عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

من سعد في بطن أمّه .. الحديث. (١)

أو عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة فمن كان له في الجاهليّة أصل فله في الاسلام أصل. (٢)

وغير ذلك من أخبار الطينة محمول على ما لا ينافي الاختيار كالحمل على بيان اختلاف الاستعدادات والقابليّات التي تكون لكلّ فرد من جهة الآباء والامّهات ومحيط قومه وعشيرته فإنّ أمثال هذه الاختلافات لا توجب سلب التمكّن والقدرة منه لتحصيل الكمالات وإلّا فلا يساعد مع اصول المذهب من عدله سبحانه وتعالى كما يشير إليه ما في التوحيد للشيخ الصدوق قدس‌سره بسنده عن محمّد بن أبى عمير سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشقيّ من شقي في بطن أمّه والسعيد من سعد في بطن أمّه ، فقال : الشقيّ من علم الله وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء والسعيد من علم الله وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال السعداء.

قلت له : فما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له. فقال : إنّ الله (عزوجل) خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله (عزوجل) وما خلقت الجن والإنس إلّا ليعبدون فيسّر كلا لما خلق له فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى. (٣)

قال المحقّق الشعرانيّ في ذيل أخبار الطينة المرويّة في اصول الكافي : مضامينها مخالفة لاصول المذهب وللروايات الآتية في الباب الرابع أعني باب «فطرة الخلق على التوحيد» ، وذلك لأنّ من اصول مذهبنا العدل واللطف وأن لم يخلق بعض الناس

__________________

(١) توحيد الصدوق / ٣٥٦.

(٢) الروضة من الكافي / ١٧٧.

(٣) توحيد الصدوق / ٣٥٦.

٤١

أقرب إلى قبول الطاعة وبعضهم أبعد والتبعيض في خلق المكلّفين مخالف لمقتضى العدل لأنّه تعالى سوّى التوفيق بين الوضيع والشريف مكّن أداء المأمور وسهّل سبيل اجتناب المحظور وخلق بعض الناس من طينة خبيثة إمّا أن يكون ملزما باختيار المعصية جبرا وهو باطل وإمّا أن يكون أقرب إلى قبول المعصية ممّن خلق من طينة طيّبة وهو تبعيض وظلم. وقلنا أنّه مخالف للروايات الآتية في الباب الرابع لأنّها صريحة في أنّ الله تعالى خلق جميع الناس على فطرة التوحيد وليس في أصل خلقهم تشويه وعيب وإنّما العيب عارض وهكذا ما نرى من خلق الله تعالى فإنّه خلق الماء صافيا وإنّما يكدّره الأرض التربة وكذلك الإنسان خلق سالما من الخبائث وأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه وأيضا القرآن يدلّ على أنّ جميع الناس قالوا : «بلى» في جواب (ألست بربّكم؟) فالأصل الذي عليه اعتقادنا أنّ جميع أفراد الناس متساوية في الخلقة بالنسبة إلى قبول الخير والشرّ وإنّما اختلافهم في غير ذلك. فإن دلّت رواية على غير هذا الأصل فهو مطروح أو مأوّل بوجه سواء علمنا وجهه او لم نعلم. (١)

وفيه أنّ الاختلافات الناشئة عن الآباء والامّهات ونحوهما ما لم يوجب الجبر لا تكون منافية لاصول المذهب من عدله تعالى ، خصوصا مع تضاعف الثواب لأحمزيّة الأعمال فإنّه تعالى سوّى لطفه بالنسبة إلى العباد ولكن يمنع عنه الظالمون فالوالد الذي يبعد ولده عن الإسلام والتعليمات الإلهيّة هو المقصّر كما أنّ الوالد الذي يزني ويسرق هو المقصّر في تكوين الولد من الحرام الذي يقتضي فيه بعض الاقتضاءات ولا تكون منافية أيضا مع الأخبار الدالّة على أنّ الله تعالى خلق جميع الناس على فطرة التوحيد فإنّ فطرة كلّ أحد على التوحيد ولا تسلبها الاختلافات

__________________

(١) شرح الكافي للمولى صالح المازندرانيّ ٨ / ٤.

٤٢

الناشئة المذكورة وإن أوجبت خفائها في بعض الأحيان.

وبالجملة تلك الأخبار لا تنافي اصول المذهب إلّا إذا كان مدلولها أنّ الطينة علّة تامّة بحيث لم يتمكّن من التغيير والتبديل.

فالاختلافات سواء كانت ناشئة عن الآباء والامّهات أو المحيط أو اكتساب نفس الإنسان لا تنافي الاختيار. هذا مضافا إلى احتمالات اخرى في معنى بعض هذه الروايات :

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : إنّ من ينتهي أمره إلى الراحة الدائمة الغير المتناهية واللذّات الغير المنقطعة والعطاء الغير المجذوذ فهو سعيد من أوّل أمره وإن كان في أيّام قلائل لا نسبة بينها وبين الغير المتناهي في تعب وشدّة وكذا في جانب الشقاوة. (١)

فتحصّل أنّ الإنسان متمكّن من الصلاح والفساد في جميع الأحوال فمع تمكّنه لا مجال للجبر. لا يقال إنّ السعادة والشقاوة من الذاتيّات والذاتيّ لا يعلّل.

لأنّا نقول : ليس كذلك لأنّهما أمران يحصلان للإنسان بحسب عمله وكسبه ولا يقاس عنوان السعيد أو الشقيّ بالعناوين الذاتيّة التي لا دخل للعمل فيه كإنسانيّة الإنسان أو حيوانيّة الحيوان.

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال : إنّ السعادة والشقاوة ليستا ذاتيّتين غير معلّلتين لعدم كونهما جزء ذات الإنسان ولا لازم ماهيّته بل هما من الامور الوجوديّة التي تكون معلّلة بل مكسوبة باختيار العبد وإرادته فمبدأ السعادة هو العقائد الحقّة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة ومبدأ الشقاوة مقابلاتها ممّا يكون لها في النفس آثار وصور ويرى جزائها وصورها الغيبيّة في عالم الآخرة على ما هو المقرّر في لسان الشرع والكتب العقليّة المعدّة لتفاصيل ذلك.

__________________

(١) رسالة الطلب والإرادة / ١٤٩.

٤٣

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ السعادة والشقاوة لمّا كانتا منتزعتين من الحيثيّات الوجوديّة وهي كما عرفت معلّلة كلّها لا سبيل إلى القول بأنّها من الذاتيّات الغير معلّلة والمحقّق الخراسانيّ قد أخذ هذه القضيّة من محالّها واستعملها في غير محلّها فصار غرضا للإشكال. (١)

__________________

(١) نفس المصدر / ١٣٩ ـ ١٤٠.

٤٤

الخلاصة

والبحث في جهات :

الجهة الاولى : إنّ الأمر على زنة الفلس مشترك لفظيّ بين معانيها من الطلب الالزاميّ والشيء والشأن والفعل وعليه فمعنى الأمر متعدّد والشاهد على تعدّد معنى الأمر المذكور هو اختلاف صيغ جمعه بالأوامر والامور إذ جمع الأمر بالمعنى الجامديّ هو الامور والأمر بالمعنى الحدثيّ هو الأوامر فدعوى الاشتراك المعنويّ في لفظة الأمر ينافيه الاختلاف المذكور لأنّه حاك عن اختلاف المفردات في المعاني.

الجهة الثانية : إنّ الحقّ هو اعتبار العلوّ في مفهوم الأمر من دون فرق بين كون العلوّ معنويّا أو ظاهريّا والدليل عليه هو التبادر وصحّة السلب عن الطلب من المساوي أو السافل وأمّا الاستعلاء فهو غير معتبر في حقيقة الأمر والشاهد له هو صدق الأمر على طلب العالي مع الغفلة عن علوّه مع أنّ الاستعلاء لو كان دخيلا لما صدق الأمر بدونه.

الجهة الثالثة : الإلزام والإيجاب معتبر في مادّة الأمر والدليل عليه هو التبادر وهو انسباق الإلزام من حاقّة مادّة الأمر كما أنّه متبادر من مرادفها في لغة الفارسيّة وهو «فرمان» ولذا يصحّ به الاحتجاج والمؤاخذة على المخالفة مع الأمر.

ثمّ إنّ التعبير بالظهور الانصرافيّ أو الظهور الإطلاقيّ أو الظهور العقليّ مكان تبادر المعنى من حاقّ اللفظ غير صحيح أو مسامحة. لأن الأوّل من جهة كثرة الاستعمال لا من جهة حاقّ اللفظ والثاني من جهة مقدّمات الحكمة لا من جهة حاقّ

٤٥

اللفظ فقطّ والثالث من جهة اللابدّيّة العقليّة لا من جهة دلالة اللفظ بنفسه ولعلّ منشأ هذه التعبيرات هو الخلط بين مادّة الأمر وبين صيغة الأمر أو جعل معنى مادّة الأمر هو مجرّد الطلب مع ما عرفت من أنّ معناه هو الطلب مع الإلزام لا صرف الطلب وإذا اتّضح ذلك في مادّة الأمر كانت مادّة النهي أيضا كذلك بقرينة المقابلة فإنّ المتبادر منها هو الزجر عن الشيء على سبيل الإلزام والإيجاب.

ويتفرّع على ذلك أنّ الواجب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو البعث نحو المعروف والزجر عن المنكر على سبيل الإلزام والإيجاب إذ المأمور به في مثل قوله تعالى «وأمر بالمعروف وانه عن المنكر» هو الأمر والنهي وهما البعث أو الزجر على سبيل الإلزام والإيجاب وعليه فلا يكفي في الامتثال مجرّد الطلب كالاستدعاء أو الالتماس إذا احتيج إلى الأمر والنهي فلا تغفل.

الجهة الرابعة : إنّه يقع البحث في المقامين :

المقام الأوّل في مفهوم الطلب والإرادة :

ولا يخفى عليك أنّ المتبادر من لفظة الإرادة هي الصفة النفسانيّة ومن لفظة الطلب هو الفعل وهو التصدّي نحو تحصيل شيء في الخارج والأوّل من مقولة الكيف النفسانيّ والثاني من مقولة الفعل ودعوى اتّحادهما كما عن جماعة منهم صاحب الكفاية غير صحيحة لما عرفت من أنّهما مقولتان لا مقولة واحدة ثمّ إنّ الطلب وهو التصدّي إمّا يكون بنفسه بأن يأخذ الطالب يد غيره ويسوقه نحو العمل أو بالواسطة بأن يقول لغيره «اضرب» أو «آمرك بالضرب» وكلاهما بعث وتحريك نحو العمل ويصدق عليهما عنوان الطلب فالطلب عنوان عامّ يصدق على الطلب الخارجيّ وعلى الطلب الإنشائيّ فلا وجه لتخصيص الطلب بأحدهما.

٤٦

ثمّ لا يخفى عليك أنّ القول بتغاير الطلب والإرادة لا يؤول إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من الاعتقاد بالطلب النفسيّ لأنّ الطلب عندهم من الصفات النفسانيّة بخلاف ما قلناه فإنّ الطلب عنوان الفعل وهو مغاير مع الإرادة التي تكون هي من الصفات النفسانيّة.

المقام الثاني في حقيقة الكلام النفسيّ والطلب النفسيّ بناء على ما ذهب إليه الأشاعرة وأدلّتها :

ولا يخفى عليك أنّهم ذهبوا إلى أنّ الكلام النفسيّ في الأخبار أمر وراء الكلام اللفظيّ وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبّر عنه بالألفاظ ويقال هو الكلام حقيقة وهو قديم قائم بذاته تعالى وهو غير العبارات التي نعترف بحدوثها وعدم قيامها بذاته تعالى والكلام النفسيّ لا يختلف دون الكلام اللفظيّ فإنّه يختلف عباراته باختلاف الأزمنة والأمكنة والأقوام وأيضا الكلام النفسيّ أمر يغاير مع العلم إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ويغاير مع الإرادة أيضا إذ قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أو لا؟

ثمّ إنّ الدالّ على الكلام النفسيّ لا ينحصر بالألفاظ إذ ربما يدلّ عليه بالإشارة والكتابة وأيضا ذهبوا إلى أنّ الطلب النفسيّ غير الإرادة في الأوامر واستدلّوا عليهما بامور :

الأوّل : إنّ الدليل على أنّ الكلام النفسيّ مغاير مع العلم أنّ الرجل قد يخبر عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه فالخبر هو النسبة الحكميّة بين الموضوع والمحمول والمراد منها هو حكم النفس وإذعانها بها وهو غير انكشاف ثبوت شيء لشيء فالإذعان بالوقوع المأخوذ في الجمل الخبريّة غير العلم الواقعيّ بوقوع النسبة ضرورة أنّه قد يخبر المتكلّم وهو شاكّ بل قد يخبر وهو عالم بعدم الوقوع فالمراد من

٤٧

الإذعان حينئذ هو عقد القلب على الوقوع جعلا على نحو ما يكون القاطع معتقدا وهو الذي يعبّر عنه بالتجزّم.

اجيب عنه بأنّ النسبة التي دلّت الجملة عليها ليست شيئا آخر وراء العلم إذ النسبة المتصوّرة بين المحمول والموضوع أعني هذا ذاك في الخارج تقوّم بالنفس لا بنفسها بل بصورتها فهي كالمعلومات الأخر من حيث أنّ قيامها قيام علميّ لا كقيام العلم.

والذي يجب على الأشعريّ هو إثبات قيام شيء بالنفس بنفسه على حدّ قيام العلم والإرادة لا على حدّ قيام المعلوم والمراد ، فإنّ هذا القيام لا يوجب صفة اخرى بالنفس حتّى ينفع في إثبات الكلام القائم بذاته تعالى وراء علمه وسائر صفاته العليا.

فالخبر هو الكلام اللفظيّ ومدلوله هو النسبة أعني «هذا ذاك» وهي كما عرفت هو العلم الانفعاليّ وثبوت شيء لشيء والنسبة المذكورة غير شئونها من الإقرار والإذعان فإنّ شئونها من باب علم فعليّ قائم بالنفس قياما صدوريّا والنسبة من باب ثبوت شيء لشيء والانكشاف والعلم الانفعاليّ ومدلول الكلام هو النسبة التي تكون متعلّقة للإقرار والإذعان والجزم والتجزّم لا نفس الإقرار والإذعان والجزم والتجزّم إذ مدلوليّة الوجود الحقيقيّ من دون وساطة وجه وعنوان أمر غير معقول ودعوى إمكان التخلّص عنه بدلالة الكلام اللفظيّ على نفس المفهوم وذاته لا بما أنّه موجود خروج عن فرض الأشعريّ فإنّه قائل بدلالة الكلام اللفظيّ على نفس الحكم والإقرار والإذعان بوجودها التكوينيّ من دون وساطة مفهوم وهو أمر غير معقول.

الثاني : إنّه ممّا يدلّ على أنّ الطلب النفسيّ أمر وراء الإرادة هي نفس الأوامر الامتحانيّة لأنّها لا توجد بدون السبب والمفروض عدم الإرادة فيها فلا بدّ من وجود صفة اخرى لتكون هي الباعثة إليها وهذه الصفة تسمّى بالطلب النفسيّ فإذا ثبت ذلك في الأوامر الامتحانيّة ثبت في غيرها بعدم القول بالفصل.

٤٨

وأجيب عنه بأنّ السبب في الأوامر مطلقا هو الإرادة غاية الأمر أنّ المنشأ للأوامر الجدّيّة إرادة نفس المأمور به وفي الأوامر الامتحانيّة إرادة إتيان مقدّماته بقصد التوصّل بها إلى المأمور به.

وعليه فلا حاجة إلى الطلب النفسيّ في تحقّق الأوامر الامتحانيّة ونحوها. هذا مضافا إلى أنّ تحقّق صفة الإرادة أو التمنّي أو الترجّي في النفس قد يكون لتحقّق مبادئها في متعلّقاتها كمن اعتقد المنفعة في ضرب زيد وقد يكون تحقّق تلك الصفات في النفس لا من جهة متعلّقاتها بل توجد النفس تلك الصفات من جهة مصلحة في نفسها كإتمام الصلاة من المسافر فإنّه يتوقّف على قصد الإقامة عشرة أيّام في بلد من دون مدخليّة لبقائه في ذلك البلد بذلك المقدار وجودا وعدما ومع ذلك يتمشّى قصد البقاء من المكلّف مع علمه بأنّ ما هو المقصود ليس منشأ للأثر المهمّ.

فإذا صحّ تحقّق الإرادة لمنفعة فيها لا في المراد في الإرادة التكوينيّة صحّ ذلك في الإرادة التشريعيّة ودعوى امتناع تعلّق الإرادة بالبقاء من غير مصلحة في البقاء مندفعة بكفاية ترتّب المصلحة على القصد المضاف إلى الإقامة ولا حاجة إلى وجود المصلحة في نفس البقاء.

الثالث : إنّهم استدلّوا على مغايرة الطلب النفسيّ مع الإرادة بأوامر الكفّار بالإسلام والإيمان والعصاة بالطاعة والامتثال فإنّ هذه الأوامر خالية عن الإرادة الجدّيّة وإلّا لزم تخلّف المراد عن الإرادة وهو محال ولكن مع ذلك توجد صفة نفسانيّة اخرى غير الإرادة في هذه الأوامر وهذه الصفة تسمّى بالطلب النفسيّ.

وأجيب عنه : بأنّ المحال هو تخلّف المراد عن الإرادة التكوينيّة لا الإرادة التشريعيّة والإرادة في الأوامر المذكورة هي الإرادة التشريعيّة وهي تعلّقت بإتيان الفعل مع وساطة اختيارهم وهذه الإرادة جدّيّة من قبل المولى وليس مقتضاها هو صدور الفعل عنهم قهرا وإلّا لزم الخلف كما لا يخفى.

٤٩

وقد انقدح ممّا ذكر عدم تماميّة استدلالاتهم على وجود الكلام النفسيّ في الأخبار ووجود الطلب النفسيّ في الأوامر.

تبصرة : ولا يخفى أنّ البحث عن الجبر والاختيار بحث كلاميّ لا يناسبه المقام ومع ذلك خرج أصحابنا الأصوليّون عن المباحث الاصوليّة وبحثوا عنه.

ومجمل الكلام فيه أنّ الوجدان أدلّ دليل على اختياريّة الأفعال إذ معيار الاختياريّة هو التمكّن من طرفي الفعل والترك وهو موجود في أنفسنا بالوجدان.

وهذا التمكّن من مواهب الله سبحانه تعالى وهو الذي يخرجنا عن المجبوريّة وعن التفويض والاستقلال كما اشير إليه في الأخبار بأنّه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين.

وأمّا تعريف الاختياريّ بالمسبوقيّة بالإرادة ففيه أنّه منقوض بما يصدر من العشّاق الذين لم يتمكّنوا من الخلاف فإنّهم لا يعدّون مختارين مع أنّ ما يصدر عنهم مسبوق بالإرادة فالصحيح أن يعرف الاختياريّ بما يصدر عنه مع التمكّن من الخلاف وهو صادق على أفعاله سبحانه وتعالى مع كونها مستندة إلى صفاته وأسمائه الذاتيّة الواجبة لوجود ملاك الصدق وهو التمكّن والقدرة على خلاف ما صدر عنه عزوجل.

فوجوب القدرة بالذات فيه تعالى أو وجوب التمكّن بالغير فينا لا ينافي الاختيار.

ثمّ إنّ السعادة والشقاوة ليستا ذاتيّتين بل هما مكسوبتان باختيار العبد وإرادته فما يتراءى في الأخبار من خلاف ذلك مأوّل أو مطروح لمنافاته مع اصول المذهب كما لا يخفى.

٥٠

الفصل الثاني : فيما يتعلّق بصيغة الأمر :

ففيه مباحث :

المبحث الأوّل : في تحقيق معنى صيغة الأمر :

وقد تقدّم بيان الفرق بين الإنشاء والإخبار في المفاد إذ الجمل الإخباريّة للحكاية والإنشائيّة للإيجاد وصيغة الأمر من الإنشاءات وهي كما مرّ لإنشاء البعث.

والبعث هو تحريك المطلوب منه نحو العمل المقصود وهو تارة يحصل بالتحريك العمليّ مثل أن يأخذ الطالب يد المطلوب منه ويجرّه نحو المطلوب والمقصود واخرى يحصل بالتحريك الإنشائيّ مثل أن يقول الطالب للمطلوب منه : افعل كذا أو آمرك بكذا.

فالفرق بين «اضرب» و «تضرب» في أنّ الأوّل إيجاديّ دون الثاني فإنّه حكائيّ وذلك بحكم التبادر فإنّ «اضرب» لإيجاد البعث والتحريك نحو المطلوب و «تضرب» للإخبار عن وقوع الضرب وصدوره كما يكون في اللغة الفارسيّة فرق واضح بين قولنا : «بزن» وقولنا «مى زنى».

ولو كانت الأوامر مستعملة في الحكاية لما كان فرق بين «اضرب» و «تضرب» وبين «اضرب» و «أنا اريد منك الضرب» وكانا مترادفين مع أنّ المعلوم خلافه.

٥١

فمفاد صيغة الأمر كسائر الإنشاءات إيجاديّ لا حكائيّ. ولذلك لا يتّصف بالصدق والكذب بخلاف الخبر لأنّ الصدق والكذب من كيفيّات الحكاية فإنّها إن كانت مطابقة لما ثبت في موطنه من ذهن أو خارج فهي صدق وإلّا فهي كذب وأمّا الإنشاءات فلا موطن لها إلّا نفس الإنشاء كما لا يخفى.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره في تهذيب الاصول : التحقيق أنّ مفاد هيئة الأمر إيجاديّ لا حكائيّ فهي موضوعة بحكم التبادر لنفس البعث والإغراء نحو المأمور به فهي كالإشارة البعثيّة والإغرائيّة وكإغراء جوارح الطير والكلاب المعلّمة. وإن شئت ففرق بينهما بأنّ انبعاث الحيوانات يكون بكيفيّة الصوت والحركات والإشارات المورثة لتشجيعها أو تحريكها نحو المقصود لكن انبعاث الإنسان بعد فهم بعث مولاه وإحراز موضوع الإطاعة لأجل مبادئ موجودة في نفسه كالخوف من عقابه وعذابه والرجاء لرحمته وغفرانه ورضوانه. (١)

أورد في الدرر على كون صيغة «افعل» إنشائيّا بأنّ كون الألفاظ علّة لتحقّق معانيها ممّا لم أفهم له معنى محصّلا ضرورة عدم كون تلك العلّيّة من ذاتيّات الألفاظ وما ليس علّة ذاتا لا يمكن جعله علّة لما تقرّر في محلّه من عدم قابليّة العلّيّة وأمثالها للجعل. والذي أتعقّل من الإنشائيّات أنّها موضوعة لأن تحكي عن حقائق موجودة في النفس مثلا هيئة «افعل» موضوعة لأن تحكي عن حقيقة الإرادة الموجودة في النفس فإذا قال المتكلّم : اضرب زيدا ، وكان في النفس مريدا لذلك فقد أعطت الهيئة المذكورة معناها فإذا قال ذلك ولم يكن مريدا واقعا فالهيئة المذكورة ما استعملت في معناها.

ثمّ استشكل على نفسه بأنّه قد يؤتى بالألفاظ الدالّة على المعاني الإنشائيّة

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٣٥.

٥٢

وليس في نفس المريد معانيها مثلا قد يصدر من المتكلّم صيغة «افعل» كذا في مقام امتحان العبد وفي مقام التعجيز وأمثال ذلك وقد يتكلّم بلفظة «ليت» و «لعلّ» ولا معنى في النفس يطلق عليه التمنّي أو الترجّي فيلزم ممّا ذكر أن تكون الألفاظ في الموارد المذكورة غير مستعملة أصلا أو مستعملة في غير ما وضعت له والالتزام بكلّ منهما لا سيّما الأوّل خلاف الوجدان.

فأجاب عنه بأنّ تحقّق صفة الإرادة أو التمنّي أو الترجّي في النفس قد يكون لتحقّق مباديها في متعلّقاتها ... إلى أن قال : وقد يكون تحقّق تلك الصفات في النفس لا من جهة متعلّقاتها بل توجد النفس تلك الصفات من جهة مصلحة في نفسها كما نشاهد ذلك وجدانا في الإرادة التكوينيّة قد توجدها النفس لمنفعة فيها مع القطع بعدم منفعة في متعلّقها ويترتّب عليها الأثر. مثال ذلك أنّ إتمام الصلاة من المسافر يتوقّف على قصد الإقامة عشرة أيّام في بلد من دون مدخليّة لبقائه في ذلك البلد بذلك المقدار وجودا وعدما. (١)

وفيه كما مرّ في مباحث الوضع أنّ ما لا معنى له هو جعل شيء علّة لشيء آخر تكوينا لعدم قابليّة العلّيّة التكوينيّة وأمثالها من الامور الواقعيّة للجعل إذ العلّيّة متوقّفة على واجديّة الشيء لمراتب المعلول واقعا حتّى يكون علّة لها فإذا لم يكن شيء واجدا لمراتب المعلول لا يمكن أن يجعل له العلّيّة لأنّ فاقد الشيء لا يكون معطيا له والواقع لا ينقلب عمّا هو عليه والواجديّة المذكورة اللازمة في العلّيّة أمر واقعيّ وليست بجعليّة وهذا أمر صحيح في الامور الواقعيّة والانتزاعيّة التابعة للتحوّلات الواقعيّة الخارجيّة.

وأمّا في الامور الاعتباريّة فلا مانع من جعل شيء علّة اعتباريّة لشيء آخر بل

__________________

(١) الدرر ١ / ٧١ ـ ٧٢.

٥٣

هو بمكان من الإمكان إذا اعتبره العقلاء كألفاظ العقود والإيقاعات وحروف القسم والتحضيض والنداء ونحوها فإنّ الامور الاعتباريّة لا تتوقّف على الواقعيّات الخارجيّة بل تكون متوقّفة على الاعتبارات العقلائيّة.

ولذا لا مجال لتقسيمها إلى الصدق والكذب لأنّها إيجاديّ وأمرها دائر بين الوجود والعدم لا الصدق والكذب ولذلك قال في تهذيب الاصول : وليس المراد من الإيجاد إيجاد شيء في عالم التكوين حتّى يقال إنّا لا نتصوّر له معنى بل المراد هو إيجاد بعث اعتباريّ في دائرة المولويّة والعبوديّة مكان البعث بالجوارح من يده ورجله وقد عرفت نظائره في حروف القسم والنداء فإنّها موجدات بنحو من الإيجاد لمعانيها وفي ألفاظ العقود والإيقاعات فإنّها عند العقلاء موضوعة لإيجاد الأمر الاعتباريّ من معاني البيع والإجارة والطلاق وقس عليه المقام. (١)

فإذا عرفت إمكان اعتبار العلّيّة لشيء في الامور الاعتباريّة يثبت ذلك في هيئة «افعل» بحكم التبادر فإنّ المنساق من قولنا : «اضرب» في اللغة العربيّة و «بزن» في اللغة الفارسيّة ليس إلّا إيجاد البعث لا الحكاية عن الإرادة ودليل ذلك هو الفرق الواضح بين قولنا : «أنا اريد منك الضرب» و «اضرب» في اللغة العربيّة وبين قولنا في اللغة الفارسيّة : «من از تو زدن را مى خواهم» و «بزن».

ولذا لا يتفحّص العقلاء في معاملاتهم وإنشاءاتهم وإيقاعاتهم عن كونها صادقة أو كاذبة إذ بنفس الإنشاء يرون ما أنشأه العاقد موجودا. ألا ترى أنّ المقصود من الأحكام الصادرة في المناصب من القضاوة والوزارة والولاية والوكالة حاصلا بنفس إنشائها ولا يتوقّف على حكايتها عن إرادتها وصدقها في حكايتها.

هذا كلّه مضافا إلى ما في دعوى إمكان إيجاد الصفات المذكورة كالإرادة أو

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٣٥.

٥٤

التمنّي أو الترجّي في النفس لمصلحة في نفسها فيما لا يكون المصلحة في متعلّقها من عدم كلّيّتها لاستحالة الإرادة أو الترجّي بالنسبة إلى ما لا يمكن صدور العمل عنه كالجمادات فإيجاد الترجّي في النفس بالنسبة إلى الجماد ولو كان المصلحة في نفسه لا في متعلّقه غير معقول.

لا يقال : لا وظيفة للألفاظ إلّا الدلالة على المعنى بالوضع ومرتبة المعنى مقدّمة على اللفظ فكيف يعقل إيجاده به. (١)

لأنّا نقول : هذا صحيح لو لم نتصوّر الإيجاد للألفاظ وأمّا مع تصوّر إيجاديّة الألفاظ فمرتبة المعنى الموجد بها متأخّرة عن الألفاظ كما أنّ شأن الألفاظ لا ينحصر في الدلالة على المعنى والحكاية عنه.

لو قيل كما في الوقاية : إنّ الهيئة موضوعة للدلالة على الإرادة بضميمة معنى حرفيّ يعبّر عنه بالاقتضاء والبعث فإن كانت الإرادة موجودة في النفس فهي مستعملة في معناها بالإرادة الجدّيّة والاستعماليّة معا وإلّا فهي مستعملة فيه بالثانية فقطّ ولكنّ الظاهر منها عند الشكّ هو انبعاثها عن الإرادة الجدّيّة ووجودها في النفس على حذو ما سبق في مبحث المجاز.

وعليه فمفاد هيئة «افعل» هو مفاد : «إنّي مريد منك الفعل» ولا تخالفه إلّا في أمرين : أحدهما : إنّ دلالة الهيئة بسيطة ودلالة الجملة الخبريّة حاصلة من عدّة دوال ومدلولات. والثاني : اشتمالها على المعنى الحرفيّ المتقدّم وبمثله نقول في التمنّي والترجّي ونحوهما. (٢)

قلت : إنّ صاحب الوقاية وإن أصاب في قوله : إنّ الهيئة موضوعة للمعنى

__________________

(١) كما في الوقاية / ١٩٢.

(٢) الوقاية / ١٩٣.

٥٥

الحرفيّ الذي يعبّر عنه بالاقتضاء والبعث ولكنّه لم يصب في دعوى كونها موضوعة للدلالة على الإرادة لأنّ دلالة الإنشاءات على أنّ المتكلّم بها مريدا لها تكون بدلالة الاقتضاء لا بالدلالة اللفظيّة فإنّها بما أنّها فعل من الأفعال وصادرا من المتكلّم الحكيم تدلّ على صدورها بالإرادة ولذا يقال إنّ الأصل في الأفعال حملها على الجدّ حتّى يظهر خلافه وكثرة الصدور لا عن جدّ لا يوجب سدّ باب الأصل المزبور.

ومن المعلوم أنّ هذه الدلالة ليست دلالة لفظيّة وضعيّة بل هي مستندة إلى بناء العقلاء على أنّ الأصل في الأفعال هو حملها على الجدّ.

بقي هنا شيء : وهو أنّ سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره قال بعد ردّ ما قاله صاحب الدرر من امتناع كون الصيغ الإنشائيّة إيجاديّا : نعم يمكن أن يقال إنّ ما ذهب إليه صاحب الكفاية من كون الإنشاءات إيجاديّا لا حكائيّا من متفرّداته لعدم سابقة لذلك في كلمات الأصحاب لأنّ ظاهر المتنازعين في وجود الطلب النفسانيّ وراء الإرادة هو تسليم كون الصيغة حاكية وإنّما النزاع في أنّها حاكية عن الإرادة الحقيقيّة أو الطلب النفسانيّ فالحكاية مفروغ عنها عندهم. وأيضا ظاهر من قال بأنّ قولنا : «اضرب» مساوق لقولنا : «اريد منك الضرب» هو دلالة الصيغة على الإرادة الواقعيّة لا الإنشائيّة وأيضا ذهاب الأصحاب إلى انسلاخ صيغ التمنّي والترجّي ونحوهما عن معانيها في القرآن الكريم فيما إذا استند إلى الله سبحانه وتعالى قرينة على أنّ المقصود من صيغ التمنّي والترجّي ونحوها هي حقيقة الترجّي والتمنّي التي كانت الصيغ حاكية عنها لا المعاني الإنشائيّة التي توجد بنفس الصيغ وإلّا لما احتاج إلى انسلاخها. انتهى ويمكن أن يقال : إنّ عدم سابقة في الكلمات لا يلزم بطلان ما حقّقه صاحب الكفاية. ألا ترى أنّ السابقين ذهبوا إلى أنّ العامّ المخصّص مستعمل في المعاني المجازيّة قبل سلطان العلماء ومع ذلك كان الحقّ مع سلطان العلماء حيث قال إنّ التخصيص في الإرادة الجدّيّة ومعه لا يلزم استعمال العامّ في غير معناه حتّى يكون مجازا.

٥٦

فتحصّل ممّا تقدّم أنّ إرادة البعث والطلب كسائر الدواعي من التهديد والإنذار والاستهزاء خارجة عن مدلول الصيغة ومفادها لعدم الحكاية في الإنشاءات. والصيغة موضوعة لإيجاد البعث والإغراء نحو المأمور به نعم كان مقتضى الأصل في الإيجاد كسائر الأفعال هو إرادته بالجدّ ما لم ينصب قرينة على الخلاف.

وحدة المعاني الإنشائيّة :

ولا يخفى عليك أنّ مقتضى خروج الإرادة الحقيقيّة كسائر الدواعي عن مفاد الإنشاء هو انحصار معنى صيغة «افعل» في إنشاء البعث فلا تعدّد لمعناها حتّى يكون اللفظ مشتركا لفظيّا بينها وحيث لا استعمال لها إلّا في إنشاء البعث حتّى مع سائر الدواعي فلا يستلزم استعماله مع سائر الدواعي مجازا في الكلمة لأنّ صيغة «افعل» في جميع التقادير تكون مستعملة في إنشاء البعث الذي كانت موضوعة له.

ولقد أفاد وأجاد صاحب الكفاية حيث قال : ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها وقد عدّ منها الترجّي والتمنّي والتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجيز إلى غير ذلك وهذا كما ترى. ضرورة أنّ الصيغة ما استعملت في واحد منها بل لم تستعمل إلّا في إنشاء الطلب إلّا أنّ الداعي إلى ذلك كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعيّ اخرى أحد هذه الامور كما لا يخفى. انتهى

ولا يخفى عليك أنّ المنشأ هو البعث والتحريك والداعي هو إرادة ذلك جدّا ففي العبارة مسامحة ولكنّ الأمر سهل بعد معلوميّة المراد.

نعم لو قلنا بأنّ صيغة «افعل» كسائر الإنشاءات عبارة عن اعتبار الأمر النفسانيّ وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكل ذلك لكان للالتزام بتعدّد المعنى لصيغة الأمر مجال فإنّ الصيغة حينئذ كما في المحاضرات موضوعة للدلالة على إبراز الاعتباريّ النفسانيّ في الخارج ومن الطبيعيّ أنّ ذلك يختلف باختلاف الموارد ويتعدّد بتعدّد المعاني ففي كلّ مورد تستعمل الصيغة في معنى يختلف عن

٥٧

استعمالها في معنى آخر في المورد الثاني ويغايره وهكذا. فإنّ المتكلّم تارة يقصد بها إبراز ما في نفسه من اعتبار المادّة على ذمّة المخاطب واخرى إبراز ما في نفسه من التهديد وثالثة إبراز ما في نفسه من السخريّة أو التعجيز أو ما شاكل ذلك فالصيغة على الأوّل مصداق للطلب والبعث الاعتباريّين وعلى الثاني مصداق للتهديد كذلك وعلى الثالث مصداق للسخريّة وهكذا ومن الواضح أنّها في كلّ مورد من تلك الموارد تبرز معنى يباين لما تبرز في المورد الثاني ويغايره. (١)

ولكن عرفت ضعف هذا المبنى فلا مجال للتعدّد وجميع المعاني المذكورة من قبيل الدواعي لإيجاد البعث ولم تستعمل الصيغة في واحد منها فضلا عن أن يكون هو الموضوع له.

وممّا ذكر يظهر ما في تهذيب الاصول حيث قال قد تقدّم منّا تحقيق القول في الحقيقة والمجاز ومرّ أنّ اللفظ فيهما مستعمل في الموضوع له ولكن ليثبت الذهن فيه ولا يتجاوز إلى غيره أو يتجاوز إلى شيء آخر بادّعاء أنّ الثاني أيضا عينه فحينئذ يتّضح أنّ الترجّي والتمنّي والتهديد وإن كانت ربّما تراد من الأمر لكن لا في عرض البعث والإغراء بل المستعمل فيه مطلقا هو البعث وإنّما يجعل عبرة لغيره أحيانا. انتهى موضع الحاجة منه.

لما عرفت من أنّ الدواعي بأجمعها خارجة عن حريم معنى هيئة «افعل» وعليه فلا يكون داعي البعث الحقيقيّ داخلا في معنى هيئة «افعل» حتّى يحتاج في سائر الاستعمالات إلى ادّعاء كونها عين الداعي الحقيقيّ ويكون الداعي الحقيقيّ عبرة لها ومقدّمة عليها.

هذا مضافا إلى ما مرّ في مبحث الحقيقة والمجاز من منع لزوم استعمال اللفظ في

__________________

(١) راجع المحاضرات ٢ / ١٢٣.

٥٨

الموضوع له في جميع موارد المعاني المجازيّة بل عدم إمكانه في بعض المجازات كاستعمال اللفظ في اللفظ فراجع.

اختصاص الصيغة بالداعي الحقيقيّ :

بعد ما عرفت من خروج جميع الدواعي عن حقيقة معنى هيئة «افعل» يقع البحث عن كيفيّة اختصاص هيئة «افعل» بالداعي الحقيقيّ.

ربما يقال كما في الكفاية بأنّه يمكن أن يدّعى أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك لابداع آخر منها فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة وإنشائه بها تهديدا مجازا وهذا غير كونها مستعملة في التهديد وغيره من سائر الدواعي لأنّ استعمالها في البعث بسائر الدواعي خلاف الوضع لا الموضوع.

وبعبارة اخرى لا يلزم من سائر الاستعمالات خلاف الموضوع له والمجاز في الكلمة وإنّما اللازم هو خلاف الوضع.

وربّما يوجّه اختصاص الوضع بالداعي الحقيقيّ بأنّ الواضع في صدد رفع الحاجة عن المستعملين فحيث إنّ غلبة استعمالاتهم بداعي الجدّ صار تلك الغلبة من القرائن الحافّة الدالّة على اختصاص الوضع بالداعي الحقيقيّ.

يمكن أن يقال : إنّ رفع الحاجة المذكورة من قبيل دواعي الوضع. ومن المعلوم ان الدواعي والأغراض في الأفعال لا توجب تقييدا فيها ولذلك لم يذهب أحد إلى خيار تخلّف الوصف والقيد فيما إذا اشترى شيئا بداع خاصّ وتخلّف عنه وليس ذلك إلّا لعدم تقييد الشراء بالداعي منه. وعليه فلا وجه لاختصاص الوضع بالداعي الحقيقيّ.

لا يقال : إنّ وجه اختصاص الوضع بالداعي الحقيقيّ هو اشتراط الواضع على المستعملين في استعمالاتهم أن لا يستعملوا إلّا فيما إذا كان الداعي حقيقيّا.

لأنّا نقول : لا دليل على الاشتراط المذكور ولو سلّم ذلك فلا دليل على لزوم

٥٩

العمل به كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره في المعاني الحرفيّة.

ذهب استاذنا إلى أنّ الاختصاص المذكور من جهة أنّ لصيغة «افعل» وضعين :

أحدهما : وضع اللفظ لإنشاء البعث.

وثانيهما : أنّ لفظ «افعل» بما هو فعل من الأفعال يكون موضوعا للدلالة على الإرادة الجدّيّة كما أنّ البعث الفعليّ الخارجيّ كالضرب على قفا أحد موضوع للدلالة على إرادة الانطلاق نحو عمل مثلا.

ولذا يقال : ظاهر الأفعال يكون علامة الإرادة الحقيقيّة وهو وضع آخر غير الوضع الأوّل وهكذا يكون الأمر في سائر الصيغ الإنشائيّة.

يمكن أن يقال : إنّ دعوى الوضع الثاني غير الوضع الأوّل غير ثابتة. ولعلّ وجه حمل الأفعال على الإرادة الحقيقيّة هو بناء العقلاء على أنّ الأصل في الأفعال سواء كانت لفظا أو غير لفظ حملها على الجدّ حتّى يظهر خلافها وكثرة الصدور عن غير الجدّ لا يوجب سدّ باب الأصل المذكور.

وعليه فإذا قامت قرينة على خلاف الإرادة الجدّيّة لا يلزم منه استعمال الكلمة في خلاف الموضوع له ولا في خلاف الوضع كما لا يلزم من تخصيص العامّ فإنّ التصرّف في الإرادة الجدّيّة دون الإرادة الاستعماليّة.

وممّا ذكر ينقدح ما في دعوى صاحب الكفاية من مجازيّة استعمال الصيغة مع سائر الدواعي.

وأمّا ما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره من توجيه اختصاص الوضع بالداعي الحقيقيّ بامور :

منها : انصراف صيغة «افعل» إلى ما كان بداعي الجدّ فإنّ غلبة الاستعمال على داعي الجدّ.

ومنها : اقتضاء مقدّمات الحكمة فإنّ المستعمل فيه وإن كان مهملا من حيث

٦٠