عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

يمتنع ذلك كالأمثلة المذكورة.

وأمّا إذا امتنع ذلك كما في قول الطبيب إن مرضت فاشرب المسهل فالمتّبع هو القواعد العربيّة لأنّ شرب المسهل لدفع المرض ولا يعقل أن يكون المرض دخيلا في مصلحة شرب المسهل بنحو الموضوعيّة بحيث يرجع القيد إلى المادّة فالشرط لا محالة راجع إلى الهيئة لما عرفت من إمكان تقييدها أو يصير عنوانا للمأمور مثل أن يقال المريض يجب عليه شرب المسهل أو المستطيع يجب عليه الحجّ.

وهكذا لا يحكم الوجدان برجوع الشروط إلى المادّة إذا كانت مطلوبيّة المادّة مطلقة بل يرجع الشروط حينئذ إلى الهيئة أو يصير عنوانا للمأمور مثلا قول المولى لعبده إذا قدرت على نجاة ابني من الغرق فأنقذه يرجع إلى تقييد الهيئة وطلب الإنقاذ أو يرجع إلى أنّ المخاطب هو القادر على الإنقاذ كأن يقال القادر على نجاة ابني يجب عليه إنقاذه إذ لا معنى لرجوع التقيّد إلى الإنقاذ فإنّ مصلحة الإنقاذ مطلقة ولا تصلح للتقيّد كما لا يخفى وممّا يذكر يظهر حكم ما إذا كان الشيء مطلوبا مطلقا وانّما يمنع الآمر من الأمر مانع كالتقيّة أو عدم قبول المخاطبين فالقيد في مثله أيضا راجع إلى الهيئة وغير المادّة.

ولكنّ خروج الموارد المذكورة لا ينافي حكم الوجدان برجوع القيود إلى المادّة فيما إذا امكن ولم يكن مانع من الآمر فلا وجه لجعل هذه الموارد علامة لرجوع القيود إلى الهيئة في جميع الموارد كما يظهر من صاحب الكفاية.

فتحصّل ممّا مرّ أنّ الشروط راجعة إلى المادّة فيما إذا أمكن ذلك ولم يكن مانع ووجهه هو حكم الوجدان وهذا الحكم لا يتوقّف على استحالة رجوعها إلى الهيئة لما عرفت من إمكان تقييد الهيئة من أوّل الأمر ولا ينافي ذلك الحكم ما يظهر من القواعد العربيّة من رجوع الشروط إلى الهيئة فإنّ الألفاظ بعد حاكميّة الوجدان منصرفة إلى ما يحكم به الوجدان فتدبّر جيّدا.

وليس المدّعى أنّ الإرادة نفس الحكم حتّى يقال إنّ ذلك خلاف الضرورة بل المدّعى

٤٤١

هو أنّ الحكم هو البعث الناشئ عن الإرادة النفسانيّة الجديّة. ومن المعلوم أنّ البعث تابع للإرادة النفسانيّة فإذا كانت الإرادة فعليّة فالبعث أيضا فعليّ وإن كان تأثير البعث متوقّفا على وجود القيد خارجا وفعليّة البعث في فرض وجود القيد خارجا لا يكون نتيجتها هو التأثير بالفعل بل نتيجتها هو التأثير عند وجود القيد خارجا فلا تغفل.

الموضع الثالث : في عموميّة النزاع :

اعني وجوب المقدّمة لكلّيّ الوجوبين أو اختصاصه بمقدّمة الواجب المطلق دون الواجب المشروط.

قال في الفصول : وأعلم أنّ الكلام في مقدّمات الواجب المشروط كالكلام في مقدّمات الواجب المطلق فيجب مقدّماته بالوجوب الشرطيّ حيث يجب مقدّمات الواجب المطلق بالوجوب المطلق. نعم يستثنى منها المقدّمة التي هي شرط الوجوب من حيث نفسه أو تقديره فإنّها لا تجب بالوجوب الشرطيّ من حيث كونها مقدّمة للواجب المشروط وإلّا لزم وجوب الشيء بشرط وجوده أو على تقدير وجوده وهو محال.

ولقد أفاد وأجاد خلافا لجماعة من الأصوليّين حيث ذهبوا إلى اعتبار الإطلاق في عنوان الواجب وكان مقصودهم التعريض على من لم يعتبره ولم يخصّص الواجب بالواجب المطلق بأنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها وحيث لم يتعلّق الوجوب إلى ذيها لا يعقل وجوبها وقد تبع الشيخ الأعظم لما أفاده صاحب الفصول وأورد على من خصّص النزاع بمقدّمة الواجب المطلق بأنّ النزاع يرجع إلى ثبوت الملازمة العقليّة بين وجوب شيء وبين مقدّماته ولا يفرق في ذلك أنحاء الوجوب على تقدير أن يكون الطّلب المتعلّق بشيء على نحو الإطلاق مغايرا له على نحو الاشتراط فكلّما ثبت الوجوب على أيّ نحو كان يمكن النزاع في وجوب مقدّمات المتّصف بذلك الوجوب

٤٤٢

فإنّه لا يراد من إثبات الوجوب لمقدّمة المشروط إثبات الوجوب المطلق لها فكما أنّ وجوب نفس الواجب مشروط بالمقدّمة الوجوبيّة كذا وجوب مقدّمته بمعنى تنجّزه وفعليّته على وجه لم يكن للمكلّف بدّ من فعله مشروطا بذلك الشرط ثمّ أجاب عن تعليله بأنّ ما ذكر من التعليل إنّما ينفي الوجوب الزائد على الوجوب الثابت لنفس الواجب لا وجوبا على نحو ذلك الوجوب إنّ مطلقا فمطلقا وإن مقيّد فمقيّد. فالسعي للحجّ داخل في حريم الخلاف كالطهارة للصلاة مع أنّ الأوّل مشروط والثاني مطلق ولو لا عموم النزاع للمقدّمات الوجوديّة للواجب سواء كان مشروطا أو مطلقا لم يكن وجه لتحرير المسألة عن أصل إذ قد عرفت أنّ جميع الواجبات مشروط ولو بالأمور العامّة التي هي شرائط التكليف (١).

فتحصّل أنّ النزاع يعمّ المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط كالمقدّمات الوجوديّة للواجب المطلق ولا وجه لتخصيص النزاع بالثاني لعموم الملاك لأنّ الملازمة الشرعيّة إن كانت فلا فرق في ذلك بين كون الواجب مطلقا أو مشروطا نعم لا يعمّ النزاع المقدّمات الوجوبيّة لما أشار إليه في الفصول من لزوم وجوب الشيء بشرط وجوده أو على تقدير وجوده وهو محال.

ولعلّ وجه الاستحالة كما في تعليقة الأصفهانيّ أنّ وجوب الشيء تسبيب إلى إيجاده وهو مع فرض حصوله بطبعه لا بتسبيب منه متنافيان لا أنّ الإيجاد في فرض الوجود مرجعه إلى إيجاد الموجود لأنّ إيجاده تحقيقا ينافي وجوده تحقيقا لا وجوده فرضا (٢).

الموضع الرابع : في أنّ المقدّمات الوجوديّة هل تكون متعلّقة للطلب في الحال بناء على رجوع القيود الى المادّة دون الهيئة أم لا تكون.

__________________

(١) التقريرات : ص ١٤٣.

(٢) التعليقة : ج ١ ص ٣٠٠.

٤٤٣

والحقّ أنّها تكون متعلّقة للطلب في الحال على نحو كون ذيها متعلّقا للطلب فكما أنّ ذا المقدّمة واجب في الحال كذلك المقدّمات ولكنّ حيث كان وجوب ذي المقدّمة غير منجّز أي لا يجب البدار إلى امتثاله قبل حصول الشرط كذلك وجوب مقدّماته إلى لا يجب البدار إلى امتثالها قبل حصول الشروط. وذلك لأنّ وجوب المقدّمات على نحو وجوب ذيها. فكما أنّ تنجّز نفس الواجب مشروط بالمقدّمة الوجوبيّة كذلك تنجّز مقدّماته فما دام لم يتحقّق شرط الوجوب في الخارج لم يصرّ وجوب ذي المقدّمة متنجّزا حتّى يصير بتبعه وجوب المقدّمات متنجّزا فالوجوب فعليّ ولكنّ لا فاعليّة له ما لم يتحقّق شرط الوجوب.

وعليه فمجرّد حاليّة الطلب في المشروط لا يجدي في وجوب تحصيل المقدّمات منجّزا وإن علمنا باتّفاق وجود شرط الوجوب في الاستقبال.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث فرّق بين مختاره ومختار الشيخ في وجوب الإتيان بالمقدّمات على تقدير اتّفاق وجود الشرط في الاستقبال وقاس ما أختاره الشيخ بالواجب المعلّق الذي يجب مقدّماته المفوّتة قبل حلول وقته.

حيث قال : نعم على مختار الشيخ لو كانت له مقدّمات وجوديّة غير معلّق عليها وجوبه لتعلّق بها الطّلب في الحال على تقدير اتّفاق وجود الشرط في الاستقبال وذلك لأنّ إيجاب ذي المقدّمة على ذلك حاليّ والواجب إنّما هو استقباليّ كما يأتي في الواجب المعلّق لما عرفت من أنّ الطلب وان كان حاليّا ولكنّه غير منجّز ولا فاعليّة له فلا يقاس بالواجب المعلّق الذي يجب تحصيل مقدّماته المفوّتة قبل حلول وقته بناء على الفرق بين الواجب المعلّق والمشروط كما هو الظاهر.

وعليه فما ذهب إليه الشيخ لا يجدي في وجوب المقدّمات المفوّتة منجّزا فالإشكال الذي يرد بناء على رجوع القيود الى الطلب في المقدّمات المفوّتة يرد أيضا بناء على مختار الشيخ من رجوع القيود إلى المادّة فإنّ الطلب والوجوب على مبناه أيضا غير

٤٤٤

منجّز وعليه فيقال كيف ينجّز وجوب المقدّمات المفوّتة قبل تنجّز وجوب ذيها.

فاللازم هو الجواب بأمر آخر على المذهبين فإنّ الإشكال مشترك الورود.

الموضع الخامس : في أنّ المقدّمات المفوّتة هل تكون واجبة الإتيان قبل حصول شرط الوجوب أم لا.

والحقّ هو الأوّل فيما إذا كان غرض الشارع على نحو لا يرضى بتركه إذ لو لم يجبها لأخلّ بغرضه والإخلال بالغرض لا يصدر عن الحكيم المتعال.

وأيضا إذا علم المكلّف بأنّ للمولى مطلوب لا يرضى بتركه ويتوقّف على مقدّمات مفوّتة قبل وقته يحكم العقل عليه بوجوب الإتيان بتلك المقدّمات حفظا لغرض المولى الذي لا يرضى بتركه.

وإليه يشير سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال وأمّا إذا فرض عدم تعلّق إرادة فعلا بتحصيل ذي المقدّمة فعلا لكن يعلم المولى أنّه عند حصول شرطه مطلوب له لا يرضى بتركه ويرى أنّ له مقدّمات لا بدّ من إتيانها قبل حصول الشرط وإلّا يفوت الواجب في محلّه بفوتها فلا محالة تتعلّق إرادة آمريّة بتحصيلها لأجل التوصّل بها إليه في محلّه وبعد تحقّق شرطه لا شيء آخر.

بل إذا علم المكلّف بأنّ المولى أنشأ البعث على تقدير يعلم حصوله ويرى أنّه يتوقّف على شيء قبل تحقّق شرطه بحيث يفوت وقت إتيانه يجب عليه عقلا إتيانه لحفظ غرض المولى في موطنه فإذا قال أكرم صديقي إذا جاءك ويتوقّف إكرامه على مقدّمات يكون وقت إتيانها قبل مجيئه يحكم عقله بإتيانها لتحصيل غرضه بل لو كان المولى غافلا عن مجيئي صديقه لكن يعلم العبد مجيئه وتعلّق غرض المولى بإكرامه على تقديره وتوقّفه على مقدّمات كذائيّة يحكم العقل بإتيانها لحفظ غرضه ولا يجوز له

٤٤٥

التقاعد عنه (١).

لكنّه كما في تعليقة الأصفهانيّ مختصّ بما إذا علم الغرض هكذا. فيقبح تفويت الغرض اللزوميّ من التكليف أو المكلّف به إذا كان الفعل تامّ الاقتضاء ولم يكن الوقت أو الشرط دخيلا في كونه ذا مصلحة بخلاف ما إذا كان كذلك فإنّ تفويته غير قبيح لأنّه ليس من المنع عن وصول المولى إلى غرضه بل إلى المنع من صيرورته غرضا للمولى فتدبّر. (٢).

وأمّا التمسك بقاعدة دفع الضرر المحتمل في هذه الصورة كما في المحاضرات (٣).

ففيه أنّ قبل الوقت لا يكون التكليف فعليّا منجّزا حتّى يجيء فيه احتمال العقوبة فتدبّر جيّدا.

وكيف كان فهذا هو التوجيه الصحيح في تعلّق الوجوب الفعليّ المنجّز بالمقدّمات المفوّتة قبل حصول الشرط في الواجبات المشروطة وإلّا فلا يمكن القول بوجوبها سواء قلنا بأنّ الشروط قيود المادّة أو قيود الهيئة لأنّ تنجّز وجوب المقدّمات من دون تعلّق الطلب بذيها أو من دون تنجيز الطّلب المتوجّه إليه لا وجه له.

الموضع السادس : في وجوب تعلّم الأحكام في الواجبات حتّى المشروطة قبل حصول شرطها.

ذهب في الكفاية إلى وجوب التعلّم حتّى في الواجب المشروط على مختاره قبل حصول شرطه لكنّه لا بالملازمة بل من باب استقلال العقل بتنجّز الأحكام على الأنام بمجرّد قيام احتمالها إلّا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف

__________________

(١) منهاج الاصول : ج ١ ص ٣٥٧.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٣١١.

(٣) ج ٢ ص ٣٦٨.

٤٤٦

فيستقلّ بعده بالبراءة العقليّة.

أورد عليه أستاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره بأنّ التكليف على مختاره في الواجبات المشروطة ليس فعليّا واستقلال العقل بتنجّز الأحكام بمجرّد الاحتمال إنّما يكون في التكاليف الفعليّة.

وإليه يؤول ما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره بأنّ الاحتمال لا يزيد على العلم من حيث المنجّزيّة للحكم فكما أنّ العلم بالتكليف المشروط قبل حصول شرطه يوجب تنجّزه في وقته وعند حصول شرطه مع بقائه على شرائط فعليّته وتنجّزه عند حصول شرطه فلذا لا عقاب على مخالفته مع عروض الغفلة عنه عند حصول شرطه كذلك الاحتمال إنّما يوجب تنجّزه في وقته مع بقائه على صفة الالتفات إلى حين تنجّز التكليف ولا يجب إبقائه بالتحفّظ على عدم الغفلة المانعة عن الفحص والبحث عنه.

ودعوى كفاية التمكّن في الجملة ولو قبل حصول الشرط لأنّ ترك الواجب بسببه اختياريّ لانتهائه إلى الاختيار مدفوعة بأنّه لو تمّ لزم القول به في جميع المقدّمات الوجوديّة قبل حصول شرطه فلا وجه لتخصيص الحكم العقليّ بالمعرفة (١).

وأيضا بناء على تعلّق الشروط بالمادّة وفعليّة التكليف قبل حصول الشرط لا يكون المقدّمات قبل حصول الشرط موردا للتكليف المنجّز فإنّ ذاها لا يصير منجّزا إلّا بعد وجود الشرط خارجا فكيف يكون مقدّماتها منجّزة.

نعم لو كان الشرط هو نفس اللحاظ كما مرّ في غير الشرط المتأخّر فالشرط حاصل فيكون التكليف حاليّا ومنجّزا ولكن مضى ما فيه فراجع.

فلا يمكن التفصّي عن إشكال وجوب تعلّم الأحكام في الواجبات المشروطة قبل حصول شرطها ووجوب ذيها إلّا بما مرّ من أنّ وجوب المقدّمات المفوّتة قبل حصول

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ص ٣٠٢.

٤٤٧

الشرط من باب حفظ الغرض وعدم جواز الإخلال به فحينئذ يمكن أن يدّعى أنّ تفويت التكليف التامّ الاقتضائيّ في ظرفه بترك الفحص والتعلّم والتّفقه الموجب للغفلة المسقطة للتكليف أو تفويت المكلّف به بسبب ترك التعلّم مصحّح للمؤاخذة على تفويت الغرض فإنّه سدّ باب وصول المولى إلى غرضه اللزوميّ.

ولكنّه مختصّ بما إذا علم أنّ الغرض يكون ممّا لا يرضى الشارع بتركه مطلقا وإلّا فلا يوجب وجوب الفحص والتعلّم قبل حصول شرطه وبما إذا لم يسع الوقت للتعلّم وإلّا فإذا فرض قبول الوقت للفحص والتعلّم مع العمل فالفحص والتعلّم قبل الوقت على جميع الوجوه ليس بأدون من الواجب الموسّع فترك الواجب بترك مقدّمته الواجبة التي لا تجب المبادرة إليها بل يعذّر في تركها لفرض قابليّة الوقت في حدّ ذاتها لهما لا يوجب المؤاخذة على ترك الواجب ولا على ترك المقدّمة وبما إذا لم يكن الواجب مشروطا بقدرة خاصة شرعا من ناحية التعلّم والمعرفة وإلّا لم يجب العلم قبل دخول الوقت لأنّه لا وجوب حتّى يجب التعلّم مقدّمة لإتيان الواجب في ظرفه ولا له ملاك ملزم كذلك كي يستلزم ترك التعلّم تفويته لفرض أنّ ملاكه إنّما يتمّ بالقدرة عليه في وقته من قبل التعلّم ولا أثر لها فيه قبل دخوله أصلا اللهم إلّا أن يقال لا دليل على أخذ القدرة عليه في الوقت من قبل التعلّم.

هذا مضافا إلى ما يدلّ بالخصوص وجوب التعلّم والتّفقه في الدين كمرسلة يونس قال سئل أبو الحسن عليه‌السلام هل يسع الناس ترك المسألة عمّا يحتاجون إليه قال لا (١).

وموثّقة أبي جعفر الأحول عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال لا يسع الناس حتّى يسألوا ويتفقّهوا ويعرفوا إمامهم ويسعهم أن يأخذوا بما يقول وإن كان تقيّة (٢).

وصحيحة حمران حيث قال أبو عبد الله عليه‌السلام لحمران في شيء سأله إنّما يهلك الناس

__________________

(١) الوسائل : الباب ٧ من ابواب صفات القاضي : ح ١٧.

(٢) الوسائل : الباب ٩ من أبواب صفات القاضي : ح ١٣.

٤٤٨

لأنّهم لا يسألون (١).

وما ورد في السؤال عمّن لم يتعلّم يوم القيامة كقوله عليه‌السلام يقول للعبد يوم القيامة أكنت عالما فإن قال نعم قال له أفلا عملت بما علمت وإن قال كنت جاهلا قال له أفلا تعلّمت حتّى تعمل فيخصمه وذلك الحجّة البالغة (٢).

وما ورد في غسل المجدور ودعاء الإمام في حقّ القوم الذين غسلوا المجدور وكمرسلة ابن أبى عمير المرويّة عن محمّد بن يعقوب عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات فقال قتلوه ألّا سألوا فإنّ شفاء العي السؤال (٣).

وما ورد في كون طلب العلم فرض من الفرائض بل يكون أوجب من طلب المال كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب العلم فريضة على كلّ مسلم (٤).

وقول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ألا وإنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال إلى أن قال والعلم مخزون عند أهله وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه (٥).

إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على وجوب التّفقه والتعلّم.

وهذه الأخبار حاكمة على إطلاق أدلّة البراءة من جهة قبل الفحص وبعده فيختصّ موردها ببعد التعلّم والتّفقه والفحص كما قرّر في بحث شرائط جريان البراءة الشرعيّة (٦).

ومن المعلوم أنّ مقتضى إطلاق الروايات أنّه لا فرق في وجوب التعلّم والتّفقه بين أن

__________________

(١) البحار : ج ١ ص ١٩٨.

(٢) البحار : ج ١ ص ١٧٨.

(٣) الوسائل : الباب ٥ من ابواب التيمم : ح ٣.

(٤) البحار : ج ١ ص ١٧٧ ـ ١٧٢.

(٥) البحار : ج ١ ص ١٧٥.

(٦) راجع تهذيب الاصول : ج ٢ ص ٤٣٥.

٤٤٩

يكون الأحكام مطلقة أو مشروطة.

نعم لزم ان تكون من مظانّ الابتلاء واحتماله لأهمّيّة الغرض وإطلاق الأدلّة التعبّديّة وأمّا في الموارد التي يعلم عادة أنّها خارجة عن محلّ الابتلاء فلا دليل لا عقلا ولا شرعا على لزوم التفحّص والتّفقه فيها إذ بتركهما لا يفوت الغرض وأيضا تكون الآيات والروايات منصرفة عن مثلها فلا يكون التعلّم والتّفقه فيها إلّا كسائر الواجبات الكفائيّة.

ثمّ أنّ التعلّم والتّفقه هل يكون واجبا نفسيّا أو واجبا غيريّا والذي يمكن أن يقال إنّ وجوبهما قبل حصول الشرط بما مرّ من الدليل العقليّ والشرعيّ يدلّ على أنّ وجوبه ليس وجوبا غيريّا ومقدميّا لواجب آخر وإلّا فلم يكن وجه لوجوبهما من دون وجوب الغير قبل حصول الشرط هذا مضافا إلى عدم المقدّميّة بين العلم والعمل ولو في بعض الموارد كما أنّ عدم وجوبهما فيما إذا لم يكن موردا للابتلاء دليل على أنّ وجوبهما ليس نفسيّا حقيقيّا.

وحيث كان الغرض من وجوب التعلّم جعل التكليف قابلا للباعثيّة والتنجيز فهو واجب نفسيّ طريقيّ في قبال واجب نفسيّ حقيقيّ وهو الظاهر من الأخبار الآمرة بالتفقّه والتعلّم وبقيّة الكلام مذكورة في شروط جريان أصالة البراءة وعليه فمن احتاط بين الاحتمالات وأتى بالواقع من دون التعلّم عصى وجوب التعلّم وإن أتى بالواقع فصحّ عمله ولكنّه عصى.

اللهم إلّا أن يقال إنّ وجوب التعلّم إرشاديّ فمع الإتيان بالواقع لا معصية ولا يستفاد من الروايات أزيد من الوجوب الإرشاديّ لأنّ النظر فيها إلى الوصول بالواقعيّات فتدبّر.

ومنها تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز

ويقع الكلام في أمور : الأوّل في صحّة تقسيم المطلق إلى المنجّز والمعلّق فإنّ المطلق باعتبار أنّه ربما لا يتوقّف امتثاله على أمر متأخّر كمعرفة الباري تعالى يسمّى

٤٥٠

منجّزا وباعتبار أنّه ربما يتوقّف امتثاله على أمر متأخّر كالحجّ باعتبار موسمه يسمّى معلّقا إذ الحجّ بعد حصول شرط الاستطاعة أو خروج الرفقة يكون واجبا مطلقا ولكنّ امتثاله متوقّف على مجيء وقته وتحصيل الوقت ليس بأمر مقدور وبهذا الاعتبار يسمّى مطلقا معلّقا.

وعليه فالواجب إمّا وجوبه متوقّف على حصول شيء أو على فرض وجود شيء فهو مشروط.

وإمّا ليس وجوبه بمتوقّف على شيء فهو مطلق وهو أيضا ربما لا يتوقّف امتثاله على أمر متأخّر فهو منجّز وربما يتوقّف على أمر متأخّر فهو معلّق.

وعليه فلا مانع من أن يكون الواجب على ثلاثة أقسام : المنجّز والمشروط والمعلّق ، ولا موجب لإرجاع بعضها إلى بعض.

ومعنى المنجّز واضح لأنّ الوجوب فيه فعليّ ولا يتوقّف امتثال الواجب على أمر غير مقدور أو أمر متأخّر لقول الشارع صلّ متطهّرا.

ومعنى المشروط على المشهور هو أنّ الوجوب ليس بفعليّ بل هو متوقّف على حصول شيء في الخارج كقولهم إن استطعت فحجّ.

ومعنى المشروط على مختار الشيخ هو أنّ الوجوب والطّلب فعليّ قبل تحقّق القيد إلّا أنّه وإن كان فعليّا على فرض وجود القيد ولكن لا فاعليّة له قبل حصول القيد في الخارج.

والسرّ في ذلك أنّ الإرادة الفعليّة تكون في فرض وجود القيد وبدون وجود القيد في الخارج لا فاعليّة له ومعنى المعلّق أنّ الوجوب قبل قيد الواجب فعليّ ومطلق ولا ينوط بشيء ولا تكون الإرادة فيه منوطة بل هي مطلقة ومتعلّقة بالواجب الخاصّ والمصلحة الباعثة للإرادة تامّة فيه قبل تحقّق قيده وعليه فالوجوب والطّلب فيه فعليّ وله الفاعليّة بالنسبة إلى الواجب الاستقباليّ في ظرفه.

٤٥١

ولقد أفاد وأجاد في بدائع الأفكار حيث قال :

إنّ الواجب المعلّق فعليّ الوجوب قبل تحقّق قيده لأنّ الموجب لفعليّة وجوبه هي فعليّة المصلحة الداعية إليه في متعلّقه قبل تحقّق قيده ولا مانع على الفرض من تأثير تصوّر هذه المصلحة في وجود إرادة ذيها في نفس المولى قبل تحقّق القيد فلا محالة تتحقّق الإرادة التشريعيّة ، إلى أن قال وأمّا انتظار حصول القيد المقيّد به الواجب المعلّق فهو دخيل في فعليّة امتثال هذا التكليف لا في فعليّة نفس التكليف فالواجب المعلّق لا تتوقّف فعليّة وجوبه على وجود قيده في الخارج ولا على فرضه في الذهن كما هو شأن الوجوب المشروط.

والمحصّل من هذا الكلام أمران :

الأمر الأوّل : عدم صحّة إرجاع الواجب المعلّق إلى الواجب المشروط على رأي المشهور.

والثاني : عدم صحّة إرجاعه أيضا إلى الواجب المشروط على المختار.

أمّا عدم صحّة إرجاعه إلى المشروط على المشهور فلمّا ذكرنا غير مرّة من أنّ متعلّق الوجوب في المعلّق متّصف بالمصلحة التامّة الداعية إلى التكليف به قبل تحقّق قيده ولا مانع على الفرض من تعلّق الإرادة التشريعيّة به فلا محالة تتعلّق به الإرادة لتمام المقتضي وعدم المانع فإذا أظهر المولى هذه الإرادة بقول أو فعل تمّ الحكم الشرعيّ قبل حصول قيد الواجب في الخارج وإن كان الامتثال لا يصحّ إلّا بعد حصوله إلى أن قال :

ومنه يظهر أيضا وجه عدم رجوعه إلى المشروط على المختار لما بيّنا أنّ الفعل في الواجب المعلّق متّصف بالمصلحة قبل تحقّق قيده فالمقتضي لطلبه وهو اتّصافه بالمصلحة قبل القيد موجود بالفعل وما توهّم كونه مانعا تبيّن فساده فلا بدّ من القول بوجوبه فعلا لا على فرض وجود قيده بخلاف الواجب المشروط على المختار فهو وإن

٤٥٢

كان الطلب فيه فعليّا قبل تحقّق القيد خارجا إلّا أنّه فعليّ على فرض وجوده (١).

وعليه فلا حاجة في إثبات وجوب المقدّمات المفوّتة في الواجب المعلّق إلى قبح تفويت الغرض فإنّ مع فعليّة الوجوب وفاعليّته تكون تلك المقدّمات بناء على الملازمة واجبة ولا يتوقّف وجوب المقدّمات في الواجب المعلّق على إحراز كون الغرض ممّا لا يرضى الشارع بتركه بخلاف ما إذا استدلّ لوجوبها بقبح تفويت الغرض فإنّه موقوف عليه كما مرّ.

وعليه فتقسيم الواجب المطلق إلى المعلّق والمنجّز كما في الفصول بداعي تصحيح وجوب المقدّمات قبل زمان ذيها بناء على الملازمة واقع في موقعه.

وما في الكفاية من أنّه لا وقع لهذا التقسيم لأنّه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط وخصوصيّة كونه حاليّا أو استقباليّا لا توجب التقسيم المذكور ما لم توجب الاختلاف في المهمّ وإلّا لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيّات من الزمانيّة والمكانيّة والتعبّديّة والتوصّليّة وغيرها ولا اختلاف في الأثر المهمّ فإنّ ما رتّبه عليه من وجوب المقدّمة فعلا كما يأتي إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليّته لا من استقباليّة الواجب ، فافهم.

غير سديد بعد كونه في مقام تبيين إمكان وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها ومصحّحه لا في مقام بيان مجرّد فعليّة الوجوب ولو مع اتحاد زمانه وزمان الواجب ولذلك قال المحقّق الأصفهانيّ إنّ انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب هو المصحّح لوجوب المقدّمة قبل زمان ذيها لا مجرّد فعليّة الوجوب ولو مع اتّحاد زمانه وزمان الواجب فيصح تقسيم الواجب إلى ما يتّحد زمانه مع زمان وجوبه فلا تكون مقدّمته واجبة قبل زمانه وإلى ما يتأخّر زمانه عن زمان وجوبه فيمكن وجوب مقدّمته قبله ولعلّ

__________________

(١) بدائع الافكار : ج ١ ص ٣٥٨ ـ ٣٥٢.

٤٥٣

إليه أشار بقوله فافهم (١).

ويظهر ممّا ذكر أيضا أنّه لا وجه لإرجاع المعلّق إلى المشروط مع ما عرفت من الفرق بين المشروط بالمعنى المشهور وبالمعنى المختار وعليه فلا وقع لما في الوقاية من إنكار المعلّق وإرجاعه إلى المشروط معلّلا بأنّ القيد قد يكون داخلا في حيّز الإرادة وقد يكون خارجا والأوّل هو المطلق والثاني هو المشروط ولا ثالث لهما بحكم العقل لكي يثبت به الأقسام ويسمّى المعلّق وحيث إنّ الزمان خارج عن القدرة والقيود الخارجة عن قدرة المكلّف من قبيل الثاني لاستحالة التكليف بغير المقدور فالأوامر المتعلّقة بقيد الزمان يكون من قبيل المشروط قطعا وهذا مراد الشيخ الأعظم فيما ذكره من الاعتراض على الواجب المعلّق إلى أن قال :

وخفي على غير واحد من الأساتيد أيضا فزعموا أنّ الشيخ يجعل الجميع من قبيل المعلّق وينكر الواجب المشروط وهذا كان معتقد أهل العلم في النجف الأشرف حتّى قدم عليهم السيّد الأستاذ فعرفهم بأنّ الشيخ الأعظم ينكر الواجب المعلّق ويجعل الجميع من قبيل المشروط (٢).

لمّا عرفت من أنّ امتثال الواجب منوط بوجود الزمان وأمّا المصلحة الباعثة على الوجوب تامّة ولا يتوقّف على وجود الزمان ولذا تكون الطّلب والإرادة موجودين بالفعل وله الفاعليّة هذا بخلاف المشروط ولو بناء على مختارنا فإنّ الطلب والإرادة في فرض حصول الشيء ونتيجته أنّ الفاعليّة منوط بوجود الشيء في الخارج والفرق بينهما ظاهر فلا وجه لإرجاع المعلّق إلى المشروط كما لا وجه لإنكار المشروط وإرجاعه إلى المعلّق مع ما عرفت من الفرق بينهما.

هذا مضافا إلى أنّ بعض القيود لا يصلح لأن يكون قيدا للواجب كقول الطبيب إن

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ص ٣٠٣.

(٢) الوقاية : ج ١ ص ٢١٩.

٤٥٤

مرضت فاشرب المسهل فإن شرب المسهل لدفع المرض فلا يعقل أن يكون المرض دخيلا في مصلحة شرب المسهل وأيضا ربما تكون مطلوبيّة المادّة ومحبوبيّتها مطلقة فلا يصلح أن يتقيّد بشيء فالقيد راجع إلى الهيئة كقول المولى إن قدرت فانقذ ابني وغير ذلك من الموارد التي ترجع فيها القيد إلى الهيئة ولا يصلح لرجوعه إلى المادّة فلا تغفل.

ثمّ أنّ توهّم استحالة التكليف بالموقّتات القطعيّة كالحجّ ناشئ من توهّم تعلّق التكليف بالزمان مع أنّ الزمان قيد وهو خارج عن متعلّق التكليف والتقيّد داخل والأمر بصلاة المغرب ليس أمرا بإيجاد المغرب بل هو أمر بإيجاد صلاة المغرب عند وجود المغرب في ظرف الإتيان وهو مقدور ومصلحة تامّة كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ الواجب إمّا مطلق وإمّا مشروط والمطلق إمّا منجّز وإمّا معلّق وعليه فلا وجه لإنكار المعلّق بعد تصوّره كما عرفت.

الامر الثاني : في الإشكالات الواردة على ثبوت الواجب المعلّق والجواب عنها منها ما نسبه في الكفاية إلى بعض أهل النظر من أنّ الطلب والإيجاب كالإرادة التامّة فكما أنّ الإرادة التامّة المحرّكة للعضلات نحو المراد لا يكاد تكون منفكّة عن المراد فليكن كذلك الإيجاب غير منفكّ عن الواجب وعليه فلا يمكن أن يتعلّق الإيجاب بأمر استقباليّ.

وقرّره المحقّق الأصفهانيّ بما حاصله أنّ النفس في وحدتها كلّ القوى فهي مع وحدتها ذات منازل ودرجات ففي مرتبة القوّة العاملة مثلا تدرك في الفعل فائدة عائدة إلى جوهر ذاتها أو إلى قوّة من قواها.

وفي مرتّبة القوّة الشوقيّة ينبعث لها شوق إلى ذلك الفعل فإذا لم يجد مزاحما ومانعا يخرج ذلك الشوق من حدّ النقصان إلى حدّ الكمال الذي عبّر عنه تارة بالإجماع والأخرى بتصميم العزم وثالثة بالقصد والإرادة فينبعث من هذا الشوق البالغ نصاب

٤٥٥

الباعثيّة هيجان في مرتبة القوّة العاملة فيحصل منها حركة في مرتبة العضلات.

ومن الواضح أنّ الشوق وإن أمكن تعلّق بأمر استقباليّ إلّا أنّ الإرادة ليست نفس الشوق بأيّة مرتبة كان بل الشوق البالغ حدّ النصاب بحيث صارت القوّة الباعثة باعثة بالفعل فحينئذ فلا يتخلّف عن انبعاث القوّة العاملة المنبثة في العضلات وهو هيجانها لتحريك العضلات الغير المنفكّ عن حركتها ولذا قالوا إنّ الإرادة هو الجزء الأخير من العلّة التامّة لحركة العضلات فمن يقول بإمكان تعلّقها بأمر استقباليّ إن أراد حصول الإرادة التي هي علّة تامّة لحركة العضلات إلّا أنّ معلولها حصول الحركة في ظرف كذا فهو عين انفكاك العلّة عن المعلول.

وجعله بما هو متأخّر معلولا كي لا يكون له تأخّر لا يجدي بل أولى بالفساد لصيرورة تأخّره عن علّته كالذاتيّ له فهو كاعتبار أمر محال في مرتبة ذات الشيء فهو أولى بعدم الوجود في غيره.

وإن أراد أنّ ذات العلّة وهي الإرادة موجودة من قبل إلّا أنّ شرط تأثيرها وهو حضور وقت المراد حيث لم يكن موجودا ما أثّرت العلّة في حركة العضلات.

ففيه أنّ حضور الوقت إن كان شرطا في بلوغ الشوق حدّ النصاب وخروجه من النقص إلى الكمال فهو عين ما رمناه من أنّ حقيقة الإرادة لا تتحقّق إلّا حين إمكان انبعاث القوّة المحرّكة للعضلات.

وإن كان شرطا في تأثير الشوق البالغ حدّ النصاب الموجود من أوّل الأمر فهو غير معقول لأنّ بلوغ القوّة الباعثة في بعثها إلى حدّ النصاب مع عدم انبعاث القوّة العاملة تناقض بيّن بداهة عدم انفكاك البعث الفعليّ عن الانبعاث وعدم تصوّر حركة النفس من منزل إلى منزل مع بقائها في المنزل الأوّل إلى أن قال.

وأمّا الإرادة التشريعيّة فهي على ما عرفت في محلّه إرادة فعل الغير منه اختيارا وحيث إنّ المشتاق إليه فعل الغير الصادر باختياره فلا محالة ليس بنفسه تحت اختياره

٤٥٦

بل بالتسبيب إليه بجعل الداعي إليه وهو البعث نحوه فلا محالة ينبعث من الشوق إلى فعل الغير اختيارا الشوق إلى البعث نحوه فتتحرّك القوّة العاملة نحو تحريك العضلات بالبعث إليه فالشوق المتعلّق بفعل الغير إذا بلغ مبلغا ينبعث منه الشوق نحو البعث الفعليّ كان إرادة تشريعيّة وإلّا فلا.

ومن الواضح أنّ جعل الداعي للمكلّف ليس ما يوجب الدعوة على أيّ حال إذ المفروض تعلّق الشوق بفعله الصادر منه بطبعه وميله لا قهرا عليه فهو جعل ما يمكن أن يكون داعيا عند انقياده وتمكينه وعليه فلا يعقل البعث نحو أمر استقباليّ إذ لو فرض حصول جميع مقدّماته وانقياد المكلّف لأمر المولى لما أمكن انبعاثه نحوه بهذا البعث إلى أن قال :

إنّ البعث إنّما يكون مقدّمة لحصول فعل الغير امكانا إذا ترتّب عليه الانبعاث وخرج من حدّ الإمكان إلى الوجوب بتمكين المكلّف له وانقياده وحيث إنّه متقيّد بزمان متأخّر غير حاليّ فلا يعقل الانبعاث فكذا البعث فلا مقدّميّة للبعث إلّا في صورة اتّصافه بإمكان الباعثيّة نحو الفعل فعلا وفي مثله يصحّ تعلّق الإرادة به من قبل إرادة فعل الغير اختيارا (١).

يمكن الجواب عنه أمّا في المقيس عليه وهو الإرادة بأنّ الإرادة تتعلّق بأمر متأخّر استقباليّ كما تتعلّق بأمر حاليّ بالوجدان.

ويشهد له تحمّل المشاق في تحصيل المقدّمات فيما إذا كان المقصود بعيدة المسافة وكثيرة المئونة فإنّه ليس إلّا لأجل تعلّق إرادته به وكونه مريدا له قاصدا إيّاه ودعوى أنّ ذلك ناشئ من مجرّد الشوق إلى ذيها من دون أن يصل إلى حدّ إرادتها كما ترى إذ مجرّد الشوق لا يؤثّر إلّا في الشوق لا الإرادة فالإرادة نحو المقدّمات كاشفة عن إرادة ذيها.

__________________

(١) التعليقة : ج ١ ص ٣٠٨ ـ ٣٠٣.

٤٥٧

هذا مضافا إلى الواجب المركّب المتدرّج في الوجود يكون أجزائه تدريجيّة الحصول مع أنّه لا إشكال في وجوب جميع هذه الأجزاء المتدرّجة قبل الإتيان بها فالوجوب المتعلّق بها فعليّ مع أنّ الواجب وهي أجزاء المركّب استقباليّ وخارج عن الاختيار حين تنجيز وجوبه لفرض كونه استقباليّا.

ودعوى أن التكليف في الواجبات التدريجيّة يصير فعليّا تدريجا بحيث إنّ الإنشاء بداعي البعث وإن كان واحدا وهو موجود من أوّل الوقت لكنّ بلحاظ تعلّقه بأمر مستمرّ أو بأمر تدريجيّ الحصول كأنّه منبسط على ذلك المستمر أو التدريجيّ فله اقتضائات متعاقبة بكلّ اقتضاء يكون بالحقيقة بعثا إلى ذلك الجزء من الأمر المستمرّ أو المركّب التدريجيّ فهو ليس مقتضيا بالفعل لتمام ذلك الأمر المستمرّ أو المركّب بل يقتضي شيئا فشيئا (١).

مندفعة بما أفاد في بدائع الأفكار من أنّ الالتزام بأنّ التكليف في الواجبات التدريجيّة يصير فعليّا تدريجا فرارا عن الالتزام بالواجب التعليقيّ خلاف الوجدان والضرورة (٢).

وأمّا ما ذكره من المنازل المذكورة ففيه كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره أنّه لا يدلّ إلّا على أنّ القوى العاملة للنفس وآلاتها المنبثة هي فيها لما كانت تحت سلطان النفس وقدرتها بل هي من مراتبها وشئونها فلا يمكن لها التعصي على إرادتها فإذا أرادت قبضها تنقبض أو بسطها تنبسط من غير تعص وتأخّر مع عدم آفة للآلات.

لكنّ معنى كون القوى تحت إرادة النفس وإطاعتها أنّها إذا أرادت تحريكها في الحال تحرّكت لا عدم إمكان تعلّق الإرادة بأمر استقباليّ.

فما اشتهر بينهم من أنّ الإرادة علّة تامّة للتحريك ولا يمكن تخلّفها عن المراد حتّى

__________________

(١) كما في تعليقة الأصفهاني : ج ١ ص ٣٠٨.

(٢) بدائع الافكار : ج ١ ص ٣٥٣.

٤٥٨

أخذوه كالأصول الموضوعة ونسجوا على منواله ما نسجوا ممّا لم يقم عليه برهان إلّا ما ذكرنا.

ولازم ذلك هو ما عرفت من أنّ الإرادة إذا تعلّقت بتحريك عضلة في الحال ولم يكن مانع في البين تتحرّك إطاعة للنفس.

وأمّا عدم إمكان التعلّق بأمر استقباليّ فيحتاج إلى برهان مستأنف ولم يقم عليه لو لم نقل بقيامه على إمكانه وقضاء الوجدان بوقوعه.

كيف وإرادة الله تعالى قد تعلّقت أزلا بإيجاد ما لم يكن موجودا على الترتيب السببيّ والمسبّبيّ من غير إمكان التغيير والحدوث في ذاته وإرادته كما برهن عليه في محلّه ولا يمكن أن يقال في حقّه تعالى كان له شوق ثمّ بلغ حدّ النصاب فصار إرادة وما قرع سمعك أنّ الإرادة فيه تعالى هو العلم بالنظام الأصلح إن أريد به اتّحاد صفاته تعالى فهو حقّ وبهذا النظر كلّها يرجع إلى الوجود الصرف التام وفوق التمام وإن أريد نفي صفة الإرادة فهو إلحاد في أسمائه تعالى ومستلزم للنقص والتركيب والإمكان تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

إلى أن قال : ثمّ إنّ الإرادة كالشوق تتعلّق بالأمر الحاليّ والاستقباليّ وليست كالعلل الطبيعيّة ولم تكن مطلق الإرادة علّة تامّة لمطلق حركة العضلات بل العضلات بما هي تابعة للنفس تكون تحت سلطانها.

فإذا أرادت إيجاد أمر في المستقبل لا تتعلّق الإرادة بتحريك العضلات في الحال بل إن بقيت الإرادة إلى زمان العمل تتعلّق إرادة أخرى بتحريك العضلات لرؤية توقّف الإيجاد على حركتها لا لأنّ إرادة الإيجاد محرّكة للعضلات ، إلى أن قال : فالإرادة المتعلّقة بتحريك العضلات غير الإرادة المتعلّقة بإيجاد المطلوب نوعا.

ألا ترى أنّ المطلوب مراد لذاته وتحريك العضلات توصّليّ وغير مشتاق اليه أصلا

٤٥٩

ولا مراد بالذات (١).

وبالجملة فتوهّم عدم إمكان تعلّق الإرادة بامر استقباليّ ناشئ من توهّم أنّ الإرادة هي التي لا تنفكّ عن تحريك العضلات فلا يمكن تحقّق الإرادة من دون تحريك العضلات مع أنّ الإرادة تكون ملازمة لذلك.

ألا ترى أنّا نريد في أذهاننا أشياء ولم يكن فيها تحريك للعضلات وهكذا كانت المجرّدات مريدة للأشياء من دون تحريك للعضلات فيمكن تحقّق الإرادة بدون تحريك العضلات ولا برهان على عدم انفكاكها عن الإرادة مع ما عرفت من موارد الانفكاك وعليه فتعلّق الإرادة بأمر استقباليّ من دون تحريك للعضلات قبل حلول وقته لا دليل على عدم إمكانه والقول بأنّه تفكيك بين العلّة والمعلول فإنّ الإرادة علّة لتحريك العضلات.

غير سديد بعد ما عرفت من عدم دليل على ملازمة الإرادة لتحريك العضلات بل الوجدان شاهد على انفكاك تحريك العضلات عنها في موارد الانفكاك.

والقول بأنّ إرادة أمر استقباليّ أيضا غير معقول لأنّ الإرادة موجودة والمراد ليس بموجود فلزم التفكيك بين الإرادة والمراد غير صحيح بعد تحقّق المراد في محلّه فالإرادة غير منفكّة عن المراد وحيث إنّ الإرادة متعلّقة بوجود المراد في وقته لا يمكن تقدّم المراد على وقته وإلّا لزم الخلف.

نعم غاية ما في ذلك هو امتداد وقت العلّة بالنسبة إلى وقت المعلول ولا إشكال فيه لعدم لزوم الانفكاك منه كما أنّ ذات الباري تعالى علّة لكلّ متدرّج من المتدرّجات والنظام السببيّ والمسببيّ من الأزل فالعلّة علّة أزليّة لمعاليله بحسب تدرّجها ووقوعها في النظام السببيّ والمسبّبيّ ولا يكون علّيّته تعالى حادثة كما لا يخفى.

__________________

(١) منهاج الوصول : ج ١ ص ٣٦٣ ـ ٣٥٩.

٤٦٠