عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

فتحصّل أنّ العلم الإجماليّ في الصورة الثالثة مانع من الرجوع إلى البراءة عن وجوب الصلاة ، ولكن ذهب في المحاضرات إلى جواز الرجوع إليها بأنّ المكلّف وان علم إجمالا بوجوب نفسيّ مردّد بين تعلّقه بالصلاة أو الوضوء إلّا أنّ العلم الإجماليّ إنّما يكون مؤثّرا فيما إذا تعارضت الاصول في أطرافه وأمّا إذا لم تتعارض فيها فلا أثر ، وبما أنّ أصالة البراءة في المقام لا تجري بالإضافة إلى وجوب الوضوء لفرض العلم التفصيليّ به واستحقاق العقاب على تركه على كلا التقديرين ، أي سواء كان وجوبه نفسيّا أم كان غيريّا ، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الصلاة للشكّ فيها وعدم قيام حجّة عليه ، ومعه لا محالة يكون العقاب على تركها عقابا بلا بيان وحجّة إلى أن قال ـ :

وقد تحصّل من ذلك أنّ العلم الإجماليّ بوجوب نفسيّ مردّد بين تعلّقه بالوضوء أو الصلاة وإن لم ينحلّ حقيقة إلّا أنّه ينحلّ حكما من ناحية عدم جريان الأصل في أحد طرفيه (١).

لا يقال إنّ أصالة البراءة عن وجوب نفسيّ للصلاة معارضة مع أصالة البراءة عن وجوب نفسيّ للوضوء ، وذلك لأنّ القدر المعلوم بالتفصيل إنّما هو أصل تعلّق الوجوب بالوضوء بوجوب جامع بين النفسيّ والغيريّ ، وأمّا خصوصيّة كونه نفسيّا أو غيريّا فهي مشكوكة ، فبعد تعارض الاصول فمقتضى العلم الإجماليّ هو الاحتياط كما هو مختاره في الصورة الاولى ، وهي ما إذا علم المكلّف بوجوب كلّ من الفعلين ، أي الوضوء والصلاة ، في الخارج وشكّ في أنّ وجود أحدهما مقيّد بوجود الآخر مع علمه بتماثل وجوبيهما من حيث الإطلاق والاشتراط من بقيّة الجهات.

لأنّا نقول : الفرق بين مقامنا والصورة الاولى التي علم المكلّف بوجوب كلّ من

__________________

(١) المحاضرات : ٢ / ٣٩٠.

٥٠١

الفعلين ، أي الوضوء والصلاة ، في الخارج هو العلم بالوجوب في الطرفين في الصورة الاولى دون مقامنا فإنّ الوجوب معلوم تفصيلا في الوضوء دون الصلاة المتقيّدة بالوضوء. وعليه فأصالة البراءة بعد تعارضها في ناحية خصوصيّة النفسيّة في الطرفين لا مجال لها في ناحية اصل الوجوب في الصورة الاولى ، لأنّ الوجوب معلوم في كلّ من الفعلين ، بخلاف المقام فإنّ الوجوب في الوضوء معلوم دون الصلاة ، فبعد عدم أثر لها في ناحية الوضوء اختصّت جريانها في الصلاة ، ومقتضاها هو البراءة عن الصلاة المتقيّدة بالوضوء ، فتأمّل.

اللهمّ إلّا أن يقال : أنّ مع عينيّة العلم التفصيليّ مع العلم الإجماليّ لا مجال للبراءة في أحد الطرفين إذ لا انحلال حقيقة ولا حكما.

ومنها : تقسيمه إلى الأصليّ والتبعيّ :

ذهب في الكفاية إلى أنّ هذا التقسيم بلحاظ مقام الثبوت لا بلحاظ مقام الدلالة والاثبات واستدلّ له بأمرين :

أحدهما : أنّ الاتّصاف بهما إنّما هو في نفسه لا بلحاظ حال الدلالة عليه ، ومعناه أنّ الظاهر إنّ الوصف بحال نفسه لا بحال متعلّقه.

وثانيهما : أنّه لو كان التقسيم بلحاظ حال الدلالة ومقام الإثبات لما اتّصف بواحد منهما فيما إذا لم يكن الواجب مفاد الأدلّة اللفظيّة ، كما إذا دلّ عليه الدليل اللبّي كالإجماع (١).

يمكن أن يقال : إنّ التقسيمات السابقة كالنفسيّ والغيريّ والمطلق والمشروط والمعلّق والمنجّز تكون بلحاظ حال مقام الإثبات ولحاظ الخطاب ، فتصلح تلك التقسيمات لأن تكون قرينة على أنّ هذا التقسيم أيضا بلحاظ مقام الإثبات ولحاظ

__________________

(١) الكفاية : ١ / ١٩٤ و ١٩٥.

٥٠٢

الخطاب. هذا مضافا إلى تابعيّة معقد الإجماع يقبل للتقسيم المذكور بلحاظ الدلالة على أنّه يدلّ بالأصالة أو يدلّ بالتبع ولعلّ إليه يؤول ما أفاده سيّدنا الإمام قدس‌سره من أنّ الظاهر أنّ هذا التقسيم بحسب مقام الإثبات ولحاظ الخطاب وهو تقسيم معقول في مقابل سائر التقسيمات وأن لا يترتّب عليه أثر مرغوب فيه (١).

ثمّ إنّ المراد من الأصليّة والتبعيّة في مقام الإثبات واضح ؛ فإنّ وجوب شيء قد يكون مقصودا بالإفادة على حدّة كأن يقول : ادخل السوق واشتر اللحم. واخرى لا يكون كذلك إلّا أنّه لازم الخطاب كأن يقال : اشتر اللحم. فإنّه يدلّ على وجوب دخول السوق بالتبع ، كما في دلالة الإشارة ؛ كدلالة الآيتين وهما قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً). على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر ، فإنّه غير مقصود بالخطاب على حدّة.

وأمّا المراد منهما في مقام الثبوت ، فهو كما أفاده صاحب الكفاية أنّ الشيء تارة يكون متعلّقا للإرادة والطلب مستقلّا من جهة الالتفات التفصيليّ إليه بما هو عليه من الخصوصيات الموجبة للطلب ، سواء كان طلبه نفسيّا أو غيريّا ، واخرى يكون متعلّقا للإرادة تبعا لإرادة غيره لأجل كون إرادته لازمة لإرادته من دون التفات تفصيليّ إليه بما يوجب إرادته (٢).

وفيه إنّ جعل مقابل الاستقلال بمعنى الالتفات التفصيليّ في الإرادة مع أنّه كما في تعليقة الأصفهانيّ لا مقابلة بين الأصليّ والتبعي بهذا المعنى ؛ إذ مقابل الالتفات عدم الالتفات لا تبعيّة إرادة لإرادة فإنّها مقابلة لعدم التبعيّة ، وهكذا لا مقابلة بين الالتفات وعدمه بضميمة التبعيّة ، فإنّه بهذه الضميمة يخرج عن التقابل ، فلا مقابلة بين الأصليّ

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٤٠٦.

(٢) الكفاية : ١ / ١٩٤.

٥٠٣

والتبعيّ إلّا بإرادة الإرادة التفصيليّ من الأصليّ والإرادة الإجماليّة الارتكازيّة من التبعيّ من دون دخل لتبعيّة الإرادة لإرادة ، فلا وجه لانضمامها.

هذا مضافا إلى أنّ الإرادة النفسيّة ربما تكون ارتكازيّة ، بمعنى أنّه لو التفت إلى موجبها لأراد ، كما في إرادة إنقاذ الولد الغريق عند الغفلة عن غرقه ، والحال أنّه لا شبهة في كونها إرادة أصليّة لا تبعيّة فلا وجه لتخصّص الانقسام بالواجب الغيريّ ، ومضافا إلى أنّ المناط لو كان التفصيليّة والارتكازيّة لما كان وجه لعنوان التبعيّة ، حيث إنّ تبعيّة الإرادة لإرادة اخرى ليس مناط الوجوب التبعيّ ، بل ارتكازيّتها لعدم الالتفات إلى موجبها ، فلا وجه للتعبير عنها بالتبعيّ.

على أنّ الالتفات التفصيليّ الموجب لتفصيلته الإرادة لا يقتضي الأصليّة ، فلو كان الطلب غيريّا والتفت إليه تفصيلا لا يصير الطلب والإرادة أصليّة (١).

فالأصليّة والتبعيّة لا ينوطان بالالتفات التفصيليّ والإجماليّ.

ولعلّه لذلك قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : إنّ الاستقلال إن كان بمعنى الالتفات التفصيليّ يكون في مقابله الإجمال والارتكاز لا عدم الاستقلال بمعنى التبعيّة ، فيكون الواجب النفسيّ أيضا تارة مستقلّا وتارة غير مستقلّ مع أنّه لا شبهة في أنّ إرادته أصليّة لا تبعيّة.

وإن كان الاستقلال بمعنى عدم التبعيّة فلا يكون الواجب الغيريّ مستقلّا سواء التفت إليه تفصيلا أو لا (٢).

وحيث إنّ الالتفات التفصيليّ والإرادة التفصيليّة لا يقتضي الأصليّة كما أنّ الالتفات الإجماليّ والإرادة الارتكازيّة لا ينافي الأصليّة ، ذهب المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره إلى أنّ مناط التبعيّة هو علّيّة إرادة ذي المقدّمة لإرادة مقدمته لنشوئها منها ، فإرادة

__________________

(١) راجع تعليقة الأصفهانيّ : ١ / ٣٦٦ ـ ٣٦٨.

(٢) مناهج الوصول : ١ / ٤٠٦.

٥٠٤

ذي المقدّمة هي الإرادة الأصليّة وإرادة المقدّمة هي الإرادة التبعيّة ؛ وبهذا الاعتبار يصحّ تقسيم الواجب إلى الأصليّ وهو ذو المقدّمة وإلى التبعيّ وهو المقدّمة. كما أنّ باعتبار كون ذي المقدّمة علّة غائيّة لوجوب المقدّمة يصحّ تقسيم الواجب إلى الواجب النفسيّ وهو ذو المقدّمة والواجب الغيريّ وهو المقدّمة. هذا ملخّص ما أفاد (١).

أورد عليه سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بأنّه تكلّف مع أنّ الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة ليست علّة فاعليّة لإرادة المقدّمة بحيث تنشأ منها ، وإلّا لصارت متحقّقة من غير لزوم مقدّمات أخر من التصوّر والتصديق وسائر المبادئ (٢).

وفيه : إنّ التبعيّة القهريّة غير لازمة ، بل معدية إرادة ذي المقدّمة لإرادة المقدّمة تكفي لإثبات تبعيّة إرادة المقدّمة لإرادة ذيها ، والتكلّف ممنوع. وعليه فبهذا الاعتبار يصحّ تقسيم الواجب إلى الأصليّ والتبعيّ ، ولكنّه متّحد مع الواجب النفسيّ والغيريّ ، وإنّما الاختلاف بينهما باعتبار أنّ الأوّل من جهة حيثيّة فاعليّة إرادة ذي المقدّمة أو معدّيتها والثاني من جهة كون ذي المقدّمة علّة غائيّة للمقدّمة.

ثمّ إنّه لو شكّ في واجب أنّه أصليّ أو تبعيّ فقد فصّل في الكفاية بين ما إذا كان الواجب التبعيّ أمرا عدميّا بأن يكون عبارة عمّا لم تتعلّق به الإرادة المستقلّة والالتفات التفصيليّ فمقتضى الأصل هو التبعيّة ، إذ الأصل في ما إذا شكّ في تحقّق الالتفات التفصيليّ والإرادة المستقلّة هو عدمه. وبين ما إذا كان الواجب التبعيّ أمرا وجوديّا خاصّا غير متقوّم بعدميّ وإن كان يلزمه بأن يكون عبارة عمّا تعلّقت به الإرادة التبعيّة ، فلا يثبت بأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به أنّه واجب تبعيّ إلّا على القول بالأصل المثبت.

__________________

(١) راجع نهاية الدراية : ١ / ٢٦٥ ،.

(٢) مناهج الوصول : ١ / ٤٠٧.

٥٠٥

أورد عليه الأصفهانيّ بأنّه صحيح إن كان مناط التبعيّة عدم تفصيليّة القصد والإرادة ؛ فالتبعيّة موافقة للأصل للشكّ في أنّ الإرادة ملتفت إليها أو لا؟ والأصل عدمه.

وإن كان مناطها نشوء الإرادة عن إرادة اخرى وترشّحها منها ؛ فالأصليّة موافقة للأصل إذ الترشّح من إرادة اخرى ، ونشوؤها منها أمر وجوديّ مسبوق بالعدم.

وليس الاستقلال في الإرادة على هذا أمرا وجوديّا ، بل هو عدم نشوئها عن إرادة اخرى ، وهو محرز بالأصل ، بخلاف الاستقلال من حيث توجّه الالتفات إلى الإرادة فإنّه أمر وجوديّ ، كما عرفت (١).

حاصله أنّه جعل الواجب الأصليّ متقوّما بأمر عدميّ فاختار عكس ما اختاره صاحب الكفاية بعد ما مرّ من ضعف ، كون مناط التبعيّة هو عدم تفصيليّة القصد والإرادة وظاهره ، أنّ الأصل موافق للتبعيّة لو كان المناط هو عدم تفصيليّة القصد والإرادة ، ولكن حيث لم يصحّ المناط المذكور فالأصل موافق للأصليّة. وعلى كلّ تقدير كان الواجب متقوّما بأمر عدميّ وهو الموجب لجريان الأصل ، بخلاف ما إذا كان الواجب أمرا وجوديّا فلا يثبت التبعيّة أو الأصليّة بالأصل لأنّه مثبت.

فالمحقّق الأصفهانيّ كصاحب الكفاية فصّل بين كون الواجب تبعيّا كان أو أصليّا وجوديّا أو عدميّا ، فاختار ثبوت الأصليّ بالأصل مع كون الأصليّ متقوّما بالأمر العدميّ.

أورد عليهما شيخنا الاستاذ الأراكيّ (قدس الله أسرارهم) بأنّه لا مدخليّة للوجوديّ أو العدميّ في كون الأصل مثبتا ، وإنّما الملاك في عدم جريان الأصل هو

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٦٦.

٥٠٦

كيفيّة الأخذ فإنّ أخذ عدم تفصيليّة الإرادة في التبعيّ أو عدم نشوء الإرادة من إرادة اخرى في الأصليّ بنحو الاتّصاف لا بنحو التركيب ، فلا يثبت بأصالة عدم تفصيليّة الإرادة كون الواجب تبعيّا ولا بأصالة عدم نشوء الإرادة من إرادة اخرى كون الواجب أصليّا ، كما لا يثبت التبعيّ والأصليّ بناء على كونهما أمرين وجوديّين بأصالة عدم تفصيليّة الإرادة أو أصالة عدم نشوء الإرادة من إرادة اخرى.

وأمّا عدم كون هذا الوجوب تبعيّا أو عدم كون هذا الوجوب أصليّا فليس له حالة سابقة كي يستصحب. وبالجملة ليس لمفاد ليس الناقصة وسلب الربط حالة سابقة ليستصحب.

وأمّا استصحاب عدم تعلّق الإرادة التفصيليّة أو عدم نشوء الإرادة ـ أعني مفاد ليس التامّة ـ فهما وإن كان لهما حالة سابقة ولكنّهما لا يجريان لأنّهما مثبتان.

فالتفصيل بين كون الواجب التبعيّ متقوّما بالعدم أو أمرا وجوديّا لا يفيد ، بل اللازم هو أن يكون مأخوذا بنحو التركيب كسائر الموضوعات المركّبة ، كموضوع الضمان وهو الاستيلاء على مال الغير وعدم رضاء المالك ، فيكفي إحراز أحد الجزءين بالوجدان والآخر بالأصل.

وبعبارة اخرى التي أفادها سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره اثبات التبعيّ بالأصل صحيح لو كان التبعيّ مركّبا من أمرين أحدهما إرادة غيريّة وثانيهما عدم لحاظها تفصيلا ، وأمّا إن كان التبعيّ مقيّدا بعدم اللحاظ التفصيليّ فلا يثبت تقيّد الإرادة الغيريّة بعدم اللحاظ التفصيليّ بالأصل ، كما أنّ الأصحاب لم يجروا أصالة عدم الحادث لإثبات كون الموجود مسبوقا بعدم سابق ، وحيث إنّ المصنّف فسّر التبعيّ بالإرادة الغيريّة التي لا تكون ملحوظة تفصيلا ، فلا مجال لثبوته بالأصل لأنّه مثبت فلا تغفل.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ البحث عن الأصليّ والتبعيّ يذكر في المقام أولى ، حيث إنّه

٥٠٧

من تقسيمات الواجب ، فلا وجه لما فعله صاحب الكفاية حيث ذكره بعد الأمر الرابع.

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في استحقاق الثواب والعقاب في الأوامر النفسيّة :

ولا يخفى عليك أنّ العقل يحكم باستحقاق العاصي للعقاب عند مخالفته للأوامر النفسيّة ، لأنّه متمرّد وطاغ وخارج عن آداب العبوديّة وظالم لمولاه في عدم أداء حقوق المولويّة ، وليس المراد من الاستحقاق هو إيجاب العقاب على المولى إذ للمولى ان يعفو عن العاصي ، بل المراد أنّ عقاب المولى بالنسبة إلى العاصي في محلّه ، لأنّه مستحقّ لذلك بسبب تمرّده وعصيانه وخروجه عن آداب العبوديّة.

ولكنّ العقل لا يحكم باستحقاق المطيع للثواب بعد وضوح أنّه أتى بما هو وظيفة العبد بالنسبة إلى مولاه ، مع أنّه بوجوده وحياته وجميع شئونه متنعّم بإعطائه وإحسانه ، وكانت التكاليف نافعة له لا لله تعالى.

نعم يحكم العقل بأنّ المطيع حقيق بالمدح والأجر ؛ بمعنى أنّ مدحه والثواب على اطاعته في محلّه ، لا بمعنى أنّ له حقّا على المولى.

وأيضا أنّ قاعدة اللطف كما تقتضي إرسال الرسل وإعلام الأحكام كذلك تقتضي تأكيد الدعوة في نفوس العامّة بجعل الثواب والعقاب ؛ وعليه صار العبد بعمله مستحقّا لما جعله المولى من المثوبة والعقوبة بحقيقة معنى الاستحقاق ، كما أفاد المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره (١).

وذلك لأنّ بعد جعل الثواب ؛ فمن أتى بما له الثواب استحقّ ذلك الثواب دون من لم يأت به.

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٣١.

٥٠٨

وربّما يقال بأنّ الأعمال الحسنة تقتضي صورا ملائمة للفاعل في الدار الآخرة ، والأعمال السيّئة تقتضي صورا منافرة ، فالفاعل يستحقّ لصور أعماله.

قال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره : والاستحقاق حينئذ بمعنى اقتضاء المادّة القابلة لإفاضة الصور ؛ فكما نعبّر في المادّة الدنيويّة وصورها بأنّ المادّة الكذائيّة بعد تمام قابليّتها مستعدّة ومستحقّة لإفاضة صور كذائيّة ، كذلك الصور الدنيويّة موادّ للصور الأخرويّة ، فصحّ التعبير بالاستحقاق أيضا (١).

يرد عليه ما أورده سيّدنا الإمام قدس‌سره من أنّ الاستحقاق واللّااستحقاق يكون بمعنى غير ما هو المعروف لدى الناس (٢).

فتحصّل أنّ الاستحقاق بمعناه المعروف عقليّ في ناحية العصيان والمخالفة دون ناحية الإطاعة ؛ فمن عصى المولى استحقّ العقوبة بحكم العقل لأنّه خرج عن آداب العبوديّة ، هذا بخلاف من أطاع فإنّه أتى بما هو وظيفة العبوديّة ولم يستحقّ عقلا للثواب. نعم ، حصل له بذلك أهليّة ، بحيث يكون مدحه والثواب على إطاعته في محلّه ، وأيضا حيث إنّ المولى جعل الثواب للمطيع ، كما تقتضيه قاعدة اللّطف ، فإذا أطاع العبد استحقّ الثواب بسبب جعله تعالى كما لا يخفى.

التنبيه الثاني : في استحقاق الثواب والعقاب في الواجبات والمحرّمات الغيريّة بعد فرض ثبوتهما في الواجبات والمحرّمات النفسيّة.

ولا إشكال فيها بناء على الجعل مبنيّا على قاعدة اللطف لتأكيد الدعوة في نفوس العامّة ، فإنّ الثواب والعقاب حينئذ تابع للجعل ، مثل ما ورد في المشي إلى إقامة الصلاة في المساجد أو ما ورد في الثواب على كلّ خطوة لزيارة مولانا الحسين عليه‌السلام.

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال : وبناء على مسلك الجعل

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٣٣.

(٢) مناهج الوصول : ١ / ٣٧٨.

٥٠٩

فالثواب تابع للجعل ؛ فقد يجعل على ذي المقدّمة ، وقد يجعل عليها أيضا كما في زيارة مولانا أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، حيث ورد الثواب على كلّ خطوة لمن زاره ماشيا. وهذا المسلك غير بعيد في الجملة ، ومعه لا إشكال في الثواب الوارد على المقدّمات ؛ والالتزام بكونها عبادة بنفسها بعيد عن الصواب (١).

وأمّا مع قطع النظر عن الجعل فلا مجال للاستحقاق بعد وضوح أنّ الغيريّات بما هي هي خالية عن الغرض والبعث ، لأنّ مع خلوّها عن الغرض النفسيّ والبعث والزجر النفسيّ لا يترتّب على موافقته ثواب ولا على مخالفته عقاب ، فإنّهما متفرّعان على المقرّبيّة والمبعّديّة الحاصلة من إطاعة أمرها أو مخالفتها. والمفروض هو خلوها عن البعث والزجر النفسيّ.

نعم ، يكون للغيريّات بما هي الوصلة للواجبات النفسيّة موافقة ومخالفة ، ولكنّها لا تعدّ موافقة ومخالفة اخرى في قبال موافقة النفسيّة ومخالفتها ، فاستحقاق الثواب والعقاب على موافقة الغيريّات ومخالفتها لا أصل له.

وربّما يوجّه ترتّب الثواب والعقاب على موافقة الواجب الغيريّ ومخالفته بوجوه :

منها : ما في بدائع الأفكار من أنّ من يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذيها يراه العقلاء متلبّسا بامتثال الواجب النفسيّ ومستحقّا للمدح والثواب في ذلك الحين ، وإن لم يكن مشتغلا بنفس الواجب النفسيّ ، كما أنّه لو لم يأت بشيء من مقدّماته في الوقت الذي يلزم الامتثال فيه يرونه متلبّسا بعصيانه ومستحقّا للذمّ والعقاب في ذلك الحين ، وإن لم يدخل في الوقت الذي يكون ظرفا للواجب النفسيّ لو أخذ في امتثاله. وهذا المدح والثواب والذمّ والعقاب اللذان يستحقّهما المكلّف حين الشروع بفعل بعض

__________________

(١) منهاج الوصول : ١ / ٣٧٩.

٥١٠

مقدّمات الواجب أو حين تركها جميعا إنّما هما من رشحات ثواب الواجب النفسيّ وعقاب تركه لا أنّهما شيء آخر ثبت في حقّ المكلّف بسبب آخر ، إذ لا قيمة لشيء من المقدّمات عند العقلاء مع قطع النظر عن ذيها.

نعم ، لا بدّ من قصد التوصّل بفعل المقدّمة إلى الواجب النفسيّ في استحقاق المدح عند العقلاء والثواب عند الشارع وإن لم يتحقّق بذلك بها الوصول إليه ؛ فلو فعل المكلّف بعض المقدّمات لا بقصد التوصّل إلى ذيها لا يستحقّ المدح عند العقلاء ، إذ لا يرونه متلبّسا بامتثال الواجب النفسيّ ـ إلى أن قال ـ : وقد ظهر بما ذكرنا أنّ الثواب المترتّب على فعل المقدّمة ليس هو ثواب الانقياد ، بل هو ثواب الواجب النفسيّ الذي استحقّه المكلّف بمجرّد الشروع في فعل مقدّماته في نظر العقلاء ، وعجّلوا له الجزاء بالمدح والثناء اللذين لا يستحقّ شيئا منهما المكلّف عندهم إلّا بامتثال الواجب النفسيّ (١).

أورد عليه سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره أنّ الاشتغال بالواجب النفسيّ لا يكون إلّا بالشروع فيه نفسه لا مقدّماته ، ولو أطلق عليه لا يكون إلّا من باب التوسّع وهو لا يوجب شيئا.

مع أنّ مجرّد الاشتغال بالنفسيّ أيضا لا يوجب الاستحقاق ؛ فالاشتغال بالصلاة لا يوجب استحقاق الأجر عند الله ولا الاجرة على الآمر أو المستأجر وإنّما الأجر والاجرة على الإتيان بمتعلّق الأمر ، ولا يكون ذلك إلّا بإتمام الواجب ـ إلى أن قال ـ : وأمّا رشح ثواب الواجب النفسيّ على المقدّمات فممّا لا يرجع إلى محصّل ومعنى معقول ، مع أنّه على فرض صحّته لازمه عدم كثرة الثواب مع كثرة المقدّمات ، لأنّ الثواب النفسيّ على الفرض مقدار محدود يترشّح منه إلى المقدّمات (٢).

__________________

(١) بدائع الأفكار : ١ / ٣٧٦.

(٢) مناهج الوصول : ١ / ٣٨١.

٥١١

يمكن أن يقال : إنّ الاشتغال بالواجب النفسيّ ـ وإن لم يكن صادقا بالشروع في المقدّمات ولا يستحق ثواب الواجب النفسيّ إلّا بإتيانه ـ ولكن من يأتي بمقدّمات الواجب النفسيّ بداعي الأمر المتعلّق بذيها عدّ عند الاشتغال بالمقدّمات بنظر العقلاء شارعا في امتثال أمر مولاه ، وهو كاف في المقرّبيّة واستحقاق المدح وأهليّة الثواب وإن لم يوفّق بإتيان الواجب النفسي.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ محلّ البحث الاستحقاق ، بمعنى كون ترك الثواب ظلما وقبيحا دون استحقاق الثواب بمعنى أهليّة المدح وثواب الانقياد.

ومنها : ما في بدائع الأفكار من أنّ الآتي بالمقدّمة بقصد أمرها من دون التفات إلى غيريّته وإن لم يتحقّق منه قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة بالفعل إلّا أنّه بإيجاد المقدّمة بذلك النحو يكون لبّا في مقام امتثال الواجب النفسيّ فينبسط على المقدّمة ثواب ذي المقدّمة على نحو ما تقدّم في الوجه الأوّل ، ولكن الفرق بين الوجهين متحقّق من جهتين :

الاولى : ابتناء الوجه الأوّل على قصد التوصّل وابتناء الثاني على عدمه.

الثانية : ابتناء الثاني على القول بالملازمة دون الأوّل ـ إلى أن قال ـ :

إن قلت : لا يعقل أن يؤتى بالمقدّمة بداعي أمرها الغيريّ من دون قصد التوصّل بها إلى ذيها ، وذلك لأنّ إرادة المكلّف الإتيان بالمأمور به امتثالا لأمر مولاه لا بدّ أن تكون تابعة لإرادة المولى في الخصوصيّات وصادرة بنحو المطاوعة لتلك الإرادة المولويّة ؛ ومن الواضح أنّ الإرادة المولويّة المتعلّقة بالمقدّمات إرادة غيريّة ناشئة من إرادة الواجبات النفسية لغرض التوصّل بتلك المقدّمات إلى تلك الواجبات ، فيلزم أن يكون المكلّف في مقام الإتيان بالمقدّمة امتثالا لأمرها ومطاوعة لإرادة مولاه قاصدا التوصّل بها إلى ذيها لتحقّق خصوصيّة المطاوعة.

قلت : إنّ حقيقة الامتثال هي الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر المولويّ المتوجّه

٥١٢

إليه ، وأمّا خصوصيّات الإرادة المتعلّقة به فهي أجنبية عن هذا المقام ، والحاكم بذلك هو العقل هذا مضافا إلى انتقاض ذلك بالواجبات النفسيّة ، فإنّ إرادة المولى إنّما تعلّقت بها لغرض تحصيل ما فيها من المصالح ، ومن المعلوم عدم توقّف الامتثال فيها على قصد التوصّل بها إلى ملاكاتها (١).

وفيه : أنّ ثواب أمر ذي المقدّمة متفرّع على إتيانه ، وما لم يأت به لا يترتّب ثوابه عليه فضلا عن مقدّماته ؛ فلو لم يتمكّن الآتي بالمقدّمات من ذيها فلا يستحقّ ثواب الأمر النفسيّ ، إذ مع عدم الإتيان به لا وجه لاستحقاق ثوابه ، بحيث يكون ترك الثواب ظلما وقبيحا.

وأمّا الأمر المتوجّه إلى المقدّمة ، فقد عرفت أنّه بنفسه مع قطع النظر عن أمر ذيها لا موافقة له ولا مخالفة ، ومع ملاحظة أمر ذيها لا تعدّ موافقتها أو مخالفتها في قبال موافقة النفسيّة أو مخالفتها موافقة أو مخالفة اخرى.

وأمّا كونه ـ في صدد الامتثال الذي عرفت ـ أنّه يوجب أهليّة المدح والثواب فهو أيضا متفرّع على إتيانه مع قصد التوصّل إلى الواجب النفسيّ ، والمفروض هو أنّه لم يقصد التوصّل وإن كان لبّا في مقام امتثال الواجب النفسيّ.

اللهم إلّا أن يقال : إنّه بناء على الملازمة كان الأمر المتوجّه إلى المقدّمة أمرا شرعيّا ، فقصد امتثاله من دون التفات إلى غيريّته كاف في إيجاب الأهليّة للمدح والثواب الانقياديّ أيضا ، فتأمّل.

ومنها : ما أفاده في المحاضرات من أنّه لا ريب في عدم استحقاقه الثواب على امتثال الواجب الغيريّ على نحو استحقاق الأجير للاجرة على المستأجر ، بحيث لو لم يقم المولى بإعطاء الثواب له لكان ذلك ظلما منه ، وإن قلنا بذلك فرضا

__________________

(١) بدائع الأفكار : ١ / ٣٧٧.

٥١٣

في الواجب النفسيّ ، وهذا واضح.

وأمّا الاستحقاق ، بمعنى أهليّته للمدح والثواب ، فالظاهر أنّه لا شبهة فيه إذا أتى به بقصد الامتثال والتوصّل.

والسبب في ذلك هو أنّ الملاك فيه كون العبد بصدد الإطاعة والانقياد والعمل بوظيفة العبوديّة ليصبح أهلا لذلك ، ومن المعلوم أنّه بإتيانه المقدّمة بداعي التوصّل والامتثال قد أصبح أهلا له ، بل الامر كذلك ولو لم نقل بوجوبها ، ضرورة أنّ الإتيان بها بهذا الداعي مصداق لإظهار العبوديّة والإخلاص والانقياد والإطاعة (١).

وذلك الاستحقاق هو أهليّة المدح والثواب للانقياد ، ولا يتقوّم بإتيان الواجبات النفسية ؛ فحديث انبساط ثواب ذي المقدّمة على المقدّمات أجنبيّ عنه. ولذلك قال أستاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره إنّ الثواب في الموارد التي لم يأت بذي المقدّمة ليس إلّا على الانقياد ، إذ الوجدان قاض بالفرق بين من قصد الحجّ وأتى بمقدّمات السفر وسافر ولم يدرك الحجّ وبين من لم يقصده ولم يأت بمقدّماته ، بل الفرق واضح عند العقلاء ؛ ألا ترى أنّ من جاء لزيارتك ولم يتمكّن من رؤيتك استحقّ المدح والثواب دون من لم يأت ولم يقصد زيارتك.

وملاكه ليس إلّا الانقياد. ولعلّ من هذا الباب تشريع أدلّة التسامح في السنن ، لأنّ مرجعها إلى جعل الثواب لمن عمل ولم يصادف الواقع ؛ إذ المفروض أنّه ليس في الواقع شيء قابل للإطاعة حتّى يتأتّى من ناحيته الثواب ، فالثواب ليس إلّا من جهة الانقياد. وهكذا جعل الثواب على قصد الحسنات والطاعات مع عدم التمكّن من إتيانها.

وأيضا جعل الخلود لمن آمن في الدنيا وأراد أن يكون إلى الأبد مؤمنا مع أنّه لم

__________________

(١) المحاضرات : ٢ / ٢٩٦.

٥١٤

يقع منه إلّا الإيمان في مدّة عمره في الدنيا ، فليس جعل الخلود له إلّا للاكتفاء بقصده ونيّته ، خلافا للكافر الذي كفر ولم ينو الايمان إلى الأبد. بل من هذا الباب أيضا جعل الثواب على الاحتياط مع أنّه لا يوافق الواقع كثيرا ما ، فليس الثواب على كلّ تقدير إلّا من باب الانقياد ، انتهى.

ولكن لا يخفى أنّ استحقاق الثواب بالمعنى المذكور غير الاستحقاق بالمعنى الذي يكون تركه ظلما وقبيحا ، والذي نفاه القوم هو الثاني دون الأوّل.

ولذلك قال سيّدنا الإمام قدس‌سره : وظنّي أنّهم خلطوا بين الاستحقاق وممدوحيّة العبد ، بمعنى إدراك العقل صفاء نفسه وكونه بصدد إطاعة أمره وكونه ذا ملكة فاضلة وسريرة حسنة ، ضرورة أنّ الآتي بالمقدّمات مع عدم توفيقه لإتيان ذي المقدّمة ممدوح لا مستحقّ للاجر بالمعنى المتقدّم (١).

فتحصّل أنّ الاستحقاق للثواب بمعناه المعروف لا مجال له في الواجبات الغيريّة ولو قلنا به في الواجبات النفسيّة ، نعم يتصوّر الاستحقاق بمعنى أهليّة المدح والثواب في الواجبات النفسيّة والغيريّة وان لم نقل بالاستحقاق للثواب بمعناه المعروف في كليهما.

فمن ذهب إلى استحقاق الثواب بمعناه المعروف في الواجبات النفسيّة فأتى بالمقدّمات بقصد التوصّل إلى الواجب النفسيّ ، فإن لم يتمكّن من الواجب النفسيّ فله أهليّة المدح والثواب للإتيان بالمقدّمات ، وإن تمكّن منه وأتى به فله ثواب لواجب النفسيّ مضافا إلى ثواب أهليّة المدح والثواب لمقدّمات ، فلا تغفل.

التنبيه الثالث : في الإشكال ودفعه في الطهارات الثلاث

أمّا الأوّل ، أي الإشكال ، فهو أنّه إذا كانت موافقة الأمر الغيريّ لا توجب قربا

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٨٠.

٥١٥

ولا مثوبة على امتثاله لخلوّه نفسا عمّا يصلح لهما ، فكيف حال بعض المقدّمات كالطهارات الثلاث التي لا شبهة في مقرّبيّتها وترتّب المثوبة عليها ، بل عدم صحّتها لو لم تؤت بقصد القربة ، مع أنّ الأمر الغيريّ لا شبهة في كونه توصّليّا.

فما منشأ عباديّة الطهارات الثلاث فإن كان هو الأمر النفسيّ المتعلّق بذواتها

ففيه ، أوّلا : أنّه لا يتمّ في خصوص التيمّم لعدم كونه مستحبّا نفسيّا.

وثانيا : أنّ الأمر النفسيّ الاستحبابي لا يبقى مع عروض الأمر الوجوبيّ الغيريّ لتضادّهما ، فينعدم الأمر النفسيّ الاستحبابي بعروض الأمر الوجوبيّ الغيريّ.

وثالثا : أنّ الاستحباب النفسيّ لا يساعد مع القول بكفاية إتيان الطهارات الثلاث بقصد امرها الغيريّ من دون التفات إلى أمرها النفسيّ ورجحانها.

وإن كان منشأ عباديّة الطهارات الثلاث هو الأمر الغيريّ المتوجّه اليها لزم الدور ، لأنّ الأمر الغيريّ يتوقّف على عباديّتها ، والمفروض أنّ عباديّتها متوقّفة على الأمر الغيريّ المتوجّه إليه. وعليه فكلّ من الأمر الغيريّ والعباديّة يتوقّف على صاحبه.

وأمّا الثاني : أي الدفع ، فعلى تقدير كون المنشأ هو الأمر النفسيّ ، فبأن يقال : أوّلا ـ كما في بدائع الأفكار ـ : إنّ التيمّم أيضا مستحبّ نفسيّ لإطلاق قوله عليه‌السلام : «التيمّم أحد الطهورين». وفيه أنّ الاستحباب النفسيّ في التيمّم بل أخويه محلّ إشكال.

وثانيا : ـ كما في نهاية الدراية ـ : (١) اختلاف الوجوب والاستحباب ليس إلّا في حدّ الرجحان والإرادة ؛ بمعنى أن مقوّم خصوصيّة الوجوب هو شدّة الإرادة ومقوّم خصوصيّة الاستحباب هو ضعفها ، فأصل الإرادة والرجحان متحقّق فيهما

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ٣٣٨ وبدائع الأفكار : ١ / ٣٨٠.

٥١٦

وإن اختلف حدّه. وعليه ، فحدّ الاستحباب النفسيّ وإن زال بتحقّق الوجوب الغيريّ إلّا أنّ أصل الرجحان لا موجب لانعدامه.

وثالثا : ـ كما في الكفاية () ـ : إنّ الاكتفاء بقصد أمرها الغيريّ في مقام الإتيان بها عبادة إنّما هو من جهة أنّ الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلّقه ، والمفروض أنّ متعلّق الأمر الغيريّ في المقام مستحبّ في نفسه ، فقصده في الحقيقة يكون قصدا لذلك الأمر النفسيّ. وعليه ، فالاكتفاء بقصد الأمر الغيريّ في المقام ليس إلّا من جهة تضمّنه قصد الأمر النفسيّ لا من جهة كفايته في نفسه ، فافهم.

اورد عليه في بدائع الأفكار أنّ مقوّم القصد والإرادة هو الالتفات ، ومن المعلوم إمكان الإتيان بإحدى الطهارات الثلاث بداعي أمرها الغيريّ مع الغفلة عن عباديّتها بالكلّيّة ، وفي مثل ذلك يستحيل استتباع قصد الأمر الغيريّ لقصد الأمر النفسيّ (١).

ويمكن الجواب عن الإيراد المذكور بما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من أنّه لو أتى بها لصرف التوصّل إلى الغايات من غير قصد التعبّد والتقرّب بها تقع باطلة قطعا ، وارتكاز المتشرّعة على خلاف ما ذكرت ، بل كلّ متشرّع يرى من نفسه أنّ إتيانه للستر وغسل الثوب لأجل التوصّل إلى الصلاة مخالف لإتيانه بالطهارات لأجل التوصّل اليها ، فإنّ فيها يقصد التعبّد بها ويجعل ما هو عبادة وسيلة للتوصّل إلى الغايات ، فيأتي بالوضوء المتقرّب به إليه تعالى للصلاة وإن كان غافلا عن أمره النفسيّ لكنّه غير غافل عن التعبّد والتقرّب به.

ولا يحتاج في عباديّة الشيء ووقوعه صحيحا ـ زائدا عن قصد التقرّب بما هو صالح للتعبّد به ـ إلى شيء آخر ، فالأمر النفسيّ المتعلّق بذي المقدّمة يدعو إلى الوضوء بقصد التقرّب فإنّه مقدّمة للصلاة ، فلا محالة يأتي المكلّف به كذلك. وبما ذكر

__________________

(١) بدائع الأفكار : ١ / ٣٨٠.

٥١٧

تنحلّ جميع الشبهات المتقدّمة ، لأنّ ترتّب الثواب لأجل إتيانها على وجه العبوديّة وشبهة الدور إنّما تردّ لو قلنا بأنّ عباديّتها موقوفة على الأمر الغيريّ (١).

وفيه : أنّ مقصود صاحب بدائع الأفكار هو الغفلة عن عباديّة الطهارات الثلاث بنفسها لا إتيانها بقصد التوصّل إلى إحدى الغايات متقرّبا إلى الله ؛ فما ارتكز المتشرّعة على الخلاف هو ما إذا أتى بالطهارات من دون قصد القربة رأسا ، وكيف كان فهذا كلّه بناء على ثبوت الاستحباب النفسيّ في الطهارات الثلاث وكونه منشأ لعباديّة الطهارات ، وقد عرفت أنّه لا يخلو عن الإشكال من جهة الإشكال في استحباب النفسيّ في التيمّم بل أخويه ، ولا يساعده الاكتفاء بقصد أمرها الغيريّ من دون التفات إلى استحبابها النفسيّ.

وأمّا على تقدير عدم ثبوت الاستحباب النفسيّ كما هو الظاهر ، فدفع الإشكال كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد فبأن يقال : إنّ عباديّة الطهارات الثلاث من جهة قصد التوصّل بها إلى غاياتها لا من جهة قصد الأمر الغيريّ حتّى يدّعى أنّه يلزم الدور. ويجاب عنه بوجوه إذ لا أثر لذلك في كلماتهم مع أنّه لو كان قصد الأمر الغيريّ دخيلا في عباديّتها لزم بعباديّة الطهارات الثلاث ، من لم يقل بوجوب المقدّمات شرعا ولم ير الاستحباب النفسيّ للطهارات الثلاث ، مع أنّ مسألة عباديّة الطهارات الثلاث اتفاقيّة ، وعليه ، فإذا لم تكن تلك الطهارات الثلاث مستحبّات نفسيّة ولا دخل فيها للأوامر الغيريّة ظهر أنّ الملاك في عباديّتها هو قصد التوصّل بها إلى إحدى غاياتها ، سواء قلنا بوجوب المقدّمة شرعا أم لم نقل.

فإذا قصد التوصّل إلى إحدى الغايات حصل القرب واستحقّ الثواب بالمعنى الذي قدّمناه من أهليّة المدح والثواب ، وحيث لا يقوم في المقام دليل على اعتبار قصد

__________________

(١) مناهج الوصول : ١ / ٣٨٤.

٥١٨

القربة إلّا الإجماع ، فمع ما يظهر من عبارات الأصحاب من كفاية قصد التوصّل إلى إحدى الغايات في عباديّة الطهارات ، يعلم أنّ مرادهم من عباديّة تلك الطهارات هو ذلك لا غير ، انتهى.

لا يقال إنّ اعتبار قصد التوصّل إلى إحدى الغايات في العباديّة أيضا يستلزم الدور ، إذ قصد التوصّل المذكور لا بدّ من تعلّقه بالمقدّمة المفروض أنّها عبادة ؛ فإذا كانت عباديّتها ناشئة من قصد التوصّل بها يلزم الدور لتوقّف عباديّة المقدّمة على قصد التوصّل وتوقّفه على عباديّتها.

لأنّنا نقول أوّلا : إنّ العباديّة تحصل بنفس قصد التوصّل إلى إحدى الغايات ولا ملزم لتقدّمها على قصد التوصّل بعد ما عرفت من أنّ الظاهر من عبارات الأصحاب كفاية قصد التوصّل إلى إحدى الغايات لعباديّة الطهارات الثلاث ، وعليه ، فقصد التوصّل إلى الغايات متعلّق بنفس المقدّمة لا المقدّمة المفروض أنّها عبادة حتّى يلزم الدور من جهة توقّف عباديّتها على قصد التوصّل بها.

وثانيا ـ كما في بدائع الأفكار ـ : إنّ المقدّمة في باب الطهارات الثلاث مركّبة من ذوات الأفعال الخارجيّة وقصد التقرّب بها. وعليه ، فتكون ذوات الأفعال في أنفسها مقدّمة للصلاة أيضا ، بمعنى أنّ لها الدخل في إيجاد الصلاة ، وحينئذ فيمكن أن يؤتى بها بقصد التوصّل بها إلى فعل الصلاة ، وبذلك يتحقّق القيد المأخوذ في المقدّمة وهو التقرّب. غاية الأمر أنّ حصول القيد والمقيّد المحقّقان للمقدّمة إنّما كان بنحو الطوليّة لا في عرض واحد (١).

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّ المراد من عباديّة المقدّمة بقصد التوصّل إلى غاياتها ليس إلّا ما عرفت سابقا من صدق كون العبد بصدد الانقياد والإطاعة الذي يوجب

__________________

(١) بدائع الأفكار : ١ / ٣٨١.

٥١٩

أهليّته للمدح والثواب الانقياديّ ، فعباديّة المقدّمة لم تنشأ من ناحية امتثال أمرها الغيريّ ولا من ناحية امتثال أمر ذي المقدّمة ، إذ قبل الإتيان بذي المقدّمة لا مجال لامتثال ذي المقدّمة ، بل من ناحية انقياده للطاعة.

نعم منشأ انقياده وعباديّة العمل هو قصد التوصّل بالمقدّمة إلى الغاية المطلوبة بالأمر النفسيّ كالصلاة ، ولا يلزم في ذلك أن تكون المقدّمة من متعلّقاته حتّى يرد عليه أنّ الأمر النفسيّ لا يدعو إلّا إلى متعلّقه ولا يعقل أن يدعو إلى المقدّمات لعدم تعلّقه بها (١).

لأنّ قصد التوصّل بها إلى إحدى الغايات المطلوبة بالأمر النفسيّ يكفي في عباديّتها اللّازمة بدليل الإجماع كما لا يخفى. وبالجملة لا فرق بين الطهارات الثلاث وغيرها من المقدّمات إلّا في اعتبار عباديّة إتيانها بالنحو المذكور.

الاستحباب النفسيّ

وقد عرفت أنّ ثبوت الاستحباب النفسيّ في الوضوء والغسل والتيمّم محلّ إشكال ، فالمناسب أن نشير إلى وجه الإشكال في المقام وإحالة التفصيل إلى محلّه. ولا يخفى عليك أنّ المحكيّ عن الفاضلين والشهيد في الذكرى أنّه لو نوى المحدث بالأصغر وضوء مطلقا مقابلا للوضوء للغايات حتّى الكون على الطهارة كان باطلا. واستجوده في المستمسك وقال : ظاهر شيخنا الأعظم في مبحث نيّة الوضوء المفروغيّة عن بطلانه فيما إذا أريد من الوضوء المأتيّ به لا لغاية ولا للكون على الطهارة (٢).

وقوّاه استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره مستدلّا بعدم دليل صالح لإثبات استحباب النفسيّ للطهارات الثلاث ، وذلك لضعف الأدلّة سندا أو دلالة لاحتمال أن يكون

__________________

(١) كما في مفاتيح الاصول : ١ / ٣٨٦.

(٢) المستمسك : ٢ / ٢٧٠.

٥٢٠