عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

بوجوده هناك وقلنا إنّهم لا يعلمون بوجوده هل يجوز حينئذ أن يقال : إنّ قولنا لا يعلمون لا يشمل الأوّل أو لا مورد له في الثاني.

ومن المعلوم أنّه لا مجال لإنكار الشمول بعد معلوميّة وجوده وحكم وجداننا بشموله إذ كلّهم لا يعلمون بوجود الشيء المذكور ودعوى ظهوره في الثالث لا مجال لها وهكذا نقول في المقام أنّ قول الشارع من باب الامتنان على الأمّة الذين يختلفون في إدراك الواقع إذ يشكّ بعضهم ويجهل به ويعلم بعضهم بعدم شيء في الواقع وتقوم الأمارة أو الطرق على عدمه في الواقع لبعض آخر في قبال بعض يدرك الواقع ويصل إليه رفع عن أمّتي ما لا يعلمون يشمل جميع الأصناف عدا من أدرك الواقع ووصل إليه كما هو مقتضى تعميم الامتنان ولا وجه لتخصيصه ببعض دون بعض مع إطلاق الكلام كما لا وجه لدعوى الظهور والانصراف لأنّه بدويّ.

ولكنّ التحقيق أنّ لازم ما ذكر هو جريان حديث الرفع مع الأمارات سواء خالفت الواقع أو وافقته لأنّ بقيام الأمارات لا يحصل العلم الحقيقيّ بالواقع فالواقع غير معلوم وهو يجتمع مع قيام الأمارات.

ومقتضاه هو رفع الأحكام الواقعيّة بعدم فعليّة موجبها وهو أغراضها وهو يناقض مع الأمارات الدالّة على وجود الأحكام الواقعيّة وهو ضروريّ البطلان ولم يقل به أحد وخلاف ما التزم به الأصحاب من عدم جريان الأصل عند قيام الأمارات ولو بملاكه وذلك ناشئ من جعل الموضوع في حديث الرفع هو عدم العلم حقيقة مع أنّ الموافق للتحقيق هو أنّ المراد من عدم العلم المأخوذ موضوعا في لسان أدلّة البراءة هو عدم الحجّة وعليه فيكون مفاد قوله رفع ما لا يعلمون رفع ما لا حجّة عليه سواء كانت موافقة أو مخالفة فلا يشمل مورد قيام الأمارات مطلقا سواء كانت موافقة للواقع أو مخالفة له لأنّ بقيامها قامت الحجّة فلا يبقى موضوع له وعليه فيختص مورد البراءة بما إذا كان المشكوك غير معلوم بنفسه أو مجهولا حاله برأسه

٢٨١

كما أفاده المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره والقول إنّ حديث الرفع جار بحسب الواقع ونفس الأمر مع عدم مطابقة الأمارة للواقع لمكان انحفاظ موضوعه كما عرفت لكنّ المكلّف عند قيام الأمارة وعدم انكشاف الخلاف يرى نفسه عالما بالواقع حقيقة أو حكما فيرى نفسه خارجا عن عموم الحديث غير مشمول له فلا يجري الحديث في حقّ نفسه وهذا معنى الحكومة وبعد انكشاف الخلاف وارتفاع الحجاب يعلم بأنّ اعتقاده السابق كان خطأ وكان هو داخلا في عمومه كالشاكّ فالحكومة حكومة ظاهريّة غير سديد بعد ما عرفت من أنّ لازمه هو جريان حديث الرفع مع الأمارات سواء خالفت الواقع أو وافقته إذ مع قيام الأمارات لا يحصل العلم الحقيقيّ بالواقع ويحصل المناقضة بين مفاد حديث الرفع والأمارات.

نعم لو قامت الأمارة على دخالة شيء ولم يكن في الواقع كذلك بل الدخالة لشيء آخر لكان لحديث رفع حينئذ مجال لأنّ الواقع مجهول برأسه والأمارة لا تدلّ على نفيه أو إثباته فيما إذا لم يعلم الملازمة بين دخالة الشيء الذي قامت الأمارة عليها وعدم دخالة شيء آخر ولكنّ بعد كون المفروض عدم تعرّض الأمارة للشيء الآخر ولو بالملازمة المذكورة فحديث الرفع جار لأنّه مورده إذ لم تقم حجّة في مورده على النفي والإثبات بالنسبة إلى المجهول.

وبعبارة أخرى : هو من موارد الاصول الظاهريّة لا من موارد الأمارات فانكشاف الخلاف في الأمارة في هذا المورد لا يوجب الحكم بالإعادة أو القضاء لجريان الأصل في المجهول الذي لم يقم فيه حجّة معتبرة على نفيه أو إثباته فلا تغفل.

لا يقال لا مجرى للأصل لأنّ قبل الانكشاف لا شكّ له وبعد الانكشاف لزم الإتيان به.

لأنّا نقول لو أتى بالعمل قبل الانكشاف فالجزء أو الشرط المتروك يكون ممّا لا يعلم به فيشمله عموم حديث الرفع إذ حديث الرفع لا يختصّ بمورد الذي يكون

٢٨٢

فيه الشكّ الفعليّ فلا تغفل.

الجهة الثانية في إجزاء الأمارات بناء على المنجّزيّة والمعذّريّة

ولا يخفى عليك أنّه ذهب في نهاية النهاية إلى أنّه لو قيل في الأمارات بجعل الحجّة ومجرّد المعذّريّة والمنجّزيّة كما هو مختار صاحب الكفاية لم يكن وجه للإجزاء (١).

وقال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره : وأمّا على الطريقيّة بمعنى آخر وهو عدم إنشاء الحكم المماثل حقيقة بل جعل الأمارة منجّزة للواقع عند الإصابة فالأمر في عدم اقتضاء الإجزاء في غاية الوضوح وهذا هو الصحيح وإن كان منافيا للمشهور واستدلّ له بقوله إن دليل الحجيّة أمّا لا يتكفّل إنشاء طلبيّا أصلا بل يكون مفاده اعتبار الحجيّة والمنجّزيّة كقوله عليه‌السلام «لا عذر لأحد من موالينا (خ ـ ظ)» التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا فإنّ ظاهره نفي المعذوريّة بالمطابقة وإثبات المنجّزيّة بالالتزام ولا يتكفّل إنشاء طلبيّا وهو على قسمين بناء على الطريقيّة : أحدهما :

الإنشاء بداعي تنجيز الواقع وثانيهما :

الإنشاء بداعي جعل الداعي لكنّه بعنوان إيصال الواقع بعنوان واصل حيث أنّ الإنشاء الواقعيّ بداعي جعل الداعي بعنوان ذات العمل لم يصل.

وكما أنّ تنجيز الواقع لا يكون إلّا عند مصادفة الواقع كذلك الإنشاء بداعي تنجيز الواقع أو بداعي إيصال الواقع فإنّ الكلّ مقصور على صورة مصادفة الواقع.

وحيث أنّه ليس جعل الداعي إلّا عند إيصال الواقع بعنوان آخر فلا محالة يكون منبعثا عن نفس مصلحة الواقع لا عن مصلحة أخرى وإلّا لكان جعلا للداعي

__________________

(١) ج ١ / ١٢٧.

٢٨٣

على أيّ تقدير لا بعنوان إيصال الواقع.

نعم جعل المنجزيّة أو الإنشاء بداعي تنجيز الواقع بخصوص الخبر أو الإنشاء بداعي إيصال الواقع بعنوان تصديق العادل مثلا لا بدّ من أن يكون ذا مصلحة في نفسه لا أن يكون المؤدّى ذا مصلحة (١).

حاصله : أنّ بناء على جعل المنجّزيّة والمعذّريّة لا مصلحة في المتعلّق حتّى تكون موجبة لإنشاء الحكم على أيّ تقدير ويقتضي الإجزاء بل الإنشاء بداعي تنجيز الواقع أو بداعي إيصال الواقع منبعث عن نفس مصلحة الواقع لا عن مصلحة أخرى وعليه فلا مقتضى للإجزاء بناء على جعل الأمارة لتنجيز الواقع عند الإصابة وللمعذّرية عند المخالفة.

وفيه أوّلا كما أفاد في تهذيب الاصول أنّ مفاد الأخبار المستدلّ بها لاعتبار الآحاد من الأخبار هو وجوب العمل على طبق الآحاد من الأخبار تعبّدا على إنّها هو الواقع وترتيب آثار الواقع على مؤدّاها وليس فيها أيّ أثر من حديث جعل الوسطيّة والطريقيّة بل لا تكون الوسطيّة والطريقيّة قابلة للجعل فإنّها لا تنالها يد الجعل إذ الشيء لو كان واجدا لهذه الصفة تكوينا فلا مورد لإعطائها إيّاه وإن كان فاقدا لإيّاه فلا يمكن اعطاؤها إيّاه لأنّه لا يعقل أن يصير ما ليس بكاشف كاشفا وما ليس بطريق طريقا إذ الطريقيّة ليست أمرا اعتباريّا كالملكيّة حتّى يصحّ جعلها.

وهكذا إكمال الطريقيّة وتتميم الكشف لا يمكن جعلهما فكما أنّ اللاكاشفيّة ذاتيّة للشكّ ولا يصحّ سلبه فكذلك النقصان في مقام الكشف ذاتيّ للأمارات لا يمكن سلبها.

فما يناله يد الجعل في أمثال ما ذكر هو إيجاب العمل بمفاد الآحاد من الأخبار

__________________

(١) ج ١ / ٢٤٢ ـ ٢٤١.

٢٨٤

والعمل على طبقها وترتيب آثار الواقع عليه لا الوسطيّة والطريقيّة ولا تتميم الكشف وإكمال الطريقيّة.

نعم بعد التعبّد بلسان تحقّق الواقع وإلقاء احتمال الخلاف تعبّدا يصحّ انتزاع الوسطيّة والكاشفيّة.

وهكذا نقول في الحجيّة أنّ المستفاد من الأخبار الدّالة على حجّيّة الآحاد من الأخبار هو وجوب التصديق العمليّ تعبّدا على أنّها هو الواقع ولا تدلّ على جعل المعذّريّة والمنجّزيّة نعم هما متأخّرتان عن وجوب التصديق العمليّ إذ معنى الحجّيّة كون الشيء قاطعا للعذر في ترك ما أمر بفعله وفعل ما أمر بتركه ومعلوم أنّه متأخّر عن أيّ جعل تكليفا أو وضعا فلو لم يأمر الشارع بوجوب العمل بالشيء تأسيسا أو إمضاء فلا يتحقّق الحجّيّة ولا يقطع به العذر (١).

وقال في نهاية الاصول أيضا وأمّا الحجّيّة فالظاهر أنّها غير قابلة للجعل وإن أصرّ على ذلك المحقّق الخراسانيّ وجعل من آثارها تنجيز الواقع في صورة الإصابة والمعذوريّة في صورة الخطأ بداهة أنّ ما جعله من آثارها هي عينها وتنجيز الواقع والمعذوريّة لا تنالهما يد الجعل بل المجعول لا بدّ وأن يكون أمرا يترتّب عليه.

هذان الأمران كالبعث الطريقيّ مثلا وقياسه حجّيّة الأمارات على الحجّيّة الثابتة للقطع في غير محلّه إذ القطع عبارة أخرى عن رؤية الواقع وتنجيزه وصحّة العقوبة على مخالفته بعد رؤيته أمرا لا ريب فيه وهذا بخلاف الأمارات لعدم انكشاف الواقع فيها ـ إلى أن قال ـ :

وأمّا الطريقيّة ونحوها فوزانها أيضا وزان الحجّيّة في عدم قابليّتها بنفسها لجعلها بداهة عدم كونها من الأمور الاعتبارية والذي تناله يد الجعل عبارة عن أمور

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ / ١٤٢.

٢٨٥

عقلائيّة متحقّقة في عالم الاعتبار بحسب اعتبارات العقلاء ـ إلى أن قال ـ : والذي يسهّل الخطب أنّ النزاع في بيان المجعول وإتعاب النفس في تعيّنه إنّما يصحّ فيما إذا كان هناك جعل في البيّن مع أنّه ليس في باب الأمارات جعل من قبل الشارع أصلا وإنّما هي طرق عقلائيّة دائرة بينهم في مقام الاحتجاج واللجاج غاية الأمر عدم ردع الشارع عنها بحيث يكشف عن إمضائه ورضايته وليس للعقلاء أيضا في هذا الباب جعل لأحد هذه الأمور من الطريقيّة ونظائرها (١) وسيأتي إن شاء الله إنّ المعذريّة ليست أثرا للأمارة فيما إذا خالفت للواقع بل هي أثر عدم وصول الواقع والجهل به سواء علم بخلافه أم لا وسواء قامت الأمارة على خلافه أم لا.

فتحصّل أنّه لا جعل في البيّن فالطريقيّة أو الحجّيّة ليستا بمجعولتين بل المستفاد من الأمارات والطرق هو ما عليه العقلاء من الاكتفاء بها في مقام الاحتجاج واللجاج وترتيب آثار الواقع عليها فيترتّب على اعتبارها ووجوب ترتيب آثار الواقع على مؤدّاها الطريقيّة أو الحجّيّة وعليه فإذا استظهر منها أنّ الأمارات أو الطرق ناظرة إلى الواقع بلسان تبيّن ما هو وظيفة الشاكّ في إجزاء التكليف الواقعيّ المعلوم وشرائطها فهي حاكمة بالنسبة إلى التكليف الواقعيّ وموجبة لسقوط الواقعيّ عن الفعليّة وكون العمل بها مجزيا عن الواقع.

وثانيا : إنّ قوله عليه‌السلام فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنّا ثقاتنا قد عرفوا بأنّنا نفاوضهم بسرّنا ونحمله إيّاه إليهم وعرفنا ما يكون من ذلك (٢).

بناء على تماميّة سنده لا تتمّ دلالته لاحتمال أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام لا عذر هو وجوب التصديق حيث أسند العذر المنفيّ إلى التشكيك ولم يجعل الطريق معذّرا حتّى يدلّ بالالتزام على المنجّزيّة.

__________________

(١) ج ٢ / ٤٥٨.

(٢) جامع الاحاديث : ١ / ٢٢٢.

٢٨٦

هذا مضافا إلى ظهور أخبار أخر في خلافه كقوله عليه‌السلام في جواب سؤال الراوي (عمّن آخذ معالم ديني) من زكريّا بن آدم القميّ المامون على الدين والدنيا (١).

خذ عن يونس بن عبد الرحمن (٢) وغير ذلك من الأخبار فإنّها تدلّ على أنّه عليه‌السلام أطلق على ما رواه ثقاة الأئمّة عليهم‌السلام معالم الدين فهو تنزيل لمؤدّى رواياتهم منزلة معالم الدين واقعا في وجوب التصديق وترتيب الآثار.

كقوله عليه‌السلام بعد رؤية ما كتبه بعض الثقات هذا صحيح ينبغي أن يعمل به (٣).

أو كقوله عليه‌السلام صحيح فاعملوا به (٤).

أو كقوله عليه‌السلام حدّثوا بها فإنّها حقّ (٥).

وغير ذلك من الأخبار الدالّة على إطلاق الصحيح والحقّ على المؤدّي وعلى أنّ الواجب هو ترتيب العمل بها وترتيب آثار الواقع عليها وعليه فالقول بأنّ مفاد الأخبار هو جعل المنجّزيّة والمعذّريّة كما ترى لعدم مساعدة الأدلّة معه ولو سلّم إمكان جعلهما ثبوتا كسائر الأحكام الوضعيّة فلا تغفل.

وثالثا : كما أفاد في نهاية الاصول من أنّا لو سلّمنا جواز جعل المنجّزيّة والمعذريّة فلا يمكن القول به في الأمارات والطرق الحاكمة على أدلّة الشروط والأجزاء والموانع بداهة أنّ التنجيز إنّما يعقل فيما إذا لم يكن الواقع منجّزا لو لا هذا الجعل والمفروض فيما نحن فيه تنجّز الواقع مع قطع النظر عن الحكم الظاهريّ لعلم المكلّف بوجوب الصلاة المشروطة عليه.

وأمّا المعذوريّة فهي أيضا لا مجال لها في المقام إذ المكلّف الآتي بصلاته في

__________________

(١) جامع الاحاديث : ١ / ٢٢٦.

(٢) نفس المصدر.

(٣) جامع الاحاديث : ١ / ٢٢٨.

(٤) نفس المصدر : / ٢٢٩.

(٥) نفس المصدر.

٢٨٧

الثوب الذي شكّ في طهارته إن انكشفت له النجاسة في الوقت فلا معنى لجعل المعذّر بالنسبة إليه إذ لم يصدر عنه بعد ما هو خلاف الواقع من جهة بقاء وقت الواجب وتمكّنه من إتيانه ولم يتعيّن عليه إتيانه في أوّل الوقت حتى يحتاج إلى معذّر في تركه وإن فرض عدم انكشاف النجاسة إلى أن خرج الوقت فتفويت الواقع جاء من قبل ترخيص الشارع وإلّا كان المكلّف يأتي به لعلمه به وتنجّزه عليه.

وبعبارة أخرى : إذنه في إتيان الصلاة في المشكوك فيه أوجب تفويت الواقع فلا مجال للقول بكون الغرض من هذا الإذن هو المعذّريّة بعد ما كان المكلّف يأتي الواقع على ما هو عليه لو لا ترخيص الشارع.

وبالجملة أثر الحكم الظاهريّ وإن كان في سائر المقامات عبارة عن تنجيز الواقع في صورة الموافقة وكونه معذّرا بالنسبة إليه في صورة المخالفة.

ولكن هذا فيما إذا لم يكن الواقع منجّزا لو لا الجعل الظاهريّ.

وأمّا في هذه الصورة فأثر الجعل الظاهريّ توسعة المأمور به وإسقاط الشرطيّة الواقعيّة وجعل فرد طولي لما هو المأمور به ولازم ذلك حمل الواقع على الإنشائيّة المحضة (١).

ولا يخفى عليك أنّ ما أفاده من عدم معقوليّة التنجيز في الأمارات والطرق بالنسبة إلى أدلّة الشروط والأجزاء والموانع صحيح بالنسبة إلى الشبهات الموضوعيّة فإنّ قيام البيّنة مثلا على طهارة الماء مع العلم باشتراط الصلاة بالطهارة وتنجيز شرطيّة الطهارة لا يعقل أن يؤثّر في التنجيز لأنّه تحصيل الحاصل بل يؤثّر في التوسعة في الشرطيّة الواقعيّة هذا بخلاف الشبهات الحكميّة فإنّ اشتراط ما شكّ فيه لم يعلم قبل الأمارات والطرق حتّى يتنجّز ولا يبقى للتنجيز مجالا وعليه فالإشكال من ناحية

__________________

(١) ج ١ / ١٤٧.

٢٨٨

التنجيز يتمّ في الأمارات والطرق القائمة في الشبهات الموضوعيّة دون الشبهات الحكميّة.

نعم يمكن الإشكال في جميع الموارد سواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة من جهة المعذّريّة فإنّه لا مجال لجعلها بعد حصولها من ناحية عدم وصول الواقع والجهل به قبل قيام الأمارة أو الطرق كما صرّح به في مبحث إمكان التعبّد بالظنون حيث قال : إنّ جعل المعذريّة أثر للأمارة في صورة المخالفة كما يتراءى في بعض الكلمات فاسد جدّا لأنّ العذر يستند دائما إلى عدم وصول الواقع والجهل به سواء علم بخلافه أم لا وسواء قامت على خلافه أمارة أم لا فأثر الأمارة هو التنجيز فقط في صورة الإصابة مثل القطع بنفسه (١).

وعليه فالمعذّريّة ليست بمجعولة والمنجزيّة ليست بمجعولة إلّا فيما لا يكون منجّزا وحينئذ فلا يبقى إلّا التبادر والاستظهار الذي ذكرناه في الأمارات والطرق المعتبرة شرعا لمن كان في صدد الامتثال من أنّ الشارع قنع بإتيان مؤدّى الأمارات والطرق في مقام الامتثال ومقتضاه هو حكومة الأمارات والطرق كالاصول بالنسبة إلى الأدلّة الواقعيّة سواء قامت الأمارات والطرق في الشبهات الموضوعيّة أو الشبهات الحكميّة ولازم الحكومة هو الإجزاء في صورة المخالفة كما لا يخفى.

الجهة الثالثة : في إجزاء الأمارات وعدمه بناء على السببيّة.

أنحاء السببيّة وموارد كشف الخلاف

ولا يخفى عليك أنّه لا يعقل كشف الخلاف بناء على السببيّة إذا كان المراد منها أنّ الله تعالى لم يجعل حكما من الأحكام قبل قيام الأمارات وتأديتها إلى شيء بل لا

__________________

(١) ج ٢ / ٤٥٩.

٢٨٩

يكون لها مقتضى من المصالح أو المفاسد قبل قيامها وتأديتها ليكون منشأ لجعل الحكم فيه وإنّما تحدث المصلحة أو المفسدة في الفعل بسبب قيامها على الوجوب أو على الحرمة.

وذلك لخلوّ صفحة الواقع حينئذ عن الحكم قبل تأديتها وعليه فلا مجال لكشف الخلاف كما لا مورد للبحث عن إجزاء الأمارات بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة إذ الأحكام الواقعيّة حينئذ نفس مفاد الأمارات والمفروض هو الإتيان بها.

وفي هذه الصورة تختصّ الأحكام الواقعيّة بالعالمين بالأمارات ولا حكم بالنسبة إلى غيرهم وهو خلاف الضرورة والمتسالم عليه بين الأصحاب من أنّ الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل.

وأيضا لا يعقل كشف الخلاف بناء على السببيّة إذا كان المراد منها هو انقلاب الأحكام الواقعيّة بنفس قيام الأمارات إلى مؤدّى الأمارات بحيث لا تبقى في الواقع الأحكام الواقعيّة لا فعلا ولا شأنا غير مؤدّى الأمارات وبعبارة أخرى كانت الأحكام الواقعيّة مغيّاة بالأمارات فمع قيام الأمارات لانتهى أمد الواقعيّات ومن المعلوم أنّ بعد عدم وجود الأحكام الواقعيّة لا مجال لكشف الخلاف حتّى يبحث عن إجزاء الأمارات بالنسبة اليها إذ الأحكام الواقعيّة حينئذ هي نفس مفاد الأمارات والمفروض هو الإتيان بها.

وفي هذه الصورة أيضا يختصّ الأحكام الواقعيّة بالعالمين بالأمارات ولا حكم بالنسبة إلى غيرهم وهذه الصورة كالسابقة في كونها خلاف الضرورة والمتسالم عليه بين الأصحاب.

وأمّا إذا كان المراد من السببيّة أنّ بقيام الأمارة تحدث في المؤدّى مصلحة غالبة على مصلحة الواقع الموجبة لعدم فعليّة الواقع مثلا إذا قامت على طهارة ماء نجس بعينه فتوضّأ به المكلّف وصلّى فإنّه بقيام الأمارة على طهارته تحدث في الوضوء به

٢٩٠

مصلحة غالبة على مصلحة الوضوء بماء طاهر فهذا المعنى من السببيّة يرجع إلى أنّ قيام الأمارات تكون سببا لصيرورة الأحكام الواقعيّة الفعليّة هي مؤدّيات الأمارات ومن المعلوم أنّ في هذه الصورة ثبتت الأحكام الواقعيّة المشترك فيها العالم والجاهل في الشريعة المقدّسة.

وإنّما انحصر الأحكام الواقعيّة الفعليّة في مؤدّيات الحجج والأمارات ولا حكم في غيرها إلّا شأنا واقتضاء وعليه فيكون لكشف الخلاف في هذه الصورة مجال.

وبعد تصوّر كشف الخلاف يمكن تصوّر الإجزاء أيضا بمعنى أنّ الإتيان بمؤدّيات الأمارات بناء على السببيّة ووجود المصلحة في متعلّقاتها يكفي عن الأحكام الإنشائيّة الواقعيّة فبعد العلم بها لا حاجة إلى إعادتها في الوقت ولا إلى قضائها بعد الوقت.

ولذا ذهب في بدائع الأفكار إلى أنّ هذا المعنى من السببيّة وإن كان خلاف ظاهر أدلّة اعتبار الأمارات على ما حقّقناه في محلّه من أنّ ظاهر أدلّتها هو اعتبارها بنحو الطريقيّة إلّا أنّه يمكن توجيه السببيّة بهذا المعنى بنحو لا يتوجّه عليه إشكال عقلا والظاهر عدم قيام الإجماع على بطلان هذا النحو من السببيّة وكيف كان فالظّاهر أنّ محل النزاع في الإجزاء على السببيّة هو هذا النحو منها (١).

نعم لو صار عروض الملاكات الطارئة سببا لاندكاك الملاكات الذاتيّة بحيث لا يبقى علّة للأحكام الواقعيّة فلا يكون مع قيام الأمارات حكم في الواقع لا شأنا ولا فعلا فهذه الصّورة ملحقة بالصورة الثانية.

ولعلّ كلام الشيخ ناظر إلى ما إذا صارت ملاكات الطارئة سببا لاندكاك الملاكات الذاتيّة حيث قال :

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ٢٩٧.

٢٩١

الثاني أن تكون العناوين الواقعيّة بما هي مستحلة على المصالح والمفاسد ومحكومة بأحكام واقعيّة ولكن صار اداء الأمارات سببا لوجود ملاكات أقوى في نفس العناوين الذاتيّة الواقعيّة فصار هذا سببا لانقلاب الأحكام الواقعيّة إلى مؤدّيات الأمارات بعد حصول الكسر والانكسار بين الملاكات الذاتيّة والملاكات الطارئة وذلك مثل أن تكون صلاة الجمعة بما هي صلاة الجمعة مشتملة على مفسدة واقعيّة مستتبعة للحرمة ولكن صار أداء الأمارة إلى وجوبها سببا لوجود مصلحة في نفس صلاة الجمعة بعنوانها بحيث تزيد المصلحة على المفسدة الواقعيّة بنحو تستتبع الوجوب بعد الكسر والانكسار وهذا أيضا تصويب انقلابيّ باطل على أصول المخطئة (١).

وإلّا فمع بقاء الملاكات الذاتيّة في الواقع مع غلبة الملاكات الطارئة فالأحكام الواقعيّة الإنشائية المشترك فيها العالم والجاهل باقية وذلك يكفي في خروج هذه الصورة عن التصويب المجمع على بطلانه هذا مضافا إلى أنّ الإجماع في المسائل العقلية لا حجّيّة له وإنّما المعتبر هو البرهان والاستدلال.

قال السيّد المحقّق البروجرديّ قدس‌سره في نهاية الاصول إنّ مسألة التخطئة والتصويب مسألة عقليّة لا شرعيّة تعبّديّة يستند فيها إلى الإجماع وإنّ الإجماع المدعى فيها هو إجماع المتكلمين من الإماميّة بما هم متكلّمون لا إجماع الفقهاء والمحدّثين الذي هو حجّة من الحجج الفقهيّة.

إلى أن قال : قال شيخنا أبو جعفر الطوسيّ في كتاب العدة ما حاصله أنّ المتكلّمين من الفرقة الحقّة من المتقدّمين والمتأخّرين كلّهم أجمعوا على أنّ أصحاب الصواب فرقة واحدة والباقون مخطئون وهذا الكلام منه قدس‌سره شاهد على ما قلناه من أنّ

__________________

(١) نهاية الاصول : ٢ / ٤٤٤.

٢٩٢

الإجماع على بطلان التصويب ليس هو إجماع الفقهاء والمحدّثين بل إجماع المتكلّمين بما هم متكلّمون لكون المسألة من المسائل العقليّة التي يبحث فيها المتكلّم بما هو متكلّم وليست من المسائل الشرعيّة المتلقّاة من المعصومين عليهم‌السلام يدا بيد حتّى يكون الإجماع فيها إجماع أهل الحديث فيكون حجّة (١).

فالتحقيق إنّ الملاكات الواقعيّة إن كانت باقية مع ملاكات طارئة وإنّما كان التزاحم بينهما في التأثير فلا مزاحمة بحسب مقام الإنشاء ومقتضى ذلك هو وجود الأحكام الإنشائيّة الواقعيّة وإن صارت الملاكات الواقعيّة مندكّة عند عروض الملاكات العارضة فالواقعة التي قامت الأمارة عليها على خلاف الواقع محكومة بمؤدّى الأمارة لاندكاك الملاكات الواقعيّة ومقتضى ذلك هو عدم وجود الأحكام الواقعيّة ولو إنشاء لانعدام المعلول بانعدام علّته واندكاكه (٢).

وهكذا يمكن تصوّر كشف الخلاف إذا كان المراد من السببيّة أنّ العناوين الواقعيّة بما هي مشتملة على المصالح والمفاسد ومحكومة بأحكام واقعيّة ولم يكن أداء الأمارة على خلافها موجبا لانقلاب الواقع مصلحة أو حكما بل المصلحة الحادثة إنّما تكون في سلوك الأمارة وتطبيق العمل على طبقها والحكم الظاهريّ يثبت لهذا العنوان أعني سلوك الأمارة بما هو سلوك فلو أدّت الأمارة إلى وجوب الجمعة مثلا وكان الواجب بحسب الواقع هو الظهر فقيام الأمارة لا يصير سببا لاشتمال صلاة الجمعة على المصلحة ولا لمحكوميّتها بالوجوب بل هي بعد باقية على ما كانت عليه والظهر أيضا باق على وجوبه الواقعيّ والمصلحة إنّما تكون في سلوك الأمارة بما هو سلوك وبهذه المصلحة يتدارك فوت مصلحة الواقع بقدر فوتها.

وفي هذه الصورة الأحكام الواقعيّة محفوظة ومع محفوظيّتها لكشف الخلاف

__________________

(١) ج ١ / ١٤١.

(٢) راجع تعليقة الأصفهاني : ١ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

٢٩٣

مجال كما أنّ للبحث عن إجزاء سلوك الأمارات عن الأحكام الواقعيّة مجال ولا إجماع على خلاف هذه الصورة ولكن اورد عليه في نهاية الاصول بأنّ السلوك ليس أمرا وراء العمل الذي يوجده المكلّف ويكون محكوما بالحكم الواقعيّ كصلاة الجمعة مثلا وفي مقام التحقّق لا ينفكّ عنه فصلاة الجمعة التي يوجدها المكلّف هي بعينها محقّقة للسلوك ومصداق له وليس تحقّق السلوك إلّا بنفس هذا العمل الخ (١).

وعليه فهذه الصورة ترجع إلى الصورة الثالثة بناء على تزاحم الملاكات الواقعيّة والظاهريّة في التأثير.

فلا توجب الصورة المذكورة رفع الحكم عن الواقع ولو إنشاء وحينئذ فلكشف الخلاف مجال كما أنّ بعد كشف الخلاف وسقوط الأمارة فللبحث عن أجزائها عن الأحكام الواقعيّة الشأنيّة مجال بحيث لا يحتاج إلى الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه ولا يرد عليه شيء عدا ما أورده السيّد المحقّق البروجرديّ قدس‌سره في ناحية مقام الإثبات حيث قال :

إنّ الالتزام بذلك يخرج هذا الحكم عن كونه حكما ظاهريّا ويجعله حكما واقعيّا في عرض سائر الأحكام الواقعيّة فإنّ الحكم الظاهريّ كما عرفت ما يكون تشريعه لحفظ الأحكام الواقعيّة وتنجيزها في صورة الجهل حيث إنّ الحكم الواقعيّ كما عرفت وإن لم يكن مقيّدا بالعلم والجهل ولكن داعويّته في نفس العبد إنّما يكون في صورة العلم به فقط فلو أراد المولى انبعاث العبد في صورة الجهل أيضا لزمه جعل حكم ظاهريّ طريقيّ لغرض حفظ الواقع دون أن يكون متعلّقة بنفسه مشتملا على المصلحة فلو كان غرضه حفظ الواقع في صورة الجهل مطلقا لزمه إيجاب الاحتياط ولو لم يكن الغرض حفظه مطلقا من جهة اشتمال الاحتياط على مفسدة شديدة كان

__________________

(١) نهاية الاصول : ج ٢ / ٤٤٦.

٢٩٤

عليه جعل طرق موجبة لتنجيز الواقع على فرض الإصابة الخ (١).

وكيف كان فالمصلحة السلوكيّة في الفرض المذكور لا تنافي مع وجود الأحكام الواقعيّة فلكشف الخلاف فيها مجال كما أنّ للبحث عن أجزاء سلوك الأمارات عن الأحكام الواقعيّة مجال أيضا.

ويمكن أيضا تصوير كشف الخلاف فيما إذا كانت المصلحة في نفس الأمر بالسلوك دون المتعلّق فإنّ الواقعيّات حينئذ على حالها ومع بقائها على ما عليها فللإجزاء حينئذ أيضا مجال وإن لم يخل هذا عن إشكال من جهة رجوع المصلحة في نفس الأمر إلى المصلحة في السلوك التي عرفت أنّها أيضا راجعة إلى المصلحة في المتعلّق كما أفاد السيّد المحقّق البروجرديّ قدس‌سره حيث قال :

إنّ الأمر في الأوامر الحقيقيّة ليس مقصودا بالذات بل القصد إليه إنّما يكون للتسبيب به إلى متعلّقه فهو فان في المتعلّق ومندكّ فيه حيث أنّ مطلوب المولى أوّلا وبالذات هو صدور الفعل من العبد ولكن لمّا كان صدوره منه بحركة نفسه وإعمال اختياره فلا محالة تتولّد من إرادة الفعل من العبد إرادة تبعيّة متعلّقة بالأمر حتى تصير داعيا له إلى إيجاد الفعل ومحرّكا لعضلاته نحوه بعد كون العبد بالذات من العبيد الذين هم بصدد إيجاد مرادات المولى.

وبالجملة فإرادة الأمر إرادة تبعيّة متولّدة من إرادة المتعلّق ونظر المولى في الأمر إلى جود المتعلّق حقيقة فيجب أن يكون هو متعلّقا لشوقه ومشتملا على المصلحة.

واشتمال الأمر على المصلحة وكونه بنفسه متعلّقا لشوق المولى يخرجه عن كونه أمرا وآلة يتسبّب به إلى وجود المتعلّق.

فوزان الأمر وزان الإرادة فكما أنّ الإرادة التكوينيّة لا يعقل تحقّقها خارجا إلّا

__________________

(١) ج ٢ / ٤٤٨.

٢٩٥

بعد اشتمال متعلّقها على المصلحة وكونه مشتاقا إليه إمّا بالذات أو بالعرض ولا يعقل تحقّق الإرادة إذا كانت المصلحة مترتّبة على نفسها فكذلك لا يعقل أن يتحقّق الشوق متعلّقا بذاتها من دون أن يكون المتعلّق مشتاقا إليه ولو بالعرض ، والسرّ في ذلك أنّ الإرادة أمر فإنّ في المراد وتعلّق الشوق بمتعلّقها من مبادئ تحقّقها فإذا كان هذا حال الإرادة التكوينيّة فكذلك حال الإرادة التشريعيّة أعني الأمر والنهي فتشتركان في أنّ تحقّقهما خارجا يتوقّف على مطلوبيّتهما تبعا لمطلوبيّة المتعلّق وفي طولها (١).

وعليه ففرض المصلحة في نفس الأمر بالسلوك لا يزيد على ما إذا فرض وجود المصلحة في سلوك الأمارة وتطبيق العمل على طبقها وقد عرفت أنّ لكشف الخلاف والإجزاء مجال في ذلك الفرض فلا تغفل.

فتحصّل أنّ صور السببيّة خمسة ولا مجال لكشف الخلاف والإجزاء عن الأوامر الواقعيّة في الأوّل والثاني دون الثلاثة الباقية سواء كان مرجعها إلى الواحد أو إلى الثلاثة.

نعم لو كانت الملاكات الطارئة موجبة لاندكاك الملاكات الواقعيّة بحيث لا يبقى لوجود الأحكام الواقعيّة لا شأنا ولا فعلا علّة فلا مجال لكشف الخلاف والإجزاء عن الأوامر الواقعيّة في جميع الصور ولكنّه كما ترى لإمكان أن تكون الملاكات متزاحمة في مقام التأثير من دون اندكاك الملاكات الواقعيّة وعليه فالتفصيل بين الصورتين الأوليين والثلاثة الباقية في محلّه.

وممّا ذكر يظهر أنّ التصويب لا يلزم إلّا في الأوّل والثاني الملازمين لخلوّ الواقعة عن الحكم الواقعي رأسا.

وأمّا في غيرهما من الفروض الثلاثة فلا مورد للتصويب لوجود الأحكام

__________________

(١) ج ٢ / ٤٤٥.

٢٩٦

الواقعيّة الإنشائيّة في الواقعة التي يشترك فيها العالم والجاهل والملتفت والغافل.

كما أنّ القول بالإجزاء في الأمارات بناء على الطريقيّة لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه لمحفوظيّة الأحكام الواقعيّة فيها كما لا يخفى.

الإجزاء بناء على السببيّة

ثمّ بعد ما عرفت من تصوّر كشف الخلاف وإمكان الإجزاء في بعض أنحاء السببيّة لا يخفى عليك أنّه ذهب في الكفاية بناء على السببيّة إلى الإجزاء فيما إذا كان الفاقد كالواجد وافيا بتمام الغرض أو بمعظمه بحيث لم يبق إلّا ما لا يجب تداركه حيث قال :

وأمّا بناء عليها أي على السببيّة وأنّ العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره يصير حقيقة صحيحا كأنّه واجد له مع كونه فاقده فيجزي لو كان الفاقد معه في هذا الحال كالواجد في كونه وافيا بتمام الغرض ولا يجزي لو لم يكن كذلك ويجب الإتيان بالواجد لاستيفاء الباقي إن وجب وإلّا لاستحبّ هذا مع إمكان استيفائه وإلّا فلا مجال لإتيانه كما عرفت في الأمر الاضطراريّ.

واستدلّ لمقام الإثبات بإطلاق أدلّة حجّيّة الأمارات حيث قال :

ولا يخفى أنّ قضيّة إطلاق دليل الحجّيّة على هذا هو الاجتزاء بموافقته ومحصّل كلامه إنّ قيام الأمارة يوجب مصلحة في مؤدّاها لظهور الإنشاء في جعل الداعي لا سائر الدواعي كداعي تنجيز الواقع ولظهور المتعلّق في أنّه بنفسه مطلوب وذو مصلحة ثمّ بإطلاق دليل اعتبار الأمارة وحجّيّتها يثبت كون تلك المصلحة وافية بمصلحة الواقع أو بمقدار منها بنحو لا يمكن مع استيفائه استيفاء الباقي وعليه فلا محالة يتحقّق الإجزاء.

اورد عليه المحقّق الأصفهانيّ بأنّ هذا إذا قلنا بكشف الدليل على الحجيّة عن المصلحة البدليّة.

٢٩٧

وأمّا إذا قلنا بكشفه عن مجرّد المصلحة في صورة المخالفة في قبال الطريقيّة فلا يفيد الإجزاء عن المصلحة الواقعيّة.

ثمّ أوضح ذلك بما حاصله أنّ الالتزام بالموضوعيّة والسببيّة تارة بملاحظة ظهور الإنشاء في كونه بداعي جعل الداعي لا بسائر الدواعي وظهور متعلّقه في كونه عنوانا لا معرّفا للواقع إذ بالظهور الأوّل في كونه بداعي جعل الداعي لا بسائر الدواعي يندفع احتمال كونه بداعي تنجيز الواقع كما أنّ بالظهور الثاني يندفع احتمال كونه بداعي إيصال الواقع بعنوان تصديق العادل.

وفيه أنّ مقتضى كلا الظهورين جعل الداعي على أيّ تقدير وانبعاثه عن مصلحة زائدة على مصلحة الواقع.

أمّا أنّها مصلحة بدليّة عن مصلحة الواقع حتّى يسقط التكليف الواقعيّ بحصول ملاكه أو مصلحة غير بدليّة حتّى يكون التكليف الواقعيّ باقيا ببقاء ملاكه فلا محالة تتوقّف على ضميمة معيّنة لبدليّة المصلحة.

وتارة يكون الالتزام بالموضوعيّة والسببيّة بملاحظة قبح تفويت المصلحة فلا بدّ من الالتزام بمصلحة في المؤدّى بحيث يتدارك بها مصلحة الواقع.

وفيه أنّ إثبات المصلحة البدليّة رأسا أو إثبات بدليّة المصلحة بعد استظهار أصلها بالبيان الذي تفرّدنا به من طريق قبح تفويت المصلحة الواقعيّة فقد دفعناه في مسألة جعل الطريق بأنّ إيكال العبد إلى طرقه العلميّة ربّما يوجب تفويت الواقعيّات أكثر من جعله متعبّدا بالأمارة فالزائد فائت لا مفوّت حتّى يقبح مع أنّ تفويت مصلحة بإيصال مصلحة يساويها أو أقوى منها ولو لم يكن من سنخها لا قبح فيه (١)

يمكن أن يقال أوّلا أنّ المراد من إطلاق أدلّة حجّيّة الأمارات هو الإطلاق

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ / ٢٤٣.

٢٩٨

اللفظيّ أو الإطلاق المقاميّ لا ظهور الإنشاء في كونه بداعي جعل الداعي لا بسائر الدواعي ولا ظهور المتعلّق في كونه مقصودا بالأصالة لا معرّفا للواقع وعليه فالبدليّة لو كانت لازمة في الإجزاء يدلّ عليها إطلاق أدلّة حجّيّة الأمارات إذ لا معنى للإجزاء من دون البدليّة كما هو المفروض وإن لم تكن البدليّة لازمة في الإجزاء كما هو الحقّ وسيأتي بيان ذلك فلا حاجة إلى إفادتها بل يكفي إطلاق أدلّة الحجّيّة في عدم لزوم الإعادة والقضاء وليس هذا إلّا الإجزاء كما لا يخفى.

وثانيا : إنّا نمنع استلزام إيكال العبد إلى الاحتياط والقطع واليقين لتفويت الواقع أكثر من جعله متعبّدا بالأمارة لأنّ مع قطع النظر عمّا يلزم من الاحتياط من العسر والحرج أو اختلال النظام كان الاحتياط سببا لإحراز الواقع وقلّما كان موجبا للخطإ نعم ربّما يكون القطع واليقين جهلا مركّبا وخاطئا ولكنّه نادر جدّا وعليه فلا تكون موارد الاحتياط أكثر خطأ من موارد الأمارات.

وثالثا : إنّا لا نسلّم لزوم البدليّة في الإجزاء بل اللازم هو وجود المصلحة بمقدار لا يكون تفويت الواقع معها موجبا للقبح سواء كانت المصلحة من سنخ المصلحة الواقعيّة وبدلا عنها أو لم تكن كذلك وسواء كانت مساوية مع المصلحة الواقعيّة أو لم تكن كذلك.

وعليه فإذا كانت أدلّة حجّيّة الأمارات مطلقة من حيث الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه تدلّ على سقوط الأوامر الواقعيّة بإتيان مؤدّى الأمارات وليس معنى الإجزاء إلّا ذلك وعليه فلو تمّ إطلاق أدلّة حجّيّة الأمارات لما كان لهذه المناقشات مجال.

والتحقيق هو أن يقال : إنّ برهان السببيّة إن كان هو إطلاق أدلّة حجّيّة الأمارات بالتقريب المذكور ففيه منع لأنّ الأدلّة ظاهرة في كونها لتحفّظ الواقعيّات وعدم موضوعيّة مؤدّيات الأمارات وعليه فالمحكم هو الطريقيّة لا السببيّة وقد مرّ

٢٩٩

سابقا أنّ لحن أدلّة حجّيّة الأمارات هو جواز الاكتفاء بها في مقام امتثال الطبائع المأمور بها ومن المعلوم أنّ هذا يصحّ مع الطريقيّة لا السببيّة هذا مضافا إلى أنّ المراد لو كان هو الإطلاق الكلامي.

فقد اورد عليه في بدائع الأفكار بأنّه لا يتصوّر في المقام لأنّه لا يتحقّق إلّا بملاحظة عدم تقييد الكلام بذكر عدل للتخيير أو بالجمع بين العمل على طبق الأمارة والعمل على طبق الواقع كما لو قال في الأوّل اعمل على طبق الأمارة أو اعمل على طبق الأمارة والواقع معا ، وهذا النحو من التقييد غير معقول ، لعدم إمكان الأخذ به في حال الجهل بالواقع وإذا كان تقييد الكلام بقيد غير معقول فإطلاقه اللحاظي من ناحية ذلك القيد غير تامّ (١).

وإن أريد بالإطلاق الإطلاق المقاميّ فهو معقول لأنّه يمكن للمولى إذا كان في مقامه البيان أن يقول اعمل على طبق الأمارة وإذا انكشف لك خطأها فاعمل على طبق الواقع فإذا سكت وهو في مقام البيان عن ذكر حكم العمل على طبق الواقع بعد انكشاف الخلاف كشف سكوته على إجزاء العمل على طبق الأمارة ولا يرد عليه ما اورده في بدائع الأفكار من أنّ هذا النحو من الإطلاق غير ثابت لكفاية إطلاقات الأحكام الواقعيّة بيانا لحكم العمل على طبق الواقع بعد انكشاف الخلاف (٢). لأنّ بعد حكومة الأمارات على الأحكام الواقعيّة وتقبّل الأحكام الظاهريّة مكان الأحكام الواقعيّة تحقّق امتثال الطبيعة المأمور بها ومع تحقّق الامتثال لا مجال للتمسّك بإطلاقات الأحكام الواقعيّة.

نعم قد ذكرنا أنّ أدلة حجّية الأمارات ظاهرة في أنّها في مقام تحفّظ الواقعيّات فالإطلاق المقامي يفيد للإجزاء بناء على الطريقيّة لا السببيّة وأمّا دعوى أنّ الإطلاق

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ / ٢٩٧.

(٢) بدائع الأفكار ١ / ٢٩٨.

٣٠٠