عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

وجوده لا لحاظه.

وهكذا لا يرتفع ما ذهب إليه الشيخ الأعظم من رجوع القيود إلى المادّة لأنّ قبل حصول القيد في الخارج لا فاعليّة للوجوب الفعليّ فلا مورد للوجوب الفعليّ المنجّز بالنسبة إلى بعض المقدّمات مع أنّه لا وجوب فعليّ منجّز بالنسبة إلى ذيها.

وساير الوجوه المذكورة هنا إمّا ترجع إلى الواجب المعلّق أو ليست بتامّة فراجع.

الأمر الرابع : إنّه إذا دار الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة وشكّ في وجوب تحصيل القيد وعدمه من جهة أنّ القيد راجع إلى الهيئة حتّى لا يجب تحصيله أو راجع إلى المادّة فيجب تحصيله فإن دلّ دليل على ترجيح أحد الطرفين فهو وإلّا فقد يقال إنّ مقتضى العلم الإجماليّ بتقييد أحد الطرفين هو تعارض أصالة الإطلاق في الهيئة مع أصالة الإطلاق في المادّة ومع التعارض يرجع إلى مقتضى الأصل وهو البراءة عن وجود تحصيل القيد إذ هو فرع رجوع القيد إلى المادّة وهو غير معلوم والبراءة عن أصل الوجوب لاحتمال رجوع القيد إلى الهيئة فلا دليل على أصل الوجوب كما لا يخفى.

واستدلّ لترجيح إطلاق الهيئة على إطلاق المادّة بوجوه :

منها : إنّ إطلاق الهيئة شموليّ بمعنى أنّ مفادها هو الوجوب على كلّ تقدير يمكن أن يتوجّه معه الخطاب إلى المكلّف بخلاف إطلاق المادّة فإنّه بدليّ بمعنى أنّ مفاده صلوح أي فرد من أفراد الطبيعة المامور بها للامتثال وعليه فإذا دار الأمر بينهما يؤخذ بالإطلاق الشموليّ لكونه أقوى ويرفع اليد عن الإطلاق البدليّ.

واجيب عنه بأنّ الإطلاق في كلا المقامين مستفاد من مقدّمات الحكمة فلا يمكن تقديم أحدهما على الآخر بمجرّد كونه شموليّا والآخر بدليّا.

ومنها : إنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة بخلاف العكس

٥٤١

ولا فرق بين التقييد وبطلان محلّ الإطلاق في كونهما خلاف الأصل.

وعليه فكلّما دار الأمر بين التقييدين كذلك كان تقييد ما لا يوجب ذلك أولى فالنتيجة أنّ في مفروض المسألة يكون الترجيح مع تقييد المادّة.

واجيب عنه بأنّ التقييد وإن كان خلاف الأصل إلّا أنّ العمل الذي يوجب عدم جريان مقدّمات الحكمة وانتفاء بعض مقدّماتها لا يكون على خلاف الأصل أصلا إذ معه لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل.

هذا مضافا إلى أنّه لا دليل على ترجيح ما يلزم منه التقييد الواحد على ما يلزم منه التقييدان فتدبّر جيّدا.

ومنها : إنّ تقييد المادّة حيث إنّه متيقّن ومعلوم بالتفصيل لأنّها : إمّا مقيّدة ابتداء أو تبعا فينحلّ العلم الإجماليّ إلى المعلوم بالتفصيل والشكّ البدويّ فيبقى أصالة الإطلاق في جانب الهيئة سليمة عن المعارض فيصحّ التمسّك بإطلاقها لإلغاء احتمال التقييد.

واجيب عنه بأنّ أحد تقديري العلم بتقييد المادّة فرض تقييد الهيئة لأنّ المفروض هو العلم بتقييد ذات المادّة أو بتقييدها بما هي واجبة وعليه فكيف يعقل سلامة إطلاق الهيئة عن المعارضة.

هذا مضافا إلى أنّ إبطال محلّ الإطلاق غير التقييد ولو تبعا فلا يكون التقييد متيقّنا.

ويمكن دفع ذلك أوّلا : بأنّ احتمال تقييد الهيئة يكفي لحصول العلم بتقييد المادّة على أي حال كما أنّ احتمال التخيير يكفي لحصول العلم بالمطلوبيّة فيما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير مع عدم العلم بالتخيير فافهم.

وثانيا : إنّه لا دخالة للفظ التقييد بل المراد هو العلم التفصيليّ بعدم الإطلاق في

٥٤٢

ناحية المادّة.

ودعوى أنّ تقييد كلّ من الهيئة والمادّة مشتمل على خصوصيّة مباينة لما اشتمل عليه الآخر من الخصوصيّة فإنّ تقييد الهيئة مستلزم لأخذ القيد مفروض الوجود وتقييد المادّة مستلزم لكون التقييد به مطلوبا للمولى فليس في البين قدر متيقّن لنأخذ به وندفع الزائد بالإطلاق.

مندفعة بأنّ القدر المتيقّن هو عدم إطلاق المادّة لتضييقها إمّا بالتقييد أو بالتضييق القهريّ ومع العلم التفصيليّ بعدم الإطلاق فلا مجال لجريان أصالة الإطلاق في ناحية المادّة وعدم وجود القدر المتيقّن بين التقييدين لا ينافي العلم بعدم إطلاق المادّة فتدبّر.

مقتضى الأصل

ثمّ لا يذهب عليك أنّ مع عدم تماميّة الوجوه المرجّحة للاطلاق في طرف يمكن أن يقال إنّ مقتضى الأصل هو البراءة لدوران القيد بين كونه قيدا للوجوب أو قيدا للواجب ومع الدوران المذكور لا علم بالتكليف ولا فرق في ذلك بين مقالة المشهور من رجوع القيود إلى الهيئة وبين المختار من رجوعها إلى المادّة لأنّ على كلّ واحد من المذهبين لا يكون أصل الوجوب ثابتا مع إمكان أن يكون القيد قيدا للوجوب.

نعم لو قلنا بعدم إمكان الرجوع إلى الهيئة فلا مجال للرجوع إلى البراءة إذ لا قيد بالنسبة إلى الوجوب ولكنّه خلاف مفروض البحث من دوران القيد بين رجوعه إلى المادّة أو الهيئة.

ثمّ لا فرق أيضا فيما ذكرناه بين أن يكون القيد على فرض رجوعه إلى المادّة قيدا على وجه التنجيز أو على وجه التعليق إذ مع إمكان رجوعه إلى الهيئة واحتماله لا علم بأصل الوجوب كما لا يخفى هذا كلّه فيما إذا دار الأمر بين تقييد المادّة وتقييد الهيئة.

٥٤٣

ولو شكّ في تقييد الوجوب فقط فإن كان لدليله إطلاق يؤخذ به وإن لم يكن له إطلاق ولكنّ له حالة سابقة فيستصحب وإن لم يكن إطلاق ولم يجر فيه الاستصحاب فمقتضى القاعدة هو البراءة قبل تحقّق القيد المحتمل تقيّد الوجوب به ولو شكّ في تقييد الواجب فقط فالظاهر هو عدم وجوب تحصيل القيد المحتمل بإطلاق الدليل إن ثبت وإلّا بمقتضى الأصل ويصحّ الاكتفاء بأصل الواجب في مقام الامتثال ولو علم بتقييد الواجب ولكنّ شكّ في كونه معتبرا على وجه لا يجب تحصيله فيكون الواجب المعلّق أو على وجه يجب تحصيله فيكون الواجب منجّزا أمكن التمسّك بالبراءة لنفي الوجوب المستلزم لتحصيل القيد.

ومنها تقسيمه إلى نفسيّ وغيريّ

وهنا جهات :

الجهة الاولى : في تعريفهما :

والأولى في تعريفهما أن يقال إنّ الغيريّ هو ما أمر به للتوصّل إلى واجب آخر والإتيان به والنفسيّ ما لم يكن كذلك وهو تعريف جامع.

وأمّا تعريفهما : بأنّ الواجب النفسيّ ما أمر به لنفسه والغيريّ ما أمر به لأجل غيره كما نسب إلى المشهور.

فقد أورد عليه الشيخ الأعظم قدس‌سره بأنّ لازم ذلك هو أن يكون جميع الواجبات الشرعيّة أو أكثرها من الواجبات الغيريّة إذ المطلوب النفسيّ قلّما يوجد في الأوامر فإنّ جلّها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها فيكون أحدهما غير منعكس ويلزمه أن يكون الآخر غير مطّرد وذهب إلى أنّ الأولى هو أن يقال إنّ الواجب الغيريّ ما أمر به للتوصّل إلى واجب آخر والنفسيّ ما لم يكن كذلك فيتمّ

٥٤٤

العكس والطّرد.

أورد صاحب الكفاية على تعريف الشيخ الأعظم قدس‌سره بأنّ الداعيّ في الواجبات النفسيّة تارة يكون محبوبيّة الواجب بنفسه كالمعرفة بالله تعالى وتارة اخرى يكون محبوبيّته بماله من الفوائد المترتّبة كأكثر الواجبات من العبادات والتوصّليّات ولا إشكال في القسم الأوّل وإنّما الإشكال في القسم الثاني. فإنّ مقتضى كون الداعي فيه محبوبيّته بما له من الفوائد المترتّبة عليه هو أن يكون أكثر الواجبات النفسيّة في الحقيقة واجبات غيريّة فإنّه لو لم يكن وجود هذه الفوائد لازما لتلك الواجبات لما كان الداعيّ موجودا إلى إيجاب ذيها وعليه فالإشكال باق بالنسبة إلى جامعيّة التعريف ومانعيّته فإنّ الواجبات النفسيّة تدخل في تعريف الواجبات الغيريّة فتعريف النفسيّ لا يكون جامعا لأفراده كما أنّ تعريف الغيريّ لا يكون مانعا من الاغيار انتهى.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الأغراض في الواجبات النفسيّة ليست من الواجبات التي يؤتى بها عقيب الإتيان بنفس الواجبات حتّى يصدق على الواجبات النفسيّة أنّها واجبات ومأمورات لأجل الإتيان بالواجبات الاخرى وهذا بخلاف الواجبات الغيريّة فإنّها واجبات للتوصّل والإتيان بالواجبات الاخرى ولعلّ مراد الشيخ قدس‌سره من التوصّل هو الإتيان وعليه فلا إشكال في تعريف الشيخ ولذا اخترناه وأضفنا حكمة الإتيان حتّى يكون المقصود واضحا فتدبّر جيّدا.

الجهة الثانية : في مقتضى الأصل اللفظيّ :

ولا يخفى عليك أنّ مقتضاه عند الشكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيريّ هو النفسيّ لأنّ ما يحتاج إلى التقييد هو كون الوجوب للتوصّل إلى واجب آخر والإتيان به كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة وأمّا النفسيّ فلا يحتاج إلى ضميمة شيء وعليه فمقتضى الإطلاق هو عدم تقييد البعث بانبعاثه عن واجب آخر ومن المعلوم

٥٤٥

أنّ عدم التقييد بذلك غير التقييد بعدم ملاحظة انبعاثه عن واجب آخر والمحتاج إلى المئونة هو الثاني لا الأوّل.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا مجال للاشكال بأنّ كلّا من النفسيّة والغيريّة متقوّم بقيد زائد فلا مجال لإثبات النفسيّة بأصالة الإطلاق.

وذلك لما عرفت من أنّ النفسيّة هو عدم التقييد والغيريّة هو التقييد فالمتقوّم بقيد زائد هو الغيريّ لا النفسيّ.

لا يقال إنّ البعث كالمعنى الحرفيّ في الجزئيّة فلا توسعة فيه حتّى يجري فيه أصالة الإطلاق.

لأنّا نقول إنّ أصالة الإطلاق في ناحية الهيئة تجري أيضا لإمكان إنشاء الجزئيّ على تقدير من أوّل الأمر من باب ضيق فم الركيّة فلا يلزم تقييد الجزئيّ بعد تحقّقه حتّى يقال إنّ الجزئيّ لا سعة له حتّى يتقيّد.

هذا مع الغمض عن إمكان التمسّك بالإطلاق الأحواليّ إذ الجزئيّ بعد التحقّق له أحوال مختلفة فإذا لم يتقيّد بخصوص حال كالتوصّل إلى واجب آخر يمكن أن يقال إنّ البعث مطلق وينتزع منه النفسيّ.

هذا كلّه بناء على التمسّك بأصالة الإطلاق ومقدّمات الحكمة وهنا قول آخر وهو دعوى الظهور الانصرافيّ للبعث إلى النفسيّ دون الغيريّ واستدل له بكثرة استعمال الهيئة فيما ينتزع منه النفسيّ دون ما ينتزع منه الغيريّ ومن المعلوم أنّ الظهور الانصرافيّ لا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة.

ولكنّ هذا القول متوقّف على ثبوت ندرة استعمال الهيئة في البعث الغيريّ وهو غير ثابت بل استعماله في الغيريّ كالوضوء والغسل والتيمّم وغير ذلك من الموارد كثير.

٥٤٦

الجهة الثالثة في مقتضى الأصل العمليّ

إذا شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيريّ ولم تجر أصالة الإطلاق في طرف فالمرجع حينئذ هو الأصل العمليّ فهنا صور.

الصورة الاولى : أنّه إذا علم بعد الزوال بوجوب الوضوء والصلاة وشكّ في وجوب الوضوء أنّه غيريّ أو نفسيّ وشكّ في الصلاة أنّها متقيّدة بالوضوء أو لا ذهب بعض الأعلام إلى أنّ مقتضى الأصل هو البراءة عن اشتراط الصلاة بالطهارة فيجوز الإتيان به بلا طهارة وأمّا نفس الطهارة فيعلم بوجوبها في ذلك الوقت على كلّ حال أمّا لنفسها أو لغيرها.

ولعلّ وجهه هو انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ بوجوب الوضوء على كلّ حال فيرجع في ناحية الصلاة إلى البراءة بالنسبة إلى احتمال تقييدها بالوضوء.

اورد عليه بأنّ العلم الإجماليّ بالوضوء نفسيّا أو وجوب الصلاة المتقيّد بالوضوء باق على حاله وعليه فلا معنى للرجوع إلى البراءة بالنسبة إلى احتمال تقييد الصلاة بالوضوء بل مقتضى العلم الإجماليّ هو الاحتياط بأن لا يأتي بالصلاة إلّا مع الطهارة.

هذا مضافا إلى أنّ مقتضى الاحتياط في ناحية الوضوء هو أن يأتي به قبل الإتيان بالصلاة بقصد ما في الذمّة ولا يبطله حتّى يأتي بالصلاة وإلّا لم يحصل الاحتياط بين النفسيّ والغيريّ الذي هو واجب للتوصّل إلى واجب آخر.

وعليه فلا تفاوت بحسب النتيجة بين الانحلال وعدمه فإنّ اللازم هو الإتيان بالوضوء قبل الصلاة وعدم الإتيان بالصلاة بلا طهارة.

الصورة الثانية : إذا علمنا بوجوب الصلاة ووجوب الوضوء وشككنا في كون وجوب الوضوء نفسيّا أو غيريّا وكان وجوب الصلاة مشروطا بشرط غير حاصل

٥٤٧

وهو الوقت فهل يجب الوضوء قبل الوقت أم لا؟

أمكن القول بالبراءة لعدم العلم بالوجوب الفعليّ قبل الوقت بناء على كون الوقت قيدا للوجوب في الصلاة.

ودعوى رجوع الفرض إلى العلم الإجماليّ بوجوب الوضوء نفسيّا أو وجوب الصلاة المتقيّدة به بعد الوقت والعلم الإجماليّ بالواجب المشروط إذا علم تحقّق شرطه منجّز عقلا.

فيجب عليه الوضوء في الحال والصلاة مع الوضوء بعد حضور الوقت.

مندفعة بأنّ الشرط هو واقع الوقت لا لحاظه وعليه فالعلم بحصول الشرط أي الوقت لا يكفي للتنجيز.

فلا مانع من جريان البراءة قبل الوقت بالنسبة إلى الوضوء كما لا يخفى.

نعم لو لم يتمكّن من الوضوء بعد دخول الوقت يجب عليه الوضوء في الحال من جهة قبح تفويت مراد المولى لا تنجيز الخطاب فلا تغفل.

الصورة الثالثة : إنّه إذا لم يعلم إلّا وجوب ما يحتمل كونه نفسيّا أو غيريّا مع احتمال أن يكون في الواقع واجب فعليّ آخر يكون مقيّدا بما علم وجوبه في الجملة فقد يتوهّم عدم وجوب إتيان ما يحتمل أن يكون واجبا نفسيّا أو غيريّا للبراءة عن وجوبه للشكّ في وجوب ما يحتمل اشتراطه به فلا علم بوجوبه على كلّ حال.

ولكنّه مدفوع بأنّ المقام كدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر مع أنّ الأقلّ مردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا فكما أنّ الأقلّ معلوم الوجوب هناك فكذلك الوضوء المحتمل أن يكون وجوبه نفسيّا أو غيريّا معلوم الوجوب سواء كانت الصلاة المتقيّدة بالوضوء واجبة أو لا ومن المعلوم أنّه لا مجال للبراءة في الأقلّ المعلوم بعد فعليّة خطابه أو خطاب الأكثر وهو الصلاة المتقيّدة بالوضوء.

٥٤٨

وهذا لا يتمّ إلّا إذا كان وجوب الوضوء مفروغا عنه ويكون الشكّ في ناحية كيفيّة وجوبه من النفسيّ أو الغيريّ.

وعليه فلا وجه للبراءة بالنسبة إلى الأقلّ المعلوم بل لا وجه لها بالنسبة إلى وجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء نفسيّا لأنّ العلم بوجوب الوضوء والشكّ في كونه نفسيّا أو غيريّا يرجع إلى العلم الإجماليّ بوجوب الوضوء نفسيّا أو وجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء نفسيّا ويكون الوضوء غيريّا ومقتضاه هو وجوب الاحتياط بإتيان الصلاة مع الإتيان بالوضوء قبلها لأنّ العلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ المردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا عين العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين كون الوضوء واجبا نفسيّا أو الصلاة واجبة نفسيّ ومثل هذا العلم التفصيليّ لا يعقل أن يوجب الانحلال وإلّا كان مرجعه إلى أن يكون العلم الإجماليّ موجبا لانحلال نفسه وهو محال.

والانحلال في الأقلّ والأكثر في الأجزاء لكون وجوب الأقلّ على كلا التقديرين نفسيّ سواء كان متعلّق التكليف هو الأقلّ أو الأكثر فإنّ الأجزاء تجب بعين وجوب الكلّ ولا يجتمع الوجوب الغيريّ في الأجزاء الداخليّة مع الوجوب الغيريّ هذا بخلاف المقدّمات الخارجيّة كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة فإنّ الوجوب النفسيّ لا مجال له مع وجوب الأكثر وهو الصلاة المشترطة بالوضوء.

فالدوران بين النفسيّة والغيريّة مانع عن الانحلال ومقتضاه هو وجوب الاحتياط كالصورة الاولى فلا تغفل.

والانحلال الحكميّ بعد ما عرفت من عينيّة العلم التفصيليّ مع العلم الإجماليّ لا مورد له إذ مع وجود العلم الإجماليّ لا يجري البراءة في أحد الطرفين كما لا يخفى.

ومنها تقسيمه إلى الأصليّ والتبعيّ : والظاهر أنّ هذا التقسيم يكون أيضا كسائر التقسيمات بحسب مقام الإثبات فإنّ الشيء قد يكون مقصودا بالإفادة أصالة وعلى حدّة وقد لا يكون إلّا أنّه لازم الخطاب فإذا قلنا ادخل السوق واشتر اللحم

٥٤٩

يدلّ بالأصالة على وجوب الدخول في السوق وإذا قلنا اشتر اللحم يدلّ على وجوب الدخول في السوق تبعا والأوّل أصليّ والثاني تبعيّ وكلاهما مدلولان للكلام ويدلّان على الوجوب كما أنّ دلالة الإشارة من المداليل الكلاميّة كدلالة الآيتين الكريمتين وهما قوله تعالى :

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ). وقوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً.) على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر فإنّ الدلالة المذكورة وإن كانت بالأصالة ولكن تكون حجّة لأنّها من لوازم الخطاب.

وعليه فالواجب سواء كان مدلولا أصليّا للكلام أو تبعيّا يكون لازم الإتيان ويصحّ بهذا الاعتبار تقسيم الواجب إلى الأصليّ والتبعيّ وإن لم يكن له ثمرة.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث ذهب إلى أنّ هذا التقسيم بلحاظ مقام الثبوت لا بلحاظ مقام الدلالة والإثبات واستدلّ له بأمرين :

أحدهما : أنّ الاتصاف بهما إنّما هو في نفسه لا بلحاظ حال الدلالة عليه.

وثانيهما إنّ الواجب ربما لا يكون مفاد الأدلّة اللفظيّة كما إذا دلّ عليه الدليل اللبّيّ كالإجماع.

وذلك لأنّ التقسيمات الاخرى من النفسيّ والغيريّ والمطلق والمشروط والمعلّق والمنجّز تصلح للقرينيّة على أنّ المراد من الأصليّ والتبعيّ في المقام أيضا يكون بلحاظ مقام الإثبات ولحاظ الخطاب فإنّ تلك التقسيمات باعتبار مقام الإثبات.

هذا مضافا إلى قابليّة معقد الإجماع للتقسيم المذكور بلحاظ مقام الإثبات والدلالة.

ثمّ لو شكّ في واجب أنّه أصليّ أو تبعيّ فلا ثمرة على المختار للتعيين لأنّه على كلا التقديرين من مداليل الكلام ويكون موجبا للزوم الإتيان.

وأمّا ما في الكفاية بناء على مختاره من التفصيل بين ما إذا كان الواجب التبعيّ

٥٥٠

أمرا عدميّا بأن يكون عبارة عمّا لم تتعلّق به الإرادة المستقلّة والالتفات التفصيليّ فمقتضى الأصل هو التبعيّة إذ الأصل عند الشكّ في تحقّق الالتفات التفصيليّ هو العدم وبين ما إذا كان الواجب التبعيّ أمرا وجوديّا خاصّا غير متقوّم بعدميّ وإن كان يلزمه بأن يكون عبارة عمّا تعلّقت به الإرادة التبعيّة فلا يثبت بأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به أنّه واجب تبعيّ إلّا على القول بالأصل المثبت.

ففيه أنّه لا مدخليّة للوجوديّ أو العدميّ في كون الأصل مثبتا وإنّما الملاك في عدم جريان الأصل هو كيفيّة الأخذ فإنّ أخذ عدم تفصيليّة الإرادة في التبعيّ بنحو الاتّصاف لا بنحو التركيب فالأصل لا يجري لأنّه لا يثبت الاتّصاف كما لا يثبت التبعيّ بناء على كونه وجوديّا بأصالة عدم تفصيليّة الإرادة.

فالتفصيل بين كون التبعيّ متقوّما بالعدميّ أو العدميّ لا يفيد بل اللازم هو التفصيل بين كون العدم مأخوذا بنحو الاتّصاف أو التركيب فلا يجدي الأصل في الأوّل دون الثاني فتدبّر جيّدا.

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : أنّ العقل يحكم باستحقاق العاصي للعقاب عند مخالفته للأوامر النفسيّة لأنّه خارج عن زيّ العبوديّة وليس المراد من الاستحقاق هو إيجاب العقاب بل المراد هو أهليّته للعقاب ولذا يجتمع مع عفو المولى كما لا يخفى.

هذا بحسب استحقاق العاصي وأمّا استحقاق المطيع للمدح والثواب فلا يحكم العقل به بعد وضوح أنّ العبد أتى بما هو وظيفته بالنسبة إلى مولاه مع أنّه بشراشر وجوده مديون لمولاه ومتنعّم بإحسانه هذا مضافا إلى أنّ التكاليف نافعة له لا لله تعالى.

نعم يمكن أن يحكم العقل بأنّ المدح والأجر بالنسبة إلى المطيع في محلّه لا بمعنى

٥٥١

أنّ له حقّا على المولى.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ بعد جعل الثواب للإطاعة صار العبد بعمله مستحقّا لما جعله المولى من المثوبة بحقيقة معنى الاستحقاق من جهة الجعل والقرار كما لا يخفى.

التنبيه الثاني : في استحقاق الثواب والعقاب بالنسبة إلى الواجبات والمحرّمات الغيريّة ولا ريب في عدم استحقاقهما على المقدّمات وإن قلنا باستحقاقهما على ذيها من الواجبات والمحرّمات النفسيّة لخلوّ الغيريّات عن الأمر والنهي والمصالح والمفاسد من جهة نفسهما ومع فقدانهما عنهما فلا يتصور لهما موافقة ولا مخالفة ومع عدم تصوّرهما لا مجال للثواب والعقاب بالنسبة اليهما.

ودعوى أنّ من يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذيها يراه العقلاء متلبّسا بامتثال الواجب النفسيّ ومستحقّا للمدح والثواب في ذلك الحين وإن لم يكن مشتغلا بنفس الواجب النفسيّ.

كما أنّ من لم يأت بشيء من مقدّماته في الوقت الذي يلزم الامتثال فيه يرونه متلبّسا بعصيانه ومستحقّا للذمّ والعقاب وهذا المدح والثواب والذمّ والعقاب من رشحات ثواب الواجب النفسيّ فيستحقّهما بالشروع بإتيان المقدّمات.

مندفعة بأنّ الاشتغال بالواجب النفسيّ أو الحرام النفسيّ لا يصدق إلّا بالشروع فيه نفسه لا مقدّماته وإطلاق الشروع بإتيان المقدّمات أو بترك بعض المقدّمات من باب المجاز والأوّل والمشارفة هذا مضافا إلى أنّ مجرّد الاشتغال بالواجب النفسيّ قبل الإتيان به لا يوجب استحقاق شيء إذ الأجر ثابت على الإتيان بمتعلّق الأمر ولا يتحقق ذلك إلّا بإتمام الواجب ومع عدم موجب استحقاق الثواب بالنسبة إلى ذي المقدّمة كيف يترشّح إلى المقدّمات وهكذا لا يصدق الاشتغال بالحرام ما لم يأت بنفس الحرام.

نعم يمكن أن يقال استحقاق ثواب الامتثال أو استحقاق العقاب وإن كان

٥٥٢

لا مجال لهما في الواجبات والمحرّمات الغيريّة قبل الإتيان بالواجبات النفسيّة أو قبل ارتكاب المحرّمات النفسيّة ولكنّ الاستحقاق بمعنى ثواب الانقياد وأهليّة المدح بسبب الاشتغال بمقدّمات الواجبات النفسيّة أو بسبب ترك مقدّمات المحرّمات النفسيّة غير بعيد لأنّ الاستحقاق بالمعنى الثاني لا يتقوّم بإتيان الواجبات النفسيّة أو بترك المحرّمات النفسيّة والوجدان قاض بالفرق بين من قصد الحجّ وأتى بمقدّمات السفر وشرع في السفر ولم يدرك الحجّ وبين من لم يقصده ولم يأت بمقدّماته ولم يسافر وملاك الفرق ليس إلّا الانقياد.

وهكذا نجد الفرق بين من ترك جميع مقدّمات الحرام وبين من أتى ببعضها ولكنّ يمنعه مانع عن الإتيان بالحرام هذا كلّه مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة الواردة في جعل الثواب على مقدّمات بعض الواجبات أو المستحبّات مثل ما ورد من الثواب في المشي نحو إقامة الصلاة في المساجد أو نحو إقامة صلاة الجمعة أو ما ورد من الثواب على كلّ خطوة من الخطوات التي يأتي بها قاصد زيارة مولانا الحسين عليه‌السلام.

فإنّ مع ورود الثواب يستحقّه تابعا لما ورد من الثواب على المقدّمات من باب الجعل والقرار والوعد كما لا يخفى.

التنبيه الثالث : في الاشكال ودفعه في الطهارات الثلاث.

أمّا الإشكال فهو أنّ بعد ما عرفت من أنّه لا مثوبة ولا قربة في امتثال الأوامر الغيريّة لخلوّها عمّا يصلح لهما كيف يكون حال الطهارات الثلاث التي لا شبهة في مقرّبيّتها وترتّب المثوبة عليها مع أنّها من الأوامر الغيريّة بالنسبة إلى ما تشترط فيه.

فإن كان منشأ لعباديّتها هو تعلّق الأوامر النفسيّة بها.

ففيه أنّه ممنوع أوّلا : في مثل التيمّم لعدم كونه مستحبّا نفسيّا.

وثانيا : أنّ الأمر الاستحبابيّ لا يبقى مع تعلّق الأمر الغيريّ لتضادّهما.

وثالثا : إنّ الاستحباب النفسيّ لا يساعد مع كفاية الإتيان بها من دون التفات

٥٥٣

إلى أوامرها النفسيّة.

وإن كان منشأ لعباديّتها هو الأمر الغيريّ المتوجّه إليها لزم الدور لأنّ الأمر الغيريّ يتوقّف على عباديّتها والمفروض أنّ عباديّتها متوقّفة على تعلّق الأمر الغيريّ بها وهو دور.

وأمّا الدفع فعلى تسليم كون المنشأ لعباديّة الطهارات الثلاثة هو الأمر النفسيّ فبأن يقال : يمكن أن يكون التيمّم مستحبّا نفسيّا لإطلاق قوله عليه‌السلام التيمّم أحد الطهورين فتأمّل كما يمكن أن يجتمع الوجوب والاستحباب بناء على أنّ اختلافهما في حدّ الرجحان وعليه فحدّ الاستحباب النفسيّ وإن زال بتحقّق الوجوب الغيريّ إلّا أنّ أصل الرجحان لا موجب لانعدامه.

هذا مع وضوح عدم المنافاة بين كون الطهارات الثلاث مستحبّات نفسيّة وبين جواز الاكتفاء بقصد أمرها الغيريّ لأنّ الأمر الغيريّ لا يدعو إلّا إلى متعلّقه والمفروض أنّ متعلّق الأمر الغيريّ مستحبّ نفسيّ فقصد الأمر الغيريّ يرجع إلى قصد المستحبّ النفسيّ.

ولكنّ لقائل أن يقول إنّ لازم ما ذكر في الدفع بناء على تسليم كون الطهارات الثلاث عبادات نفسيّة هو بطلان الطهارات الثلاث لو أتى بها بداعي أمرها الغيريّ مع الغفلة عن عباديّتها بالكلّيّة مع أنّ ارتكاز المتشرّعة على الصحّة فيما إذا أتى بها مع الغفلة عن كونها عبادات نفسيّة فهو يكشف عن أنّ حلّ الإشكال ليس من ناحية كون الطهارات عبادات نفسيّة.

وأمّا الدفع على تقدير عدم ثبوت الاستحباب النفسيّ كما هو الظاهر فبأن يقال إنّ عباديّة الطهارات الثلاث ليست من ناحية قصد الأمر الغيريّ حتّى يدّعي أنّه دور إذ لا أثر لذلك في كلمات الأصحاب هذا مضافا إلى أنّه لو كان لقصد الأمر الغيريّ مدخليّة في عباديّتها فلا مجال لدعوى الاتّفاق في عباديّة الطهارات الثلاث حتّى ممن لم

٥٥٤

يقل بوجوب المقدّمات شرعا ولم ير الاستحباب النفسيّ للطهارات الثلاث إذ لا موجب عنده حينئذ لعباديّتها لأنّ المفروض عنده عدم وجود الأوامر النفسيّة وعدم ثبوت الأمر الغيريّ الشرعيّ.

فالوجه في عباديّتها هو قصد التوصّل بها إلى غاياتها سواء قيل بوجوب المقدّمة شرعا أو لا إذ مع قصد التوصّل إلى إحدى الغايات حصل الانقياد وأهليّة المدح والثواب وحيث لا دليل على اعتبار قصد القربة إلّا الإجماع ونرى أنّهم اكتفوا في عباديّتها بقصد التوصّل إلى احدى الغايات نستكشف من ذلك أنّ مرادهم من عباديّتها هي ذلك لا غير.

وعليه فالفرق بين الطهارات الثلاث وغيرها من المقدّمات ليس إلّا في اعتبار عباديّتها بالإتيان بها بقصد التوصّل إلى غاياتها في الطهارات الثلاث دون غيرها فاللازم في تحقّق عباديّة الطهارات الثلاث هو أن يؤتى بها للغايات لا بدون قصد التوصّل بها إلى الغايات فعباديّة الطهارات الثلاث تتحقّق بقصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة لا بقصد أمرها الغيريّ الترشّحيّ.

ثمّ إنّه لا دليل تامّ على استحباب الطهارات الثلاث نفسا لضعف ما استدلّ لذلك دلالة وسندا.

وأشرنا إلى ذلك هنا والتفصيل موكول إلى محلّه وهو الفقه فاللازم في تحقّق عباديّة الطهارات الثلاث هو أن يؤتى بها للتوصّل إلى إحدى غاياتها.

٥٥٥

المقام التاسع في تبعيّة وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها

ولا يخفى عليك أنّ وجوب المقدّمة بناء على الملازمة يتبع في الخصوصيّات من الإطلاق والاشتراط لوجوب ذيها ؛ وعليه فلو كان وجوب ذيها مطلقا لكان وجوب مقدّمته أيضا كذلك ، وإن كان مشروطا كان وجوبها كذلك ، ولا مجال لكون وجوب ذي المقدّمة مطلقا ووجوب المقدّمة مشروطا ، وذلك في غاية الوضوح. ولكن نسب إلى صاحب المعالم أنّه ذهب إلى أنّ وجوب المقدّمة مشروط بإرادة ذيها ، بحيث لا وجوب لها عند عدم إرادته.

ومنشأ هذه النسبة أنّه ربّما استدلّ على أنّ الأمر بالشيء مقتض للنهي عن ضدّه الخاصّ بأنّ ترك الضدّ ممّا يتوقّف عليه فعل الواجب توقّف الشيء على عدم مانعة ، فيجب بالوجوب المقدّميّ فيكون نفس الضدّ حراما.

فأجاب صاحب المعالم عن هذا الاستدلال بأنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما تنهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، انتهى.

ولازم ذلك أنّ من لم يرد الإزالة لم يكن ترك ضدّها الخاصّ وهو الصلاة واجبا حتّى يكون نفس ضدّها وهو الصلاة محرّما ؛ فمن عصى ولم يأت بالإزالة وأتى في وسعة الوقت بالصلاة صحّت صلاته لأنّها لم تكن منهيّة.

وكيف كان ، فقد اورد عليه في الكفاية بأنّ نهوض الحجّة على التبعيّة واضح لا يكاد يخفى وإن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة.

٥٥٦

وأوضحه في نهاية الدراية بأنّ الحاكم في الملازمة هو العقل ، وهو يرى وجوب المقدّمة من رشحات وجوب ذيها ، وإذ لا يعقل اشتراط وجوب ذيها بإرادته للزوم انقلاب الإيجاب إلى الإباحة ، كذلك لا يعقل اشتراط إيجاب المقدّمة بإرادة ذيها لأنّه فرع اشتراط وجوب ذيها (١).

ظاهرهما أنّ صاحب المعالم اشترط الوجوب في ناحية المقدّمة بإرادة ذيها وهو مناف لتبعيّة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بأنّ عبارة المعالم خالية عن ذكر الاشتراط ، بل نصّ في أنّ الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، وهو وإن كان غير صحيح لكن لم يكن بذلك الوضوح من الفساد.

نعم ، يرد عليه أنّ حال إرادة ذي المقدّمة غير دخيلة في ملاك وجوبها ، مع أنّه حال إرادته لا معنى لإيجاب مقدّمته لأنّه يريدها لا محالة (٢).

وهو وإن أنكر لفظ الاشتراط ولكن نسب إليه دخالة إرادة ذي المقدّمة في وجوب المقدّمة. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الملاك في وجوب المقدّمة.

قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره : مراد صاحب المعالم أنّ العقل لا يحكم بعد تحقّق وجوب ذي المقدّمة بوجوب المقدّمة ، حتّى فيما إذا عزم المكلّف على ترك ذيها. فهو لا ينكر حديث التبعيّة في الوجوب من جهة الإطلاق والاشتراط ، وإنّما أراد أنّ حكم العقل بوجوب المقدّمة عند فعليّة وجوب ذيها لا يكون في كلّ صورة ، بل يكون فيما إذا أراد المكلّف الإتيان بذيها.

ولعلّ كلام الاستاذ يرجع إلى أنّ صاحب المعالم اراد بيان اشتراط اتّصاف المقدّمة بالوجوب ، فلا ينافي أن يكون وجوب المقدّمة غير مشروط بشيء كوجوب

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٤٧.

(٢) مناهج الوصول : ١ / ٣٨٨.

٥٥٧

ذيها ، ولكنّ اتّصاف المقدّمة بالوجوب منوط بحال إرادة ذيها. وعليه فكلام صاحب المعالم هو الذي ينتهي إليه صاحب الفصول من أنّ المقدّمات الواجبة هي التي تترتّب عليها الواجبات.

ولقد أفاد وأجاد في الوقاية حيث قال : إنّ ما نسب إلى صاحب المعالم من توقّف وجوب الواجب الغيريّ على إرادة الغير ، وإلى صاحب الفصول من توقّف وجوب المقدّمة على الإيصال ناش من عدم التأمّل في كلامهما. ومقام هذين الفحلين المبرّزين أسمى من ذلك وأرفع.

والتأمّل الصحيح يشهد بأنّهما يعتبران في وقوع الواجب الغيريّ على صفة الوجوب بحيث يكون مصداقا له إرادة الغير أو إيصاله إليه. وتعرف إن شاء الله أنّ ما ذهبا إليه هو الصحيح ومرادهما واحد وإن اختلف التعبيران.

وقال في آخر كلامه : وما يوجد في كلام صاحب المعالم من الحكم بعدم وجوب المقدّمة مع عدم الداعي إلى فعل الواجب أو وجود الصارف عنه ينبغي أن يحمل على اعتبار نفس الإيصال ، والنسبة بين جميع ذلك وبين الإيصال وإن كانت عموما من وجه ، ولكن لمّا كان الغالب ملازمة القصد مع ترتّب الواجب وعدمه مع عدم الداعي أو وجود الصارف حتّى إنّه لا يقع الانفكاك بينهما إلّا نادرا عبّر رحمه‌الله عن اعتبار الإيصال بهذه العناوين (١).

فتحصّل أنّ تبعيّة وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها واضحة ولا مخالف فيها. نعم ، لا يتّصف كلّ مقدّمة بهذا الوجوب ، وهذا هو البحث الآتي.

__________________

(١) الوقاية : / ٢٥١ ـ ٢٧٥.

٥٥٨

المقام العاشر في ما هو الواجب في باب المقدّمة

يقع الكلام في أنّ الواجب بالوجوب المقدّمي هل هو خصوص ما قصد به التوصّل إلى ذي المقدّمة ، بحيث يكون هو الداعي إلى إتيانها سواء وصلت إليه أم لا ، أو خصوص ما اوصلت إليه سواء أتى بها بهذا الداعي أم لا ، أو خصوص ما قصد بها التوصّل وأوصلت ، أو أنّ الواجب هو ذات المقدّمة من دون اعتبار قيد من القيود؟

نسب الأوّل إلى الشيخ الأعظم قدس‌سره وذهب إلى الثاني صاحب الفصول ، كما أنّ المشهور ذهبوا إلى الاحتمال الأخير.

اعتبار قصد التوصّل

وقد عرفت أنّه منسوب إلى الشيخ وقد صرّح في الكفاية بذلك ، ولكنّه منظور فيه لأنّ ظاهر كلامه هو ما ذهب إليه المشهور من وجوب ذات المقدّمة بما هي مقدّمة حيث قال : على المحكيّ أنّ الحاكم بوجوب المقدّمة على القول به هو العقل وهو القاضي فيما وقع من الاختلافات ، ونحن بعد ما استقصينا التأمّل لا نرى للحكم بوجوب المقدّمة وجها إلّا من حيث إنّ عدمها يوجب عدم المطلوب. وهذه الحيثيّة هي التي يشترك فيها جميع المقدّمات ـ إلى أن قال ـ : فملاك الطلب الغيريّ في المقدّمة هذه الحيثيّة ، وهي ممّا يكفي في انتزاعها عن المقدّمة ملاحظة ذات المقدّمة (١).

ولذلك قال في نهاية الاصول : القول بكون الواجب عبارة عن المقدّمة المأتيّ بها بقصد التوصّل فقط وإن نسب إلى الشيخ ويوهّمه كلام مقرّر بحثه في بادئ النظر ،

__________________

(١) مطارح الأنظار : / ٧٢ ـ ٧٣.

٥٥٩

إلّا أنّ الدقّة في مجموع كلام المقرّر من الصدر إلى الذيل لعلّها ترشد إلى أنّ مقصوده ليس تخصيص الوجوب بالمقدّمة المأتيّ بها بقصد التوصّل ، بل مقصوده تنقيح ما ذكرناه سابقا في مسألة الطهارات الثلاث من أنّ عباديّة المقدّمات ووقوعها امتثالا إنّما تتحقّق بإتيانها بداعي الأمر النفسيّ المتعلّق بذيها وبقصد التوصّل بها إليه ، لا بقصد أمرها الغيريّ الترشّحيّ. وبالجملة ، ليس مقصوده دخالة قصد التوصّل في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب ، وإنّما المقصود دخالة ذلك في وقوعها امتثالا للأمر ومقرّبا إلى ساحة المولى كما في الطهارات الثلاث (١).

وكيف كان ، يمكن توجيه القول باعتبار قصد التوصّل في مصداقيّة المقدّمة للواجب بأنّ ذلك من جهة أمرين : أحدهما :

رجوع الحيثيّات التعليليّة إلى الحيثيّات التقيّديّة في الأحكام العقليّة. ومقتضاه هو أنّ الواجب بحكم العقل هو التوصّل لا الشيء لغاية التوصّل.

والآخر : أنّ التوصّل إذا كان بعنوانه واجبا ، فما لم يصدر هذا العنوان عن قصد واختيار لا يقع مصداقا للواجب ، وإن حصل منه الغرض مع عدم القصد والعمد إليه.

أورد المحقّق الأصفهانيّ على الأوّل بأنّ الأحكام العقليّة على قسمين : أحدهما : العمليّة ومباديها هو بناء العقلاء على الحسن والقبح ومدح فاعل بعض الأفعال وذمّ فاعل بعضها الآخر. وموضوع الحسن مثلا هو التأديب لا الضرب لغاية التأديب ، إذ ليس هناك بعث من العقلاء لغاية ، بل مجرّد بنائهم على المدح والممدوح هو التأديب.

وثانيهما : النظريّة لا تتكفّل فيه إلّا الإذعان بالواقع. (والمقام من قبيل الثاني) ، إذ من الواضح أنّ العقل لا يتكفّل فيه إلّا الإذعان بالواقع. ومن الواضح أنّ الإرادة التشريعيّة على طبق الإرادة التكوينيّة ؛ فكما أنّ الإنسان إذ أراد شراء اللّحم يريد المشي إلى السوق ، والأوّل لغرض مترتّب على الشراء والثاني لغرض مترتّب على المشي إلى السوق ، كذلك إذا وقع الأمران طرفا للإرادة التشريعيّة ، فإنّ المولى لا يريد

__________________

(١) نهاية الاصول : ١ / ١٩٢.

٥٦٠