عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

يطابقه تارة ويخالفه اخرى مثل الأمارة حتّى انكشف الخلاف. (١)

وثانيا : بأنّ الحكومة لا تنقسم إلى قسمين ظاهريّ وواقعيّ بل هي منحصرة في الواقعيّ فإذا كان المستفاد من الدليل هو التصرّف في الأدلّة الأوّليّة ولو بالانفهام العرفيّ جمعا بين الأدلّة والتوسعة في الشروط ونحوها فالحكومة واقعيّة إذ بعد الحكومة يصير الشرط أعمّ من الواقع فإذا أتى بالعمل مع الشرط التعبّديّ أتى بالواجب مع شرطه واقعا في حال الشكّ فلذا لا تخلّف له كما لا يخفى.

وثالثا : أنّ تأخّر الحكم الظاهريّ عن الحكم الواقعيّ لا يوجب استحالة التصرّف في الحكم الواقعيّ لأنّ الأحكام الاعتباريّة لا يجري فيها ما يجري في التكوينيّات لأنّ الأحكام الاعتباريّة خفيف المئونة وأمرها بيد معتبرها فيجوز أن يرفع اليد عن فعليّتها أو يوسّع فيها فيما إذا قامت الأحكام الظاهريّة فلا تغفل.

وممّا ذكر يظهر ما في دعوى أنّه يكون في مقايسة قاعدة الطهارة مع دليل اشتراط الصلاة بالطهارة احتمالان :

الأوّل : أن يكون تنزيلا لمشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعيّ بلحاظ عالم الأحكام المجعولة من قبل الشارع والتي منها الشرطيّة فتفيد الحكومة الواقعيّة والتوسعة الحقيقيّة للشرطيّة.

الثاني : أن يكون تنزيلا للمشكوك منزلة الطاهر بلحاظ الجري العمليّ والوظيفة في حالات الشكّ والالتباس والتحيّر وبناء عليه لا يثبت الإجزاء لأنّها لا تفيد أكثر من تحديد الوظيفة العمليّة أي التأمين في حالة الشكّ ولا تقتضي سقوط الواقع.

والظاهر الأولى لألسنة التنزيل كقوله عليه‌السلام : الطواف بالبيت صلاة ، وإن كان هو

__________________

(١) مناهج الوصول ١ / ٣١٧.

٢٦١

الاحتمال الأوّل أي الحكومة والتوسعة الواقعيّة للأحكام بل لا يعقل في أكثر الموارد إلّا المعنى الأوّل إلّا أنّه في موارد أخذ الشكّ في موضوع التنزيل كما يحتمل المعنى الأوّل يعقل المعنى الثاني أيضا وحينئذ إن لم نستظهر من نفس أخذ الشكّ والتحيّر في لسان التنزيل إرادة المعنى الثاني ولو بحسب مناسبات الحكم والموضوع العرفيّة الارتكازيّة فلا أقلّ من الإجمال المنافي لإمكان إثبات الإجزاء بملاك التوسعة الواقعيّة.

ويؤيّد إرادة الاحتمال الثاني في القاعدة ذيل موثّقة عمّار حيث تقول : فإذا علمت فقد قذر ، الذي يعني أنّ مجرّد العلم بالقذارة يوجب نفوذ آثار القذارة ومقتضى إطلاقها إنفاذ جميع آثار القذارة حتّى الثابتة قبل العلم بها والتي منها بطلان العمل السابق ولزوم الإعادة واحتمال هذا الإطلاق كاف أيضا لسريان الإجمال إلى صدر الحديث. (١)

وذلك لما عرفت من أنّ المتبادر من الاصول الظاهريّة المجعولة في حال الشكّ لمن أراد امتثال التكاليف الواقعيّة أنّ امتثال التكاليف المشروطة بالطهارة يتحقّق باتيان المشكوك المحكوم بالطهارة ولا ينسبق إلى الأذهان أنّ ما أتى به في هذا الحال يمكن أن يكون لغوا ويبقى الواجب على الذمّة.

وليس ذلك إلّا معنى الحكومة ولكنّ الحكومة المذكورة تختصّ بظرف الشكّ فلا ينافيها ذيل موثّقة عمّار بعد ما عرفت من أنّ الأحكام الواقعيّة لا تزول بقيام الاصول الظاهريّة الحاكمة عليها وإنّما تزول فعليّتها في هذا الحال ومقتضى ذلك هو نفوذ آثار القذارة بمجرّد العلم من حين ارتفاع الأدلّة الحاكمة بالنسبة إلى ما لم يتحقّق الامتثال في حقّه من دون حاجة إلى جعل القذارة وأمّا ما تحقّق الامتثال في حقّه وسقط أمره فلا تأثير للعلم بالقذارة بالنسبة إليه وعليه فلا ينافي ذيل موثّقة عمّار مع

__________________

(١) بحوث في علم الاصول ٢ / ١٦١.

٢٦٢

تبادر الصدر في الحكومة بالتقريب المذكور فلا تغفل.

لا يقال : إنّ الحكومة المذكورة تتوقّف على كون مفاد الاصول هو جعل المماثل للأحكام ولكن جعل المماثل ممنوع بعد عدم إمكان تصوير جعل المماثل في العدميّات كاستصحاب عدم الحرمة إذ لا معنى للجعل فيها إذ العدم عدم من دون حاجة إلى جعل وسبب وبعد عدم إمكانه أيضا فيما إذا لم يكن للموضوع سابقا أثر شرعيّ كاستصحاب بقاء زيد لجواز التقليد عنه فإنّ جواز التقليد أثر شرعيّ ولكنّه مترتّب على بقائه في الأزمنة المتأخّرة ومن المعلوم أنّ في الفرض المذكور لا حكم قبلا حتّى يمكن جعل مماثله بالاصول الظاهريّة فمفاد قاعدة الطهارة ونحوها من الاصول الظاهريّة ليس إلّا الأمر بالمعاملة مع المشكوك معاملة الطاهر الواقعيّ مثلا في الآثار التي يترتّب عليها ما دام الشكّ باقيا فإذا زال الشكّ رتّب آثار الواقع وعليه فلا مورد للجعل المماثل للأحكام حتّى يكون حاكما بالنسبة إلى مماثلها.

لأنّا نقول : لا فرق في دعوى التبادر المذكور بين كون مفاد الاصول هو جعل المماثل أو ترتيب الآثار لما عرفت من أنّ أمر المكلّف الذي يكون بصدد امتثال تكاليفه الواقعيّة بترتيب آثار الطهارة الواقعيّة على المشكوك فيه بلسان تحقّق الطاهر يوجب الانفهام العرفيّ بأنّ الصلاة المشروطة بالطهارة يجوز الإتيان بها في حال الشكّ بهذه الكيفيّة بحيث يكون المأتيّ به مع هذه الكيفيّة مصداقا للصلاة المأمور بها وواجدا لما هو شرطها وهذا هو معنى الإجزاء ولا يتوقّف ذلك على جعل المماثل كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ الأظهر هو حكومة الاصول الظاهريّة على الأحكام الأوّليّة وأدلّة الشروط والجزئيّة والمانعيّة وقد عرفت تقريب الحكومة بالنسبة إلى قاعدة الطهارة وقاعدة الحلّيّة.

ثمّ إنّ تقريب الحكومة في الاستصحاب بناء على كونه أصلا غير محرز كتقريب القاعدتين لأنّ مفاد الاستصحاب كما في تهذيب الاصول متّحد مع ما مرّ من قاعدتي

٢٦٣

الحلّ والطهارة من حكومتهما على أدلّة الشرائط والموانع قائلا بأنّ الشاكّ بعد اليقين يبني عليه فهو متطهّر في هذا الحال وليس له أن يرفع اليد عن يقينه أبدا وبعبارة اخرى أنّ الظاهر من دليله هو البناء العمليّ على بقاء المتيقّن في زمان الشك أو البناء العمليّ وجوب ترتيب آثاره وإن كانت الآثار ثابتة بالأدلّة الاجتهاديّة والاستصحاب محرز موضوعها تعبّدا لأنّ استصحاب عدالة زيد لا يثبت عدا بقاء عدالته وأمّا جواز الطلاق عنده وإقامة الصلاة خلفه فلا يثبت بدليل الاستصحاب بل بالكبريات الكلّيّة الأوّليّة التي هي المجعولات الأوّليّة فيكون دليله حاكما على الأدلّة فيفيد الإجزاء كما مرّ. (١)

إذ أمر من أراد الامتثال للتكاليف الواقعيّة بترتيب آثار المتيقّن يوجب الانفهام العرفيّ بأنّ التكليف يمكن امتثاله بهذه الكيفيّة بحيث يكون المأتيّ به مع هذه الكيفيّة مصداقا للمأمور به وواجدا لما هو شرطه ومن المعلوم أنّه ليس إلّا معنى الإجزاء كما لا يخفى.

وهكذا يكون تقريب الحكومة في قاعدة التجاوز والفراغ بناء على كونهما من الاصول الظاهريّة لا من الأمارات فإنّ حكم الشارع كما في نهاية الاصول لمن شكّ في إتيان جزء من الصلاة بوجوب المضيّ وعدم الاعتناء ، ظاهر في أنّ المكلّف الذي كان بصدد امتثال أمره تعالى بالصلاة التي أمر بها جميع المسلمين وشكّ في أثناء عمله أو بعده في إتيان جزء منها ، صلاته عبارة عن الأجزاء التي أتى بها وإن كانت فاقدة للجزء المشكوك في إتيانه فهذا العمل الفاقد لجزء من الأجزاء صلاة في حقّ هذا المكلّف لا أنّه عمل لغو.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٩٦.

٢٦٤

وهذا المكلّف تارك للصلاة بحيث إن استمرّ شكّه إلى حين وفاته كان تاركا لهذه الصلاة الخاصّة أداء وقضاء فكما يستبعد جدا الحكم بكونه تاركا لهذه الصلاة الخاصّة إن استمرّ شكّه إلى الأبد فكذلك يستبعد الحكم بعدم كون هذا العمل صلاة إن زال شكّه ولو في الوقت ... إلخ (١).

وبالجملة ضميمة قاعدة التجاوز والفراغ مع أدلّة الأجزاء والشرائط ونحوهما توجب تبادر الحكومة بالمعنى المذكور حيث استفاد المكلّف القاصد للامتثال أنّ صلاته عبارة عن الأجزاء التي أتى بها وبها يتحقّق الامتثال.

وأمّا حديث الرفع فهو أيضا من الأحكام الظاهريّة ومفاده يدلّ كما في نهاية الاصول على رفع كلّ ما لا يعلم حتّى الأحكام الوضعيّة من الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة فمن شكّ في جزئيّة السورة مثلا كان مقتضى حديث الرفع عدم جزئيّتها وحينئذ فإنّ شكّ أحد في جزئيّتها وتركها بمقتضى الحديث وصلّى مدّة عمره من غير سورة وكانت بحسب الواقع جزءا فهل يلتزم أحد بكونه تاركا للصلاة مدّة عمره أو يقال إنّ ظاهر حكم الشارع هو أنّ الصلاة في حقّ هذا الشاكّ عبارة عن سائر الأجزاء غير السورة وإن كان هذا الشاكّ مجتهدا وقلّده كافّة المسلمين فهل لأحد أن يلتزم بكونهم بأجمعهم تاركين مدّة عمرهم للصلاة التي هي عمود الدين (٢)

ويظهر هذا أيضا من الشيخ قدس‌سره في رسالة التقيّة حيث استدلّ بحديث الرفع فراجع.

وأمّا ما ذهب إليه شيخنا الاستاذ الأراكيّ قدس‌سره من أنّ القاعدة في الجمع بين الدليلين حفظ ظهور مدلول الكلام فيما أمكن.

وإذا فرضنا أنّ الدليل الثانويّ بالنسبة إلى دليل الأثر غير متعرّض له ويكون

__________________

(١) ج ١ / ١٢٨.

(٢) ج ١ / ١٢٨.

٢٦٥

مجرّد بيان وظيفة عمليّة لئلا يبقى المكلّف معطّلا فلا يحمل على الحكومة حفظا للظهور (١).

ففيه إنّ القرينة الدّالّة على الحكومة هي التي أشار إليه في نهاية الاصول بقوله فهل يلتزم أحد بكونه تاركا للصلاة مدّة عمره ... إلخ. ومع الحكومة لا مجال لبقاء ظهور المحكوم كي يؤخذ بهما حفظا لهما.

وعليه فالمتبادر عند العرف من ضميمة حديث رفع الأحكام المذكورة من الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة مع أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع هو كون الفاقد صلاة حقيقة حكومة فمع الحكومة المذكورة إذا اكتفى المكلّف بالفاقد أتى بالصلاة التي كانت مامورا بها حكومة ومع إتيانها لا مجال لبقاء أمرها وليس هذا إلّا معنى الإجزاء كما لا يخفى.

فالأقوى هو القول بالإجزاء في الاصول الظاهريّة وإليه ذهب السيّد المحقّق البروجرديّ وسيّدنا الإمام المجاهد (قدس‌سرهما) تبعا لصاحب الكفاية رحمه‌الله تعالى.

الأمر الثالث : في إجزاء الأمارات عند كشف الخلاف يقينا

ويقع الكلام في جهات متعدّدة :

الجهة الأولى : في إجزاء الأمارات بناء على الطريقيّة ووجوب ترتيب آثار الواقع وهنا تقريبات :

التقريب الأوّل : كما في نهاية الاصول هو أنّ الأمارات كخبر الواحد والبيّنة

__________________

(١) رسالة الاجتهاد لشيخنا الأراكيّ قدس‌سره المطبوعة في آخر كتاب البيع : ٢ / ٤٤٥.

٢٦٦

وأمثالهما وإن كانت بلسان حكاية الواقع ولكنّها بأنفسها ليست أحكاما ظاهريّة بل الحكم الظاهريّ عبارة عن مفاد دليل حجيّة الأمارة الحاكمة بوجوب البناء عليها ولسان أدلّتها هي بعينها لسان أدلّة الاصول.

وبعبارة أخرى فرّق بين ما تؤدّي عنه الأمارة وتحكيه وبين ما هو المستفاد من دليل حجّيّتها فإنّ البيّنة مثلا إذا قامت على طهارة شيء كانت هذه البيّنة بنفسها حاكية للواقع جعلها الشارع حجّة أم لا.

ولكنّ الحكم الظاهريّ في المقام ليس هو ما يحكيه البيّنة (من الطهارة) بل الحكم الظاهريّ وعبارة عن حكم الشارع بوجوب العمل على طبقها وترتيب آثار الواقع على مؤدّاها.

وظاهر ما دلّ على هذا الحكم هو قناعة الشارع في امتثال أمره الصلاتيّ مثلا بإتيانها فيما قامت البيّنة على طهارته ولازم ذلك سقوط الطهارة الواقعيّة من الشرطيّة في هذه الصورة وكذلك إذا دلّ خبر زرارة مثلا على عدم وجوب السورة كان قول زرارة حاكيا للواقع جعله الشارع حجّة أم لا.

ولكنّ الحكم الظاهريّ ليس عبارة عن مقول زرارة بل هو عبارة عن مفاد أدلّة حجيّة الخبر أعني حكم الشارع ولو إمضاء بوجوب ترتيب الآثار على ما أخبر به الثقة.

فلو انحلّ قوله صدّق العادل مثلا بعدد الموضوعات كان معناه فيما قام خبر على عدم وجوب السورة (يا أيّها المكلّف الذي صرت بصدد امتثال الأمر الصلاتيّ ابن على عدم وجوب السورة).

وظاهر هذا هو أنّك إذا صلّيت بغير سورة فقد امتثلت الأمر بالصلاة وكان

٢٦٧

عملك مصداقا للمأمور به (١).

ولا فرق فيما ذكر بين إن قلنا بجعل المماثل للواقع أو لم نقل لأنّ مرجع الأوّل أيضا إلى وجوب ترتيب آثار الواقع فلا تغفل.

وبالجملة فالحكم بترتيب آثار الواقع في موارد الأمارات والطرق يكفي في الحكومة والإجزاء لظهور الحكم المذكور لمن كان بصدد الامتثال في تحقّق الامتثال بها والحكم بترتيب آثار الواقع متحقّق في موارد الأمارات والطرق بقيام أدلّة حجّيّتها إذ لا معنى لاعتبارها إلّا الحكم بترتيب آثار الواقع عليها ولا فرق في ذلك بين أن يكون الاعتبار تأسيسيّا أو امضائيّا فإنّ العقلاء يحكمون بتبعيّة الأمارات وترتيب آثار الواقعيّات بقيامها فإذا أخبر الثقة بحدوث أمر يحكمون بلزوم الاعتماد عليه وترتيب آثار الواقع عليه والشارع أمضى ذلك منهم فيؤول إمضائه إلى الحكم بترتّب الآثار كالتأسيس فلا فرق بينهما في ذلك ولا يتفاوت في إفادة أدلّة الحجّيّة لترتيب آثار الواقع بين أن يكون الحجّة أصلا ظاهريّا أو أمارة ظاهريّة.

وعليه فالاختلاف بين الاصول والأمارات ليس إلّا من جهة أنفسهما فإنّ الأمارة حاكية دون الاصول وأمّا من حيث دليل الحجّيّة فلا اختلاف بينهما والمعيار في الإجزاء هو دليل حجّيّتهما لا أنفسهما فحكاية الأمارات عن الواقعيّات دون الاصول لا تضرّ بالانفهام العرفيّ الحاصل من اعتبار الأمارات لمن أراد الامتثال في قناعة الشارع في امتثال أمره الواقعيّ بإتيان الأمارات.

ولذلك قال في نهاية النهاية : نعم لسان الأمارات هو الكشف والحكاية عن تحقّق الشرط الواقعيّ لكن لسان صدق الأمارة لا يختلف عن لسان دليل الاصول فإنّ كلّ منهما موسّع لدليل الواقع أو مضيّق له ومجرّد أنّ أحدهما بلسان الأخذ بأحد

__________________

(١) ج ١ / ١٣٢.

٢٦٨

الاحتمالين معيّنا تعبّدا والآخر بلسان الأخذ بالاحتمال الموافق للأمارة مراعاة لكشفها لا يصلح فارقا فيما هو المهم (١).

الإشكال الأوّل

اورد عليه أوّلا بما في مناهج الوصول من أنّ الأمارة تارة تكون عقلائيّة ولم يرد من الشرع أمر باتّباعها ولكن استكشفنا إمضائها من عدم الردع وأخرى هذا الفرض مع ورود أمر إرشاديّ منه باتّباعها وثالثة تكون تأسيسيّة شرعيّة.

وظاهر عنوان القوم خروج الفرض الأوّل عن محطّ البحث بل الثّاني أيضا لأنّ الأمر الإرشاديّ لم يكن أمرا حقيقة.

والتحقيق عدم الإجزاء في الأمارات مطلقا أمّا في الفرضين الأوّلين فلأنّ المتّبع فيهما هو طريقة العقلاء لعدم تأسيس للشارع ولا إشكال في أنّهم إنّما يعملون على طبق الأمارات لمحض الكشف عن الواقع مع حفظه على ما هو عليه من غير تصرّف فيه وانقلاب عمّا هو عليه ومع تبيّن الخلاف لا معنى للإجزاء بالضرورة.

وأمّا إذا كانت الأمارة تأسيسيّة فلأنّ معنى الأمارة هو الكاشف عن الواقع وإيجاب العمل على طبقها إنّما هو لمحض الكاشفيّة عن الواقع المحفوظ من غير تصرّف فيه وانقلاب وإلّا لخرجت الأمارة عن الأماريّة.

وما قد يقال إنّ لسان دليل الحجيّة في الأمارات والاصول سواء ـ وهو وجوب ترتيب الأثر عملا على قول العادل فمقتضى قوله صدّق العادل هو التصديق العمليّ وإتيان المأمور به على طبق قوله وهو يقتضي الإجزاء كما يأتي في الاصول ـ غير تامّ لأنّ إيجاب تصديق العادل لأجل ثقته وعدم كذبه وإيصال المكلّف إلى الواقع المحفوظ كما هو كذلك عند العقلاء في الأمارات العقلائيّة ولا يفهم العرف والعقلاء من مثل هذا

__________________

(١) ج ١ / ١٢٧.

٢٦٩

الدليل إلّا ما هو المركوز في أذهانهم من الأمارات لا انقلاب الواقع عمّا هو عليه بخلاف أدلّة الاصول ...

وبالجملة إنّ الإجزاء مع جعل الأمارة وإيجاب العمل على طبقها لأجل الكشف عن الواقع كما هو شأن الأمارات متنافيان لدى العرف والعقلاء هذا من غير فرق فيما ذكرنا بين الأمارات القائمة على الأحكام أو الموضوعات (١).

يمكن أن يقال : إنّ دعوى المنافاة بين الإجزاء وبين إيجاب العمل على طبقها غير مسموعة بعد ما عرفت من أنّ الحكم بترتيب آثار الواقع على ما قامت عليه الأمارة ظاهر في تحقّق الامتثال بإتيان المؤدّى فإذا قال الشارع صدّق العادل لمن كان في صدد امتثال الأحكام المعلومة بالإجمال ولم يحصل له بقيام خبر العادل علم أو اطمئنان شخصي بالواقع تبادر إلى الأذهان أنّ التصديق العمليّ والإتيان بمؤدّى قول زرارة يكفي في امتثال الأحكام المعلومة بالإجمال كما تبادر ذلك إلى أذهانهم فيما إذا قال له عند قيام أصل من الاصول الظاهريّة رتّب آثار الواقع على ما قام الأصل عليه.

ولعلّ الوجه في ذلك هو أنّ المكلّف الذي كان بصدد الامتثال بالتكاليف الواقعيّة لم يصل في كلا الموردين إلى الواقعيّات إذ كما لا تحكي الاصول الظاهريّة عن الواقع كذلك لا تحصل بقيام الأمارات علم واطمئنان بالواقعيّات فالمكلّف متحيّر في مقام الامتثال في كلا الموردين فالشارع بإيجاب العمل بهما في المقامين سهّل الأمر عليه وأخرجه من التحيّر والانفهام العرفيّ من إيجاب العمل بهما في المقامين هو قناعة الشارع في امتثال الواقعيّات بإتيان ما قامت عليه البيّنات والأمارات والاصول.

ومجرّد كون الأمارات كاشفة بنحو ناقص عن الواقعيّات دون الاصول

__________________

(١) ج ١ / ٣١٦ ـ ٣١٥.

٢٧٠

الظاهريّة لا يوجب تفاوتا في التبادر المذكور والانفهام العرفيّ لأنّ في كليهما يحتاج المكلّف إلى إعداد الشارع وإمداده فمن الممكن أن يرشده الشارع إلى الإتيان بالأمارة والإعادة عند كشف الخلاف وأن يأمره بإتيانها مع الاكتفاء بها والحكم بتحقّق الامتثال بما قام عليه كشف ناقص فلا وجه لدعوى المنافاة والاستحالة.

فإذا أمكن الأمر بإتيانها مع الاكتفاء بها فلا تكون دعوى تبادر ذلك وانفهامه العرفيّ فيما إذا أمر المكلّف المتحيّر في مقام الامتثال مجازفة.

والشاهد على عدم المنافاة وإمكان الإجزاء هو صحّة تصريح الشارع عند جعل الاعتبار للأمارات بأن يقول :

اعملوا بها فإن كانت مخالفة للواقع أقبلها مكانها ولا حاجة إلى الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه كما يصحّ تصريحه بذلك عند جعل الاصول الظاهريّة.

ثمّ لا فرق فيما ذكر من إمكان الإجزاء وعدم منافاته مع جعل الأمارة وإيجاب العمل على طبق الأمارة بين أن يكون الأمارات تأسيسيّة أو إمضائيّة.

فإنّ الإمضاء إمّا يكون من باب الإرشاد إلى الطريق العقلائيّ وفي هذه الصورة ليست دائرة الإمضاء أزيد من دائرة الممضى فإذا ظهر التخلّف لا مجال للإجزاء.

وإمّا يكون من باب قبول ما قامت عليه الأمارات العقلائيّة مكان تكاليفه الواقعيّة فهو يفيد أمرا زائدا على ما اعتبره العقلاء فإذا ظهر التخلّف كان مقتضى قبوله هو الإجزاء.

وبالجملة الطرق والأمارات العقلائيّة قابلة لإمضاء الشارع إيّاها موسّعة أو مضيّقة فإذا ضمّ الإمضاء المذكور لتسهيل الأمر على المكلّف الذي كان بصدد امتثال الواقعيّات. أفاد الإمضاء المذكور إجزاء الإتيان بما أمضاه الشارع ولو لم يكن للعقلاء حكم بعد كشف الخلاف ، هذا غير ما إذا ورد من الشارع أمر بعنوان الإرشاد المحض فإنّه تابع لحكم العقلاء كما لا يخفى وعليه فالإمضاء لا ينافي الإجزاء.

٢٧١

الاشكال الثاني

واورد عليه ثانيا بما في نهاية الدراية من أنّ لسان الدليل حيث إنّه مختلف فلا محالة يختلف مقدار استكشاف الحكم المماثل المنشأ بقاعدة الطهارة أو بدليل الأمارة ومن الواضح أنّ مفاد قوله عليه‌السلام كلّ شيء طاهر أو حلال هو الحكم بالطهارة أو الحليّة ابتداء من غير نظر إلى واقع ما يحكي عنه والحكم بالطهارة حكم بترتيب آثارها وإنشاء لأحكامها التكليفيّة والوضعيّة ومنها الشرطيّة فلا محالة يوجب ضمّه إلى الأدلّة الواقعيّة التوسعة في الشرطيّة ومثله ليس له كشف الخلاف لأنّ ضمّ غير الواقع إلى الواقع لم ينكشف خلافه.

بخلاف دليل الأمارة إذا قامت على الطهارة فإنّ معنى تصديقها وسماعها البناء على وجود ما هو شرط واقعا فيناسبه إنشاء أحكام الشرط الموجود كجواز الدخول في الصلاة لا إنشاء الشرطيّة إذ المفروض دلالة العبارة على البناء على وجود الطهارة الثابتة شرطيّتها واقعا بدليلها المحكيّ عنها لا الحكم بالطهارة ابتداء فإذا انكشف عدم الطهارة واقعا فقد انكشف وقوع الصلاة بلا شرط.

فإن قلت : بناء على ذلك يكون حال الاستصحاب حال الأمارة فإنّ مفاد دليله البناء على بقاء الطهارة الواقعيّة المتيقّنة سابقا مع أنّه حكم الإمام عليه‌السلام بعدم الإعادة في صحيحة زرارة تعليلا بحرمة نقض اليقين بالطهارة بالشكّ فيها فيعلم منه إنّ التعبّد ببقاء الطهارة تعبّد بشرطيّتها.

قلت : الفرض قصور التعبّد بوجود ما هو شرط واقعا عن الدلالة على التعبّد بالشرطيّة لا منافاته له مضافا إلى أنّ مجرّد التعبّد بالوجود والبقاء لا قصور له عن إفادة الإجزاء بل التعبّد في الأمارة حيث كان على طبق لسان الأمارة الحاكية عن وجود الشرط وكان عنوانه التصديق بوجود ما هو الشرط فلذا كان قاصرا عن إفادة أزيد من التعبّد بآثار الشرط الموجود واقعا كجواز الدخول معه في الصلاة المتفرّع

٢٧٢

على وجوده خارجا لا الشرطيّة الغير المتفرّعة على وجود خارجا لمكان وجوب الصلاة عن طهارة وجدت أم لا كما لا يخفى ومن الواضح أنّه ليس في مورد الاستصحاب حسبما هو المفروض شيء حتّى يتبعه لسان دليله وإنّما الموجود في ثاني الحال مجرّد الشكّ في الطهارة كما في مورد قاعدة الطهارة (١).

ولا يخفى عليك أنّ بعد الاعتراف بعدم منافاة التعبّد بوجود ما هو شرط واقعا مع الدلالة على التعبّد بالشرطيّة وإفادة الإجزاء لا وجه لدعوى قصوره عن إفادة أزيد من التعبّد بآثار الشرط الموجود واقعا كجواز الدخول معه في الصلاة المتفرّع على وجوده خارجا لما عرفت من أنّ الحكم الظاهريّ في المقام هو أدلّة اعتبار الأمارات الحاكمة بوجوب العمل على طبقها وترتيب آثار الواقع على مؤدّيها لا نفس الأمارة وظاهر ما دلّ على هذا الحكم في كلا المقامين هو البناء على الوجود والتعبّد به ومقتضى البناء عليه والتعبّد به مع عدم حصول العلم أو الاطمئنان بوجوده هو ترتيب جميع آثار الواقع عليه ومن جملتها الشرطيّة والمتبادر من ذلك هو قناعة الشارع في امتثال أمره الصلاتيّ مثلا بإتيانها فيما قامت البيّنة على طهارته ولازم ذلك هو تعميم الشرطيّة وكفاية الطهارة الظاهريّة.

وقناعة الشارع في امتثال أمره الصلاتيّ بإتيانها بلا سورة فيما قام خبر عدل على عدم وجوب السورة ولازم ذلك سقوط السورة عن الجزئيّة وهكذا.

ومجرّد كون التعبّد في الأمارة على طبق لسان الأمارة الحاكية عن وجود الشرط أو عدم الجزء وكون التعبّد في الاصول على طبق أحد الاحتمالين لا يوجب الفرق في مفاد أدلّة اعتبارهما فإنّ لسان دليل الأمارة كلسان دليل الأصل هو التعبّد بالوجود لا التعبّد بالموجود لعدم الفراغ عنه مع قطع النظر عن أدلّة الاعتبار.

__________________

(١) ج ١ / ٢٣٩.

٢٧٣

فلا يختصّ الآثار بمثل جواز الدخول في الصلاة وعليه فلسان دليل الأمارة والأصل كلاهما موسّعان ومضيّقان بالنسبة إلى الشروط والأجزاء وغيرهما لظهور الحكم بوجوب ترتيب آثار الواقع على وجود الشرط وعدم جزئيّة السورة لمن كان بصدد امتثال الواقعيّات في تحقّق الامتثال بها وقناعة الشارع بها ومقتضاه هو التوسعة والتضيّق في الشروط والأجزاء والمانعيّة كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى أنّه لو كان مفاد الدليل في الأمارات مناسبا لإنشاء أحكام الشرط الموجود من جهة لسان الأمارة ففي الاستصحاب الذي هو التعبّد بوجود ما كان قاطعا به من وجود ما هو شرط واقعا أيضا كذلك لأنّ لسان الاستصحاب إبقاء ما قطع به وهو مشابه للسان الأمارة فتدبّر جيّدا.

ففي المقامين تؤول أدلّة الاعتبار إلى التعبّد بترتيب آثار الواقع على ما لم يحرز أنّه بواقعيّ ومن المعلوم أنّ آثار الواقع لا تختصّ بغير الشرطيّة فتشمل الشرطيّة أيضا ومقتضى الشمول هو التوسعة والتضيّق كما مرّ في الاصول الظاهريّة.

لا يقال إنّ دلالة أدلّة الاعتبار على التعبّد بترتيب آثار الواقع على ما لم يحرز أنّه بواقعيّ والالتزام بالأجزاء صحيحة إذا قلنا بحجّيّة الأمارات شرعا وبثبوت جعل في الأمارات تعبّدا حتى يمكن أن تكون أدلّتها ناظرة إلى الأدلّة الواقعيّة الواردة في تحديد الأجزاء والشرائط والموانع وموجبة لتوسعتها أو تضيّقها.

وأمّا إذا لم نقل بذلك وقلنا بأنّ حجيّتها إمضائيّة ومعناها ليس إلّا عدم ردع الشارع عن بناء العقلاء فإثبات الإجزاء على هذا المبنى مشكل والسرّ في ذلك هو عدم كون دليل حجّيّتها ذا لسان بالنسبة إلى الواقع إذ لا لسان للعمل والبناء.

لأنّا نقول : أنّ السيرة والبناءات وإن لم يكن بابها باب الألفاظ ولكن مبنيّة على إلقاء احتمال الخلاف عند قيام الطرق والأمارات بحيث لو فرض التعبير عنها في مقام اللفظ والبيان لكان كذلك :

٢٧٤

خذ الطرق والأمارات وألق احتمال خلافها ورتّب آثار الواقع على ما قامت عليه الطرق والأمارات ومن المعلوم أنّ البناء الذي يؤول إلى ذلك لسانه لسان الحكومة على أدلّة الإجزاء والشرائط والموانع بالتوسعة والتضيّق ولذلك نرى تقدّم الأمارات على الاصول وليس ذلك إلّا لحكومتها عليها ومقتضى إمضاء الشارع إيّاها في مقام امتثال تكاليفه الواقعيّة هو الإجزاء كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى ما أفاده بعض الأكابر دام ظلّه من أنّ تعليل عدم الإعادة عند تخلّف الطهارة في صحيحة زرارة بوجود الحجّة حال العمل وهي الاستصحاب هو جواز الاكتفاء بالأمارات بطريقة أولى ومخالفة الحجّة للواقع بالانكشاف المتأخّر عن العمل غير ضائرة ولذا علّل بعدم النقض بالشكّ مع أنّ الإعادة بعد الانكشاف نقض باليقين فيعلم منه كفاية كونه نقضا بالشكّ حال العمل في عدم الإعادة بعد الانكشاف فالتعليل بالاستناد إلى الحجّة حال العمل وكفايته عن العمل بعد كشف الخلاف يعمّم مورد هذا التعبّد المحتمل وأنّه آت في كلّ عمل بحجّة شرعيّة ولا يختصّ بالاستصحاب ، لأنّ حاصل التعليل أنّك حيث كان لك طريق إلى الواقع تعبّد حال العمل فلا إعادة عليك بعد كشف الخلاف إلى أن قال تماميّة استدلال الإمام عليه‌السلام للحكم بعدم الإعادة بالاستصحاب تبنيته على ارتكاز ذلك في العمل بالظنّ المعتبر فإنّه لا ارتكاز إلّا في الحالة لو لم يكن أعمّ من ذلك أعني العمل بحجّة شرعيّة كما قدّمناه وعلى أيّ فلا اختصاص له بغير الأمارات (١).

التقريب الثاني لإجزاء الأمارات والاصول كما هو المحكيّ عن الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره هو أن يقال لمّا كان من الضروريّ حينئذ أن يقبح على الشارع الترخيص في العمل بمقتضاها والأمر بذلك لمجرّد مصلحة الطريقيّة والإيصال مع تمكّن

__________________

(١) راجع مباحث الاصول : ١ / ٣٧٢ ـ ٣٧٤.

٢٧٥

المكلّف من تحصيل الواقع علما ضرورة وقوع التخلّف فيها ومعه يكون ترخيص العمل بها في مقام الامتثال وجعلها طريقا له مع التمكّن من تحصيل الواقع نقضا للغرض وتفويتا للمصلحة الواقعيّة على المكلّف وهذا مناف للطف والحكمة بالضرورة فلا بدّ من أن يكون أمره بالعمل بها مع التمكّن من تحصيل الواقع على أحد الوجهين.

أحدهما : أن يكون ذلك لقيام مصلحة قائمة بنفس العمل بها والسلوك على مقتضاها بحيث لا يكون لمن قامت هي عنده واقع سوى العمل بها وذلك وإن كان في نفسه أمرا ممكنا وعلى تقديره يكون العمل بها مقتضيا للإجزاء جدّا لكونه واقعا أوّلا (أوّليّا) لمن قامت هي عنده إلّا أنّه قد علم بالضرورة عندنا عدم وقوعه فإنّه عين التصويب الباطل عندنا هذا مضافا إلى ظهور أدلّة اعتبارها في أنّ اعتبارها إنّما هو من باب الطريقيّة لا الموضوعيّة.

وثانيهما : أن يكون لأجل مصلحة في العمل بها لا تنافي اعتبارها على وجه الطريقيّة ولا تؤثّر في مصلحة ذي الطريق أصلا ولا في ارتفاع الخطاب عنه بل تكون بحيث تكافؤ مصلحته على تقدير فوته على المكلّف بسبب العمل بتلك الطرق على وجه تجبرها حينئذ بمعنى أنّ كلّ ما فات على المكلّف من مصلحته بسبب العمل بتلك الطرق لا بدّ أن تكون هي جابرة لذلك المقدار الفائت من تلك المصلحة ومتداركة إيّاه فإنّ هذا المقدار من المصلحة في العمل بتلك الطرق مصحّح لتجويز العمل بها مع التمكّن عن إدراك الواقع جدّا ولا يجب أزيد منه قطعا وهذا هو المتعيّن في كيفيّة نصب هذه الطرق لكونه هو الموافق لاعتبارها على وجه الطريقيّة.

وهذا هو المتعيّن في كيفية نصب الأمارات أيضا إذ اعتبارها إنّما هو من باب الطريقيّة لا غير وقس عليهما الحال في الاصول العمليّة الشرعيّة المجعولة من الشارع في مقام الشكّ مطلقا من غير اعتبار عدم التمكّن من تحصيل الواقع كالاستصحاب بناء

٢٧٦

على اعتباره من باب التعبّد فإنّ الأمر بمقتضى الحالة السابقة مع التمكّن من تحصيل الواقع نظير الأمر بالطرق أو الأمارات مع التمكّن من تحصيله فلا بدّ فيه أيضا من اعتبار مصلحة مصحّحة للأمر به حينئذ لا تنافي هي طريقيّة مؤدّاه ومرآتيّته للواقع فإنّ أمره بالعمل بمقتضى الحالة السابقة إنّما هو لأجل أنّه حكم بكون المشكوك هو الذي كان في السابق فإنّ أمره بالصلاة مع الطهارة المستصحبة إنّما هو لأجل حكم بأنّها هي الصلاة مع الطهارة الواقعيّة الحاصلة سابقا (١).

حاصله أنّ ترخيص الشارع لسلوك الأمارات والاصول في حال التمكّن من العلم ولزوم تفويت المصالح الواقعيّة في بعض الموارد من دون تداركها قبيح وخلاف الحكمة.

ومجرّد المصلحة الطريقيّة والإيصال مع السهولة لا يكفي لرفع القبح بل يحتاج رفع القبح إلى جعل المصلحة في المتعلّق وهو على قسمين :

أحدهما أن يجعل المصلحة في المؤدّى بحيث ينقلب الواقع إلى المؤدّى ولا يبقى لمن قامت هي عنده واقع سوى العمل بها وهو وإن أمكن إلّا أنّه تصويب باطل عندنا.

وثانيهما : أن تجعل المصلحة في العمل بالطريق الذي لم يصب على وجه تجبر المصلحة الفائتة فلا يكون الترخيص حينئذ قبيحا.

فهو ينتهي من ناحية هذه المقدّمات إلى جبران المصالح الواقعيّة فيما إذا خالفت الطرق والأمارات والاصول ومع جبرانها سقط أمر الخطابات الواقعيّة ومع سقوط أمرها تحقّق الإجزاء كما لا يخفى.

ويمكن أن يقال : أنّ مصلحة الجعل وإن لا تكف لجبران المصالح الفائتة بل

__________________

(١) تقريرات الميرزا الشيرازي : ج ٢ / ١٧٧ ـ ١٧٥.

٢٧٧

يحتاج في رفع القبيح إلى جعل المصالح في العمل بالمؤدّى ولكنّه فيما إذا كان تفويت المصالح ثابتا ومحقّقا كما إذا تخلّفت الأمارات والاصول ولم يلتفت إليها أصلا إلى آخر عمره.

وأمّا إذا التفت في الوقت أو خارجه فلم تفت المصالح الواقعيّة لتمكّنه من الإتيان بها بالإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه ففي هذه الصورة لا يكون الاكتفاء بمصلحة الجعل خلاف الحكمة.

اللهم إلّا أن يقال بأنّه : لا تفصيل في الأمارات والاصول فإن كان اعتبارها موجبا لجعل المصلحة في المتعلّق فيما إذا لم يكشف الخلاف ففي غير هذه الصورة أيضا كذلك وإن لم يكن كذلك في صورة انكشاف الخلاف ففي صورة عدم الانكشاف أيضا كذلك فلا تفصيل فتأمّل.

هذا مضافا إلى أنّ اعتبار الاصول في الشبهات الحكميّة يكون بعد الفحص والتتبّع وعدم الظّفر بالبيان فمع التمكّن من العلم والعلميّ لا مجال لها لأنّ الأصل دليل حيث لا دليل ومع التمكّن من العلم فلا مجال لها كما لا يخفى.

وأمّا ما يقال من أنّ الإجزاء بملاك الوفاء غير معقول إذ لا يتصوّر ذلك إلّا بإحداث المصلحة المتسانخة مع مصلحة الواقع في المتعلّق ولازم المسانخة انقلاب الإرادة الواقعيّة إلى إرادة أخرى متوجّهة إلى مؤدّى الأمارة وهو من أنحاء التصويب الباطل عقلا ونقلا ففيه أنّ ذلك فيما إذا لم يكن اعتبار الأمارات على وجه الطريقيّة وأمّا إذا كان اعتبارها على الوجه المذكور فالواقع محفوظ وإنّما المصلحة للمخالفة معه ، فلا تغفل.

وأيضا لا مجال للإيراد عليه بأنّ الدليل المذكور على الإجزاء يتمّ لو لا احتمال المصلحة في الجعل لما مرّ من أنّ مصلحة التسهيل في الجعل مع التمكّن من العلم وتفويت المصالح الواقعيّة لا ترفع قبح الترخيص ولعلّ لذلك تأمّل فيه المورد كما يظهر

٢٧٨

من تعليقة السيّد الفقيه الگلبايگاني قدس‌سره على الدرر (١).

التقريب الثالث : وهو أنّ دليل الأمارة وإن لم يفد الإجزاء إلّا أنّ موردها دائما من موارد حديث الرفع حيث أنّ الواقع الذي أخطأت عنه الأمارة مجهول فيأتي الإجزاء من حيث انطباق مورد حديث الرفع الحاكم على الأدلّة الواقعيّة على موارد الأمارات.

لا يقال : لا مجال لحديث الرفع مع وجود الحجّة فكيف يمكن التمسّك بالأصل مع قيام الحجّة على العدم حال عدم كشف الخلاف؟

لأنّا نقول ـ كما اشير إليه في تعليقة المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره ـ : ليس الغرض جريان حديث الرفع مع وجود الحجّة على العدم بل الغرض أنّ المجهول وهو الحكم الواقعيّ حيث أنّ الغرض منه أو دخله في الغرض ليس بفعليّ فلذا رفع حكمه وإن كان الدليل على رفعه محكوما بدليل الأمارة.

اورد عليه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره بأنّ الظاهر من المجهول وممّا لا يعلمون هو ما جهل حاله رأسا وما هو غير المعلوم بنفسه فلا يعمّ ما قامت الحجّة على عدمه فلا يتّحد مع مورد الأمارة مصداقا (٢).

وعليه فلا يكون مورد الأمارة مشمولا لحديث الرفع ولا دليل على رفع حكم المجهول واقعا ولو بعدم فعليّة موجبه ، لأنّ دليل الأمارة علم تعبّديّ بعدمه.

فالواقع مع قيام الأمارة معلوم العدم لا غير معلوم بنفسه أو مجهول حاله رأسا حتّى يكون من موارد حديث الرفع وعليه فلا مجال لدعوى أنّ الفرض منه ليس بفعليّ وبسببه يكون الحكم مرفوعا وإن كان الدليل على رفعه محكوما بدليل الأمارة لما عرفت من عدم مورد الأمارة شمولا لحديث الرفع أصلا.

__________________

(١) ج ١ / ١٢٥.

(٢) ج ١ / ٢٤٢.

٢٧٩

اللهم إلّا أن يقال : إنّ عنوان ما لا يعلمون في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يطيقون وما لا يعلمون وما اضطرّوا إليه».

الحديث ناظر إلى الواقع وكأنّ الشارع قال : ما لا يصل إليه الناس بالعلم الحقيقيّ مرفوع عنهم وهو يجتمع مع علمهم بالخلاف أو جهلهم كما أنّ الخطأ عنوان لوحظ بالنظر إلى الواقع فيجتمع مع العلم بعدم وجوب فعل فتركه فإنّ الحديث يشمله.

وبالجملة فرق بين أن يقال : ما جهلتم به وشككتم فيه فهو مرفوع وبين أن يقال : ما لا يعلمون مرفوع فالأوّل ظاهر فيما جهلتم به رأسا ويكون مفاده منحصرا في الأصل ولا مجال له مع الأمارة كما عرفت ولكنّ الثاني أعمّ من الأوّل ويكون مورد الجهل رأسا أحد موارده لأنّه فيه لم يعلم بالواقع كما أنّه كذلك فيما إذا كان جاهلا مركّبا فإنّه مع تخيّله عالما بالواقع لم يعلم بالواقع حقيقة ولم يصل إليه فيشمله عنوان ما لا يعلمون.

وهكذا فيما إذا قامت أمارة على العدم لم يصل أيضا إلى الواقع ولم يعلم به وإن حكم في حقّه بقيام الأمارة على العدم أنّه عالم بالواقع وواصل إليه تعبّدا فإنّه مع ذلك يشمله عنوان ما لا يعلمون بعد اختصاصه بما إذا لم يعلم به حقيقة.

وبعبارة أخرى : حديث الرفع لم يكن لسانه مقيّدا بصورة الشكّ حتى لا يشمل الجاهل المركّب ومن قامت عنده أمارة على العدم بل هو مطلق ويشمل الموارد الثلاثة.

ألا ترى أنّا إذا رأينا جمعا ذهبوا للتفحّص عن شيء وبعد الرجوع ادّعى أحدهما أنا أعلم بأنّه ليس في الدار الشيء الفلاني وادّعى الثاني أنا أسمع من العدول أنّه ليس في الدار شيء وقال الثالث : أنا أشكّ في كونه هناك وعدمه ونحن علمنا

٢٨٠