عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

أورد عليه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره بأنّ أحد تقديري العلم بتقييد المادّة فرض تقييد الهيئة لأنّ المفروض العلم بتقييد ذات المادّة أو بتقييدها بما هي واجبة فكيف يعقل سلامة إطلاق الهيئة فإنّه يلزم من وجوده عدمه (١).

يمكن أن يقال إنّ احتمال تقييد الهيئة يكفي لحصول العلم بتقييد المادّة على أيّ حال كما أنّ احتمال التخيير يكفي لحصول العلم بالمطلوبيّة فيما إذا دار الأمر بين التعيّن والتخيير؟ مع عدم العلم بالتخيير فلا يتوقّف العلم بتقييد المادّة وتضييقها على العلم بتقييد الهيئة وإجراء أصالة الإطلاق بعد الانحلال وإن كان موجبا لنفي احتمال التقيّد؟ ولكنّه لا ينافي الانحلال مع قطع النظر عن إجراء أصالة الإطلاق لأنّ قبل الانحلال لا مجال لأصالة الإطلاق للمعارضة وبعد الانحلال لا مانع من جريانها فتجري ولا يلزم من جريانها وإثبات الإطلاق جريان أصالة السلامة في المقابل حتّى تتعارضان وتتساقطان ويلزم من وجودها عدمها لأنّ العلم التفصيليّ بتقيّد المقابل يمنع عن جريان أصالة الإطلاق فيه فينحصر جريان أصالة الإطلاق في الهيئة فلا يلزم من وجوده عدمه فافهم.

اورد على هذا الوجه أيضا سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بقوله يرد عليه مضافا إلى ما ذكرنا في بيان عدم الفرق بينهما أنّ إبطال محلّ الإطلاق غير التقيّد ولو تبعا فلا يكون تقييدها متيقّنا (٢).

مراده قدس‌سره من عدم الفرق ما أفاد من أنّ تقييد كلّ واحد من الهيئة والمادّة لا يوجب تقييد الآخر ولكنّ يوجب تقييد كلّ إبطال محلّ إطلاق الآخر وعليه فلا ينحلّ العلم الإجمالي إلى المعلوم تقييده بالتفصيل والشكّ البدويّ لأنّ التقييد في كلّ طرف يوجب إبطال محلّ إطلاق الآخر هذا مضافا إلى أنّ إبطال محلّ الإطلاق غير التقيّد ولو تبعا

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ص ٣٢٢.

(٢) مناهج الوصول : ج ١ ص ٣٧٠.

٤٨١

فالتعبير بأنّ تقييد المادّة معلوم تفصيلا في غير محلّه.

ويمكن أن يقال أوّلا : أنّا لا نسلّم إيجاب تقييد المادّة لإبطال محلّ إطلاق الهيئة لما عرفت من أنّ التضييق في ناحية المبعوث إليه لا في ناحية البعث بل هو مطلق من جهة مجيء قيد المادّة وعدمه.

وثانيا : أنّ لفظ التقيّد لا دخالة له بل المراد هو العلم التفصيليّ بعدم الإطلاق في ناحية المادّة فمع العلم بعدم الإطلاق سواء كان القيد راجعا إليها ابتداء أو راجعا إلى الهيئة لا مجال لأصالة الإطلاق هذا بخلاف الهيئة فإنّ تقييدها مشكوك بالشكّ البدويّ فيجوز التمسّك بأصالة الإطلاق فيها لا بقاء احتمال التقييد فيها.

اورد على هذا الوجه أيضا السيّد الخوئيّ قدس‌سره حيث قال إنّ تقييد كلّ من الهيئة والمادّة مشتمل على خصوصيّة مباينة لما اشتمل عليه الآخر من الخصوصيّة فإنّ تقييد الهيئة مستلزم لأخذ القيد مفروض الوجود وتقييد المادّة مستلزم لكون التقييد به مطلوبا للمولى وعلى ضوء هذا الأساس فليس في البين قدر متيقّن لنأخذ به وندفع الزائد بالاطلاق (١).

ويمكن أن يقال إنّ القدر المتيقّن هو عدم إطلاق المادّة لتضييقها إمّا بالتقييد أو بالتضييق القهريّ فلا مجال بعد العلم التفصيليّ بعدم الإطلاق لجريان أصالة الإطلاق فيها وعدم وجود القدر المتيقّن بين التقيّدين لا ينافي العلم بعدم إطلاق المادّة كما لا يخفى وبعد جريان أصالة الإطلاق في ناحية الهيئة لكون الشكّ في تقييدها شكّا بدويّا بعد الانحلال يمكن الأخذ بإطلاقها وإثبات أنّ الوجوب ليس مقيّدا بشيء وأمّا حكم القيد في طرف المادّة فحيث كان مردّدا بين كونه قيدا له بحيث يجب تحصيله وبين كونه قيدا للوجوب فلا يجب تحصيله ولا يجري أصالة الإطلاق فيه أمكن التمسّك فيه

__________________

(١) المحاضرات : ج ٢ ص ٢٤٣.

٤٨٢

بالبراءة لنفي الوجوب المستلزم لتحصيل القيد هذا تمام الكلام في جريان أصالة الاطلاق في طرف الهيئة.

مقتضى الأصل

وأمّا إذا لم نقل بأحد الوجوه المذكورة لترجيح الإطلاق في طرف الهيئة فمقتضى الأصل هو البراءة لدوران القيد بين كونه قيدا للوجوب أو قيدا للواجب سواء قلنا بمقالة المشهور في رجوع القيود إلى الهيئة أو لم نقل به واخترنا بأنّ الوجدان حاكم على رجوعها إلى المادّة وإن امكن رجوعها إلى الهيئة فإنّ على كلّ واحد من المذهبين لم يثبت أصل الوجوب لاحتمال أن يكون القيد قيدا للوجوب.

ولا فرق في ذلك بين كون القيد على فرض رجوعه إلى المادّة قيدا على وجه التنجيز أو على وجه التعليق فإنّ مع احتمال رجوعه إلى الهيئة لم يثبت أيضا أصل الوجوب.

نعم لو قلنا باستحالة الرجوع إلى الهيئة كما هو المحكيّ عن الشيخ فلا يدور الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة بل القيد راجع إلى المادّة وهو خلاف الفرض.

وممّا ذكر يظهر ما في بدائع الأفكار حيث ذهب إلى الفرق بين ما إذا دار الأمر بين كون القيد قيدا للوجوب وكونه قيدا للواجب بنحو التنجيز فيجري البراءة على المشهور في الواجب المشروط وعلى المختار وبين ما لو دار الأمر بين كون القيد قيدا للوجوب وكونه قيدا للواجب على نحو المعلّق فحكم على المعتاد بعدم وجوب تحصيل القيد المزبور دون سائر القيود بل كان الحكم فيها هو وجوب تحصيلها تعيّنا في المفوّتة منها وتخييرا في غير المفوّتة.

وحكم على المشهور أيضا بذلك لو قالوا بوجوب تحصيل المقدّمات المفوّتة وإن لم يقولوا به فالمرجع هو الأصل العمليّ وهو البراءة أو استصحاب عدم الوجوب بالنسبة إلى المقدّمات المفوّتة بناء على جريان البراءة في المقدّمات وإلّا فالمرجع هو

٤٨٣

الاشتغال (١).

وذلك لأنّ مع دوران الأمر بين رجوع القيد إلى الوجوب أو الواجب لا علم بالوجوب أصلا على كلّ المذهبين حتّى نقول بالاشتغال ووجوب المقدّمات المفوّتة ولا فرق في ذلك بين كون القيد قيدا للواجب على وجه التنجيز أو على وجه التعليق فإنّ مع عدم مجيء القيد المذكور لا علم بالوجوب فلا تغفل.

ثمّ لو شكّ في تقييد الوجوب فقط فقد ذهب في بدائع الأفكار إلى أنّه لو كان لدليله إطلاق أخذنا به وإلّا فمقتضى البراءة عدم الوجوب قبل تحقّق القيد المحتمل تقيّد الوجوب به وهذا كلام متين ولكنّ ينبغي أن يقيّد ذلك بما إذا لم يكن له حالة سابقة كما إذا شككنا بعد حلول زمان الغيبة أنّ وجوب صلاة الجمعة مشروط بالحضور حتّى ينتفي بحلول الغيبة أو غير مشروط بذلك حتّى يبقى فيمكن حينئذ استصحاب الوجوب بعد العلم بثبوته.

ولو شكّ في تقييد الواجب فقط فمقتضى الإطلاق والأصل واحد وهو عدم وجوب تحصيل القيد المحتمل ويصحّ الاكتفاء بإتيان الواجب من دون القيد في مقام الامتثال.

ولو علم بأنّ الواجب مقيّد ولكن شكّ في كونه معتبرا على وجه لا يجب تحصيله فيكون الواجب معلّقا أو على وجه يجب تحصيله فيكون الواجب منجّزا فقد أفاد في بدائع الأفكار أنّه لا إشكال في عدم صحّة التمسّك بالإطلاق لو كان ولا بالأصل فيما لم يكن إطلاق لنفي التقيّد بالقيد المزبور لفرض العلم به وإنّما الشكّ في كيفيّة أخذ القيد نعم يمكن التمسّك بالبراءة لنفي الوجوب المستلزم لتحصيل القيد (٢).

__________________

(١) بدائع الافكار : ج ١ ص ٣٦١.

(٢) بدائع الافكار : ج ١ ص ٣٦١.

٤٨٤

ومنها تقسيمه إلى نفسيّ وغيريّ.

وهنا جهات :

الجهة الأولى : في تعريفهما

ذهب المشهور إلى أنّ الواجب النفسيّ ما أمر به لنفسه والغيريّ ما أمر به لاجل غيره.

أورد عليه الشيخ الأعظم قدس‌سره في محكيّ تقريراته بأنّ لازم وذلك هو أن يكون جميع الواجبات الشرعيّة او أكثرها من الواجبات الغيريّة إذ المطلوب النفسيّ قلّما يوجد في الأوامر فإنّ جلّها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها فيكون أحدهما غير منعكس ويلزمه أن يكون الآخر غير مطّرد لانتفاء الواسطة.

لا يقال المراد بكونه مطلوبا لنفسه أنّه مطلوب لأجل مصلحة حاصلة في نفسه فيكون المراد بالغيريّ ما أمر به لأجل مصلحة حاصلة في غيره فيتمّ عكس الأوّل وبه يصحّ الطّرد أيضا في الثاني لأنّا نقول ذلك فاسد جدّا ضرورة امتناع أن يكون المصلحة الداعية إلى طلب الشيء حاصلة في غيره غاية ما في الباب أنّ المصلحة في فعل المقدّمة هو الوصول إلى الغير الحاصل في نفسه وفي ذيها القرب الحاصل في نفسه وذلك لعلّه ظاهر.

ثمّ عرّفهما الشيخ الأعظم قدس‌سره بقوله فالأولى في تحديدهما أن يقال : إنّ الواجب الغيريّ ما أمر به للتوصّل إلى واجب آخر والنفسيّ ما لم يكن كذلك فيتمّ العكس والطّرد (١).

وعليه فالنفسيّ هو ما لم يكن للتوصّل إلى واجب آخر على المكلّف بخلاف الغيريّ فإنّه هو ما أمر به للتوصّل إلى واجب آخر على المكلّف.

والأولى إضافة كلمة للإتيان في تعريف الشيخ قدس‌سره كما أشار إليه المحقّق الإيروانيّ فيقال

__________________

(١) التقريرات : ص ٦٤.

٤٨٥

إنّ الغيريّ هو ما أمر به للإتيان بالواجب الآخر والنفسيّ ما لم يكن كذلك.

أورد عليه في الكفاية بما حاصله أنّ الداعي في الواجبات النفسيّة تارة يكون محبوبيّة الواجب بنفسه كالمعرفة بالله وتارة أخرى يكون محبوبيّته بماله من فائدة مترتّبة عليه كأكثر الواجبات من العبادات والتوصّليّات ولا إشكال في القسم الأوّل وإنّما الإشكال في القسم الثاني فإنّ مقتضى كون الداعي فيه محبوبيّته بماله من الفائدة المترتّبة عليه هو أن يكون أكثر الواجبات في الحقيقة واجبات غيريّة فإنّه لو لم يكن وجود هذه الفوائد لازما لتلك الواجبات لما كان الداعي موجودا إلى إيجاب ذيها وعليه فالإشكال باق بالنسبة إلى جامعيّة التعريف ومانعيّته فإنّ الواجبات النفسيّة تدخل في تعريف الغيريّ فتعريف النفسيّ لا يكون جامعا لأفراده كما أنّ تعريف الغيريّ لا يكون مانعا من الأغيار.

يمكن الجواب عنه أوّلا بأنّ الأغراض في الواجبات النفسيّة ليست من الواجبات وليست ممّا يؤتى بها عقيب الإتيان بنفس الواجبات حتّى يصدق على الواجبات النفسيّة أنّها واجبات ومأمورات لأجل التوصّل إلى الإتيان بواجبات أخرى وتقسيم الواجب إلى النفسيّ والغيريّ باعتبار البعث والوجوب لا باعتبار الأغراض فملاحظة الأغراض أجنبيّة عن ملاك التقسيم.

ولقد أفاد وأجاد المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره حيث قال وأمّا الإرادة التشريعيّة فقد مرّ مرارا أنّ حقيقتها إرادة الفعل من الغير ومن الواضح أنّ الإنسان لو أراد اشتراء اللحم من زيد فالغرض منه وإن كان طبخه لكنّه غير مراد منه بل لعلّ الطبخ مراد من عمر وإحضاره في المجلس مراد من بكر وهكذا فلا تنافي بين كون شيء مرادا من أحد والغرض منه غير مراد منه وإن كان مقصودا من الفعل لترتّبه عليه فالاشتراء مراد بالذات من زيد ومقدّماته مرادة بالعرض منه وان لم يكن الغرض من اشتراء اللحم نفسه بل ينتهي إلى نفس الآمر مثلا (من الطبخ والأكل وتحصيل بدل ما يتحلّل وإبقاء

٤٨٦

الحياة ووجوده وذاته).

ومنه يعلم حال الصلاة وسائر الواجبات فإنّ الغرض من الصلاة وإن كان مصلحتها إلّا أنها غير مرادة من المكلّف لا بالعرض ولا بالذات بل المراد بالذات عن المكلّف نفس الصلاة والإرادة التشريعيّة متقوّمة بإرادة الفعل من الغير لا أنّها مطلق الشوق حتّى يقال إنّ الشوق إلى الصلاة منبعث عن الشوق إلى غايتها إلى ان ينتهي إلى غاية الغايات والكلام في تقسيم الواجب إلى النفسيّ والغيريّ ومبدأ الإيجاب كنفسه ينقسم إلى القسمين بلا محذور وإن كان نفس المحبوبيّة المطلقة غيريّة مطلقا إلى أن ينتهي إلى الغرض الذي هو عين ذي الغرض.

وجميع آثار الواجب النفسيّ الحقيقيّ من كونه محرّكا ومقرّبا وموجبا لاستحقاق الثواب على موافقته والعقاب على مخالفته مترتّبة على هذه الواجبات النفسيّة المتعارفة فإنّها المرادة من المكلّف بالذات فإرادتها منه هي الداعية له فهي المقرّبة له فافهم واغتنم (١).

وبالجملة الفرق بين النفسيّ والغيريّ ليس في ناحية الأغراض والمصالح بل في ناحية نحو البعث الابتدائيّ والتبعيّ.

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام قدس‌سره حيث قال تقسيم الواجب إلى النفسيّ والغيريّ باعتبار تعلّق البعث والوجوب لا باعتبار الإرادة والأغراض فإنّهما خارجان عن اعتبار الوجوب والواجب فقد يتعلّق البعث بشيء لأجل التوصّل إلى مبعوث إليه فوقه وتوقّفه عليه وقد يتعلّق به من غير أن يكون فوقه مبعوث إليه فالأوّل غيريّ والثاني نفسيّ (٢).

وإلى ما ذكر يؤول ما في الوقاية أيضا حيث قال إنّ الغيريّ ما لا وجوب له بذاته

__________________

(١) نهاية الدراية : ص ٣٢٦.

(٢) مناهج الوصول : ج ١ ص ٣٧١.

٤٨٧

ولا تتعلّق به الإرادة والإنشاء والبعث ابتداء وإنّما يجب بوجوب غيره ويكون مرادا ومنشأ بنفس إرادة الغير وإنشائه فهو نظير لوازم الماهيات التي تجعل بنفس جعل ملزوماتها وهذا بخلاف النفسيّ الذي هو متعلّق الإرادة بذاته وملحوظ للامر ابتداء وقد بعث إليه ووعد وأوعد عليه وإن كانت المصلحة الداعية إلى الأمر به أمرا آخرا حاصلا بسببه حتّى التوصّل إلى واجب نفسيّ مثله (١).

وثانيا : كما أفاد سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره أنّ دخول الواجب النفسيّ في تعريف الواجب الغيريّ الذي هو ما امر به للتوصّل إلى واجب آخر مع تسليم أنّ المعيار هو الأغراض والفوائد فيما إذا كانت الفوائد المترتّبة بمرأى ومسمع العرف حتّى يمكن إيجابها وإلّا فلا تعرفها عامّة الناس حتّى يمكن الأمر بها وتصير الأغراض واجبات ويصدق عليها ما أمر بها للتوصّل إلى واجبات أخرى والمفروض أنّ كثيرا من الواجبات النفسيّة لا تعرف العامّة فوائدها وغاياتها فمجرّد كون المعيار هو الأغراض لا يوجب دخول النفسيّات في الغيريّات مع عدم التمكّن من إيجاب فوائدها وغاياتها لأنّ تعريف الغيريّات لا يصدق عليها كما لا يخفى.

نعم يصدق تعريف الغيريّ بما أمر به لأجل غيره كما عن المشهور يصدق عليها وعليه فما ذهب اليه الشيخ الأعظم قدس‌سره هو الأقوى.

ثمّ أنّه لا مجال لتصحيح تعريف المشهور بدعوى أنّ المقصود من قولهم في تفسير النفسيّ بما أمر به لنفسه وتفسير الغيريّ بما أمر به لأجل غيره أنّ النفسيّات معنونة بعناوين حسنة يستقلّ العقل بمدح فاعلها وذمّ تاركها وصارت بما هو كذلك متعلّقة للإيجاب لا بما هي مقدّمة لأمر مطلوب واقعا من الغايات والفوائد المترتّبة كما أنّ الغيريّات بما هي تكون مقدّمة للواجبات النفسيّة صارت واجبة لا بعناوينها التي

__________________

(١) الوقاية : ص ٢٤٣.

٤٨٨

تكون حسنة في نفسها لعدم دخلها في إيجابها الغيريّ وعليه فلا يتوجّه الاعتراض على تعريف المشهور بأنّ جلّ الواجبات لو لا الكلّ يلزم ان يكون من الواجبات الغيريّة إذ المطلوب النفسيّ قلّ ما يوجد في الأوامر فإنّ جلّها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها لما عرفت من أنّ معيار الإيجاب في النفسيّات ليس هي كونها مطلوبات لأجل الغايات بل المعيار هو تعنونها بالعناوين الحسنة المنطبقة عليها التي يستقلّ العقل بمدح فاعلها وذمّ تاركها وهكذا المعيار في إيجاب الواجبات الغيريّة هو حيثيّة كونها من مقدّمات الواجبات النفسيّة كما أشار إلى ذلك صاحب الكفاية.

لأنّه أوّلا : كما أفاد في نهاية النهاية أنّه لا طريق لنا إلى ثبوت هذا العنوان في موارد الأوامر النفسيّة.

وثانيا : إنّه لا طريق لنا إلى كونه هو الداعي إلى إيجابها دون ملاك الأمر الغيريّ الثابت فيها فكيف يحكم بأنّ هذه الأوامر نفسيّة وتلك طريقيّة بل ظاهر الأخبار الواردة في علل الأحكام أنّ الباعث للأمر هو حصول الآثار الخاصّة ومن الواضح أنّه لو كانت ذاتها دخيلة في الأمر لما صحّ التعليل بالجهات الخارجية (١).

وثالثا : كما في نهاية الاصول أنّه إن كان المراد تعنونه بعنوان حسن يستقلّ العقل بمدح فاعله من جهة أنّ الفائدة تترتّب عليه بحيث صار ترتّب الفائدة علّة لتعنونه بالعنوان الحسن نعترض عليه بأنّ هذا الأمر يجري في جميع الواجبات الغيريّة ايضا فإنّ كلّ واحد منها أيضا يتعنون بالعنوان الحسن من جهة اشتماله على المصلحة المترتّبة عليه وإن كان المراد تعنونه بعنوان حسن من دون أن يكون لترتّب الفائدة دخل في حسنه نعترض عليه بأنّ هذا يوجب خلاف الفرض فإنّ الفرض إنّما يكون في الواجبات

__________________

(١) نهاية النهاية : ج ١ ص ١٥٤.

٤٨٩

النفسيّة التي وجبت لا لذاتها بل من جهة ترتّب الفوائد عليها هذا مضافا إلى أنّ هذا خلاف البداهة للزوم أن تكون جميع الواجبات النفسيّة من المحسّنات الذاتيّة وهذا واضح الفساد (١).

ورابعا : كما في نهاية الدراية أنّ من العناوين ما هو حسن بالذات أو قبيح كذلك كعنوان العدل والإحسان في الأوّل وكعنوان الظلم والجور في الثاني ومنها ما هو حسن أو قبيح بالعرض كغير العناوين المتقدّمة من العناوين.

والمراد من ما بالذات وما بالعرض أنّ العنوان الحسن أو القبيح ربما يكون محفوظا ومع ذلك لا يتّصف بالحسن أو القبح لطروّ عنوان آخر عليه كعنوان الصدق والكذب إذا طرأ عليهما عنوان قتل المؤمن وإنجائه وربما لا يقبل لطروّ عنوان آخر يزيل حسنه أو قبحه كعنوان العدل والظلم.

والثاني عنوان ذاتيّ والأوّل عرضيّ ومن الواضح أنّ كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات فجميع الواجبات النفسيّة إذا كانت من حيث عنوان حسن واجبا نفسيّا لا بدّ من أن ينتهي إلى عنوان واحد وكذلك المحرّمات النفسيّة فكلّها مصاديق واجب واحد أو محرّم واحد بملاك وعنوان واحد لأنّ عناوينها الحسنة أو القبيحة عرضيّة لا بدّ من أن ينتهي إلى عنوان ذاتيّ انتهى موضع الحاجة (٢).

وتوضيح كلامه أنّ العناوين العرضيّة لا يمكن أن تدعو إلّا من جهة انتهائها إلى العناوين الذاتيّة والأصليّة وعليه فالإشكال باق على حاله لأنّ الواجبات الغيريّة يكون كذلك.

فتحصّل أنّ الأقوى هو تعريف الذي أفاده الشيخ قدس‌سره من أنّ الغيريّ ما أمر به للتوصّل إلى واجب آخر والنفسيّ ما لم يكن كذلك.

__________________

(١) نهاية الاصول : ج ١ ص ١٨٢.

(٢) نهاية الدراية : ج ١ ص ٣٣٦.

٤٩٠

والأولى أن يعرف كما في نهاية النهاية من أنّ الغيريّ هو ما أمر به للإتيان بالواجب الآخر والنفسيّ ما لم يكن كذلك.

الجهة الثانية : في مقتضى الأصل اللفظي

إذا شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيريّ ؛ ذهب الشيخ الأعظم الى أصالة الإطلاق من ناحية المادّة بتقريب أنّ المطلوب لو كان هو الفعل على وجه يكون شرطا للغير يجب التنبيه عليه من المتكلّم الحكيم ، وحيث ليس ما يصلح أن يكون بيانا فيجب الأخذ بالإطلاق ، ويحكم بأنّ الواجب نفسيّ غير منوط بالغير على وجه لو فرض امتناع الغير يجب الإتيان به مع إمكانه.

والوجه في عدوله عن إجراء أصالة الإطلاق في ناحية الهيئة هو ما اختاره في الهيئة من وضعها لخصوصيّات الطلب المتقدّمة في نفس الطالب باعتبار دواعيها التي تدعو إليها ؛ إذ حيث كان الموضوع له فيها هو الجزئيّ والفرد فلا مجال لأصالة الإطلاق في ناحية الهيئة لدفع الشكّ المذكور بعد كون مفادها الأفراد التي لا يعقل تقييدها (١).

يمكن الجواب عنه بأنّ مقتضى ما مرّ سابقا في مفاد الهيئة أنّ الموضوع له فيها كالموضوع له في الحروف جزئيّ وليس هو الطلب المتقدّم في نفس الطالب ؛ إذ هو من مبادئه ، بل الموضوع له هو نفس البعث الإنشائيّ ، ولكنّه حيث كان كالمعنى الحرفيّ يكون إيجاديّا وجزئيّا ، ومع ذلك لا يمنع جزئيّة الموضوع له عن أصالة الإطلاق في ناحية الهيئة لدفع الشكّ المذكور من جهة إمكان إنشاء الجزئيّ على تقدير من أوّل الأمر من باب ضيق فم الركوة ، فلا يلزم تقيّد الجزئيّ بعد تحقّقه حتّى يقال إنّ الجزئيّ لا سعة له حتّى يتقيّد.

__________________

(١) التقريرات : / ٦٥.

٤٩١

هذا مضافا إلى إمكان التمسّك بالإطلاق الأحواليّ كما في بدائع الأفكار (١).

وأفاد أستاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره حيث إنّ الجزئيّ بعد الوجود له أحوال مختلفة ، فإذا لم يتقيّد الجزئيّ بحال خاصّ كالبعث للتوصّل إلى واجب آخر يمكن الأخذ بالإطلاق ويحكم بأنّ البعث مطلق ولم يتقيّد بشيء فينتزع منه النفسيّ.

ومضافا إلى ما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ الإطلاق من ناحية الداعي حيث قال : إنّ ما يحتاج إلى التنبيه عرفا كون الوجوب لداع آخر غير الواجب ، ومنه تعرف أنّ إطلاق البعث بمعنى عدم تقييده بانبعاثه عن داع آخر غير الواجب لا التوسعة من حيث وجوب شيء آخر وعدمه ، والتقييد بهذا المعنى لا ينافي كون البعث جزئيّا حقيقيّا ، فإنّ المقصود ظهور الصيغة بحسب مقدّمات الحكمة في البعث المنبعث عن داعي نفس الواجب لا عن داع آخر في غيره ، مع وضوح أنّ الدواعي ليست من شئون البعث وأطواره كي توجب تضييق دائرة معناه ومفهومه ، فسقط ما سيأتي إشكالا وجوابا (٢).

ولا يخفى عليك أنّ ما ذهب إليه المحقّق الأصفهانيّ هو الموافق لما عرفت في تعريف النفسيّ من أنّ الغيريّ هو ما أمر به للتوصّل إلى واجب آخر ، والنفسيّ هو ما لم يكن للتوصّل إلى واجب آخر ؛ فعدم تقييد البعث بانبعاثه عن داع آخر غير الواجب يوجب بمقدّمات الحكمة أن تكون الصيغة ظاهرة في النفسي ، أي البعث الذي لا ينبعث عن داع آخر غير الواجب.

وبالجملة فلا يحتاج التمسّك بالإطلاق في الهيئة إلى مئونة زائدة مطلقا سواء كان المراد من الإطلاق هو الاطلاق الأحواليّ أو الإطلاق من ناحية الداعي أو الإطلاق المفهوميّ.

__________________

(١) بدائع الأفكار : ١ / ٣٧٣.

(٢) نهاية الدراية : ١ / ٣٢٩.

٤٩٢

وممّا ذكر يظهر ما في مناهج الوصول ، حيث أورد على التمسّك بالإطلاق بأنّ ما قيل من أنّ الإطلاق يدفع القيد الزائد فغير تامّ ، لأنّ كلّا من النفسيّة والغيريّة متقدّم بقيد زائد على فرض كون البعث موضوعا لجامعهما ، مع أنّه خلاف التحقيق (١).

لما عرفت من أنّ المحتاج إلى المئونة الزائدة هو التقييد لا الإطلاق ، سواء قلنا بالإطلاق الأحواليّ أو الإطلاق من ناحية الداعي أو الإطلاق المفهوميّ ؛ إذ منشأ النفسيّة هو عدم تقييد البعث بانبعاثه عن داع آخر غير الواجب لا تقييد البعث بعدم ملاحظة انبعاثه عن داع آخر حتّى يحتاج إلى المئونة كالغيريّة التي هي تقييد البعث يكون انبعاثه عن داع آخر غير الواجب.

نعم ، لا يصحّ القول بأنّ البعث يكون موضوعا للمفهوم الجامع ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية ، لما عرفت في محلّه من أنّ معاني الصيغ الإنشائيّة كالمعاني الحرفيّة جزئيّة لا كلّيّة ، ولكن كذلك لا ينافي جزئيّتها لإطلاقها من جهة الأحوال أو الدواعي ، فالتمسّك بإطلاق الهيئة من جهة الأحوال أو من جهة الداعي لا مانع منه.

ثمّ إنّ الظاهر من كلام سيّدنا الإمام قدس‌سره أنّه أخذ بالظهور الانصرافيّ الناشئ من كثرة استعمال الهيئة في ما ينتزع منه النفسيّ دون ما ينتزع منه الغيريّ.

حيث قال : ثمّ إذا شككنا في واجب بأنّه نفسيّ أو غيريّ يحمل على النفسيّ لأجل الانصراف كما لا يبعد ، لا بمعنى انصراف جامع إلى أحد أقسامه ، فإنّ التحقيق أنّ الموضوع له في الهيئة خاصّ وأنّها في النفسيّ والغيريّ لا تستعمل إلّا استعمالا إيجاديّا لنفس البعث والإغراء. والنفسيّة والغيريّة انتزاعيّتان لا من مقوّماته ، بل لمّا كان البعث لأجل الغير نادرا لا يعتني باحتماله العقلاء.

ويمكن أن يقال : إنّ البعث المتعلّق بشيء حجّة على العبد ولا يجوز التقاعد عن

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٧٢.

٤٩٣

طاعته باحتمال كونه مقدّمة لغيره إذا سقط أمره (١).

والفرق بين الظهور الانصرافيّ الناشئ من كثرة الاستعمال وبين الظهور الإطلاقيّ واضح ، لأنّ الثاني محتاج إلى مقدّمات الحكمة دون الأوّل كما لا يخفى ، نعم يحتاج إلى إثبات ندرة استعمال الهيئة في البعث الغيريّ ، وهو غير ظاهر مع تعدّد استعماله في الغيريّ ، كالوضوء والغسل والتيمّم وإعداد السلاح والقوى للجهاد وغيرها من الموارد.

الجهة الثالثة : في مقتضى الأصل العمليّ

إذا شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيريّ ولم يثبت أصالة الإطلاق في طرف ، فالمرجع هو الأصل العمليّ ، وهنا صور :

الاولى : أنّه إذا علم بعد الزوال بوجوب الوضوء والصلاة وشكّ في وجوب الوضوء أنّه غيريّ أو نفسيّ ؛ ففي هذا القسم الذي يرجع الشكّ فيه إلى تقييد الصلاة بالوضوء ذهب في بدائع الأفكار إلى أنّ الأصل يقضي بعدم اشتراط الواجب النفسيّ ، أعني الصلاة بالطهارة ، فيجوز الإتيان به بلا طهارة ، وأمّا نفس الطهارة فيعلم بوجوبها في ذلك الوقت على كلّ حال إمّا لنفسها أو لغيرها (٢).

ولعلّ وجه ذلك : أنّ في هذا القسم يرجع الشكّ إلى تقييد الصلاة بالوضوء ، فيكون مجرى البراءة بعد انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ بوجوب الوضوء الأعمّ من النفسيّ والغيريّ.

اورد عليه بأنّ العلم الإجماليّ المذكور باق على حاله ، لأنّ العلم التفصيليّ بوجوب الوضوء المردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا هو عين العلم الإجماليّ بالوضوء

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٧٢.

(٢) بدائع الأفكار : ١ / ٣٧٣.

٤٩٤

نفسيّا أو وجوب الصلاة المتقيّدة به ، ولا يعقل أن يكون العلم الإجماليّ موجبا لانحلال نفسه. وعليه فالبراءة العقليّة لا معنى لها بعد بقاء العلم الإجماليّ ، بل مقتضاه هو الاحتياط بأن لا يأتي بالصلاة إلّا مع الطهارة ، نعم ، يظهر من فوائد الاصول جواز الأخذ بالبراءة الشرعيّة بناء على عدم الملازمة بين حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة ، فإنّ البراءة الشرعيّة حينئذ لا محذور في جريانها ، لأنّ رفع القيديّة إنّما هو من وظيفة الشارع كجعلها ، غايته أنّ وضعها ورفعها إنّما يكون بوضع منشأ الانتزاع ورفعه وهو التكليف بالأكثر وبسطه على الجزء المشكوك أو الشرط المشكوك ، فكما أنّ للشارع أمر بالمركّب على وجه يعمّ الجزء الزائد أو الشرط الزائد كذلك للشارع رفعه بمثل قوله : «رفع ما لا يعلمون» وبذلك ينحلّ العلم الإجماليّ ويرتفع الإجمال. والسرّ في ذلك أنّ حكم العقل بلزوم الامتثال إنّما هو لرعاية حكم الشارع ، وبعد رفع الشارع التكليف عن الأكثر ولو رفعا ظاهريّا يتعيّن كون المكلّف به هو الأقلّ ، فيحصل الامتثال التعبّدي بفعل الأقلّ ولا يجب الزائد عليه (١).

فلا وجه لإسناد الاحتياط في أطراف المعلوم بالإجمال في الأقلّ والأكثر في الأجزاء أو في الشرائط إلى المحقّق النائينيّ من دون تفصيل بين البراءة الفعليّة والشرعيّة ، فإنّه ـ كما عرفت ـ فصّل بينهما. وكيف ما كان فإن لم نقل بالبراءة أصلا فمقتضى الاحتياط هو أن لا نأتي بالصلاة من دون طهارة. وأمّا إذا قلنا بالبراءة فالإتيان بالصلاة من دون طهارة وإن كان جائزا إلّا أنّ مقتضى العلم الإجماليّ في ناحية الوضوء هو أن يأتي بالوضوء قبل الصلاة بقصد ما في الذمّة ولا يبطله قبل الصلاة ، وإلّا لم يحصل الاحتياط بين النفسيّ والغيريّ الذي هو واجب للتوصّل إلى واجب آخر. وعليه فلا تفاوت بحسب النتيجة بين القول بالانحلال والبراءة وبين

__________________

(١) راجع فوائد الاصول : ٤ / ٥٢ و ٦٩.

٤٩٥

عدمه في لزوم الإتيان بالوضوء قبل الصلاة وعدم الإتيان بالصلاة بلا طهارة ، فتدبّر جيّدا.

الثانية : أنّه إذا علم بوجوب شيء كالصلاة وبوجوب آخر كالوضوء وشكّ في كون وجوب الوضوء نفسيّا أو غيريّا وكان وجوب الصلاة مشروطا بشرط غير حاصل كالوقت فهل يجب الوضوء قبل الوقت أم لا ، ذهب بعض الأعاظم إلى البراءة لعدم العلم بالوجوب الفعليّ قبل الوقت ، فلا يجب الوضوء قبل الوقت.

اورد عليه في مناهج الوصول بأنّ ذلك يرجع إلى العلم الإجماليّ بوجوب الوضوء نفسا أو وجوب الصلاة المتقيّدة به بعد الوقت ؛ والعلم الإجماليّ بالواجب المشروط إذا علم تحقّق شرطه أو الواجب المطلق في الحال متنجّز عقلا فيجب عليه الوضوء في الحال والصلاة مع الوضوء بعد حضور الوقت.

نعم ، لو قلنا بعدم منجزيّة العلم الإجماليّ المذكور كان إجراء البراءة في الطرفين بلا مانع ، لكنّه خلاف التحقيق ، وقد اعترف بتنجيز العلم الإجماليّ في التدريجيّات ولو كان للزمان دخل خطابا وملاكا (١).

وفيه : أنّ مقتضى التأمّل أنّ شرط الوجوب هو واقع الوقت لا لحاظه ؛ وعليه فالعلم بحصول الشرط ـ أي الوقت ـ لا يكفي في تحقّق التنجيز ، فلا مانع من جريان البراءة بالنسبة إلى الوضوء قبل الوقت ؛ نعم ، لو لم يتمكّن من الوضوء بعد دخول الوقت يجب عليه الوضوء في الحال من جهة حكم العقل بقبح تفويت مراد المولى لا بتنجيز الخطاب.

هذا مضافا إلى ما في إسناد تنجيز العلم الإجماليّ في التدريجيّات إلى المحقّق المذكور ، ولو كان للزمان دخل خطابا وملاكا ، فإنّه لا يستفاد من عبارته الحكم

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٧٥.

٤٩٦

بالتنجيز فيما إذا كان للزمان دخل في الملاك والخطاب ولم يفت مراد المولى للتمكّن من الوضوء بعد الوقت ، فيجوز أن يجري البراءة قبل الوقت بالنسبة إلى الوضوء. نعم ، صرّح بعدم الفرق فيما إذا لم يتمكّن من الوضوء بعد دخول الوقت ، حيث قال : فالإنصاف أنّه لا فرق في تأثير العلم الإجماليّ في حرمة المخالفة ووجوب الموافقة بين أن لا يكون للزمان دخل في الملاك والخطاب وبين أن يكون له دخل فيهما ، غايته أنّه إذا لم يكن للزمان دخل فيهما فنفس أدلّة المحرّمات تقتضي وجوب الاحتياط في الأطراف بضميمة حكم العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكاليف ، وإن كان للزمان دخل فيهما فنفس أدلة المحرّمات لا تفي بذلك ، بل يحتاج إلى حكم العقل بقبح تفويت مراد المولى ، فتأمّل (١).

فإنّ مقتضى عدم وفاء الأدلّة بإفادة الوجوب هو جريان البراءة عن وجوب الوضوء قبل الوقت إذا لم يفت غرض المولى ، كما إذا تمكّن بعد دخول الوقت من الوضوء ؛ لعدم وفاء الأدلّة قبل الوقت بوجوب الوضوء بعد عدم تنجيزها بحصول الشرط الذي له دخل في الملاك والخطاب ، ولعلّه إليه أشار المحقّق المذكور بالأمر بالتأمّل ؛ وكيف ما كان فالأمر واضح.

الثالثة : أنّه إذا لم يعلم إلّا وجوب ما يحتمل كونه نفسيّا أو غيريّا ، مع احتمال أن يكون في الواقع واجب آخر مقيّد بما علم وجوبه في الجملة ، فإن كان الواجب الآخر على فرض احتمال كون المشكوك واجبا غيريّا فعليّا ، فقد يتوهّم عدم وجوب إتيان ما يحتمل كونه واجبا نفسيّا أو غيريّا لجريان البراءة عن وجوبه للشكّ في وجوب ما يحتمل اشتراطه به ، فلا يعلم حينئذ بوجوبه على كلّ حال.

دفعه المحقّق العراقي قدس‌سره بأنّ ذلك غير تامّ لما قرّر في باب الأقلّ والأكثر من لزوم

__________________

(١) فوائد الاصول : ٤ / ٣٦. ط قديم.

٤٩٧

الإتيان بالأقلّ المعلوم وجريان البراءة في الزائد المشكوك مع أنّ وجوب الأقلّ مردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا ، والمقام من هذا القبيل بلا فرق كما هو واضح ؛ نعم ، لو لم يكن الواجب الآخر على فرض احتمال كون المشكوك واجبا غيريّا واجبا فعليّا فلا يجب إتيان الواجب المردّد وجوبه لعدم العلم بواجب فعليّ على ذلك الفرض ، وما ذكرنا من التفصيل هو الظاهر من عبارة الكفاية ، ولكن بعض الأعاظم (قدس‌سرهم) نسب إليه جريان البراءة في النحو الأوّل وأشكل عليه بما ذكرنا ، ولكنّه ليس كذلك ؛ إذ الظاهر منه ـ كما أشرنا إليه ـ اختصاص البراءة بالنحو الثاني ، فراجع (١).

توضيح ذلك أنّ الصورة الثالثة المردّدة بين وجوب الأقلّ وهو الوضوء وبين وجوب الأكثر وهو الوضوء مع وجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء يدور أمرها بين الأقلّ والأكثر ؛ فالأقلّ وهو الوضوء معلوم الوجوب في الجملة سواء كانت الصلاة المتقيّدة بالوضوء واجبة أم لا ، كما أنّ في الصورة الاولى أيضا يكون الوضوء معلوم الوجوب سواء كانت الصلاة المعلوم وجوبها متقيّدة بالوضوء أم لم تكن وإنّما الفرق بينهما في أنّ وجوب الصلاة معلوم في الصورة الاولى دون الصورة الثالثة فإنّه محتمل. وعليه يجتمع العلم بالوضوء مع الشكّ في وجوب الصلاة المتقيّدة به في الصورة الثالثة كما اجتمع العلم بوجوب الوضوء مع الشكّ في تقييد الصلاة المعلوم وجوبها بالوضوء وعدمه ، ولا مجال للبراءة في الأقلّ المعلوم وجوبه بعد فعليّة خطابه أو خطاب الأكثر لو كان واجبا في الواقع ، فيجب الأقلّ كما هو المقرّر في كلّ مورد دار أمره بين الأقلّ والأكثر ، ودوران الأمر في الأقلّ بين النفسيّة والغيريّة لا يضرّ في المقام ، كما لا يضرّ في غير المقام.

ويقرّب منه ما حكي عن المحقّق النائيني قدس‌سره من أنّ القسم الثالث ما إذا علم

__________________

(١) بدائع الافكار : ١ / ٣٧٤.

٤٩٨

بوجوب ما شكّ في غيريّته ولكن شكّ في وجوب الغير ، كما إذا شكّ في وجوب الصلاة في المثال المتقدّم وعلم بوجوب الوضوء ، ولكن شكّ في كونه غيريّا حتّى لا يجب لعدم وجوب الصلاة ظاهرا بمقتضى البراءة أو نفسيّا حتّى يجب ؛ ففي هذا القسم يجب الوضوء دون الصلاة لأنّه من قبيل الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، حيث إنّ العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشكّ في وجوبها يقتضي وجوب امتثال ما علم ولا يجوز إجراء البراءة فيه ، مع أنّه يحامل كون ما عدا السورة واجبا غيريّا وكون المقام من قبيل المقدّمات الخارجيّة وهناك من قبيل الداخليّة لا يوجب فارقا (١).

أورد عليه : أوّلا : أنّ العلم التفصيليّ بوجوب الوضوء وتردّده بين الوجوب النفسيّ والغيريّ لا يمكن إلّا مع العلم الإجماليّ بوجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء نفسيّا ، وهذا العلم الإجماليّ لا ينحلّ إلّا بوجه محال كما عرفت ، وبعبارة اخرى يجب في الفرض المذكور بمقتضى العلم الإجماليّ الصلاة مع الإتيان بالوضوء قبلها ، ولا مجال للبراءة عن وجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء (٢).

ويمكن الجواب عنه بأنّ مقصود العلمين أنّ وجوب الوضوء مفروغ عنه ، وإنّما الشكّ في كيفيّة وجوبه هل يكون نفسيّا أو غيريّا من جهة احتمال وجود واجب آخر فعليّ متقيّد به فلا يكون الصلاة المتقيّدة بالوضوء طرفا للعلم الإجماليّ حتّى لا ينحلّ إلّا بوجه محال ، ولكنّه غير مجد بعد رجوع العلم بوجوب الوضوء والشكّ في كيفيّة وجوبه إلى العلم الإجماليّ بوجوب الوضوء نفسيّا أو وجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء نفسيّا كالصورة الاولى.

والعلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ المردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا عين العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين النفسيّ والغيريّ ؛ ومثل هذا العلم التفصيليّ لا يعقل أن

__________________

(١) فوائد الاصول : ١ / ٢٢٣. ط جديد.

(٢) منهاج الاصول : ١ / ٣٧٦.

٤٩٩

يوجب الانحلال ، لأنّ مرجعه ـ كما عرفت ـ إلى أن يكون العلم الإجماليّ موجبا لانحلال نفسه وهو محال.

ومعلوميّة وجوب الصلاة والشكّ في تقييدها أو عدم معلوميّة وجوبها متقيّدا لا يوجب الفرق. وعليه فلا فرق بين الصورة الثالثة والصورة الاولى في وجوب الاحتياط بإتيان الصلاة متقيّدة بالوضوء.

وثانيا : أنّ تصوّر الشكّ البدويّ للصلاة مع العلم التفصيليّ الكذائيّ بوجوب الوضوء جمع بين المتنافيين ، والعجب منه ـ أي المحقّق النائينيّ حيث قال :

وعلم بوجوب الوضوء ولكن شكّ في كونه غيريّا حتّى لا يجب ، ، ، كيف جمع بين العلم بالوجوب والشكّ فيه (١).

يمكن أن يقال : إنّ مفروغيّة وجوب الوضوء مع الشكّ في كيفيّة وجوبه تساعد دعوى العلم بالوضوء والشكّ في كونه نفسيّا أو غيريّا والعلم التفصيليّ بأصل الوجوب مع الشكّ في خصوصيّاته ، فإنّ العلم من جهة أصل وجوبه ، والشكّ من ناحية كيفيّته من النفسيّة والغيريّة.

وثالثا : أنّ الفرق بين المقام والأقلّ والأكثر في الأجزاء واضح ، اعترف به المحقّق النائيني قدس‌سره في باب الأقلّ والأكثر ، فإنّ المانع من الانحلال هو الدوران بين النفسيّة والغيريّة وفي الأجزاء ليس الدوران بينهما ، والتفصيل موكول إلى محلّه (٢) إذ وجوب الأقلّ نفسيّ في الأجزاء ، سواء كان متعلّق التكليف هو الأقلّ أو الأكثر ، فإنّ الأجزاء تجب بعين وجوب الكلّ ولا يجتمع في الأجزاء الداخليّة وجوب النفسيّ مع الغيريّ ؛ هذا بخلاف المقدّمات الخارجيّة ، فإنّ الوجوب النفسيّ لا مجال له في الأقلّ على تقدير كون الأكثر واجبا.

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٧٦.

(٢) مناهج الوصول : ١ / ٣٧٦.

٥٠٠