جانب المتعلّق بحكم العقل لسقوط الأمر المتعلّق بالطبيعة أيضا بإتيان الفرد الأوّل فكما أنّ الأمر المتعلّق بالفرد يسقط بإتيان الفرد الأوّل فكذلك يسقط الأمر المتعلّق بالطبيعة إذ يتحقّق الطبيعة بالفرد الأوّل.

نعم لو علم بعد الإتيان بالفرد أو تحقّق الطبيعة أنّ للمولى أمر استحبابيّ بإتيان فرد أحسن ممّا أتى به لجاز أن يأتي بفرد آخر ولكنّه ليس إلّا الامتثال للأمر الثاني وليس من باب تبديل امتثال الأمر الأوّل بالامتثال الثاني بالنسبة إلى الأمر الأوّل وعليه يحمل جواز إعادة الفريضة المأتيّ بها منفردا أو بالجماعة.

وأمّا الفرق بين ما إذا كان امتثال الأمر علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى بحيث يحصل بمجرّده فلا يبقى معه مجال لإتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن

١٨٧

يكون الإتيانان امتثالا واحدا وبين ما إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضّأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلا فلا يبعد صحّة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله ففيه ما لا يخفى لأنّ الغرض من الأمر في نظير المثال هو التمكّن من الشرب وهو حاصل بإتيان الماء فلا معنى لبقاء الأمر مع حصول الغرض فلا تغفل.

المقام الخامس : في الامتثال بالأزيد

ولا إشكال في جوازه بعد كون إيجاد الطبيعة المأمور بها في ضمنها نحوا من الامتثال كإيجادها في ضمن فرد واحد إذ مقتضى إطلاق الطبيعة هو جواز الإتيان بها على نحوين.

ثمّ إنّ وحدة الامتثال وكثرته بوحدة الطلب وكثرته لا بوحدة الطبيعة وكثرتها وعليه فالإتيان بعدّة أفراد عرضيّة دفعة واحدة لا يكون إلّا امتثالا واحدا لا امتثالات متعدّدة كما لا يخفى.

المقام السادس : في عدم اختصاص النزاع بالأمر الوجوبيّ

وذلك لوحدة الملاك.

المقام السابع في الفرق بين النواهي والأوامر

ولا يخفى أنّ كيفيّة الامتثال بين النواهي والأوامر مع وحدة متعلّقهما وهي الطبيعة بتقدير الوجود أو الإيجاد إذ الأمر هو البعث نحو وجود الفعل والنهي هو الزجر عن وجود الفعل متفاوتة وهي ناشئة إمّا من جهة اختلاف حكم العقلاء بالنسبة إليهما إذ يحكمون بأنّ وجود الطبيعيّ ينعدم بعدم جميع الأفراد في النواهيّ

١٨٨

ويتحقّق بوجود ما في الأوامر فامتثال الأمر بصرف وجود الطبيعة وامتثال النهي بترك جميع الأفراد على نحو الاستغراق.

أو ناش من جهة كثرة الاستعمال فإنّ الأمر استعمل كثيرا ما في مطلوبيّة صرف وجود الطبيعة بخلاف النهي فإنّه مستعمل كثيرا ما في مبغوضيّة الطبيعة بجميع أفرادها على نحو الاستغراق ولعلّه أقرب كما سيأتي تفصيله إن شاء الله في المباحث الآتية وعلى كلّ تقدير لا يحتاج إفادة النواهي للشيوع والاستغراق إلى مقدّمات الحكمة.

١٨٩

المبحث الثامن : في الفور والتراخي :

ربما يتوهّم أنّ مقتضى تعلّق البعث الذي هو مدلول الأمر بنفس الطبيعة المهملة هو عدم إفادة صيغة الأمر للفور أو التراخي بنفسها كما لا تفيد المرّة والتكرار وغيرهما من سائر القيود ولذلك صرّح جماعة بأنّ ما قدّمناه في نفي دلالة الأمر على المرّة والتكرار هو بعينه جار في عدم دلالته على الفور والتراخي إذ بعد إخراج كلّ قيد من زمان ومكان وغيرهما عن مدلوله لا محيص عن القول بعدم دلالته عليه لا بهيئته ولا بمادّته.

ولكن الحقّ هو ما ذهب إليه سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ البعث الإنشائيّ كالبعث الخارجيّ فكما أنّ البعث الخارجيّ يفيد الفوريّة ولا يساعد مع التراخي فكذلك البعث الإنشائيّ فالأصل في الأوامر هو الفوريّة إلّا أن تدلّ على خلافها قرينة فالفوريّة من مقتضى البعث. انتهى

وعليه فالفوريّة كالوجوب والندب المنتزعين من البعث بحكم العقلاء فهي وإن لم تؤخذ في الهيئة ولا في مادّة الأمر إلّا أنّ البعث من المولى كما هو موضوع لحكم العقلاء بتماميّة الحجّة على لزوم الإتيان وانتزاع الوجوب عنه كذلك موضوع لحكمهم بالفوريّة وعدم جواز التراخي فيه ما لم تقترن معه قرينة على الخلاف.

وممّا ذكر يظهر ما في تهذيب الاصول حيث قال : إنّ مقتضى الملازمة بين الوجوب والإيجاب أنّ الإيجاب إذا تعلّق بأيّ موضوع على أيّ نحو كان يتعلّق الوجوب به لا يغيره فإذا تعلّق الأمر بنفس الطبيعة لا يمكن أن يدعو إلى أمر زائد عنها

١٩٠

من زمان خاصّ أو غيره فوزان الزمان وزان المكان وكلاهما كسائر القيود العرضيّة لا يمكن أن يتكفّل الأمر المتعلّق بنفس الطبيعة إثبات واحد منهما لفقد الوضع والدلالة وانتفاء التشابه بين التكوين والتشريع فتدبّر. (١)

وذلك لما عرفت من أنّ الوجوب أيضا ليس داخلا في مفاد الهيئة ولا في مادّتها وإنّما هو أمر منتزع من البعث بعد حكم العقلاء بلزوم الإتيان وهكذا الفوريّة فكما أنّ تعلّق الأمر والبعث بنفس الطبيعة لا ينافي الحكم بلزوم الإتيان وانتزاع الوجوب فكذلك لا ينافي حكم العقلاء بفوريّة الإتيان لأنّ البعث الإنشائيّ عندهم كالبعث الخارجيّ وهذا الحكم ليس حادثا بمرور الزمان بل هو مقارن مع البعث من أوّل الأمر.

قال في نهاية النهاية في مقام الاستدلال على إفادة الفوريّة : إنّ عدم دلالة الأمر على. الفور والتراخي بحسب الوضع الأوّليّ وأمّا بحسب الاستعمالات الشائعة العرفيّة فلا يبعد دعوى الظهور الثانويّ في إرادة الفور العرفيّ المختلف ذلك بحسب اختلاف الأفعال المأمور بها ولذا لا يتأمّل أحد في ذمّ من يسوّف في امتثال أمر مولاه ويؤخّره من حين إلى حين ولا يسمع منه الاعتذار بأنّ الأمر لطلب الطبيعة لا للفور وهذا واضح لمن راجع الأوامر العرفيّة ولو لم تكن مقرونة بقرينة شخصيّة تدلّ على إرادة الفور ولعلّ هذا الظهور الثانويّ ناش من اقتران أوامر المولى غالبا بالحاجة الفعليّة. (٢)

وفيه أنّه وإن أفاد وأجاد في حكم العقلاء بالفوريّة عند صدور البعث من الموالي ومذمّتهم من يسوّف في امتثال أوامرهم وعدم استماعهم للاعتذار ولكنّه لا

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٧٤.

(٢) نهاية النهاية ١ / ١١٦.

١٩١

وجه لدعوى حدوث إفادة الفوريّة بالوضع فضلا عن الوضع الثانويّ بعد عدم كون الوجوب والفوريّة داخلين في الهيئة ولا في المادّة لما عرفت من أنّ الوجوب والفوريّة من مقتضيات البعث عند العقلاء من أوّل الأمر كالبعث الخارجيّ. وعليه فلا يكون الفوريّة مستعملا فيها حتّى يدعى ظهور الأمر بهيئته أو بمادّته فيها بسبب كثرة الاستعمال فيها الناشئة من اقتران أوامر الموالي غالبا بالحاجة الفعليّة.

ربما يستدلّ على إفادة الفوريّة بوجوه اخرى منها : أنّ البعث المستفاد من الصيغة منزل في نظر العقلاء تشريعا بالإضافة إلى متعلّقه منزلة العلّة التكوينيّة فكما أنّ العلّة التكوينيّة لا ينفكّ عنها معلولها في أوّل أزمنة الأفعال كذلك ما هو منزل منزلتها.

أورد عليه في بدائع الأفكار بأنّا لو سلّمنا صحّة التنزيل المذكور لما كان ذلك مستلزما لتنزيل البعث منزلة العلّة التكوينيّة في جميع خصوصيّاتها وآثارها بل المسلّم إنّما هو تنزيل البعث منزلة العلّة التكوينيّة في الجملة لأنّا قد قلنا أنّ الأمر هو البعث بداعي جعل الداعي وذلك لا يستدعي أكثر من التوصّل بذلك البعث إلى وقوع المطلوب في الخارج لذا نجد العقلاء يعدّون العبد مطيعا إذا أمره بفعل لم تدلّ القرينة على الفوريّة فيه فأتى به بعد مضيّ زمان من حين صدور الأمر. (١)

وفيه وإن أفاد وأجاد في نفي عموميّة تنزيل البعث عند العقلاء بمنزلة العلل التكوينيّة فإنّه لا دليل لها ولكن لا وجه لقوله من أنّ الأمر لا يستدعي أكثر من التوصّل بذلك البعث إلى وقوع المطلوب في الخارج ولذا نجد العقلاء يعدون العبد مطيعا ... إلخ ، لما عرفت من أنّ البعث الإنشائيّ عند العقلاء بمنزلة البعث الخارجيّ فكما أنّ البعث الخارجيّ يفيد الفوريّة واستحقاق المذمّة في التأخير في الإتيان فكذلك

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ٢٥١.

١٩٢

في البعث الإنشائيّ وعليه فحكم العقلاء بعد الإتيان بالمأمور به مع التراخي بكون العبد مطيعا من جهة الإتيان بالمأمور به لا ينافي حكمهم باستحقاقه المذمّة من جهة إهماله بالفوريّة والتراخي في الإتيان مع أنّها من مقتضيات البعث.

أورد في تهذيب الاصول على تنزيل البعث على العلل التكوينيّة بأنّهما في العلّيّة والتأثير مختلفان متعاكسان حيث إنّ المعلول في التكوين متعلّق بتمام حيثيّته بنفس وجود علّته بخلاف التشريع على أنّ عدم الانفكاك في التكوين لأجل الضرورة والبرهان القائم في محلّه وأمّا الأوامر فنجد الضرورة على خلافه حيث أنّ الأمر قد يتعلّق بنفس الطبيعة مجرّدة عن الفور والتراخي واخرى متقيّدة بواحد منهما ولا نجد في ذلك استحالة أصلا. (١)

وفيه أنّ التنزيل بالعلل التكوينيّة وإن كان لا شاهد له ولكن دعوى الاختلاف في العلّيّة والتأثير صحيح إن لوحظت المادّة بحسب الذهن فإنّها متقدّمة بحسب الوجود الذهنيّ على الأمر المتعلّق بها بخلاف المعلول فإنّه متأخّر عن وجود العلّة وأمّا إذا لوحظت المادّة بحسب وجودها في الخارج فهي متأخّرة كالمعلول بالنسبة إلى العلّة ومترتّبة على الأمر في الوجود ودعوى الاختلاف في التأثير والعلّيّة لا مورد لها كما أنّ عدم الانفكاك في التكوين لأجل الضرورة والبرهان لا ينافي انفكاك الأمر عن الفور بإقامة القرينة لأنّ علّيّة الأمر للفور فيما إذا كان خاليا عن القرينة وأمّا مع القرينة فليس علّة لإفادة الفور كما لا يخفى.

ومنها : ما أشار إليه في نهاية النهاية من أنّه لا يبعد دعوى حكم العقل بوجوب المبادرة مع احتمال طروّ الاضطرار في الآن الثاني فيكون تركه للمبادرة تركا للامتثال

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٧٤.

١٩٣

مع القدرة والتمكّن. (١)

وفيه أنّ مع الغمض عمّا ذكرنا من أنّ الفوريّة من مقتضيات البعث عند العقلاء لا وجه لدعوى حكم العقل بوجوب المبادرة مع إطلاق الهيئة والمادّة من دون تقييد بالفور أو التراخي إذ إطلاقهما يكفي في جواز التراخي ولو مع احتمال طروّ الاضطرار كالواجبات الموسّعة فلا تغفل.

ومنها : أنّ قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ...) الآية. (٢) يدلّ على الفوريّة لأنّ المأمور به من الخيرات فالآية دالّة على وجوب الاستباق إليه وليس هو إلّا الفوريّة.

وهكذا قوله تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ...) الآية. (٣) وقوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ...) الآية (٤).

يدلّان على الفوريّة فإنّ المراد من المغفرة ليس نفسها لكونها فعل الله تعالى بل المراد منها هي الأسباب المعدّة لحصولها وهي الواجبات.

وعليه فالمستفاد من الآيتين أنّ الاستباق والمسارعة نحو إتيان المأمور به واجبان في أوّل أزمنة الإمكان.

وفيه أوّلا كما أفاد سيّدنا الاستاذ أنّ صدق المغفرة على الواجبات باعتبار كونها مكفّرة للسيّئات محلّ تأمّل ومع الشكّ في صدقها لا وجه للتمسّك بالآية المباركة لأنّه تمسّك بالعامّ في الشبهات الموضوعيّة.

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ١١٦.

(٢) البقرة / ١٤٨.

(٣) الحديد / ٢١.

(٤) آل عمران / ١٣٣.

١٩٤

نعم لا إشكال في صدق المغفرة على التوبة لأنّها مكفّرة للذنوب إلّا أنّ الآية حينئذ تكون اجنبيّة عن المقام.

وثانيا : كما أفاد في تهذيب الاصول وسيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد (قدس‌سرهما) أنّ الظاهر من مادّة الاستباق وهيئة المسارعة هو أنّ الأمر متوجّه إلى تسابق المكلّفين بعضهم على بعض إلى فعل الخيرات وإلى مغفرة من ربّهم أي في تقدّم شخص على شخص آخر في أمر مع معرضيّته لهما كما في قوله تعالى : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ).

لا في مبادرة شخص على عمل مع قطع النظر عن كونه مورد المسابقة بين أقرانه وعليه فلا بدّ من حمل الخيرات وأسباب المغفرة على ما لو لم يسبق المكلّف إليه لفات منه بإتيان غيره مثل الواجبات الكفائيّة ... إلخ.

هذا ولكنّه محلّ تأمّل لأنّه لا وجه لاختصاص مورد استعمال المسابقة والاستباق بالواجبات الكفائيّة لصحّة استعمالها في غيرها أيضا والمراد هو التوصية في الجدّ والجهد في الإتيان بالعبادات والواجبات مطلقا حتّى ينالوا السبقة في مضمار العبادات والإطاعات فلا تغفل.

وثالثا : كما في الكفاية وغيرها أنّ الأمر بالاستباق أو المسابقة لو كانا للوجوب لزم تخصيص الأكثر لكثرة تخصيصه في المستحبّات وكثير من الواجبات بل أكثرها كالواجبات الموسّعة والموقّتة وتخصيص الأكثر مستهجن فلا بدّ من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب.

ورابعا : كما في الكفاية وتهذيب الاصول والمحاضرات :

أنّ الآيات المذكورة إرشاد إلى ما استقلّ به العقل من حسن المسارعة والاستباق نحو الإتيان بالمأمور به وتفريغ الذمّة منه وعليه فلا موضوعيّة للآيات في إفادة الوجوب واللزوم بل تابعة للعقل في الإلزام وعدمه ومن الواضح أنّ حكم العقل

١٩٥

بذلك يختلف في اللزوم وعدمه باختلاف الموارد. (١)

وقاسه بالإطاعة في الكفاية حيث قال : لا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه إرشادا إلى ذلك كالآيات والروايات الواردة في الحثّ على أصل الإطاعة فيكون الأمر فيها لما يترتّب على المادّة بنفسها ولو لم يكن هناك أمر بها كما هو الشأن في الأوامر الإرشاديّة فافهم.

أورد عليه سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره بأنّ قياسه على الإطاعة قياس مع الفارق لإمكان تصوير المصلحة في نفس المسارعة دون الإطاعة من جهة لزوم التسلسل كما قرّر في محلّه وعليه فمع هذا الإمكان لا مجال لحمله على الإرشاد إذ مقتضى القاعدة هو الحمل على المولويّة ولو شكّ في كونه مولويّا أو إرشاديّا.

وربما يستشهد لكون الأمر في الآية الكريمة للإرشاد بقوله تعالى في ذيله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ...)(٢)

ولعلّ وجه الاستشهاد أنّ التوصية إلى المسابقة إلى الجنّة التي لها ذلك العرض العريض تكون أنسب بالموعظة والإرشاد فتأمّل.

وخامسا : أنّ الخيرات جمع محلّى باللام تفيد العموم ولكن مغفرة من ربّكم ، لا يفيد العموم لأنّ النكرة في سياق الإثبات لا دلالة لها على العموم وما قيل من أنّ توصيف النكرة بقوله : من ربّكم ، يفيد العموم ، لا محصّل له.

وأيّده في تهذيب الاصول باختلاف المفسّرين وترديدهم في معنى المغفرة من أنّها التوبة أو أداء الفرائض أو كلمة الشهادة أو التكبير الأوّل من الجماعة أو الصفّ

__________________

(١) راجع المحاضرات ٢ / ٢١٥.

(٢) الحديد / ٢١.

١٩٦

الأوّل أو غير ذلك.

وهذا الترديد والاختلاف شاهدان على عدم استفادة العموم وإلّا لم يجعلوا البعض قبال بعض فتأمّل.

في إفادة الفور فالفور :

تتمّة : وهي أنّ بناء على القول بالفور فهل قضيّة الأمر الإتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به فورا أيضا في الزمان الثاني أو لا؟

والذي ينبغي أن يقال : كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره هو أنّ مقتضى ما اخترناه من كون مفاد صيغ الأمر هو البعث هو لزوم الإتيان بمتعلّقها فورا ففورا كما هو مقتضى البعث الخارجيّ فكما أنّ البعث الخارجيّ ما دام باقيا يقتضي الفور فالفور كذلك البعث الإنشائيّ القائم مقامه ما لم تقم قرينة على الخلاف.

ألا ترى أنّ المولى لو بعث خارجا عبده نحو عمل فتوانى فيه ولم يذهب فورا لا يوجب ذلك رفع الفوريّة عنه في الذهاب بعد أوّل أزمنة الإمكان فلو لم يعجل بعد استحقّ المذمّة والعقوبة أيضا وهكذا.

وليس ذلك إلّا لكون البعث الخارجيّ مقتضيا للفور فالفور بنظر العقلاء فإذا كان البعث الخارجيّ كذلك يكون البعث الإنشائيّ مقتضيا لذلك واردا مورد البعث الخارجيّ كما لا يخفى.

ثمّ إنّ إفادة الفور وهكذا الفور فالفور كالوجوب والندب ليسا داخلين في الهيئة ولا في المادّة بنحو من الأنحاء بالوضع أو التقييد بل هما من الامور الانتزاعيّة تبعا لانتزاعيّة الوجوب والندب.

وممّا ذكر يظهر أنّه لا مجال لما في بدائع الأفكار والكفاية وغيرهما من أنّ الفوريّة دخيلة في الواجب وأنّها قيد من قيوده فكأنّ المادّة المبعوثة إليها مقيّدة بأوّل

١٩٧

الأزمنة الممكنة فيكون حال هذا القيد حال سائر القيود الداخلة في حيّز الوجوب فكما أنّ سقوط الخطاب بها يكون بأحد الأمرين :

إمّا بالامتثال وإمّا بفواتها كذلك قيد الفوريّة.

وأمّا إذا تنزّلنا عن ذلك وقلنا بكون الفوريّة واجبة في واجب بنحو تعدّد المطلوب فغاية ما يستفاد من دليل ذلك هو كون الفوريّة واجبة حيث تمكن.

وأمّا أنّ الفوريّة إذا لم تحصل في الزمان الأوّل فيلزم تحصيلها في الزمان الثاني والثالث إلى آخر أزمنة الإمكان فلا دلالة في الكلام عليها. انتهى.

لما عرفت من أنّ قيد الفور فالفور ليس داخلا في المادّة حتّى يقال بأنّ المطلوب إن كان واحدا ومتقيّدا بقيد الفوريّة فلا يبقى مطلوب بعد أوّل أزمنة الإمكان وفوت الفوريّة وإن كان متعدّدا بحيث يبقى المطلوب بعد فوت الفوريّة فلا دلالة للكلام على الفور فالفور وهكذا.

إذ على ما ذكرنا يكون الحكم بالفوريّة كالحكم بلزوم الإتيان من أحكام العقلاء عند بعث الموالي من دون أن يكون داخلا في المادّة فإذا لم تكن الفوريّة داخلة في المادّة فليس لدلالة الكلام مدخل في إفادتها أو عدمها ولا يقاس هذا القيد بسائر القيود في سقوط الخطاب إذ سائر القيود إذا تعذّرت لا مجال لبقاء المطلوبيّة بعد كونها متقيّدة بها بخلاف الفوريّة فإنّ مع تعذّر الإتيان في أوّل أزمنة الإمكان لا وجه لسقوط الخطاب لعدم تقييده بالفوريّة كما لا مجال لدعوى عدم دليل على الفور فالفور بعد حكم العقلاء بذلك في الأزمنة المتأخّرة لكفاية بقاء المطلوبيّة وعدم سقوط الخطاب بعد عدم تقييده بالفورية في حكم العقلاء بالفوريّة في الأزمنة المتأخّرة فتعدّد مطلوبيّة المادّة يكفي في كونه فورا ففورا.

والعجب من تهذيب الاصول حيث أنّه مع اختياره فيما سبق أنّ مفاد صيغة

١٩٨

الأمر هو البعث والإغراء نحو المأمور به كالإشارة البعثيّة والإغرائيّة ذهب في المقام إلى أنّ مقتضى الإطلاق هو عدم وجوب الفور بعد الفور واستدلّ عليه بقوله ضرورة احتياجه إلى البيان لو كان مرادا للقائل ومع عدمه يتمّ الحجّة للعبد. (١)

لما علمت من أنّ الفور فالفور ليس من قيود المادّة حتّى يحكم بعدمه عند إطلاق المادّة بل هو كالوجوب من الأحكام العقلائيّة عند البعث فإذا لم يقترن بالكلام ما يدلّ على جواز التراخي فمقتضى الإطلاق هو حكم العقلاء بلزوم الإتيان فورا ففورا.

وممّا ذكر في المقام ينقدح ما في المحكيّ عن الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره من أنّ الظاهر أنّ الفور والتراخي من قيود الطلب ومن كيفيّاته فيكون الأوّل نظير تأكّد الطلب والثاني نظير رخصة الترك في الأمر الندبيّ بمعنى أنّ الطلب الفوريّ هو مرتبة من الطلب وهو ما لا يرضى الآمر معه بتأخير الفعل عن اول وقته وكذلك الطلب مع التراخي مرتبة منه وهو ما يكون الآمر معه راضيا بالتأخير كما أنّ الوجوب والندب مرتبتان منه فيكون للطلب مرتبتان من حيث الرضا بالترك وعدمه ومرتبتان من حيث الرضا بالتأخير وعدمه.

فيعبّر عنه من الجهة الاولى بالوجوب والندب ومن الجهة الثانية بالفور والتراخي (لا من قيود المادّة المعروضة للطلب ومن كيفيّتها) .. إلى أن قال :

ويظهر الثمرة بين الاحتمالين في الفور في جواز الاحتياط واستصحاب الوجوب في الآن الثاني على تقدير الترك في الآن الأوّل فعلى الأوّل منهما يجوز كلّ منهما فإنّ المطلوب حينئذ مطلق وبقاء الطلب والوجوب محتمل فيجوز الاحتياط

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٧٦.

١٩٩

والاستصحاب في الآن الثاني على تقدير الترك في الآن الأوّل. وعلى الثاني منهما لا مجرى لشيء منهما فإنّ المطلوب حينئذ هو الفعل مقيّدا بإيقاعه في أوّل الأزمنة والمفروض انتفاء القيد فيرتفع الطلب عن المقيّد يقينا فلا يجري شيء منهما في المقام حينئذ. (١)

وذلك لأنّ مفاد الصيغة كما مرّ سابقا هو البعث لا الإرادة أو الطلب والبعث من الامور الإنشائيّة وهي لا تكون ذا مراتب فلا مجال لدعوى كون الفور من قيوده نظير تأكّد الطلب أو أنّ الطلب الفوريّ هو مرتبة من الطلب والطلب مع التراخي مرتبة اخرى منه كما أنّ الوجوب والندب مرتبتان منه.

فكما أنّ الإشارة البعثيّة الخارجيّة والإغراء الخارجيّ لا تكون ذا مراتب فكذلك إنشاء البعث القوليّ.

وعليه فالفرق بين البعث الوجوبيّ وبين البعث الندبيّ من جهة حكم العقلاء بتماميّة الحجّة على لزوم الإتيان في الأوّل دون الثاني إذ البعث وعدم ذكر الترخيص وكون الداعي من البعث المذكور هو الإرادة الحتميّة موضوع لحكمهم بتماميّة الحجّة على لزوم الإتيان بخلاف ما إذا دلّ الدليل والقرينة على أنّ داعيه منه ليس بإرادة حتميّة كالمستحبّات فإنّ العقلاء لم يحكموا حينئذ بلزوم الإتيان كما لا يخفى.

فاستعمال صيغة الأمر في الندب كاستعماله في الوجوب وإنّما الاختلاف بينهما في الدواعي فإنّ الداعي في الوجوب هو الإرادة الحتميّة دون الندب وهكذا استعمال صيغة الأمر في الفور كاستعماله في التراخي وإنّما الاختلاف في ناحية الإرادة والدواعي فالمستعمل فيه في الوجوب والندب والفور والتراخي واحد فلا مجال لدعوى التقييد

__________________

(١) تقريرات الميرزا ٢ / ١٢٣ ـ ١٢٤.

٢٠٠