عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

تعلّقه بفعل الغير (١).

وممّا ذكر يظهر أنّ قياس الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة والقول بأنّ الإرادة التشريعيّة تابعة للتكوينيّة إمكانا وامتناعا ووجودا وعدما فكلّ ما يكون موردا للإرادة التكوينيّة عند تحقّقها من نفس المريد يكون موردا للتشريعيّة عند صدورها من غير المريد في غير محلّه ، فإنّ تعلّق الإرادة التكوينيّة بالمقدّمات تبعا للإرادة إلى ذيها ممكن ، بخلاف تعلّق الإرادة بالمقدّمات من الغير ، فإنّ تعلّق الإرادة بعمل الغير غير معقولة ، والمعقول هو إرادة البعث إلى الشيء ، وقد عرفت أنّ عدم البعث في غالب الموارد شاهد عدم وجودها وإلّا لزم التخلّف بين العلّة والمعلول.

هذا مضافا إلى أنّ تعلّق إرادة البعث بالمقدّمات مع صحّة انبعاث العبد بالبعث إلى ذيها لنحو لا يتحقّق من الحكيم ، إذ لا غاية لها ولا فائدة ، اللهمّ إلّا أن يكتفى في الفائدة بإمكان التقرّب بامتثال الأمر المولويّ الشرعيّ التبعيّ كما مرّ تقريبه سابقا ، فتأمّل.

وعليه ، فما ورد في الشرع من الأوامر الغيريّة يحمل على أحد الأمور من الإرشاد إلى الشرطيّة لمن جهل بها كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) الآية أو الإرشاد إلى ما حكم العقل كالأمر بإطاعة الله أو لتأكيد ذي المقدّمة كناية. إذ ليس المراد منها الأوامر المولويّة لما عرفت ، ولذلك قال سيّدنا المحقّق الداماد قدس‌سره : يحتمل أن يكون إرادة المقدّمات من باب أنّ المولى أحد من العقلاء لا من باب المولويّة ، فمجرّد تعلّق الإرادة نحو المقدّمات لا يدلّ على أنّ الإرادة كانت مولويّة ، وأيضا قال سيّدنا الفقيه الكلبايكاني قدس‌سره : إنّ المولى بعد ما يرى أنّ تشريع الحكم نحو مطلوبه كاف في محرّكيّة العبد وكاف في إحداث خوف المخالفة في نفسه ، بحيث تحرّكه تلك الإرادة النفسيّة إلى مطلوبه مع ما يتوقّف عليه

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٤١٢.

٦٠١

من المقدّمات ، فما الملزم ، بل وما الباعث له في تشريع الحكم نحو المقدّمات أو انقداح الإرادة نحوها. وقال شيخنا الاستاذ الأراكيّ قدس‌سره مضافا إلى ما مرّ أنّ القول بوجوب المقدّمة يستلزم اجتماع الأمرين في المقدّمة الداخليّة لكونها نفس المركّب فيتعلّق بها الأمر النفسيّ المتعلّق بالمركّب والأمر الغيريّ.

ولكن لقائل أن يقول : إنّا لا نسلّم عدم معقوليّة تعلّق الإرادة بنفس عمل الغير ، فإنّ المقدور بالواسطة مقدور ، فعمل الغير وإن لم يكن بنفسه مقدورا ، ولكن إرادته بواسطة مقدوريّة مبادئه معقول وهو إيجاد الداعي نحو إتيانه بالبعث إليه ، والمفروض أنّ البعث إليه كالبعث إلى ذي المقدّمة معقول في نفسه وإن لم يكن حاجة إليه بعد بعثه إلى ذي المقدّمة.

فكما أنّ المسبّبات التوليديّة مقدورة بمقدوريّة أسبابها ، كمقدوريّة الإحراق بمقدوريّة الإلقاء في النار ، كذلك يكون عمل الغير سواء كان من المقدّمات أو ذيها مقدورا ويصحّ إرادته بإمكان مباديها والقدرة عليها. فإذا عرفت معقوليّة تعلّق الإرادة بعمل الغير فالإرادة التشريعيّة تابعة للإرادة التكوينيّة ؛ فإذا أراد المولى من عبده الإتيان بشيء كان ذلك ملازما لإرادته لمقدّماته ، كما إذا كان نفسه مريدا لذلك الشيء ، فيصحّ القول بأنّ الإرادة التشريعيّة تابعة للتكوينيّة إمكانا وامتناعا ووجودا وعدما ، فكلّ ما يكون موردا للإرادة التكوينيّة عند تحقّقها من نفس المريد يكون موردا للتشريعيّة عند صدورها من غير المريد. لا يقال : إنّ الإرادة من دون البعث لا توجب لزوم الإتيان لزوما تشريعيّا ، والمفروض في المقام عدم تحقّق البعث في غالب الموارد.

لأنّا نقول : أنّ الإرادة الحتميّة ولو كانت تقديريّة كفت في لزوم الإتيان ، ألا ترى أنّ إرادة الإنقاذ ولو لم يبعث إليه لعدم التمكّن منه كافية في وجوب الإنقاذ على العبد ، بل لو لم يلتفت المولى إلى أنّ ابنه غرق كانت الإرادة التقديريّة موجبة لوجوب العمل عليه. وعليه ، فإيجاب العمل لا يتوقّف على البعث الخارجيّ. وفي المقام بعد وجود

٦٠٢

الملازمة بين إرادة ذي المقدّمة وإرادة المقدّمة مولويّا كفى ذلك في لزوم الإتيان بها مولويّا ، فلا يضرّ عدم تحقّق البعث الخارجي في غالب الموارد لعدم الحاجة إليه بعد البعث إلى ذيها.

فتحصّل أنّ الملازمة محقّقة بين الإرادة المولويّة الشرعيّة لذي المقدّمة والإرادة المولويّة الشرعيّة للمقدّمات ، كما يكون كذلك بالنسبة إلى الإرادة التكوينيّة ؛ والحاكم بوجودها هو الوجدان. وعدم تحقّق البعث إلى المقدّمات لا يكشف عن عدم وجود الإرادة المولويّة بالنسبة إلى المقدّمات للاكتفاء فيه بالبعث إلى ذي المقدّمات. وعليه ، فإرادة المقدّمات مولويّا تكفي في لزوم الإتيان بها شرعا ، كما يكون كذلك في سائر الموارد التي تحقّقت الإرادة المولويّة من دون بعث في الخارج ، واحتمال أن يكون إرادة المقدّمة من باب كون المولى أحدا من العقلاء. واللابدّيّة العقليّة مندفع بأنّ اللابدّيّة العقليّة هي درك الضرورة لا الإرادة ، والمفروض في المقام هو وجدان إرادة المقدّمات بتبع إرادة ذيها ، ولذا يرغب ويحرّك نحوها فيما إذا رأى أنّ المخاطب لم يأت بها ، وأيضا عدم الداعي إلى البعث نحوها لا ينافي انقداح الإرادة نحوها بعد ملاحظة توقّف ذيها عليها كالإرادات التكوينيّة.

وأمّا لزوم اجتماع الأمرين في المقدّمات الداخليّة ففيه منع بعد تعدّد الحيثيّات في الأجزاء ، إذ البعث عقليّ والحيثيّات التعليليّة ترجع إلى الحيثيّات التقيّديّة فيتعدّد الموضوع باعتبارها ، فلا يجتمع الأمران في شيء واحد ، كما لا يخفى.

وممّا يذكر يظهر ما في المحاضرات من أنّ الإرادة بمعنى الشوق المؤكّد ليست من مقولة الحكم في شيء ضرورة أنّ الحكم فعل اختياريّ للشارع وصادر منه باختياره وإرادته. وإن أريد منها الاختيار وإعمال القدرة نحو الفعل فهي بهذا المعنى وإن كانت من مقولة الإفعال إلّا أنّ الإرادة التشريعيّة بهذا المعنى باطلة ، وذلك لما تقدّم من استحالة تعلّق الإرادة بهذا المعنى ، أي إعمال القدرة بفعل الغير. وإن اريد منها الملازمة

٦٠٣

بين اعتبار شيء على ذمّة المكلّف وبين اعتبار مقدّماته على ذمّته فالوجدان أصدق شاهد على عدمها ، بداهة أنّ المولى قد لا يكون ملتفتا إلى توقّفه على مقدّماته كي يعتبرها على ذمّته ، على أنّه لا مقتضى لذلك بعد استقلال العقل بلابدّيّة الإتيان بها حيث إنّه مع هذا لغو صرف (١).

وذلك لما عرفت من أنّ الإرادة المولويّة وإن لم تكن من مقولة الحكم في شيء كافية في وجوب العمل ولو لم يأمر لعدم التمكّن منه ، بل الإرادة التقديريّة للمولى أيضا كذلك فضلا عن الإرادة الفعليّة ، فوجوب العمل من مقتضيات إرادة المولى. هذا مضافا إلى إمكان منع الاستحالة في تعلّق الإرادة بمعنى إعمال القدرة بفعل الغير ، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور ، فعمل الغير مع صدوره عن اختياره مقدور بواسطة مقدوريّة البعث وجعل الداعي إليه. لا يقال : إنّ البعث إلى المقدّمات مع البعث إلى ذيها غير لازم فكيف يؤثّر في مقدوريّة عمل الغير. لأنّا نقول : يكفي في مقدوريّة عمل الغير إمكان البعث إليه ولا يتوقّف المقدوريّة على تحقّق البعث الخارجيّ. وعليه ، فلا يضرّ بالمقدوريّة عدم البعث الخارجيّ لعدم الحاجة إليه بعد البعث إلى ذي المقدّمة.

فالأقوى هو صحّة دعوى الملازمة الشرعيّة بين الإرادتين ، كما يشهد له وجدان إرادة المقدّمات من الغير كمطالعة الدروس من الولد ، فإنّها مقدّمة بالنسبة إلى مقاصد التحصيل ؛ ومن المعلوم أنّ الإرادة غير الإرشاد أو غير تأكيد إرادة ذي المقدّمات. ولعلّ مراد الشيخ قدس‌سره من دعوى الملازمة بين الطلبين أيضا هو ذلك ، إذ يستعمل الطلب بمعنى الإرادة أحيانا ، فتدبّر جيّدا.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ ثبوت الملازمة الشرعيّة لا يستلزم أن يكون للمقدّمات ثواب وعقاب وإطاعة وعصيان على حدّة ، لأنّ الأوامر الغيريّة وإن كانت شرعيّة ولكنّها

__________________

(١) المحاضرات : ٢ / ٤٣٨.

٦٠٤

تابعة في الأمور المذكورة للأوامر الأصليّة كما عرفت سابقا ، فلا تغفل.

وربّما يبرهن على وجود الملازمة بأنّ المقدّمة واجبة ، إذ لو لم تكن واجبة لم يمنع من تركها ، فإذا لم يكن الترك ممنوعا وتركه فإن بقي ذو المقدّمة على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإلّا انقلب الواجب المطلق عن وجوبه.

وفيه أنّ عدم المنع الشرعيّ من ترك المقدّمة لا يوجب جواز تركه بعد حكم العقل بلا بدّيّة الإتيان بالمقدّمة لامتثال الأمر بذيها ، فحينئذ إذا ترك المقدّمة بسوء الاختيار لا يوجب ذلك أحد المحذورين ، فإنّه كما أفاد في الكفاية وإن لم يبق له وجوب مع ترك المقدّمة إلّا أنّه كان ذلك بالعصيان لكونه متمكّنا من الإطاعة والإتيان ، وقد اختار تركه بترك مقدّمته بسوء الاختيار مع حكم العقل بلزوم إتيانها إرشادا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب (١).

فلا محذور في اختلاف حكم المقدّمة مع ذيها ، كما ربّما يختلف حكم المتلازمين لأنّ تعلّق الحكم بأحد المتلازمين لوجود المصلحة فيه لا يسرى إلى الآخر لخلوّه عن المصلحة ، وإلّا لزم تعلّقه به بلا ملاك ، وهو ممتنع ، نعم ، يلزم أن لا يكون حكم الآخر مضادّا له ، فلا تغفل.

فدعوى الملازمة بين إرادة المقدّمة وإرادة ذيها لا برهان لها ، وإنّما يشهد لها الوجدان بما عرفت من التقريب ، ولذلك كان الأولى أن يقال إنّ الملازمة وجدانيّة لا عقليّة ، فما اشتهر من أنّ الملازمة عقليّة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة أو بين إرادة ذي المقدّمة وإرادة المقدّمة منظور فيه لعدم قيام برهان عقليّ على ذلك ، وإنّما الدليل عليه هو الوجدان ، فلا تغفل.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ التفصيل بين المقدّمات من جهة السبب وغيره والقول بوجوب

__________________

(١) الكفاية : ١ / ٢٠٢.

٦٠٥

الأوّل دون الثاني ، من جهة أنّ التكليف لا يتعلّق إلّا بالمقدور والمقدور فيما إذا كانت المقدّمة سببا هو السبب لا المسبّب ليس تفصيلا في الواجب الغيريّ ، بل هو تحديد لمتعلّق الواجب النفسيّ ، ويرجع إلى أنّ الأمر النفسيّ فيما إذا كانت المقدّمات من الأسباب متعلّق بنفس الأسباب دون المسبّبات لعدم القدرة عليها.

هذا مضافا إلى ما فيه من كفاية القدرة مع الواسطة في صحّة التكليف ، والمفروض أنّ المسبّبات مقدورة بواسطة أسبابها.

والقول بلزوم كون المسبّبات من أفعال المكلّف في صحّة التكليف فلا يصحّ التكليف بما يكون صادرا من السبب ولو بالطبع كالإحراق المسبّب من النار ، كما ذهب إليه استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره غير سديد لما في بدائع الأفكار من أنّ المسبّب من أفعال المكلّف بنظر العرف.

هذا مضافا إلى أنّه يكفى في متعلّق التكليف مجرّد الاستناد إلى المكلّف وإن لم يكن فعلا له ، والمفروض أنّ المسبّب مستند إلى المكلّف بالنظر الدقّيّ (١).

وربّما يخصّص الوجوب الشرعيّ في المقدّمات بالشرعيّ منها واستدلّ عليه بأنّه لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا ، حيث إنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلا أو عادة.

أورد عليه بأنّ توقّف المقدّميّة على الوجوب الغيريّ إن كان في مقام الثبوت يلزم الدور ، فإنّ الوجوب الغيريّ متوقّف على المقدّميّة ، فإن كانت المقدّميّة متوقّفة على الوجوب الغيري لدار ، وهو محال وإن كان التوقّف في مقام الإثبات بمعنى أنّ العلم بالشرطيّة يتوقّف على الوجوب الغيريّ فلا يلزم الدور ، ولكن يرد عليه منع التوقّف المذكور ، وذلك كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره أنّ الوجوب الغيريّ التبعيّ لا يمكن أن يكون كاشفا عن الشرطيّة لأنّ الملازمة الواقعيّة بين الإرادتين بنحو الكبرى الكلّيّة

__________________

(١) بدائع الأفكار : ١ / ٤٠١.

٦٠٦

لا يمكن أن تكون كاشفة عن الصغرى ، وكذا الملازمة بين البعث إلى ذي المقدّمة والبعث التبعيّ إلى مقدّمته (١) ، بل العلم بالمقدّميّة أو الشرطيّة يحصل بأحد الأنحاء ، منها الإخبار بذلك ـ أعني المقدّميّة ـ ومنها النهي الإرشاديّ عن استعماله في الفعل المركّب ، كقوله عليه‌السلام : «لا تصلّ في أجزاء ما لا يؤكل لحمه» فإنّه يفيد مانعيّة أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، ومنها الإنشاء ـ أعني التكليف إلى ذي المقدّمة متقيّدا بالشرط ـ كقوله : «صلّ متطهّرا» ، ومنها الأمر الإرشاديّ إلى المقدّمة كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الآية. وغير ذلك من الأنحاء.

فإذا ثبت مقدّميّة شيء أو شرطيّته شرعا فهي كالمقدّمات العقليّة والعاديّة في صدق معنى الشرط عليه من أنّه ما ينتفى بانتفائه المشروط ، وبعد ذلك فالمقدّمة الشرعية كالمقدّمات العقليّة ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فلا وجه للتفصيلات المذكورة في الملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها ، وقد عرفت أنّ الوجدان يشهد بوجود الملازمة بين إرادة ذي المقدّمة وذيها شرعا ، من دون فرق بين كون المقدّمة سببا وعدمه ، وبين كون المقدّمة شرعيّا وعدمه ، فلا تغفل.

مقدّمة المستحبّ

ولا يغب عنك أنّه لا فرق بين الوجوب والاستحباب فيما عرفت من وجدان الملازمة لوجود ملاك الملازمة فيهما وهو التوقّف والمقدّميّة في كلّ من مقدّمتي الواجب والمستحبّ ، فإذا أردنا شيئا مع العلم بأنّه لا يتحقّق إلّا بمقدّمات أردنا مقدّماته سواء كانت إرادتنا لذيها إرادة وجوبيّة أو ندبيّة ، فكما أنّ الأمر كذلك في الإرادة الفاعليّة فالأمر كذلك في الإرادة التشريعيّة لما عرفت من تطابق الإرادة التشريعيّة والإرادة التكوينيّة.

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٤١٥.

٦٠٧

لا يقال : إنّ الإرادة لا تتعلّق بالشيء في المستحبّات على كلّ تقدير لجواز عدم إرادتها ، ومعه كيف تلازم الإرادة لذي المقدّمة لإرادة مقدّماته.

لأنّا نقول : الملازمة حاصلة بالوجدان بينما إرادة الشيء وإرادة مقدّماته ، فإذا لم يرد المستحبّ فلا إرادة حينئذ لمقدّماته ، كما لا يخفى.

مقدّمة الحرام والمكروه

ولا يخفى عليك أنّ المقدّمة إن كانت من المقدّمات التوليديّة سواء كانت أمرا بسيطا أو مركّبا من أجزاء متلازمة في الوجود أو جزءا أخيرا من العلّة المركّبة من أجزاء غير متلازمة في الوجود فلا إشكال في كونها محكومة بحكم ذيها بناء على الملازمة ؛ فإن كان ذوها محرّما فهي حرام شرعا ، وإن كان مكروها فهي مكروهة شرعا.

بل في غير التوليديّات أيضا ينتهي الأمر إلى التوليديّ ويكون محكوما بحكم ذي المقدّمة ، كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال : إنّ النفس لمّا كانت فاعلة بالآلة في العالم الطبيعيّ لا يمكن أن تكون إرادتها بالنسبة إلى الأفعال الخارجيّة الماديّة جزءا أخيرا للعلّة بحيث لا يتوسّط بينها وبين الفعل الخارجيّ شيء حتّى من آلاتها وتكون النفس خلّاقة بالإرادة ، بل هي مؤثّرة في الآلات والعضلات بالقبض والبسط حتّى تحصل الحركات العضويّة وترتبط بواسطتها بالخارج وتتحقّق الأفعال الخارجيّة.

مثلا إذا أمر المولى بشرب الماء ، فالشرب عبارة عن بلع الماء وإدخاله في الباطن بتوسّط الحلقوم ، ولم يحصل هذا العنوان بمجرّد الإرادة ، بل تتوسّط بينه وبينها حركات العضلات المربوطة بهذا العمل ، وهي أمور اختياريّة للنفس وتوليديّة للشرب.

فالمتوسّط بينها وبين الشرب والضرب والمشي والقيام وهكذا تحريكات اختياريّة وأفعال إراديّة قابلة لتعلّق التكليف بها.

فالمشي مثلا لا يتحقّق بنفس الإرادة بحيث تكون هي مبدأ خلّاقا له بلا توسّط الآلات

٦٠٨

وحركاتها وتحريك النفس إيّاها بتوسّط القوى المنبثّة التي تحت اختيارها.

نعم ، لا يتوسّط بين الإرادة والمظاهر الأوّليّة للنفس في عالم الطبيعة متوسّط. انتهى موضع الحاجة (١).

فإذا انتهى الأمر في الاختياريّات إلى التوليديّ فالجزء الأخير من المقدّمات محكوم بحكم ذيها أيضا ؛ مثلا أنّ الجزء الأخير لتحقّق موضوع الشرب هو تحريك عضلات الحلقوم وقبضها حتّى يتحقّق البلع والازدراد ، وهو فعل اختياريّ للنفس ، ولكنّه توليديّ بالنسبة إلى الشرب ومحكوم بحكم الموضوع أيضا ، فلا فرق في التوليديّات وغيرها في محكوميّة المقدّمة بحكم ذيها ، وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية من التفصيل بين التوليديّات وغيرها في محكوميّة المقدّمات بحكم ذيها في الاولى دون الثاني.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ بناء على الملازمة بين حكم المقدّمة وذيها ؛ هل يحرم جميع المقدّمات كما تجب جميع مقدّمات الواجب الموصلة ، أو يحرم الجزء الأخير إذا كانت أجزاء العلّة مترتّبة ، أو أحد الأجزاء إذا كانت متلازمة في الوجود وعرضية؟

ذهب المحقّق العراقي قدس‌سره إلى حرمة الجميع قائلا بأنّ المبغوضيّة كالمحبوبيّة قائمة بوجود الفعل أوّلا ، وبالذات. واتّصاف ترك المبغوض بالمحبوبيّة كاتّصاف ترك المحبوب بالمغبوضيّة يكون ثانيا وبالعرض ؛ ولذا لم يكن ترك الواجب حراما نفسيّا.

فمقوّم الحرمة هو مبغوضيّة الوجود كما أنّ مقوّم الوجوب محبوبيّته ، ومقتضى ذلك سراية البغض إلى علّة الفعل المبغوض ، فيكون كلّ جزء من أجزاء العلّة التوأم مع وجود سائر أجزائها بنحو القضيّة الحيثيّة مبغوضا بالبغض التبعيّ وحراما بالحرمة الغيريّة ، كما كان الأمر في مقدّمة الواجب من دون فرق بينهما أصلا (٢).

اورد عليه في مناهج الوصول بأنّ مبغوضيّة الفعل لا يمكن أن تكون منشأ لمبغوضيّة

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٤١٥.

(٢) بدائع الافكار : ١ / ٤٠٣.

٦٠٩

جميع المقدّمات لعدم المناط فيها على نحو العامّ الاستغراقيّ ، لأنّ البغض لشيء يسري إلى ما هو محقّق وجوده وناقض عدمه وغير الجزء الأخير من العلّة أو مجموع الأجزاء في المركّب غير المترتّب لا ينقض العدم.

وقوله إنّ الجزء التوأم مع سائر الأجزاء مبغوض من قبيل ضمّ ما ليس بالدخيل إلى ما هو الدخيل فإنّ المجموع بما هو مجموع وإن كان مبغوضا لأنّه العلّة التامّة لتحقّق الحرام ، لكن كلّ واحد ليس كذلك بنحو القضيّة الحينيّة لعدم الملاك فيه (١).

يمكن أن يقال : إنّ مقتضى كون النهي هو الزجر عن الفعل هو تعلّق الزجر عن علّة الفعل وهي مقدّماته الموصلة بناء على الملازمة الشرعيّة ، إذ ليس ملاك المبغوضيّة والزجر موجودا في كلّ واحد من الأجزاء مع قطع النظر عن سائر الأجزاء ولو كان الجزء هو الجزء الأخير وعليه ، فلا وجه لتخصيص الزجر والمبغوضيّة بالجزء الأخير لأنّه أيضا أحد الأجزاء وليس فيه ـ مع قطع النظر عن سائر الأجزاء ـ ملاك للمبغوضيّة.

وعليه ، فتخصيص الزجر بالجزء الأخير مع عدم انفكاكه عن سائر الأجزاء كما ترى ، إذ كلّ جزء من دون سائر الأجزاء ليس مخرجا للفعل من العدم إلى الوجود ، بل المخرج هو العلّة التامّة وهي ليست الجزء الأخير من دون سائر الأجزاء. وعليه ، فالناهي يبغض المقدّمات الموصلة المخرجة للفعل من العدم إلى الوجود وهي العلّة التامّة المركّبة من المقدّمات لا كلّ واحد بحيث كان مبغوضا ولو في حال انفكاكه عن بقية الأجزاء ، ولذلك قلنا في محلّه بأنّ حرمة تصوير ذوات الأرواح تقتضي حرمة تصوير جميع أجزاء الصورة الموصلة المنتهية إلى الصورة الكاملة ، لا خصوص الجزء الأخير منها ، ولا بعض الأجزاء منفكّا عن سائر الأجزاء.

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٤١٩.

٦١٠

وهذا هو مراد المحقّق العراقيّ من مبغوضيّة كلّ جزء من أجزاء العلّة التوأم مع وجود سائر الأجزاء مبغوضا بالبغض التبعيّ ، لا كلّ جزء من دون سائر الأجزاء. ولا إشكال فيه إلّا ما أشرنا إليه واخترناه سابقا من أنّ الإيصال قيد للمقدّمات لا حالها ، فإنّ الحيثيّات التعليليّة ترجع إلى الحيثيّات التقيّديّة في الأحكام العقليّة ، فالقضيّة الحينيّة لا مورد لها.

فما ذهب إليه في المناهج يناسب القول بأنّ النهي هو طلب الترك دون الزجر عن الفعل ، فإنّ من أراد ترك شيء لا تتعلّق إرادته بترك كلّ واحد من مقدّماته ، بل تتعلّق بترك ما هو مخرج مبغوضه إلى الوجود. وقد عرفت أنّ الحرمة ليست بمعنى المحبّة للترك وطلبه ، بل هي الزجر عن الفعل ؛ كما أنّ الأمر هو البعث نحو الفعل والتعبير عن الحرام بأنّ تركه واجب ، وعن الواجب بأنّ تركه حرام أمر انتزاعيّ ولا يكون من مداليل الأمر والنهي. كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره ، فتأمّل.

وكيف كان ، فمقدّمة الحرام محرّمة فيما إذا كانت موصلة.

إلى هنا تمّ بحث مقدّمة الواجب والحرام ولله الحمد.

٦١١

الخلاصة :

المقام العاشر : في ما هو الواجب في باب المقدّمة

والمشهور ذهبوا إلى أنّ الواجب هو ذات المقدّمة من دون اعتبار أي قيد فيه وفي قباله اعتبار خصوص ما قصد به التوصّل إلى ذي المقدّمة أو خصوص ما يكون موصلا أو خصوص ما قصد به التوصّل ويكون موصلا إلى ذي المقدّمة.

دليل المشهور

يدلّ على ما ذهب إليه المشهور تعريف المقدّمة الواجبة بأنّه هي ما لولاها لما أمكن حصول ذي المقدّمة إذ ذات المقدّمة ممّا لا يتمكّن من ذي المقدّمة بدونها فالواجب هو ذات المقدّمة لتوقّف ذيها عليها.

اورد عليه بأنّ هذا التعريف يصدق على أحد المتلازمين أيضا إذ لا يتمكّن من كلّ واحد إلّا بوجود الآخر مع أنّه ليس بمقدّمة واجبة.

هذا مضافا إلى شهادة الوجدان على عدم مطلوبيّة المقدّمة إذا كانت منفكّة عن ذيها ولذا نرى العقلاء يحكمون من دخل في دار الغير عند غرق مؤمن فيها لداعي التنزّه مع أنّه ممّا يتوقّف عليه الإنقاذ ويجوز أن يصرّح الآمر الحكيم بأنّي لا أريد ما لا يتوصّل إلى الواجب.

فيعلم من ذلك أنّ ملاك مطلوبيّة المقدّمة ليس مجرّد التوقّف فدعوى أنّ الواجب هو ذات المقدّمة لا دليل له وإن ذهب المشهور إليه فلا تغفل.

دليل اعتبار القصد

واستدلّ لدخالة قصد التوصّل في مصداقيّة المقدّمة للواجب بأمر.

أحدهما : رجوع الحيثيّات التعليليّة إلى الحيثيّات التقييديّة في الأحكام العقليّة

٦١٢

ومقتضى ذلك أنّ الواجب بحكم العقل هو المتوصّل لا ذات الشيء لغاية التوصّل.

اورد عليه بأنّ الأحكام العقليّة على قسمين :

أحدهما : العمليّة ومباديها هو بناء العقلاء على الحسن والقبح ومدح فاعل بعض الأفعال وذمّ فاعل بعضها الآخر وموضوع الحسن مثلا التأديب لا الضرب لغاية التأديب إذ ليس هناك بعث من العقلاء لغاية بل مجرّد بنائهم على المدح والممدوح هو التأديب لا الفعل بغاية التأديب.

وثانيهما : النظرية ولا تتكفّل فيه إلّا الإذعان بالواقع والمقام من قبيل الثاني إذ من الواضح أنّ العقل لا يتكفّل فيه إلّا الإذعان بالواقع وليس حكم العقل إلّا الإذعان بالملازمة بين الإرادتين لا أنّه حكم ابتدائيّ بوجوب الفعل عقلا حتّى لا يكون له معنى إلّا الإذعان بحسنه حيث لا بعث ولا زجر من العاقلة ينتج أنّ الحسن في نظر العقل هو المتوصّل لا الفعل لغاية التوصّل.

يمكن أن يقال : إنّ الإدراكات العقليّة يعبّر عنها بالأحكام العقليّة وهذه الأحكام إذا كانت معلّلة بحيثيّات ترجع تلك الحيثيّات التعليليّة إلى الحيثيّات التقييديّة سواء كانت عمليّة أو نظريّة وحكم العقل العمليّ بحسن الفعل للتأديب متصوّر كحكمه بحسن التأديب ولا فرق بينهما إلّا في أنّ الأوّل ينتهي إلى الثاني دون الثاني فإنّه لا ينتهي إلى الأوّل ومع تصوّر الحكم بحسن الفعل للتأديب يشمله ما ذكر من أنّ أحكام التعليليّة العقليّة ترجع إلى التقييديّة.

وهكذا يكون حكمه بتلازم إرادة ذي المقدّمة لإرادة المقدّمات من جهة التوصّل بها إليها ينتهي إلى الحكم بتلازم إرادة ذي المقدّمة مع إرادة المقدّمة المتقيّدة بالتوصّل بها إليها ولا فرق في ذلك بين أن يعبّر عن الحكم المذكور بالإذعان أو لا يعبّر لأنّ الإذعان أيضا حكم من الأحكام ولو سلم أنّه ليس بحكم فنفس الإذعان والإدراك أيضا يكون كالحكم في رجوع الحيثيّات التعليليّة إلى الحيثيّات التقييديّة ولا خصوصيّة

٦١٣

للحكم بمعناه الاصطلاحيّ.

نعم يمكن أن يقال : بأنّ علّة الحكم أو جهة الإدراك ليس عنوان قصد التوصّل بل هي كما سيأتي نفس التوصّل والإيصال فلا تغفل.

وأمّا ما يقال من أنّ الجهات التعليليّة في الأحكام العقليّة وإن ترجع إلى الجهات التقييديّة إلّا أنّه أجنبيّ عن محلّ الكلام في المقام لأنّ وجوب المقدّمة عقلا بمعنى اللابدّيّة خارج عن مورد النزاع وغير قابل للإنكار وإنّما النزاع في وجوبها شرعا الكاشف عنه العقل وكم فرق بين الحكم الشرعيّ الذي كشف عنه العقل والحكم العقليّ والجهات التعليليّة في الأحكام الشرعيّة لا ترجع إلى الجهات التقييديّة.

ففيه أنّ العقل إذا كشف عن حكم بملاكه العقليّ لا يمكن أن يكشف أوسع أو أضيق من ملاكه ولا موضوع آخر غير حيثيّة الملاك.

وثانيهما : إنّ التوصّل إذا كان بعنوانه واجبا فما لم يصدر هذا العنوان عن قصد واختبار لا يقع مصداقا للواجب وإن حصل منه الغرض مع عدم القصد والعمد إليه.

أورد عليه بأنّ الممدوح عليه هو التأديب بالحمل الشائع كما أنّ الواجب هنا هو التوصّل بالحمل الشائع إلّا أنّ التأديب بالحمل الشائع اختياريّة بقصد عنوان التأديب لا باختياريّة الضرب فإنّه إذا صدر الضرب فقط بالاختبار لم يصدر منه تأديب اختياريّ بخلاف التوصّل بالحمل الشائع فإنّ عنوانه لا ينفكّ عن المشي إلى السوق فإذا صدر المشي بالاختيار كان توصّلا اختياريّا من دون لزوم قصد عنوان التوصّل.

ووجّه بعض الأعلام اعتبار قصد التوصّل من بعض الفحول بأنّ مراده فيما إذا وقعت المزاحمة بين الوجوب الغيريّ والحرمة النفسيّة كما إذا توقّف واجب نفسيّ كإنقاذ الغريق مثلا على مقدّمة محرّمة بنفسها كالتصرّف في مال الغير فبطبيعة الحال تقع المزاحمة بين الوجوب الغيريّ والحرمة النفسيّة وعليه فإن جاء المكلّف بالمقدّمة قاصدا بها التوصّل إلى الواجب النفسيّ ارتفعت الحرمة عنها لأهميّة الإنقاذ من

٦١٤

التصرّف في مال الغير فلا محالة يوجب سقوط الحرمة عنه وأمّا إن جاء بها لا بقصد التوصّل بل بقصد التنزّه فلا موجب لسقوط الحرمة عنه أبدا.

ويمكن أن يقال : إنّ مناط مطلوبيّة المقدّمة هو وقوعها في طريق الإنقاذ ولو لم يكن مع قصد التوصّل وعليه ففي صورة المزاحمة لا دخل لقصد التوصّل وإنّما المدخليّة لنفس التوصّل فالسلوك في الأرض المغصوبة إذا وقع في طريق الإنقاذ لا يكون محرّما بداهة أنّه لا يعقل بقاؤه على حرمته مع توقّف الواجب الأهمّ عليه ولا فرق في ارتفاع الحرمة عنه عن خصوص هذه المقدّمة بين أن يكون الآتي بها قاصدا للتوصّل بها إلى الواجب المذكور أم لا غاية الأمر أنّه إذا لم يكن قاصدا بها التوصّل كان متجرّيا.

وأمّا إذا لم يقع السلوك في طريق الإنقاذ فبقى حرمته على حالها ضرورة أنّه لا موجب ولا مقتضى لارتفاع الحرمة أصلا فإنّ المقتضي لذلك وقوع المقدّمة في طريق الوصول إلى الواجب الأهمّ والمفروض هو عدمه فمع عدم وجوبها لا تقع المزاحمة مع حرمتها في نفسها كما لا يخفى فتحصّل أنّه لا دليل على اعتبار قصد التوصّل.

دليل اعتبار الإيصال

ذهب صاحب الفصول قدس‌سره إلى أنّ مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب والمطلوبيّة من حيث كونها مقدّمة إلّا إذا ترتّب عليها وجود الواجب بحيث إذا وقعت المقدّمة مجرّدة عن وجود الواجب تجرّدت عن وصف الوجوب والمطلوبيّة لعدم وجودها على الوجه المعتبر فالتوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب وهذا عندي هو التحقيق الذي لا مزيد عليه وإن لم أقف على من يتفطّن له.

واستدلّ له بوجوه منها : إنّ العقل لا يدلّ على أزيد من ذلك وهو ظاهر لأنّ مناط المطلوبيّة الغيريّة منحصر في المقدّمات الموصلة لا غيرها والعقل لا يحكم بالوجوب بدون المناط وعليه فلا يدلّ على أزيد من ذلك وبعبارة اخرى إنّ الغايات في الأحكام

٦١٥

العقليّة تكون عناوين موضوعاتها.

فالتوصّل غاية حكم العقل بوجوب المقدّمة ومرجعه إلى أنّ موضوع حكم العقل بوجوب المقدّمة هو المقدّمة الموصلة لا ذات المقدّمة.

ومنها تجويز العقل أن يصرّح الآمر الحكيم بأنّي لا اريد إلّا الموصلة وهو شاهد على أنّ دائرة حكم العقل هي الموصلة وإلّا فلا مجال لتجويز ذلك إذ لا تخصيص في الأحكام العقليّة.

ومنها : حكم العقلاء باستحقاق المذمّة فيمن دخل في الدار المغصوبة لغير الإنقاذ الواجب مع أنّ الدخول فيها من مقدّمات الإنقاذ وليس ذلك إلّا لشرطيّة التوصّل في تحقّق المقدّمة الواجبة وإلّا فلا مجال لاستحقاق المذمّة لأنّ الدخول في الدار المغصوبة يكون ممّا يتوقّف عليه الإنقاذ الواجب.

ومنها : الارتكاز والوجدان حيث كان مقتضاهما هو وجوب خصوص هذا القسم الملازم لوجود الواجب في الخارج بداهة أنّ من أشتاق إلى شراء اللحم مثلا فلا محالة يحصل له الشوق إلى صرف مال واقع في سلسلة مبادئ وجوده لا مطلقا ولذا لو فرض أنّ عبده صرف ماله في جهة اخرى لا في طريق امتثال أمره بشراء اللحم لم يعدّ ممتثلا للأمر الغيريّ بل يعاقبه على ذلك.

واستشكل القوم عليه بوجوه :

أحدها : إنّ الغرض الداعي إلى وجوب المقدّمة ليس إلّا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة ضرورة أنّه لا يكاد يكون الغرض إلّا ما يترتّب عليه من فائدته وأثره ولا يترتّب على المقدّمة إلّا ذلك ولا تفاوت فيه بين ما يترتّب عليه الواجب وبين ما لا يترتّب عليه أصلا.

اجيب عنه بأنّ هذا المعنى السلبيّ التعليقيّ (أعني أنّ الغرض ليس إلّا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة) ليس أثر وجود المقدّمة ولا هو متعلّق الغرض كما أنّ

٦١٦

إمكان ذي المقدّمة ذاتا وقوعيّا وكذا التمكّن منه غير مترتب على وجود المقدّمة بل إمكانه مطلقا والقدرة عليه يتّبع إمكان المقدّمة والقدرة عليها لا وجودها فذو المقدّمة لا يوجد بدونها لا أنّه لا يمكن بدونها أو لا يتمكّن منه بدونها.

فجعل التمكّن من ذي المقدّمة من آثار الإتيان بالمقدّمة كما ترى لوضوح أنّ التمكّن المذكور من آثار التمكّن من الإتيان بالمقدّمة لا من آثار الإتيان بالمقدّمة أو إيجابها فالغرض من الإيجاب هو الإيصال وإلّا فنفس التمكّن من ذي المقدّمة حاصل قبل الإيجاب ولا حاجة إلى إيجاب المقدّمة أو إلى إتيانها.

ثانيها : نمنع جواز تصريح الآمر الحكيم بأنّي اريد الحجّ واريد المسير الذي يتوصّل به إلى فعل الواجب دون ما لم يتوصّل به إليه لثبوت مناط الوجوب في مطلقها ودعوى أنّ الضرورة قاضية بجواز ذلك مجازفة.

اجيب عنه بمنع ثبوت مناط الوجوب في غير صورة الإيصال ومع عدم وجود المناط ليست دعوى الضرورة قاضية بجواز التصريح المذكور مجازفة.

وثالثها : إنّ الإيصال ليس أثر مجموع المقدّمات فضلا عن إحداها في غالب الواجبات إذ الواجب فعل اختياريّ يختار المكلّف تارة إتيانه بعد وجود تمام مقدّماته واخرى عدم إتيانه وعليه فكيف يكون اختيار إتيانه غرضا من إيجاب كلّ واحدة من مقدّماته مع عدم ترتّبه على تمام المقدّمات فضلا عن كلّ واحدة منها نعم إذا كان الواجب من الأفعال التسبّبيّة والتوليديّة كان مترتّبا على تمام مقدّماته لعدم تخلّف المعلول عن علّته.

وعليه فالقول بالمقدّمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدّمة في غالب الواجبات والالتزام بوجوب الإرادة في الباقي التزام بالتسلسل.

واجيب عنه بأنّ المراد من الإيصال أعمّ من الإيصال مع الواسطة فالقدم الأوّل بالنسبة إلى الحجّ قد يكون موصلا ولو مع الوسائط إليه أي يتعقّبه الحجّ وقد لا يكون

٦١٧

كذلك والواجب هو الأوّل.

وأمّا الإشكال بالإرادة ففيه أوّلا : إنّ الإرادة قابلة لتعلّق الوجوب بها كما في الواجب التعبديّ.

وثانيا : إنّ الإشكال فيها مشترك الورود.

ورابعها : أنّه لو قلنا بعدم وقوع المقدّمة على المطلوبيّة الغيريّة عند عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها لزم أن يكون وجود الغاية من قيود المقدّمة ومقدّمة لوقوع المقدّمة على نحو يكون الملازمة معكوسة بين وجوب المقدّمة بذلك النحو ووجوب غايتها وهي ذو المقدّمة.

واجيب عنه بمنع لزوم كون وجود ذي المقدّمة من قيود المقدّمة ومقدّمة لوقوع المقدّمة لأنّ عنوان الإيصال مأخوذ في المقدّمات وليس لوجود ذيها دخل في ذلك إذ منشأ انتزاع الإيصال هو نفس المقدّمات عند بلوغها إلى حيث يمتنع انفكاكها عن ذيها لا وجود ذي المقدّمة أو ترتّبه فلا تغفل.

خامسها : إنّ الإتيان بالمقدّمة بناء على وجوب الموصلة لا يوجب سقوط الطلب منها إلّا أن يترتّب الواجب عليها مع أنّ السقوط بالإتيان بالمقدّمة واضح فلا بدّ أن يكون ذلك من جهة موافقة الأمر ومع الموافقة يستكشف عن أنّ الواجب هو مطلق المقدّمة ولو لم توصل إلى ذيها.

واجيب عنه بأنّا نمنع سقوط الأمر بمجرّد الإتيان بالمقدّمة ولو لم توصل إلى ذيها بعد فرض تعلّقه بالمقيّد وهو المقدّمة الموصلة إذ لا يتحقّق المقدّمة الموصلة إلّا بوجود قيده كما في المركّبات فإنّ التحقيق فيها أنّ الأمر بها لا يسقط إلّا بإتيان تمام أجزاء المركّب.

اعتبار حال الإيصال

والظاهر من الدرر وبدائع الأفكار أنّهما ذهبا إلى اعتبار المقدّمة في ظرف الإيصال وحاله بنحو القضيّة الحينيّة فرارا من الإشكالات المتقدّمة بناء على اعتبار

٦١٨

الإيصال بنفسه.

قال المحقّق اليزديّ قدس‌سره إنّ الطلب متعلّق بالمقدّمات في لحاظ الإيصال لا مقيّدا به حتّى يلزم المحذورات السابقة والمراد أنّ الآمر بعد تصوّر المقدّمات بأجمعها يريدها بذواتها لأنّ تلك الذوات بهذه الملاحظة لا تنفكّ عن المطلوب الأصليّ ولو لاحظ مقدّمة منفكّة عمّا عداها لا يريدها جزما فإنّ ذاتها وإن كانت موردا للإرادة لكنّ لما كانت المطلوبيّة في ظرف ملاحظة باقي المقدّمات معها لم تكن كلّ واحدة مرادة بنحو الإطلاق بحيث تسري الإرادة إلى حال انفكاكها عن باقي المقدّمات وهذا هو الذي ذكرنا مساوق للوجدان ولا يرد عليه ما أورد على القول باعتبار الإيصال قيدا وإن اتّحد معه في الأثر.

وفيه أنّه لا وجه لما ذهبا إليه بعد ما عرفت من عدم لزوم المحذورات من اعتبار الإيصال وتقييد المقدّمات به لأنّ المراد من الإيصال ليس هو اعتبار وجود المتأخّر في المتقدّم حتّى يلزم تجافي الموجود المتأخّر عن مرتبته بل المراد منه هو اعتبار بلوغ المقدّمات إلى حيث لا ينفكّ المترتّب المتأخّر عنها. ومن المعلوم أنّ المقدّمات البالغة إلى تلك الحيثيّة تكون بنفسها منشأ لانتزاع الإيصال ولا دخل لترتّب ذي المقدّمة عليها في ذلك وإن كان الترتّب المذكور ملازما لبلوغ المقدّمات إلى تلك الحيثيّة.

وعليه فتقييد المقدّمات بالإيصال بالمعنى المذكور لا محذور فيه حتّى يحصل الاضطرار إلى العدول عنه.

هذا مضافا إلى أنّ اعتبار حال الإيصال أيضا لا يخلو عن المحذور لأنّ الحال من الحيثيّات وقد عرفت أنّ الحيثيّة التعليليّة في الأحكام العقليّة ترجع إلى الحيثيّة التقييديّة وعليه فليس الواجب هو مطلق المقدّمة بل هو المقدّمة المتحيّثة بالحال المذكور فعادت الإشكالات والمحاذير فتدبّر جيّدا.

٦١٩

الثمرة بين القولين

والأهمّ ممّا ذكروه من الثمرات هو جواز المقدّمة المحرّمة مطلقا فيما إذا صارت مقدّمة للواجب الأهمّ بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمة سواء ترتّب عليها الواجب أو لم يترتّب وجوازها فيما إذا ترتّب عليها الواجب الأهمّ بناء على تخصيص وجوب المقدّمة بالموصلة.

وهو واضح لأنّ حرمة المقدّمة ساقطة عن الفعليّة بمجرّد مقدّميّتها للواجب الأهمّ بناء على أنّ المقدّمة هو مطلقها سواء كانت موصلة أو غير موصلة فصارت المقدّمة بعد سقوط الحرمة جائزة بل واجبة بمقتضى الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة المطلقة.

هذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ المقدّمة الواجبة ليس مطلقا بل هي الموصلة إذ عليه لا تسقط المقدّمة عن الحرمة الفعليّة إلّا إذا كانت موصلة.

وهذا الفرق يكفي في الثمرة بين القولين.

وربما يجعلون من الثمرات إمكان تصحيح العبارة إذا صارت ضدّا للواجب الأهمّ بناء على القول بوجوب المقدّمة الموصلة بخلاف ما إذا قلنا بأنّ المقدّمة المطلقة واجبة بتقريب أن يقال : إنّه إذا كان ترك الصلاة في أوّل الوقت مقدّمة لواجب أهمّ كإزالة النجاسة عن المسجد مثلا وقلنا بوجوب مطلق المقدّمة فترك الصلاة واجب بناء على أنّ ترك الضدّ من المقدّمة لا المقارنات ومقتضى كون الترك واجبا من دون قيد هو حرمة فعل الصلاة بناء على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ومن المعلوم أنّ هذا النهي يوجب الفساد بناء على أنّ النهي الغيريّ كالنهي النفسيّ في الدلالة على الفساد عند عدم القول بالترتّب.

هذا بخلاف ما إذا قلنا بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة فالصلاة في المثال المزبور لا تقع فاسدة فإنّ المقدّمة الواجبة بناء على هذا القول هو الترك الموصل لا مطلق

٦٢٠