عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

الاضطرار ناظرة إلى الأدلّة الأوّليّة.

ويشهد له أيضا فتوى الأصحاب بصحّة الوضوء أو الغسل الضرريّين إذا أتى بهما جهلا وغفلة مع أنّه لو كان مقتضى أدلّة الاضطرار هو التنويع وإخراج مورد الاضطرار فلا وجه للصحّة في صورة الجهل والغفلة إذ لا أمر ولا مصلحة فيما إذا كانا ضرريّين فالحكم بصحّتهما في حال الجهل والغفلة يدلّ على أنّ مفاد أدلّة الاضطرار ليس كمفاد أدلّة التخصيص التي تخرج الأفراد عن تحت مادّة العموم بحيث لا يبقى للعموم بالنسبة إليها اقتضاء بل مفادها هو التصرّف في هيئة الأوامر الأوّليّة بسقوطها عن الفعليّة من باب الامتنان ففي حال الجهل والغفلة حيث يكون الوضوء أو الغسل مشتملين على المصلحة ولهما الأمر الأوّليّ فالإتيان بهما إتيان بالمطلوب الواقعيّ فللحكم بالصحّة مجال كما أنّ في صورة الإتيان بالتيمّم ورفع الاضطرار في الوقت يمكن النزاع في كفاية التيمّم عن الوضوء أو الغسل في صحّة ما أتى به من العبادات وعدمها هذا بخلاف ما إذا لم نقل بالتعدّد فإنّ الإتيان بالتيمّم مع أنّه لا أمر إلّا به يوجب الإجزاء قطعا ولا مجال للنزاع في الإجزاء وعدمه.

ثمّ إنّ النزاع يبتني على شمول إطلاق أدلّة العمل الاختياريّ لحالة طروّ الاختيار بعد رفع الاضطرار وإلّا فيكفي في عدم وجوب الإعادة والقضاء عدم إطلاق الأدلّة الأوّليّة بالنسبة إلى حالة طروّ الاختيار بعد رفع الاضطرار.

فبعد فرض إطلاق أدلّة العمل الاختياريّ يقع النزاع بعد الإتيان بالاضطراريّ وعروض حالة الاختيار في الوقت عن أنّه هل يجزي العمل الاضطراريّ عن العمل الاختياريّ أو لا يجزي بل يلزم العمل الاختياريّ بعد شمول إطلاق دليله لحالة طروّ الاختيار بعد الاضطرار.

وأمّا ابتناء النزاع على ملاحظة الجهات الواقعيّة من المصالح والمفاسد في المتعلّقات وحصر الجهات الواقعيّة في الأقسام الأربعة ففيه منع لامكان البحث

٣٤١

والنزاع ولو لم نقل بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاد في المتعلّق.

هذا مضافا إلى عدم إمكان الاطلاع نوعا بالنسبة إلى الجهات الواقعيّة فالإحالة إليها إحالة على المجهول.

كيفية دلالة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء

ولا يذهب عليك تماميّة دلالة أدلّة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء بعد كون لسانها لسان التوسعة.

إمّا بإلحاق شيء بشيء كإلحاق التراب بالماء في مثل قوله عليه‌السلام التراب أحد الطهورين فأنّه يفيد التوسعة في الطهارة المشروطة بها العبادات فلا وجه بعد ذلك لعدم الإجزاء فإنّه قد أتى بما هو تكليفه واقعا كما سلك صاحب الكفاية هذا المسلك في الاصول الموضوعيّة.

أو بالأمر بالباقي مع الاضطرار إلى ترك بعض الإجزاء أو الشرائط.

أو بالأمر بإتيان ما هو مضطرّ إلى فعله من الموانع أو القواطع كالأدلّة الواردة في مقام التقيّة.

إذ من المعلوم أنّ الأمر بما عدا المضطرّ إلى تركه يدلّ على عدم دخالة المتروك جزءا كان أو شرطا كما أنّ الأمر على الإتيان بما هو مضطرّ إليه من الموانع والقواطع يدلّ على عدم مانعيّة ما أتى به ممّا اضطرّ إليه وليس ذلك إلّا معنى الحكومة لأنّ المتفاهم العرفيّ من الأمر بالباقي أو الأمر بإتيان المانع والقاطع هو عدم مدخليّة المتروك أو عدم مانعيّة المأتيّ به من المانع والقاطع أو الأمر بتبديل كيفيّة صلاة المختار بكيفيّة أخرى كما ورد في صلاة المضطرّ والغريق فأنّ الظاهر ممّا ورد هنا أنّه في مقام بيان بدليّة الكيفيّة المذكورة عن صلاة المختار وليس هذا إلّا معنى الحكومة.

بل يمكن أن يقال إنّ لسان أدلّة نفي الحرج والضرر أيضا لسان الحكومة بالنسبة إلى الإجزاء التي تكون ضرريّة أو الحرجيّة فأنّ مفادها هو سقوط ما تجري

٣٤٢

فيه تلك الأدلّة عن الفعليّة فمقتضى إطلاق جواز البدار وإتيان العمل هو كفاية ما أتى به عن الجامع للشرائط والإجزاء ويشكل ذلك بأنّ أدلّة نفي الحرج والضرر لا تدلّ على الأمر بالباقي حتّى يكون أمرا مغايرا مع الأمر الأوّلي ويقتضي الإجزاء بل غاية دلالتها هو نفي الضرريّ والحرجيّ.

فاستفادة وجوب الباقي من الأدلّة الأوّليّة ليست بأمر مغاير مع الأمر الأوّليّ حتّى يجري النزاع في إجزائه عن الواقع وعدمه.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ المتفاهم العرفيّ من بقاء الأمر بالنسبة إلى العمل مع نفي الوجوب عن الضرريّ أو الحرجيّ هو كفاية المأتيّ به عن الجامع للشرائط والأجزاء وهو كاف في الإجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء ولا حاجة إلى دلالة دليل نفي الحرج أو الضرر على وجوب الباقي فتدبّر.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الموضوع في الأوامر الاضطراريّة هو العذر والاضطرار في بعض الوقت لا العذر والاضطرار المستوعب إذ الأمر الاضطراريّ في مقابل الأمر الواقعيّ لا يمكن إلّا إذا أمكن منه في بعض الوقت وإلّا فلا أمر اضطراريّ في المستوعب حتّى نبحث عن إجزائه عن الواقع.

ثمّ إنّ مع تماميّة دلالة الأدلّة الاضطراريّة عن إجزاء ما أتى به عند الاضطرار في بعض الوقت عن الواقع لا مجال لاحتمال القضاء حينئذ إذ القضاء فيما إذا لم يأت بالواجب مطلقا في الوقت والمفروض هو أنّ ما أتى به عوض عن الواقع في الوقت فلا تغفل.

مقتضى الأصل

ثمّ مع إهمال أدلّة الاضطرار تجب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه إن قلنا بوحدة حقيقة القضاء مع الأداء وإلّا فلا يجب القضاء في خارج الوقت.

أمّا الإعادة في الوقت بعد رفع الاضطرار فهي واجبة مع إهمال أدلّة الاضطرار

٣٤٣

بالنسبة إلى الإجزاء قضاء لإطلاق الأدلّة الأوّليّة.

ودعوى أنّ الأمر الأوّليّ ساقط عن الفعليّة حال الاضطرار ولا علم بحدوثه بعد رفع الاضطرار فلا وجه لدعوى وجوب الاعادة بالأمر الأوّليّ في الوقت بعد رفع الاضطرار.

مندفعة بأنّ التكليف معلوم من أوّل الأمر في الأفراد العرضيّة والطوليّة حال الاضطرار وحال رفعه وإنّما أسقطه الاضطرار في خصوص حال الاضطرار وسقوطه في غير حال الاضطرار متفرع على حكومة الأمر الاضطراريّ على الأمر الواقعيّ والمفروض أنّ أدلّة الأوامر الاضطراريّة مهملة ولا إطلاق لها وعليه فمع رفع الاضطرار لا وجه لرفع اليد عن إطلاق التكليف الأوّليّ المعلوم من أوّل الأمر.

نعم لو كانت الأدلّة الأوّليّة أيضا مهملة فقد يقال بأنّ الأصل يقتضي البراءة ولكنّه أيضا منظور فيه لأنّ الأمر يدور حينئذ بين احتمال وفاء الاضطراريّ في أوّل الوقت بمصالح الاختياريّ فيكون مخيّرا بين الاضطراريّ في أوّل الوقت والاختياريّ في آخره واحتمال أن لا يكون كذلك فيتعيّن الاختياريّ ومرجع ذلك إلى دوران الأمر بين التعيينيّ والتخييريّ فمقتضى القاعدة فيه هو الاشتغال فاللازم حينئذ هو وجوب الإتيان بالاختياريّ في آخر الوقت وعدم الاكتفاء بالاضطراريّ.

وأمّا القضاء في خارج الوقت فإن قلنا بوحدة حقيقة القضاء مع الأداء وتعدّد المطلوب من الواجب والوقت فهو واجب فأنّه مقتضى العلم بمطلوبيّة الإتيان بالعمل مطلقا من دون دخالة للوقت فيه وحصول الشكّ في الامتثال فيستصحب حينئذ وجوب الإتيان به في خارج الوقت إذ المفروض أنّه لم تدلّ أدلّة الاضطرار على كفاية الإتيان بالاضطراريّ عنه.

وإن لم نقل بوحدة حقيقة القضاء مع الأداء فلا دليل على وجوب القضاء في خارج الوقت لعدم جريان الاستصحاب بعد عدم إحراز وحدة الحقيقة ولا أمر

٣٤٤

جديد بوجوب القضاء في خارج الوقت فلا تغفل.

المقام الثاني : في إجزاء الأوامر الظاهريّة

والكلام فيه يقع في امور :

الأمر الأوّل : في تحرير محل النزاع :

والإنصاف أنّه لا فرق بين كون الأمارات والاصول قائمة على متعلّقات التكاليف وبين كونها قائمة على نفس التكاليف فإنّ كلّها في مقام بيان أنّ الواقعيّات تمتثل بكذا وكذا ومقتضاه هو أن تكون مصالحها مسانخة لمصالح الواقعيّات من دون فرق بين مواردها.

والقول بأنّ الأمارات والاصول إذا كانت قائمة على نفس التكاليف ليست ناظرة إلى الواقعيّات فلا تكون مصالحها مسانخة لمصالح الواقعيّات ومع عدم المسانخة لا مجال للوفاء حتّى يبحث عن إجزائها أو عدمه.

غير سديد بعد كون لسانها على ما عرفت أنّ الواقع المعلوم على سبيل الإجمال يمتثل بالأمارة أو الاصول فلا بدّ أن تكون مصلحة الأمارة أو الاصول هو مصلحة الواقع لا سنخ آخر من المصلحة كي لا يغني إحرازه عن إحرازه وعليه فلا وجه لتخصيص محلّ النزاع بما إذا كانت الأمارات والاصول قائمة على متعلّقات التكاليف.

نعم ربما يدّعى خروج بعض الموارد عن محلّ النزاع ولا بأس بالإشارة إلى ذلك.

منها ما إذا كان سبب الأمر الظاهريّ مجرّد الوهم والخيال كأن يقطع بوجود أمر واقعيّ ثمّ يكشف خلافه ففي مثله لا أمر في ظاهر الشرع ومجرّد التوهّم لا يستلزم وجود الأمر الظاهريّ حتّى يبحث عن إجزائه وعدمه وعليه فإذا استظهر المجتهد معنى

٣٤٥

من اللفظ وأفتى على طبقه استنادا إلى حجّيّة الظهور ثمّ انكشف أنّه لا ظهور للفظ في هذا المعنى بل هو مجرّد وهم وخيال فلا واقع موضوعيّ له حتّى يندرج في المقام.

ومنها موارد التي تقوم الأمارة أو الاصول في الشبهات الموضوعيّة كالبيّنة أو اليد وما شاكلهما ممّا يجري في تنقيح الموضوع بدعوى أنّ هذه الموارد خارجة عن محلّ البحث لأنّ قيام الأمارة أو الاصول لا يوجب قلب الواقع عمّا هو عليه والقائلون بالتصويب في الأحكام الشرعيّة لا يقولون به في الموضوعات الخارجيّة.

مع أنّ الإجزاء في موارد الاصول والأمارات غير معقول إلّا بالالتزام بالتصويب فيها ومن المعلوم أنّه التصويب في الأمارات والاصول الجارية في الشبهات الموضوعيّة غير معقول بداهة. أنّ البيّنة الشرعيّة إذا قامت على أنّ المائع الفلانيّ خمر مثلا لا توجب انقلاب الواقع عمّا هو عليه.

يمكن أن يقال : إنّ المقصود من جريان الأمارات والاصول في الموضوعات هو ترتيب الآثار الواقعيّة عليها في الظاهر لا تغيير الموضوعات وقلبها عمّا هو عليها في الواقع بحسب الوجود وغير خفيّ. إنّ تغيير الآثار والأحكام الجزئيّة كتغيير الآثار والأحكام الكلّيّة فإن كان تغيير الأحكام الكلّيّة جائزا فكذلك الجزئيّة وإن لم يكن ممكنا في الكلّيّة فكذلك في الجزئيّة فلا وجه للفرق بينهما إلّا من جهة أنّ التصويب في بعض صوره مجمع على بطلانه في الأحكام الكلّيّة دون الموضوعات.

الأمر الثاني : في إجزاء الاصول الظاهريّة.

ذهب جماعة إلى أنّ الاصول الظاهريّة كقاعدة الطهارة والحلّيّة والاستصحاب بناء على كونه أصلا عمليّا حاكمة بالنسبة إلى أدلّة الشرائط والأجزاء كقوله عليه‌السلام لا صلاة إلّا بطهور فقوله كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر يكون حاكما على قوله لا صلاة إلّا بطهور ومعمّما له من جهة توسعة الطهارة وجعلها أعمّ من الواقعيّة

٣٤٦

والظاهريّة.

وذلك لأنّ الحكم بالطهارة مثلا في قاعدة الطهارة حكم بترتيب آثارها ومنها الشرطيّة للعبادات فإذا ضمّ هذا الحكم إلى أدلّة الأجزاء والشرائط يستفاد منه عرفا أنّ المقصود هو التوسعة في الشرطيّة ومن المعلوم أنّ ضمّ غير الواقع في حال الشكّ إلى الواقع ليس له كشف الخلاف فإذا أتى بالعمل مع هذا الشرط التعبّديّ أتى به مع شرطه إذ المفروض أنّ الشرط أعمّ من الواقعيّ والظاهريّ وعليه فانكشاف عدم الطهارة الواقعيّة لا يوجب انكشاف فقدان العمل لشرطه نعم يوجب ارتفاع موضوع الطهارة الظاهريّة من ذلك الحين فلا تبقى الطهارة الظاهريّة مع ارتفاع الجهل. وأمّا العمل فقد أتى به مع شرطه في حال الجهل وهو الطهارة الظاهريّة ولا يقبل ما فرض فيه الشرط أعمّ الخطأ لأنّ الطهارة الظاهريّة معتبرة واقعا من حيث نفسها لا من حيث كونها طريقة إلى الطهارة الواقعيّة.

ثمّ إنّ القائل بالإجزاء وحكومة الاصول الظاهريّة على أدلّة الشرائط والأجزاء يدّعي أنّ ما هو نجس واقعا يجوز ترتيب آثار الطهارة عليه في ظرف الشكّ ومن تلك الآثار إتيان الصلاة المشروطة بها لكن بلسان تحقّق الطهارة ولازمه تحقّق مصداق المأمور به لأجل حكومتها على أدلّة الشرائط والموانع.

وممّا ذكر يظهر الجواب عن النقوض الواردة في المقام من أنّ لازم ترتّب جميع الأحكام الثابتة للطاهر الواقعيّ على المشكوك هو الحكم بطهارة الملاقي للمشكوك طهارته بعد العلم بالنجاسة أو الحكم بنجاسة الملاقي للمشكوك نجاسته بعد العلم بالطهارة عند استصحاب النجاسة أو الحكم بصحّة الوضوء أو الغسل بماء قد حكم بطهارته ولو مع انكشاف النجاسة مع أنّ أحدا من الفقهاء لم يلتزم بذلك.

وذلك لأنّ حكومة الاصول الظاهريّة على أدلّة اشتراط طهارة الماء في حصول طهارة المغسول أو نجاسة المغسول أو صحّة الوضوء أو الغسل وإن تقتضي الأحكام

٣٤٧

المذكورة ولكنّها ثابتة مع انحفاظ الشكّ.

فإذا زال الشكّ انقلب الموضوع ومع انقلاب الموضوع لا مجال للحكومة وعليه فيحكم بنجاسة الثوب الموجود المغسول بالماء الذي كشف نجاسته وبطهارة الثوب الموجود المغسول بالماء الذي يكون محكوما بالنجاسة ثمّ انكشف طهارته.

ويحكم بإعادة الوضوء أو الغسل مع انكشاف نجاسة الماء المشكوك.

نعم كلّ عبادة أتى بها في حال الشكّ بالوضوء المذكور يحكم بصحّتها لحكومة الاصول الظاهريّة على أدلّة اشتراط العبادة بالطهارة فالعمل العباديّ بعد الحكومة المذكورة أتى به مع شرطه لأنّ المفروض أنّ الطهارة المشروطة أعمّ من الطهارة الظاهريّة والعمل حين الإتيان مقرون بشرطه وهو كاف كما لا يخفى.

وينقدح ممّا ذكر أيضا الجواب عن نقض آخر وهو أنّ لازم الإجزاء هو أنّه لو توضّأ رجاء بماء محكوم بالنجاسة ظاهرا بالاستصحاب مثلا ثمّ انكشف الخلاف كان وضوؤه باطلا إذ كما يفرض توسيع الشرطيّة الواقعيّة للطهارة كذلك ينبغي أن يفرض توسيع المانعيّة للنجاسة.

وذلك لأنّ الحكم بالمانعيّة ما دام كان الموضوع محفوظا وأمّا مع ارتفاع الشكّ وظهور كون الماء طاهرا في الواقع لا يبقى هذا الحكم ومع ارتفاعه بارتفاع موضوعه يمكن الحكم بصحّة الوضوء من هذا الحين لوجود الملاك فيه مع فرض تمشي قصد القربة فيه نعم لو أتى بعمل مشروط بالطهارة قبل ارتفاع الموضوع كان مقتضى حكومة الاصول الظاهريّة على أدلّة الاشتراط هو الحكم بالبطلان لعدم كون العمل واجد للشرائط تعبّدا بسبب الحكومة المذكورة فلا تغفل.

وأمّا الإشكال في الإجزاء بأنّ هذه الحكومة هي حكومة ظاهريّة موقّتة بزمن الجهل بالواقع والشكّ فيه وليست بحكومة واقعيّة لكي توجب توسعة الواقع أو تضييقه ونتيجة هذه الحكومة بطبيعة الحال ترتيب آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف

٣٤٨

فإذا انكشف فلا بدّ من العمل على طبق الواقع ففيه أنّ الحكومة في موضوعها واقعيّة لا ظاهريّة فإنّ مثل قوله عليه‌السلام كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ظاهر في أنّه يجوز للمكلّف ترتيب جميع آثار الطهارة على الشيء المشكوك فيه ومن جملتها شرطيّتها للصلاة فيكون مفاده جواز إتيان الصلاة في الثوب المشكوك في طهارته وترتيب آثار الطاهر الواقعيّ على الشيء المشكوك فيه وحينئذ فالمتبادر من هذا الكلام ونحوه أنّ الصلاة في حقّ هذا الشخص عبارة عمّا أتى به وأنّه قد عمل بوظيفته الصلاتيّة وأوجد الفرد المأمور به لا أنّه عمل عملا مردّدا بين أن يكون صلاة وبين أن يكون لغوا بحيث تكون الصلاة باقية في ذمّته.

وبعبارة أخرى مفاده هو ترتيب آثار الطهارة على المشكوك فيه بلسان تحقّقها فيفهم منه عرفا أنّ الصلاة المشروطة بالطهارة يجوز الإتيان بها في حال الشكّ بهذه الكيفيّة ويكون المأتيّ به مع هذه الكيفيّة مصداقا للصلاة المأمور بها وواجدا لما هو شرطها وحصل به الامتثال وهو معنى الإجزاء.

لا يقال إنّ هذا إذا لم ينكشف الواقع فأنّه يقال لا معنى لانكشاف الخلاف هاهنا لأنّ الأصل ليس طريقا للواقع يطابقه تارة ويخالفه أخرى مثل الأمارة حتّى يفرض فيه انكشاف الخلاف وهذا التقريب المذكور في قاعدة الطهارة يأتي في الاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ وحديث الرفع أيضا فإنّ المكلّف في جميع الموارد في صدد امتثال أمره تعالى بالصلاة التي أمر بها جميع المسلمين فالمتبادر من القواعد المذكورة عرفا هو كون الفاقد صلاة حقيقة حكومة لا أنّه محتمل الصلاتيّة بحيث لو استمرّ شكّه إلى حين موته وكان في الواقع جزءا أو شرطا كان تاركا للصلاة أداء وقضاء وإن لم يستمرّ لم يكن صلاة وعمل عملا لغوا.

فالأقوى هو القول بالإجزاء في الاصول الظاهريّة كما ذهب إليه سيّدنا المحقّق البروجرديّ وسيّدنا الإمام المجاهد (قدّس الله سرّهما) تبعا لصاحب الكفاية.

٣٤٩

الأمر الثالث : في إجزاء الأمارات عند كشف الخلاف باليقين

هنا جهات :

الجهة الأولى : في إجزاء الأمارات بناء على الطريقيّة

التقريب الأوّل : أنّ الأمارات كخبر الواحد والبيّنة وأمثالهما وإن كانت بلسان حكاية الواقع ولكنّها بانفسها ليست أحكاما ظاهريّة بل الحكم الظاهريّ عبارة عن مفاد دليل حجيّة الأمارة الحاكمة بوجوب البناء عليها ولسان أدلّتها هي بعينها لسان أدلّة الاصول إذ ظاهر ما دلّ على اعتبار الأمارات هو قناعة الشارع في امتثال أوامره الصلاتيّة مثلا بإتيانها فيما قامت البيّنة على طهارته ولازم ذلك سقوط الطهارة الواقعيّة من الشرطيّة المنحصرة في هذه الصورة وكفاية الطهارة التي قامت البيّنة عليها.

وعليه فالاختلاف بين الاصول والأمارات ليس إلّا من جهة أنفسهما لا من جهة دليل اعتبارهما والمعيار في الإجزاء هو دليل حجّيّتهما لا أنفسهما والقول بأنّ الأمارة تارة تكون عقلائيّة ولم يرد من الشرع أمر باتّباعها ولكن استكشفنا إمضائها من عدم الردع وأخرى هذا الفرض مع ورود أمر إرشاديّ منه باتّباعها وثالثة تكون تأسيسيّة شرعيّة.

والظاهر خروج الفرض الأوّل عن محطّ البحث بل الثاني أيضا لأنّ الأمر الإرشاديّ لم يكن أمرا حقيقة.

والمتّبع فيهما هو طريقة العقلاء لعدم تأسيس للشارع ولا إشكال في أنّهم إنّما يعلمون على طبق الأمارات لمحض الكشف عن الواقع.

بل التحقيق عدم الإجزاء فيما إذا كانت الأمارة تأسيسيّة لأنّ معنى الأمارة هو الكاشف عن الواقع وإيجاب العمل على طبقها إنّما هو لمحض الكاشفيّة عن الواقع

٣٥٠

المحفوظ من غير تصرّف فيه وانقلاب وإلّا لخرجت الأمارة عن الأماريّة ولا يفهم العرف والعقلاء من دليل إيجاب تصديق العادل إلّا ما هو المركوز في أذهانهم من الأمارات لا انقلاب الواقع عمّا هو عليه بخلاف أدلّة الاصول.

وبالجملة أنّ الإجزاء مع جعل الأمارة وإيجاب العمل على طبقها لأجل الكشف عن الواقع كما هو شأن الأمارات متنافيان لدى العرف والعقلاء.

غير سديد لما عرفت من أنّ المكلّف الذي كان بصدد الامتثال بالنسبة إلى التكاليف الواقعيّة وكان متحيّرا في هذا المقام إذا سهّل الشارع الأمر عليه بإيجاب العمل بالأصل والأمارة يفهم من إيجاب العمل بهما أنّه قنع في مقام الامتثال بالواقعيّات بالإتيان بما قامت عليه الاصول والأمارات وليس معنى ذلك إلّا الإجزاء كما لا يخفى ومجرّد كون الأمارات كاشفة بنحو كشف ناقص عن الواقعيّات دون الاصول الظاهريّة لا يوجب تفاوتا في التبادر المذكور والانفهام العرفيّ من أدلّة الاعتبار.

ولا منافاة بين كونها كاشفة والاكتفاء بها عند المخالفة ويشهد له صحّة تصريح الشارع عند جعل الاعتبار للأمارات بأن اعملوا بها وإن كانت مخالفة للواقع فلا إعادة في الوقت ولا قضاء في خارجه.

ثمّ لا وجه للفرق بين ما إذا كانت الأمارة تأسيسيّة أو إمضائيّة فإنّ إمضاء الأمارة في مقام قبول ما قامت عليه الأمارات العقلائيّة مكان تكاليفه الواقعيّة يفيد أمرا زائدا على ما اعتبره العقلاء.

فإذا ظهر التخلّف كان مقتضى قبوله إيّاها مكان الواقع هو الإجزاء هذا بخلاف ما إذا ورد إمضاء الشارع بعنوان محض الإرشاد إلى ما بنى عليه العقلاء فأنّه تابع لما عليه العقلاء فلا تغفل.

وبالجملة فالحكم الظاهريّ في المقام هو الذي استفيد من أدلّة اعتبار الأمارات

٣٥١

الحاكمة بوجوب العمل على طبقها وترتيب آثار الواقع على مؤدّيها لا نفس الأمارة ومن المعلوم أنّ ظاهر أدلّة الاعتبار في الأمارات والاصول هو البناء على الوجود والتعبّد به ومقتضى ذلك مع عدم حصول العلم والاطمئنان بوجود الواقع هو ترتيب جميع آثار الواقع على ما أدّت إليه الأمارة ومن جملتها الشرطيّة والمتبادر من ذلك هو قناعة الشارع في مقام الامتثال بإتيان ما أدّت إليه الأمارات والاصول وهذا هو معنى الإجزاء.

والتقريب المذكور أصحّ من التقريب الثاني المحكيّ عن الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره لوجود بعض المناقشات فيه كما عرفت.

وأيضا لا يصلح التقريب الثالث لأنّ حديث الرفع لا موضوع له بعد وجود الأمارات إذ المراد منه هو رفع ما لا تقوم الحجّة عليه ومع وجود الأمارات تقوم الحجّة والقول بأنّ المراد هو رفع ما لا يحصل العلم الحقيقيّ به غير سديد لأنّ لازمه هو جريان حديث الرفع مع الأمارات وحصلت بينهما المناقضة لأنّ مفاد الأمارات هو وجود الأحكام الواقعيّة وفعليّتها ومفاد حديث الرفع هو عدم فعليّة الواقعيّات ودعوى المناقضة بين حديث الرفع والأمارات كما ترى إذ لم يلتزم به أحد.

الجهة الثانية : في إجزاء الأمارات بناء على المنجّزيّة والمعذّريّة.

ربما يقال إنّه لو قيل في الأمارات بجعل الحجّيّة ومجرّد المعذّريّة والمنجّزيّة لم يكن وجه للإجزاء.

والمراد منه أنّ بناء على جعل المنجّزيّة والمعذّريّة لا مصلحة في المتعلّق حتّى تكون موجبة لإنشاء الحكم على أيّ تقدير ويقتضي ذلك الإجزاء بل الإنشاء بداعي تنجيز الواقع أو بداعي إيصال الواقع منبعث عن نفس مصلحة الواقع لا عن مصلحة أخرى وعليه فلا مقتضى للإجزاء.

٣٥٢

وأجيب عنه أوّلا : بأنّ مفاد الأخبار المستدلّ بها لاعتبار الآحاد من الأخبار هو وجوب العمل على طبق الآحاد من الأخبار تعبّدا على أنّها هو الواقع وترتيب آثار الواقع على مؤدّاها وليس فيها أيّ أثر من حديث جعل الوسطيّة والطريقيّة بل لا تكون الوسطيّة والطريقيّة قابلة للجعل فإنّها لا تنالها يد الجعل إذ الشيء لو كان واجدا لهذه الصفة تكوينا فلا مورد لإعطائها إيّاه وإن كان فاقدا لها فلا يمكن إعطائها إيّاه لأنّه لا يعقل أن يصير ما ليس بكاشف كاشفا وما ليس بطريق طريقا إذ الطريقيّة ليست أمرا اعتباريّا كالملكيّة حتّى يصحّ جعلها وهكذا إكمال الطريقيّة وتتميم الكشف لا يمكن جعلهما فكما أنّ اللاكاشفيّة ذاتيّة للشكّ ولا يصحّ سلبه فكذلك النقصان في مقام الكشف ذاتيّ للأمارات لا يمكن سلبها.

فما يناله يد الجعل في أمثال ما ذكر هو إيجاب العمل بمفاد الآحاد من الأخبار والعمل على طبقها وترتيب آثار الواقع عليه نعم بعد التعبّد بلسان تحقّق الواقع وإلقاء احتمال الخلاف تعبّدا يصحّ انتزاع الوسطيّة والكاشفيّة.

وثانيا : إنّ المعذّريّة ليست أثرا للأمارة فيما إذا خالفت للواقع بل هي أثر عدم وصول الواقع والجهل به سواء علم بخلافه أم لا وسواء قامت الأمارة على خلافه أم لا.

فتحصّل أنّه لا جعل في البيّن فالطريقيّة أو الحجّيّة ليستا بمجعولتين بل المستفاد من الأمارات والطرق هو ما عليه العقلاء من الاكتفاء بها في مقام الاحتجاج واللجاج وترتيب آثار الواقع عليها.

وعليه فإذا استظهر منها كما مرّ أنّ الأمارات أو الطرق تكون ناظرة إلى الواقع بلسان تبيين ما هو وظيفة الشاكّ في الأجزاء والشرائط فهي حاكمة بالنسبة إلى الأدلّة الدالّة على الأجزاء والشرائط وموجبة لسقوط الواقعيّ عن الفعليّة وكون ما أتى به مجزيا عن الواقع.

٣٥٣

الجهة الثالثة : في إجزاء الأمارات وعدمه بناء على السببيّة.

ولا مجال للإجزاء إذا كان المراد من السببيّة أنّه تعالى لم يجعل حكما من الأحكام قبل قيام الأمارات وتأديتها لعدم مقتض له من المصالح والمفاسد قبل قيام الأمارات ليكون منشأ لجعل الحكم بل المصلحة والمفسدة تحدث بقيام الأمارات على الوجوب أو على الحرمة والحكم مجعول بقيامها.

وعليه فالأحكام الواقعيّة هي نفس مفاد الأمارات ولا شيء غيرها حتّى يقال بإجزاء مفاد الأمارات عنه عند تخالفها والمفروض هو الإتيان بمفاد الأمارات.

ولكنّ هذا المعنى للسببيّة ممّا يكون خلاف الضرورة المتسالم عليه عند الأصحاب من أنّ الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل.

وهكذا لا يعقل الإجزاء فيما إذا كان المراد من السببيّة هو انقلاب الأحكام الواقعيّة بنفس قيام الأمارات إلى مؤدّى الأمارات بحيث لا يبقى في الواقع شيء لا فعلا ولا شأنا غير مؤدّى الأمارات.

فإنّه بعد عدم وجود الأحكام الواقعيّة لا مجال لكشف الخلاف إذ الأحكام الواقعيّة حينئذ أيضا هي نفس مفاد الأمارات والمفروض هو الإتيان بها وحيث إنّ الأحكام الواقعيّة تختصّ بالعالمين بالأمارات فلا حكم بالنسبة إلى غيرهم وهو أيضا خلاف الضرورة والمتسالم عليه بين الأصحاب من اشتراك العالم والجاهل في الأحكام.

وأمّا إذا اريد من السببيّة أنّ سبب قيام الأمارات تحدث في المؤدّى مصلحة غالبة على مصالح الواقعيّة وموجبة لسقوط الواقعيّة عن الفعليّة فلا يكون مخالفا للضرورة المتسالم عليها لثبوت الأحكام الواقعيّة في هذه الصورة وإنّما انحصر الأحكام الفعليّة في مؤدّيات الأمارات ويكون الكشف الخلاف في هذه الصورة مجال فبعد

٣٥٤

وجود الأحكام الواقعيّة وإمكان كشف الخلاف يمكن أن يبحث فيها عن إجزاء الأمارات عن الأحكام الواقعيّة وعدمه.

وهكذا يمكن تصوّر كشف الخلاف وإمكان الإجزاء فيما إذا أريد من السببيّة أنّ العناوين الواقعيّة بما هي مشتملة على المصالح والمفاسد ومحكومة بأحكام واقعيّة ولم يكن أداء الأمارة على خلافها موجبا لانقلاب الواقع مصلحة أو حكما بل المصلحة الحادثة إنّما تكون في سلوك الأمارة وتطبيق العمل على طبقها والحكم الظاهريّ يثبت لهذا العنوان أعني سلوك الأمارة بما هو سلوك والمصلحة إنّما تكون في سلوك الأمارة بما هو سلوك وبهذه المصلحة يتدارك فوت مصلحة الواقع بقدر فوتها.

ففي هذه الصورة تكون الأحكام الواقعيّة محفوظة ومع كونها محفوظة فلكشف الخلاف مجال وعليه فيجري فيه بحث الإجزاء.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ السلوك ليس أمرا وراء العمل الذي يوجده المكلّف فهذه الصورة ترجع إلى الصورة السابقة.

ويلحق بها أيضا ما قيل من أنّ المصلحة تكون في نفس الأمر بالسلوك دون نفس السلوك ودون نفس المتعلّق فإنّ الواقعيّات حينئذ باقية ومع بقائها على ما عليها يجري فيه بحث الإجزاء.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه لا دليل على الإجزاء في الفروض المذكورة في السببيّة لعدم مساعدة إطلاقات أدلّة حجّيّة الأمارات مع السببيّة لظهورها في الطريقيّة وتحفظ الواقعيّات ولو أغمضنا عن ذلك فالإطلاق المقاميّ فيها يكفي أيضا لإثبات الإجزاء على السببيّة من دون حاجة إلى إثبات الإجزاء من ناحية قبح تفويت المصلحة الواقعيّة مع عدم تماميّة عمومه وشموله فراجع.

فتحصّل أنّ الأمارات بناء على الطريقيّة كما هو الحقّ تكون كالاصول الظاهريّة في كونها مجزية عن الواقع عند كشف الخلاف باليقين.

٣٥٥

الأمر الرابع : في إجزاء الأمارات بعد كشف الخلاف بغير اليقين

ويقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى : في إجزاء الاجتهاد السابق بالنسبة إلى نفس المجتهد :

بمعنى أنّه لو تبدّل الاجتهاد السابق إلى اجتهاد آخر يخالفه فهل يجزي الاجتهاد السابق أم لا؟ فالأقوى هو الإجزاء لما عرفت من أنّ مقتضى حكومة أدلّة اعتبار الاصول والأمارات بالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة قبل حدوث الاجتهاد اللاحق هو تحقّق الامتثال بالنسبة إلى الطبيعة المأمور بها ومعه لا يبقى أمر واقعيّ حتّى يبحث عن سقوطه أو عدمه والاجتهاد اللاحق لا يدلّ على عدم حجّيّة الأمارات والاصول في ظرفها بل تدلّ على انتهاء أمدها إذ المفروض فيما إذا لم يظهر بطلان الاجتهاد السابق كما توهّم المجتهد الظهور مع أنّه لا ظهور أو توهّم صحّة الرواية مع أنّه لا صحّة لها لأنّ فرض ظهور بطلان الاجتهاد السابق خارج عن محلّ الكلام لأنّ في هذه الصورة لا أمر ظاهريّ حتّى يبحث عن إجزائه وعدمه.

فالكلام فيما إذا تمّ الاجتهاد السابق في ظرفه كما إذا أفتى على طبق العموم بعد الفحص اللازم عن مخصّصه وعدم الظفر به ثمّ ظفر به اتّفاقا.

والقول بأنّ مدلول الحجّة اللاحقة يعمّ السابق حيث إنّها تحكي عن ثبوت مدلولها في الشريعة المقدّسة من دون اختصاصه بزمن دون زمن آخر وبعصر دون عصر ولذا وجب ترتيب الأثر عليه من السابق ولازم هذا هو أنّ العمل المأتيّ به على طبق الحجّة السابقة حيث كان مخالفا لمدلولها باطل لعدم كونه مطابقا لما هو المأمور به في الواقع وهو مدلولها.

وكون الحجّتين تشتركان في احتمال مخالفة مدلولهما للواقع لا يضرّ بذلك بعد

٣٥٦

إلغاء هذا الاحتمال بحكم الشارع في الحجّة الثانية حسب أدلّة اعتبارها وعدم إلغائها في الأولى لفرض سقوطها عن الاعتبار بقاء ومن الطبيعيّ أنّ صرف هذا الاحتمال يكفي في الحكم بوجوب الإعادة أو القضاء بداهة أنّه لا مؤمّن معه من العقاب فأنّ الحجّة السابقة وإن كانت مؤمّنة في ظرف حدوثها إلّا أنّها ليست بمؤمّنة في ظرف بقائها لفرض سقوطها عن الحجّيّة بعد الظفر بالحجّة الثانية.

غير سديد لما عرفت من أنّ مقتضى صحّة الحجّة في ظرفها وكون لسان أدلّتها هو الحكومة هو وقوع امتثال الطبيعة المأمور به في ظرفها كسائر موارد التقبّل المصداقيّ ومع تحقّق الامتثال لا يبقى أمر في الواقع حتّى تدلّ الحجّة اللاحقة بالإعادة في الوقت والقضاء في خارجه وتعميم مفاد الحجّة اللاحقة بالنسبة إلى ما سبق إنّما يجدي بالنسبة إلى ما لم يمتثل ولم يتقبّل لا بالنسبة إلى ما امتثله وتقبّله الشارع وعليه فأدلّة اعتبار الأمارات والاصول مؤمّنة في المقام كما لا يخفى.

ولا فرق فيما ذكر بين كون الحجّة اللاحقة راجحة بالنسبة إلى الحجّة السابقة أو متساوية أو مرجوحة لأنّ مقتضى إطلاق أدلّة اعتبار الحجّة السابقة في ظرفها وحكومتها بالنسبة إلى الأدلّة الأوّليّة هو تحقّق الامتثال في جميع الصور وإنّما الفرق بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة فلا تغفل.

وأيضا لا فرق فيما ذكر بين أن نقول بالطريقيّة أو السببيّة وذلك لإطلاق أدلّة اعتبار الأمارات والاصول وحكومتها بالنسبة إلى الأدلّة الأوّليّة ومقتضاه هو تقبّل المصداق الظاهريّ مكان المصداق الواقعيّ في حصول الامتثال وسقوط الأمر نعم لو كشف عدم وجود الأمارات والاصول وكان هذا موجبا لتبدّل الرأي فلا كلام حينئذ في عدم الإجزاء بعد عدم وجود الأوامر الظاهريّة فلا تغفل.

٣٥٧

الجهة الثانية : في إجزاء عمل المقلّد وعدمه عند تبدّل رأي مجتهده :

ولا يخفى عليك أنّ ظاهر أدلّة اعتبار الفتاوى كقوله عليه‌السلام لأبان بن تغلب اجلس في مسجد المدينة وأفت للناس فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك.

أو كقوله في جواب من سئل عمّن آخذ معالم الدين (خذ) من زكريّا بن آدم القميّ المأمون على الدين والدنيا وغير ذلك من الأخبار الكثيرة هو الاكتفاء بفتوى المفتين من علماء الشيعة في مقام الامتثال للتكاليف الواقعيّة بالتقريب الذي عرفت في الأمارات والاصول الظاهريّة.

هذا مضافا إلى إمكان الاستدلال هنا بالاطلاق المقاميّ في مثل تلك الأدلّة إذ مع وقوع الاختلاف وتبدّل الرأي بين المفتين لم يرد شيء في الأخبار يدلّ على وجوب الإعادة والقضاء فهو يدلّ على عدم وجوبهما وإلّا لأشير إليه في الأخبار على أنّ السيرة المتشرّعة من لدن صدر الإسلام تكون على عدم الإعادة والقضاء عنه تبدّل الرأي.

ولا فرق في ما ذكر بين أن تكون الأمارات معتبرة على الطريقيّة أو السببيّة فإنّ المعيار هو الاستظهار المذكور من أدلّة الاعتبار والإطلاق المقاميّ وقيام السيرة المتشرّعة وهذه الأمور جارية على كلّ التقادير.

الجهة الثالثة : في إجزاء عمل المقلّد عند الرجوع عن الميّت إلى الحيّ أو عند عدوله من الحيّ إلى الحيّ بناء على جواز ذلك.

والظاهر أنّ حكم المقام هو الذي عرفته في المسائل المتقدّمة إذ بعد حجّيّة رأي المجتهد الأوّل في ظرف التقليد عنه ودلالة أدلّة اعتباره على حكومة رأيه على الواقعيّات كسائر الأمارات وسقوط الأوامر الواقعيّة تعبّدا بإتيانها طبقا لرأي المجتهد

٣٥٨

فلا مجال للامتثال بعد الامتثال حتّى يمكن الأخذ بإطلاق حجّيّة رأي المجتهد الثاني.

هذا مضافا إلى الإطلاق المقاميّ مع شيوع العدول عن الميّت إلى الحيّ أو من الحيّ إلى الحيّ.

وأيضا تقوم السيرة على عدم الإعادة والقضاء وبالجملة فكما أنّ مقتضى إطلاق أدلّة اعتبار الخبرين المتعارضين والحكم بالتخيير الاستمراريّ بينهما هو الحكم بالاجتراء إذا عمل بكلّ واحد منهما عند عدوله إلى الآخر فكذلك مقتضى إطلاق أدلّة اعتبار الفتاوى المختلفة التي تدلّ على الحجّيّة التخييريّة هو الحكم بالاجتراء بكلّ واحد منهما إذا عمل به.

الأمر الخامس : في مقتضى الأصل عند عدم إحراز كيفيّة حجّيّة الأمارات من أنّها هل تكون بنحو الكشف والطريقيّة أو الموضوعيّة والسببيّة.

ويقع الكلام في المقامين :

المقام الأوّل : في مقتضى الأصل بالنسبة إلى وجوب الإعادة في الوقت وعدمه :

وأعلم أنّ مقتضى ما قلنا من حكومة أدلّة اعتبار الأمارات والاصول على الأدلّة الأوّليّة مطلقا سواء على الطريقيّة أو السببيّة هو عدم الشكّ في الإجزاء ومع عدم الشكّ لا مجال للبحث عن مقتضى الأصل كما لا يخفى.

نعم لو لم نقل بذلك وفصّلنا في الإجزاء بين السببيّة والكشف فاللازم حينئذ عند الشكّ في الطريقيّة أو السببيّة هو الرجوع إلى مقتضى الأصل.

ذهب في الكفاية إلى وجوب الإعادة مستندا إلى أصالة الاشتغال إذ الاشتغال اليقينيّ يقتضي الفراغ اليقينيّ.

اورد عليه بأنّ بعد العلم بالخلاف تعلّق العلم بحكم لم يكن حال ثبوته وعدم

٣٥٩

العلم به فعليّا لأنّ المفروض في هذا الحال هو قيام الأمارة على خلاف الواقع.

وحيث إنّ العلم بالخلاف بعد العمل بالأمارة لم يعلم ببقاء ما علم ثبوته حال قيام الأمارة لاحتمال اجتزاء ما أتى به عنه وعليه فلا أثر لتعلّق العلم بالحكم بعد العمل بالأمارة.

اجيب عنه بأنّه يكفي استصحاب بقاء التكليف الواقعيّ الذي هو عبارة عن الإنشاء بداعي جعل الداعي الذي علم به بعد كشف الخلاف وحيث إنّ الحكم الاستصحابيّ وأصل فيصير فعليّا فينسب الفعليّة بالعرض إلى الحكم الواقعيّ.

هذا مضافا إلى أنّ حال العلم هنا حال الحجّة الشرعيّة بمعنى المنجّز فكما أنّ قيامها يوجب تنجّزه على تقدير ثبوته فكذلك العلم هنا تعلّق بتكليف لو كان باقيا لكان فعليّا منجّزا.

اورد عليه أيضا بأنّ المقام ليس من مورد قاعدة الاشتغال بل من موارد أصالة البراءة حيث لا واقع بناء على السببيّة بالمعنى الأوّل إذ الواقع يدور مدار الأمارة ولا بالمعنى الثاني لأنّ الواقع ينقلب طبقا لمؤدّى الأمارة وعليه فإذا شكّ في أنّ حجّة الأمارة على نحو السببيّة أو الطريقيّة فبطبيعة الحال لا يعلم باشتغال ذمّته بالواقع إذا عمل بما أدّت إليه الأمارة ثمّ انكشف بطلانها وعدم مطابقتها للواقع.

وبعبارة أخرى أنّ الشكّ فيما نحن فيه وإن أوجب حدوث العلم الإجماليّ بوجود تكليف مردّد بين تعلّقه بالفعل الذي جيء به على طبق الأمارة السابقة وبين تعلّقه بالواقع الذي لم يؤت به على طبق الأمارة الثانية إلّا أنّه لا أثر لهذا العلم الإجماليّ ولا يوجب الاحتياط.

وذلك لأنّ هذا العلم حدث بعد الإتيان بالعمل على طبق الأمارة الأولى فلا أثر له بالإضافة إلى هذا الطرف فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة من الطرف الآخر.

٣٦٠