عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

المقاميّ لا يفيد إلّا فيما إذا لم يكن مرجع آخر تبيّن التكليف وفي المقام يمكن الرجوع إلى أصالة الاشتغال ففيها أنّ المرجع الذي يصلح للإجابة لزم أن يكون بيّنا وواضحا بحيث لم يتحيّر المكلّف في تشخيص وظيفته والأصل المذكور في مثل المقام والإجزاء ليس كذلك.

إن كان برهان السببيّة هو تفويت المصالح الواقعيّة ففيه كما أفاد أستاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره إنّ غاية ما يقتضيه هذا البرهان هو واجديّة قول العادل للمصلحة فيما إذا خالفت الأمارات للواقع ولم ينكشف الخلاف رأسا وأمّا مع موافقة الأمارات أو مخالفتها وانكشاف الخلاف في الوقت وإمكان تدارك المصالح الواقعيّة فلا تفويت بالنسبة إلى المصالح الواقعيّة لإمكان الإعادة كما لا يخفى.

فتحصّل أنّه لا دليل على الإجزاء في الفروض التي تصوّرنا فيها السببيّة لعدم مساعدة إطلاقات أدلّة حجّيّة الأمارات مع السببيّة لظهورها في الطريقيّة وتحفّظ الواقعيّات ولو أغمضنا عن ذلك فالإطلاق المقاميّ في تلك الإطلاقات يكفي لإثبات الإجزاء على السببيّة ولا حاجة إلى إثبات الإجزاء من ناحية قبح تفويت المصلحة الواقعيّة حتّى يشكل بأنّ مع كشف الخلاف في الوقت لا تفويت لإمكان الإعادة كما لا حاجة إلى الأخذ بظهور الإنشاء في كونه بداعي جعل الداعي لا بسائر الدواعي أو الأخذ بظهور متعلّقه في كونه عنوانا لا معرّفا للواقع حتّى يشكل بأنّهما لا يفيدان إلّا أصل المصلحة وأمّا بدليّتهما عن الواقع فلا.

وكيف كان فإلى حد الآن يظهر قوّة إجزاء الأمارات على الطريقيّة كالاصول من دون تفاوت بينهما فيما إذا كشف الخلاف يقينا وأمّا إذا كشف الخلاف بالحجّة الظنيّة فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى فيما يلي.

٣٠١

الأمر الرابع : في إجزاء الأمارات بعد كشف خلافها بغير اليقين

ويقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى : إنّه لو تبدّل الاجتهاد السابق إلى اجتهاد آخر يخالفه فهل يجزي الاجتهاد السابق أم لا؟

ولا يخفى عليك أنّ مقتضى ما مرّ في الأمر الثالث من إجزاء الأمارات والاصول هو الإجزاء في المقام أيضا لأنّ مقتضى حكومة أدلّة اعتبار الاصول والأمارات بالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة قبل حدوث الاجتهاد اللاحق هو تحقّق الامتثال بالنسبة إلى الطبيعة المأمور بها ومع تحقّق الامتثال وتقبّل ما قامت عليه الاصول والأمارات مكان الأوامر الواقعيّة فلا يبقى أمر واقعيّ حتّى يبحث عن سقوطه أو عدمه والاجتهاد اللاحق لا يدّل على عدم حجّيّة الأمارات والاصول في ظرفها بل تدلّ على انتهاء أمرها إذ مفروض البحث ليس فيما إذا كشف بطلان الاجتهاد السابق في ظرفه كما إذا توهّم الظهور مع أنّه لا ظهور أو توهّم صحّة الرواية مع أنّه لا صحّة لها وغير ذلك لأنّه خارج عن محلّ النزاع كما عرفت في الأمر الأوّل إذ معه لا أمر ظاهريّ حتّى يبحث عن أجزائه وعدمه بل الكلام فيما إذا تمّ الاجتهاد السابق في ظرفه كما إذا أفتى على طبق العموم بعد الفحص اللازم عن مخصّصه وعدم الظفر به ثمّ ظهر بعد العمل بما أفتى به مخصّص أو أفتى بطهارة شيء من جهة قاعدة الطهارة وعدم معلوميّة الحالة السابقة ثمّ وجد ما يدلّ على نجاسته كالاستصحاب مثلا كما إذا علم أنّ حالته السابقة هي النجاسة.

ومن المعلوم أنّ الاجتهاد السابق في ظرفه كان حجّة وأدلّة حجّيّة الأمارات

٣٠٢

والاصول دلّت بحكومتها على تحقّق الامتثال وسقوط الأمر المتعلّق بالواقعيّات وعلى تقبّل الشارع موارد الأمارات والاصول مقام الواقعيّات وعليه فلا مجال لدعوى عدم الإجزاء مع قبول بقاء حجّيّتها إلى حدوث الاجتهاد اللاحق كبقاء الأمارات والاصول على حجّيّتها إلى حدوث اليقين بالخلاف.

وممّا ذكر يظهر ما في المحاضرات حيث إنّه ذهب إلى عدم الإجزاء بعد تسليم أنّ حجّيّة الأمارات والاصول متقوّمة بالوصول ولا يوجب المخصّص أو الأصل الجاري على خلاف الاجتهاد السابق بوجودهما الواقعيّ قبل الوصول سقوط الاجتهاد السابق عن الحجّيّة بل إنّما يوجب سقوطها من حين قيامه عليها فالتبدّل في الحجّة إنّما هو من التبدل في الموضوع.

واستدلّ له بأنّ مدلول الحجّة اللّاحقة يعمّ السّابق حيث أنّها تحكي عن ثبوت مدلولها في الشّريعة المقدّسة من دون اختصاصه بزمن دون آخر وبعصر دون عصر ولذا وجب ترتيب الأثر عليه من السابق ولازم هذا هو أنّ العمل المأتيّ به على طبق الحجّة السابقة حيث كان مخالفا لمدلولها باطل لعدم كونه مطابق لما هو المأمور به في الواقع وهو مدلولها وكون الحجّتين تشتركان في احتمال مخالفة مدلولهما للواقع لا يضرّ بذلك بعد إلقاء هذا الاحتمال بحكم الشارع في الحجّة الثانية حسب أدلّة اعتبارها وعدم إلغائها في الأولى لفرض سقوطها عن الاعتبار بقاء.

ومن الطبيعيّ أنّ صرف هذا الاحتمال يكفي في الحكم بوجوب الإعادة أو القضاء بداهة أنّه لا مؤمن معه من العقاب فإنّ الحجّة السابقة وإن كانت مؤمّنة في ظرف حدوثها إلّا أنّها ليست بمؤمّنة في ظرف بقائها لفرض سقوطها عن الحجّيّة والاعتبار بقاء بعد الظفر بالحجّة الثانية وتقديمها عليها بأحد أشكال التقديم من الحكومة أو الورود أو التخصيص أو التقييد أو غير ذلك وعليه فلا مؤمّن من العقاب على ترك الواقع ولأجل ذلك وجب بحكم العقل العمل على طبق الحجّة الثانية وإعادة

٣٠٣

الأعمال الماضية حتى يحصل الأمن.

وأمّا القضاء فلأجل أنّ ما أتى به المكلّف على طبق الحجّة الأولى غير مطابق للواقع بمقتضى الحجّة الثانية وعليه فلا بدّ من الحكم ببطلانه ومعه حيث يصدق عنوان فوت الفريضة فبطبيعة الحال يجب القضاء بمقتضى ما دلّ على أنّ موضوعه هو فوت الفريضة فمتى تحقّق تحقّق وجوب القضاء (١).

وذلك لما عرفت من أنّ مقتضى صحّة الحجّة في ظرفها وكون لسان أدلّة اعتبارها هو الحكومة هو وقوع امتثال الطبيعة المأمور بها في ظرفها كسائر موارد التقبّل المصداقيّ ومع تحقّق الامتثال بها لا يبقى للواقع أمر حتى تدلّ الحجّة اللاحقة بالإعادة في الوقت والقضاء في خارجه وتعميم مفاد الحجّة اللاحقة بالنسبة إلى ما سبق يجدى فيما لم يمتثل لا فيما امتثل.

وأدلّة اعتبار حجيّتها في ظرفها يكفي في التأمين والمفروض أن أدلّة الاعتبار باقية فالمؤمّن موجود كما لا يخفى.

وبالجملة فلا فرق بين صورة كشف الخلاف يقينا وبين المقام فكما أنّ بعد العلم بالخلاف كانت أدلّة اعتبار الأمارات والاصول مؤمّنة فكذلك في المقام.

فالأقوى هو الإجزاء عند تبدّل الرأي بالنسبة إلى ما أتى به سابقا من دون تفصيل بين الأمارات والاصول خلافا لما في تهذيب الاصول من التفصيل بين الأمارات والاصول وقد عرفت ما فيه سابقا ولا نعيد.

ومن دون فرق بين كون الحجّة اللاحقة راجحة بالنسبة إلى الحجّة السابقة أو متساوية فإنّ مقتضى أدلّة الاعتبار هو حجّيّة السابقة مطلقا سواء كانت مرجوحة أو متساوية في ظرفها وحكومتها بالنسبة إلى الأدلّة الأوّليّة وتحقّق الامتثال بالنسبة إلى

__________________

(١) ٢ / ٢٦٦ ـ ٢٦٣.

٣٠٤

الطبيعة المأمور بها واقعا وإنّما الفرق في الأعمال اللاحقة فإنّ الحجّة اللاحقة إن كانت راجحة بالنسبة إلى السابقة فاللازم هو تطبيق العمل على الحجّة اللاحقة إذ مع ترجيحها وتقديمها على السابقة لا مجال للسابقة في الأعمال الآتية وإن كانت الحجّة اللاحقة متساوية ومتعارضة مع السابقة ، فمقتضى القاعدة في تعارض الأخبار هو التخيير بينهما.

فإن قلنا بالتخيير البدويّ لزم العمل على طبق الحجّة السابقة بعد الأخذ بالسابقة كما هو المفروض.

وإن قلنا بالتخيير الاستمراريّ فله العمل بالسابقة كما له العمل باللاحقة ومقتضى أدلّة الاعتبار وحكومتها على الأحكام الواقعيّة هو الحكم بكفاية ما أتى به طبقا لأيّ منها فلا يجب عليه الإعادة والقضاء بعد عدوله عمّا سبق وأخذه بما لحق أو عدوله عمّا لحق وأخذه بما سبق كما هو مقتضى التّخيير الاستمراريّ لكفاية كلّ منهما بالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة بعد ما عرفت من حكومة أدلّة الاعتبار.

وممّا ذكر يظهر ما في بدائع الأفكار حيث ، قال : نعم لو عثر المكلّف على حجّة على خلاف الرأي الأوّل تساوي الحجّة عليه في الخصوصيّات المعتبرة في الحجّة وقع التعارض بينهما وحينئذ يلزم الرجوع إلى القواعد المقرّرة عند تعارض الحجّتين المتساويتين من التخيير أو السقوط والرجوع إلى الاصول ففي مورد التخيير إن قلنا بالتخيير البدويّ لزم العمل على طبق الحجّة الأولى والأخذ بالرأي الأوّل.

وإن قلنا باستمرار التخيير فإن اختار المكلّف البقاء على الأخذ بالرأي الأوّل صح عمله سابقا ولاحقا وإن عدل عنه آخذا بالحجّة الثانية صحّ عمله الجاري على طبقها وكشف صيرورتها حجّة عليه باختيارها عن فساد أعماله السابقة الجارية على

٣٠٥

طبق الحجّة الأولى فيلزم تدارك ما يمكن تداركه منها (١).

لما عرفت من أنّ مقتضى أدلّة الاعتبار وحجّيّة السابقة في ظرفها هو تحقّق الامتثال بالنسبة إلى الطبيعة المأمور بها من دون فرق بين كون السابقة مرجوحة بالنسبة إلى الحجّة اللاحقة أو متساوية كما أنّ مقتضى تلك الأدلّة أيضا هو كفاية كلّ واحد من السابقة واللاحقة في الأعمال الآتية في تحقّق الامتثال والإجزاء وعدم لزوم الإعادة والقضاء وإن عدل عن كلّ واحد إلى الآخر مستمرّا.

هذا مضافا إلى إمكان الاستدلال للإجزاء بالإطلاق المقاميّ في أدلّة التخيير الاستمراريّ بين الحجّتين المتساويتين فلا تغفل.

هذا تمام الكلام في تبدّل الرأي بناء على الطريقيّة وأمّا بناء على السببيّة فالكلام فيه تارة يكون بحسب القواعد وتارة يكون بحسب الأدلّة.

وأمّا بحسب الاولى فقد ذهب المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره إلى عدم الإجزاء من دون فرق بين العبادات والمعاملات أمّا العبادات فلاستصحاب بقاء التكليف الواقعيّ إلى زمان كشف الخلاف بالقطع أو ما يقوم مقامه ولقاعدة الاشتغال فإنّ العلم بالتكليف في حال الجهل وإن لم يبلغه إلى مرتبة الفعليّة حال حدوثه لكنّه يبلغه إلى مرتبة الفعليّة والتنجّز بقاء على تقدير ثبوته واقعا فعلا ولقاعدة لزوم تحصيل الغرض المنكشف ثبوته في الواقع من الأوّل المشكوك سقوطه بفعل المأمور به الظاهريّ فإنّ المناط في نظر العقل وإن كان فعليّة الغرض. إلّا أنّ فعليّته بفعليّة دعوته للمولى إلى البحث على طبقه والمفروض حصوله واقعا.

نعم حيث إنّ القضاء مترتّب على الفوت المساوق لذهاب شيء من المكلّف مع ترتّب حصوله منه لكونه فرضا فعليّا أو ذا ملاك لزوميّ فهو عنوان ثبوتيّ فلا ينتزع

__________________

(١) ج ١ / ٣٠٧.

٣٠٦

من عدم الفعل في الوقت لأنّ المفاهيم الثبوتيّة يستحيل انتزاعها من العدم والعدميّ فاستصحاب عدمه في الوقت له يلازم الفوت لا أنّه عينه فيكون الأصل مثبتا إليه.

وأمّا العقود والإيقاعات وشبهها فمقتضى القاعدة فيها عدم الأثر لأنّ بعد انكشاف الخلاف لا يقين فعلا بالأثر قبلا ومعه لا مجال لاستصحاب الملكيّة أو الزوجيّة وآثارهما لسراية الشكّ فيها من الأوّل بل مقتضى الاستصحاب هو عدم حدوث الملكيّة أو الزوجيّة وآثارهما (١).

ولا يخفى عليك أنّ مقتضى ما مرّ سابقا هو اتحاد القضاء مع الأداء في الحقيقة وما أتى به قضاء هو الإتيان بنفس العمل في خارج الوقت لا الإتيان بحقيقة أخرى وعليه فيكفي الأدلّة الأوّليّة لإثبات وجوب القضاء لو لم يأت به في الوقت ولا حاجة إلى صدق عنوان الفوت فكما تجري القواعد المذكورة لإثبات الإعادة في الوقت فكذلك تجري تلك القواعد لإثبات وجوب القضاء في خارج الوقت فلا تغفل.

وأمّا بحسب أدلّة اعتبار الأمارات بناء على أنّ مفاد دليل حجيّتها جعل الحكم المماثل على طبق مؤدّياتها كما يقتضيه ظاهر الأمر باتّباعها فقد ذهب صاحب الكفاية إلى أنّ مقتضاها الموضوعيّة وصحّة العبادة والمعاملة لأنّ المفروض أنّ مؤدّاها حكم حقيقيّ فينتهي أمده بقيام حجّة أخرى لا أنّه ينكشف خلافه.

اورد عليه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره بأنّ غاية ما يقتضيه ظهور الأمر هو البعث الحقيقيّ المنبعث عن مصلحة في متعلّقه وحيث إنّ المفروض تخلّف الأمارة وخلوّ الواقع من المصلحة فيجب الالتزام بأنّ المصلحة في المؤدّى بعنوان آخر غير عنوان متعلّقه الذاتيّ.

أمّا أنّ تلك المصلحة مصلحة بدليّة عن مصلحة الواقع فلا موجب له والإجزاء

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد : ٦ ـ ١٠.

٣٠٧

وعدم الإعادة والقضاء يدور مدار بدليّة المصلحة لتوجب سقوط الأمر الواقعيّ بملاكه فالموضوعيّة بمعنى كون المؤدّى بما هو مؤدّى ذا مصلحة مقتضية للحكم الحقيقيّ على أيّ حال لا يقتضي الإجزاء هذا كلّه في الواجبات مطلقا على هذا المسلك.

وأمّا في العقود والإيقاعات فيمكن أن يقال إنّ الوضعيّات الشرعيّة والعرفيّة من الملكيّة والزوجيّة وشبههما حيث إنّها على ما حقّقناه في الاصول اعتبارات خاصّة من الشرع والعرف لمصالح قائمة بما يسمّى بالأسباب دعت الشارع مثلا إلى اعتبار الملكيّة والزوجيّة فلا كشف خلاف لها إذ حقيقة الاعتبار بسبب كون العقد الفارسيّ الذي قامت الحجّة على سببيّته ذو مصلحة وليست المصلحة المزبورة استيفائيّة حتّى يقال إنّ مصلحة الواقع باقية على حالها وأنّ مصلحة المؤدّى غير بدليّة (١).

ولا يخفى عليك أنّ البدليّة وإن لم يدلّ عليها ظهور إنشاء الأمر في كونه لجعل الداعيّ دون سائر الدواعي كداعي تنجيز الواقع أو ظهور تعلّق الأمر بالشيء في أنّ المتعلّق هو واجد للمصلحة بعنوانه دون عنوان آخر كعنوان إيصال الواقع ولكنّ الإطلاق المقاميّ في أدلّة اعتبار الأمارات يكفي في إثبات البدليّة وحكومتها بالنسبة إلى الأدلّة الواقعيّة كما مرّ مفصّلا وعليه فلا فرق على الموضوعيّة والسببيّة بين العبادات والمعاملات بحسب القاعدة أو بحسب أدلّة اعتبار الأمارات فمقتضى القاعدة والاصول المذكورة من الاستصحاب وقاعدة الاشتغال ولزوم الإتيان بالغرض الفعليّ هو عدم الإجزاء ولزوم الإعادة من دون فرق بين العبادات والمعاملات كما أنّ مقتضى إطلاق أدلّة اعتبار الأمارات هو الإجزاء وعدم لزوم الإعادة من دون فرق بين المعاملات والعبادات فلا تغفل.

فالحاصل من المباحث المتقدّمة إنّ تبدّل الرأي لا يوجب الإعادة والقضاء

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد : / ١٠ وتعليقة الكفاية ، الاجتهاد والتقليد : / ٢٠٥.

٣٠٨

سواء قلنا بالطريقيّة أو السببيّة وذلك لإطلاق أدلّة اعتبار الأمارات والاصول وحكومتها بالنسبة إلى الأدلّة الأوّليّة ومقتضاه هو تقبّل المصداق الظاهريّ مكان الواقعيّ في حصول الامتثال وسقوط الأمر ومعه لا مجال للأخذ بالقواعد كالاستصحاب وقاعدة الاشتغال وقاعدة لزوم الإتيان بالأغراض الفعليّة وغير ذلك لإثبات عدم الإجزاء.

نعم لو استكشف عدم وجود الأمارات والاصول وكان ذلك موجبا لتبدّل الرأي فلا كلام حينئذ في عدم الإجزاء بعد عدم وجود الأوامر الظاهريّة كما لا يخفى.

الجهة الثانية : في إجزاء عمل المقلّد وعدمه عند تبدّل رأي المجتهد

ولا يخفى عليك أنّ مقتضى القول بعدم الإجزاء في الأمارات والاصول هو القول بعدم الإجزاء في المقام سواء كان المعيار هو مدرك المفتي من الأمارات والاصول أو المعيار هو مدرك رجوع المقلّد إلى العالم وهو بناء العقلاء والارتكاز الفطريّ على رجوع الجاهل إلى العالم لأنّه على كلّ تقدير لا يخرج عن الأمارات والاصول والمفروض هو عدم إفادتها للإجزاء.

كما أنّ مقتضى القول بالإجزاء فيهما هو الإجزاء في المقام سواء كان مدرك المفتي هو الأصل أو الأمارة وسواء كان المعيار في الإجزاء هو مدارك المفتي أو مدرك المقلّد لأنّه على كلّ تقدير لا يخرج عن دائرة الأمارات والاصول والمفروض أنّ أدلّة اعتبارهما تدلّ على الإجزاء كما مرّ سابقا.

وهل يكون مقتضى التفصيل في الإجزاء بين الأمارات والاصول هو التفصيل في المقام أم لا؟

والظاهر من تهذيب الاصول هو عدم التفصيل والقول بعدم الإجزاء مطلقا حيث قال فيه :

٣٠٩

أنّ الأقوى عدم الإجزاء في حقّ المقلّد سواء استند مقلّده (بالفتح) إلى الاصول أم إلى الأمارات فإنّ مدرك العاميّ في الحكم الذي طبق عمله على وفقه إنّما هو رأي مرجعه وحكمه وهو أمارة إلى تكاليفه الشرعيّة وقد أوضحنا في مسألة الإجزاء أنّ قيام الحجّة على تخلّف الأمارة لا يوجب الإجزاء.

وإن شئت قلت : إنّ مدرك حكمه ليست الاصول الحكميّة من البراءة والاستصحاب والأمارات والروايات الواردة في حكم المسألة إذ هي متوجّهة إلى الشاكّ والعاميّ ليس بشاكّ ولا بمتيقّن فلا معنى لتوجّه تلك الخطابات إليه إذ هي تقصد من تفحّص عن موارد البيان ويئس عن وروده والعاميّ ليس كذلك ومعه كيف يشمله أدلّة الاصول فلا يجري في حقّه الاصول حتّى تحرز مصداق المأمور به.

وكون الدليل عند المجتهد في موارد الشكّ هي الاصول الجارية لا يوجب ركون المقلّد إليها بل إنّما هي يركن إلى رأي المجتهد للبناء العمليّ والارتكاز الفطريّ من غير توجّه إلى مدركه (١).

وفيه أوّلا أنّ الشاكّ والمتيقّن والقادر على التفحّص عن موارد البيان لا يختصّ بالمفتي إذ كثير ممّن لم يبلغ الاجتهاد من الطلّاب والفضلاء يكونون كذلك ومع كونهم كذلك كيف لا يكونون مجرى الاصول والأمارات مع تحقّق موضوعها.

وثانيا إنّ المجتهد نائب عن المقلّد والخطاب إليه بملاحظة المنوب عنه إذ ربّما لا ابتلاء له بالعمل بها فالخطاب بترتيب الأثر باعتبار المقلّدين الذين يكون نائبا عنهم.

وعليه فما استدلّ به في المسألة لا يختصّ به بل جار في حقّ المنوب عنه أيضا فلا وجه لعدم جريان التفصيل في المقام على هذا القول فتأمّل.

وكيف كان فقد عرفت أنّ مقتضى القول بالإجزاء في الأمارات والاصول هو

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول : ٢ / ٥٩٣.

٣١٠

الحكم بالإجزاء مطلقا في المقام.

لا يقال : إنّ البناء العمليّ والارتكاز الفطريّ يكون من الأدلّة اللبيّة فلا إطلاق لها حتّى يتمسّك بإطلاقها أو لحنها وظهورها على الإجزاء هذا بخلاف أدلّة اعتبار الأمارات والاصول فإنّه يمكن فيها استظهار أنّ الشارع اكتفى بها في مقام الامتثال واقتنع بها كما يمكن الاستدلال بالإطلاق المقاميّ على الإجزاء كما مرّ تقريبه.

لأنّا نقول : ظاهر أدلّة اعتبار الفتاوى كقوله عليه‌السلام لأبان بن تغلب : «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك».

أو قوله في جواب من سئل عمّن آخذ معالم الدين : (خذ) من زكريّا بن آدم القميّ المأمون على الدين والدنيا.

أو قوله : نعم في جواب من سئل أنّ شقّتي بعيدة فلست اصل إليك في كلّ وقت فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ وغير ذلك من الأخبار الكثيرة هو الاكتفاء بها في مقام الامتثال للتكاليف الواقعيّة بالتقريب الذي عرفت في الأمارات والاصول الظاهريّة هذا مضافا إلى جواز الاستدلال بالإطلاق المقاميّ في مثل تلك الأدلّة فإنّ مع وقوع كثرة الاختلاف وتبدّل الرأي في فتاواهم لم يرد شيء في وجوب الإعادة والقضاء على أنّ السيرة المتشرّعة من لدن صدر الإسلام على عدم الإعادة عند تبدّل الرأي أو الرجوع من الميّت إلى الحي أو العدول من الحيّ إلى الحيّ ولا فرق فيما ذكر بين كون الأمارات معتبرة على الطريقيّة أو السببيّة فإنّ الميزان هو الاستظهار المذكور من أدلّة اعتبارها والإطلاق المقاميّ والسيرة وهذه الأمور جارية على كلّ التقادير فتدبّر جيّدا فللمفتيّ أن يفتي بالإجزاء بعد استنباطه تماميّة أدلّته وللمقلّد أن يقلّده في ذلك.

٣١١

الجهة الثالثة : في إجزاء عمل المقلّد عند الرجوع عن الميّت إلى الحيّ أو عند عدوله من الحيّ إلى الحيّ.

ولا يخفى عليك أنّ مقتضى ظهور أدلّة اعتبار الفتاوى كأدلّة اعتبار الأخبار والأمارات في الاكتفاء بها في مقام الامتثال للتكاليف الواقعيّة هو سقوط الأمر الواقعيّ المتوجّه إلى الطبيعة بالإتيان بما أفتى به الميّت في حال حياته ومع سقوط الأمر الواقعيّ المتوجّه إلى الطبيعة لا مجال للإعادة في الوقت ولا للقضاء في خارجه وإن كان متعلّق الرأي المجتهد الثاني كمتعلّق الخبر مطلقا فإنّ الرأي المجتهد الثاني يفيد فيما لم يمتثل لا في ما امتثل والمفروض هو حجّيّة الرأي الأوّل في ظرفها ومقتضى حجّيّتها في ظرفها هو حكومتها بأدلّة اعتبارها بالنسبة إلى الأدلّة الأوّليّة ومقتضى الحكومة هو سقوط الأمر الواقعيّ بإتيان العمل طبقا لها فلا يبقى الأمر الواقعيّ حتّى تدلّ الحجّة الثانية على الإتيان في الوقت أو القضاء في خارجه.

هذا مضافا إلى الإطلاق المقاميّ في مطلقات أدلّة اعتبار الفتاوى مع شيوع العدول عن الميّت إلى الحيّ أو من الحيّ إلى الحيّ فإنّ مقتضى الإطلاق المذكور مع شيوع مخالفة الفتاوى بعضها مع بعض أحيانا هو اعتبارها كاعتبار الأخبار المتعارضة فكما أنّ مقتضى إطلاق أدلّة اعتبار الخبرين المتعارضين والحكم بالتخيير هو الحكم بالاجتزاء إذا عمل بكلّ واحد منهما فكذلك مقتضى إطلاق أدلّة اعتبار الفتاوى المختلفة هو الاجتزاء بكلّ واحد منهما إذا عمل به.

لا يقال كما في المحاضرات إذا عدل عن مجتهد لأحد موجبات العدول إلى مجتهد آخر وكان مخالفا له في الفتوى وجبت عليه إعادة الأعمال الماضية فإنّ عمدة الدليل على حجّيّتها إنّما هي السيرة العقلائيّة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم وقد تقدّم أنّ القول بالسببيّة يقوم على أساس جعل المؤدّى ومن الطبيعي أنّه ليس في السيرة

٣١٢

العقلائيّة لجعل المؤدّى عين ولا أثر (١).

لأنّا نقول : إنّ العبرة بأدلّة اعتبار السيرة العقلائيّة لا بنفس السيرة العقلائيّة وقد عرفت أنّ المتبادر من إمضاء الشارع لارتكاز العقلاء في الرجوع إلى العالم لمن كان في صدد الامتثال للتكاليف الواقعيّة هو قناعة الشارع في امتثال الواقعيّات بالطريق الارتكازيّ العقلائيّ كما هو كذلك في اعتبار الأخبار الآحاد مع أنّ الركون والاعتماد على الثقات أيضا ممّا ارتكز عليه العقلاء ولا فرق في ذلك بين الطريقيّة أو السببيّة كما مرّ مبسوطا في إجزاء الأمارات ، فراجع.

ربّما نسب إلى الشيخ الأعظم قدس‌سره أنّه ذهب إلى وجوب الإعادة والقضاء مستدلّا بأنّ الفتوى كالخبر فكما أنّ الخبر مثلا حجّة في مضمونه وهو لا يختصّ بزمان دون زمان كذلك حكم المفتي الثاني لا يختصّ بزمان دون زمان والحكم المطلق وإن كان يتنجّز فعلا لا قبلا إلّا أنّ أثر تنجّزه فعلا تدارك ما فات منه قبلا فلا موجب لتخصيص تأثيره بالوقائع المتجدّدة.

ولكن يرد عليه أوّلا أنّه لا مجال لتأثير الثاني بعد ما عرفت من أنّ الرأي الأوّل حجّة في زمانه ومقتضى أدلّة اعتباره هو حكومته بالنسبة إلى الأدلّة الأوّليّة وسقوط الأوامر الواقعيّة بإتيان الأعمال طبقا للرأي الأوّل فإنّ مع الرأي الأوّل والعمل به لا يبقى الطبيعة المأمور بها حتّى يؤثّر فيها الرأي الثاني وإن كان مطلقا فإنّ إطلاق الرأي الثاني يفيد فيما لم يمتثل لا فيما امتثل كالحكومة التي عرفتها في الاصول الظاهريّة بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة.

وبالجملة إن تمّ تقريب الحكومة في الاصول الظاهريّة تمّ ذلك التقريب في الأمارات أيضا ومنها الفتاوى وآراء المجتهدين فكما أنّ ظهور الخلاف في الاصول

__________________

(١) ٢ / ٢٨٥.

٣١٣

الظاهريّة لا يضرّ بحكومة الاصول في موقعها فكذلك الرجوع أو العدول لا يوجب سقوط رأي المجتهد الأوّل في ظرفه عن حجّيّته وحكومته بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة خصوصا في العدول من الحيّ إلى الحيّ المساوي مع بقاء الأوّل على ما عليه من الحجّيّة.

وثانيا : كما أورد المحقّق الأصفهانيّ أنّ متعلّق الرأي وان كان كمتعلّق الخبر مطلقا إلّا أنّه لا يلازم تعلّق الرأي بشيء حجّيّته على الغير رأسا كأصل وجوب التقليد ونحوه (لكون التقليد أمرا ارتكازيّا لا يحتاج إلى التقليد وإلّا لزم الدور أو التسلسل) كما أنّه لا تلازم حجّيّته على الغير حجيّته عليه من الأوّل كما إذا كان تكليف العامّيّ الرجوع إلى من هو أعلم منه فرجع إلى المفضول لخروج الأفضل عن مرتبة صحّة التقليد لموت أو غيره.

وبالجملة ليس إطلاق المضمون مناطا للنقض بل هو مع حجّيّته من الأوّل وإن كان تنجّزه بعد الظفر به وليس الفتوى كذلك بل هي حجّة على المقلّد في المورد القابل من حين صحّة الرجوع إلى صاحبها فلا يؤثّر إلّا في الوقائع المتجدّدة إلى أن ذهب في النهاية إلى أنّ حال الفتويين المتعارضين كحال الخبرين المتعادلين اللذين أخذ المجتهد بأحدهما تارة وبالآخر أخرى في أنّه لا موجب لتوهّم نقض الآثار السابقة عند الأخذ بالثاني حيث قال إنّ حجّيّة فتوى الثاني لا لاضمحلال الحجّة الأوّليّ بقيام الثانية بل لانتهاء أحد حجّيّتها مثلا فتكون الفتويان المتعاقبتان على حد الخبرين المتعادلين الذين أخذ بأحدهما تارة وبالآخر أخرى حيث لا موجب لتوهّم النقض عند الأخذ بالثاني (١).

ولكن لا يخفى عليك أنّ القول بعدم حجّيّة الرأي الثاني من الأوّل يتمّ لو كان

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد : / ٢٤ ـ ٢٣.

٣١٤

دليل جواز العدول أو وجوبه بعد موت المجتهد الأوّل قاصرا بالنسبة إلى الوقائع السابقة كما إذا كان الدليل هو الإجماع أو أصالة التعيّن في الحجّيّة عند الدوران بينه وبين التخيير إذ كلاهما كما في المستمسك لا يثبتان الحجّيّة بالإضافة إلى الوقائع السابقة لإهمال الأوّل فيقتصر فيه على القدر المتيقّن ولا سيّما مع تصريح جماعة من الأعاظم بالرجوع في الوقائع السابقة إلى فتوى الأوّل وعدم وجوب التدارك بالإعادة أو القضاء ولورود استصحاب الأحكام الظاهريّة الثابتة بمقتضى فتوى الأوّل في الوقائع السابقة على أصالة التعيين لأنّها أصل عقليّ لا يجري مع جريان الأصل الشرعيّ وبالجملة استصحاب الحجّيّة لفتوى الميّت بالإضافة إلى الوقائع السابقة لا يظهر له دافع انتهى (١).

وأمّا إذا لم يكن دليل حجّيّة الرأي الثاني قاصرا عن إفادة الحجّيّة من الأوّل فلا وجه لتخصيص الحجّيّة بالوقائع اللاحقة.

كما إذا قلنا بأنّ تقييد حجّيّة الرأي الثاني بخروج الأوّل عن الحجّيّة فيما إذا كان الأوّل أعلم بالنسبة إلى الثاني لا يلازم تقييد الرأي الثاني بعد إطلاقه وشموله للأعمال السابقة واللاحقة ومع الإطلاق وشمول الفتوى بعد الأخذ به كان حجّة على الأخذ ومع حجّيّته في الأعمال السابقة لا يجري فيه استصحاب حجّيّة فتوى الميّت لأنّ الأصل دليل حيث لا دليل والمفروض هو شمول الرأي الثاني بالنسبة إلى ما سبق.

هذا مضافا إلى أنّ البيان المذكور من قصور الأدلّة لتصحيح العدول من الميّت إلى الحيّ لا يجري في العدول من الحيّ إلى الحيّ لإمكان الاستدلال فيه بالإطلاقات الأوّليّة الدالّة على حجّيّة الفتاوى التي تكون مفادها بعد عدم لزوم التقليد عن جميع المجتهدين هو الحجّيّة التخييريّة.

__________________

(١) ١ / ٧٨.

٣١٥

ومع دلالة الإطلاقات الأوّليّة على حجّيّة التخييريّة يمكن الأخذ بإطلاقها لجواز العدول إلى فتوى المجتهد الثاني إن تمّ الإطلاق المذكور وإلّا فباستصحاب التخيير بعد الأخذ برأي المجتهد الأوّل وعليه فيصير المقام نظير الخبرين المتعادلين في دلالتهما على الإجزاء بالإطلاق المقاميّ كما أشار إليه المحقّق الأصفهانيّ في آخر عبارته وبقيّة الكلام في محلّه هذا فالأولى في الإيراد على الشيخ قدس‌سره هو الاقتصار على ما ذكرناه من أنّ بعد حجّيّة الرأي الأوّل في ظرفها ودلالة أدلّة اعتباره على حكومة رأيه على الواقعيّات وسقوط الأوامر الواقعيّة تعبّدا لا مجال للامتثال بعد الامتثال حتّى يؤخذ بإطلاق الرأي الثاني فتحصّل أنّ الأقوى هو الإجزاء وعدم النقض فيما إذا رجع عن الميّت إلى الحيّ أو عدل عن الحيّ إلى الحيّ بناء على جوازه كما هو الأقوى.

وقد نصّ السيّد المحقّق اليزدي في العروة على الإجزاء في الرجوع عن الميّت إلى الحيّ حيث قال :

مسألة (٥٣) إذا قلّد من يكتفي بالمرّة مثلا في التسبيحات الاربع واكتفى بها أو قلّد من يكتفي في التيمّم بضربة واحدة ثمّ مات ذلك المجتهد فقلّد من يقول بوجوب التعدّد لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة وكذا لو أوقع عقدا أو إيقاعا بتقليد مجتهد يحكم بالصحّة ثمّ مات وقلّد من يقول بالبطلان يجوز له البناء على الصحّة نعم فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني.

وأمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شيء كالغسالة ثمّ مات وقلّد من يقول بنجاسته فالصلوات والأعمال السابقة محكومة بالصحّة وإن كانت مع استعمال ذلك الشيء وأمّا نفس ذلك الشيء إذا كان باقيا فلا يحكم بعد ذلك بطهارته.

وكذا في الحلّيّة والحرمة فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلا فذبح حيوانا كذلك فمات المجتهد وقلّد من يقول بحرمته فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع وإباحة الأكل وأمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجودا فلا يجوز بيعه ولا أكله

٣١٦

وهكذا ، انتهى.

ومن المعلوم أنّ وجه المسألة عنده هو كفاية أدلّة الإجزاء لا قاعدة لا تعاد لأنّ القاعدة أخصّ ممّا أفاد إذ لا تجري إلّا في الصلاة والمفروض في المسألة أعمّ من الصلاة كما لا يخفى.

ولقد أفاد وأجاد وإن لا يخلو كلامه عن النظر من جهة بعض الأمثلة المذكورة حيث لا فرق بين حلّية الزوجة المعقود عليها بالفارسيّة سابقا وبين اللحم المذبوح حيوانه بغير الحديد أو الثوب الذي طهّره سابقا بالماء مرّة أو الماء الملاقيّ للنجس في مقام التطهير أعني الغسالة التي تكون محكومة بعدم انفعالها بملاقاة النجاسة في مقام التطهير فإنّ الجميع يرجع فيها إلى الفتوى الأوّل لاستنادها كما في المستمسك إلى أمر سابق صحيح في نظر الأوّل وقد قلّده فيه فلا وجه للتفرقة بينها بالحكم بجواز البناء على الصحة في الزوجة المعقود عليها بالعقد الفارسيّ دون غيرها مع كونها من باب واحد.

نعم في مثل المسكر إذا أفتى الأوّل بطهارته ورتّب عليه أحكام الطهارة ثمّ مات فقلّد من يقول بنجاسته وجب عليه الاجتناب فيما سيأتي لأنّ الحكم المذكور من آثار ذاته الحاضرة فالمعيار في الفرق بين الأخير وما سبق هو ما أشار إليه في المستمسك من أنّ الأثر الثابت حال تقليد الثاني إن كان من آثار السبب الواقع في حال تقليد الأوّل فالعمل فيه على تقليد الأوّل وإن كان من آثار نفس الشيء الذي هو حاصل حين تقليد الثاني فالعمل فيه عليه لا على تقليد الأوّل.

ثمّ أنّه يظهر ممّا ذكر انّه لا وجه للاقتصار للإجزاء في الرجوع عن الميّت إلى الحيّ بل يجري ذلك في العدول من الحيّ إلى الحيّ وفي عدول المجتهد عن فتواه إلى ما يخالفها بالنسبة إلى مقلّده بل بالإضافة إلى نفسه كلّ ذلك لما عرفت من مقتضى أدلّة اعتبار الأمارات والاصول.

٣١٧

ولعلّ وجه اقتصار السيّد في الحكم بالإجزاء في الرجوع عن الميّت إلى الحيّ دون العدول من الحيّ إلى الحيّ هو عدم تماميّة الدليل عنده لجواز العدول من الحيّ إلى الحيّ.

ولكن قلنا في ذيل مسألة ١١ من العروة : أنّ الأقوى جواز العدول إلى الأعلم بل وجوبه بناء على لزوم الرجوع إلى الأعلم وهكذا يجوز العدول من المساوي إلى المساوي بناء على إفادة الأدلّة اللفظيّة الحجّيّة التخييريّة في الفتاوى واستصحاب الصفة المجعولة بقاء كما دلّت عليه الأدلّة اللفظيّة حدوثا وعدم منافاة استصحاب الحجّيّة الفعليّة مع استصحاب الحجّيّة التخييرية كما هو الظاهر.

الأمر الخامس : في مقتضى الأصل عند عدم إحراز أنّ الحجّيّة بنحو الكشف والطريقيّة أو بنحو الموضوعيّة والسببيّة

ويقع الكلام في المقامين :

المقام الأوّل في مقتضى الأصل بالنسبة إلى وجوب الإعادة وعدمه.

ولا يخفى عليك أنّ مقتضى ما قلناه من حكومة أدلّة الاعتبار في الأمارات والاصول الظاهريّة على الأدلّة الأوّليّة هو عدم الشكّ في الإجزاء سواء كانت الحجّيّة بنحو الكشف أو بنحو الموضوعيّة والسببيّة لأنّ أدلّة الاعتبار على كلا التقديرين تدلّ على الإجزاء ولا مورد للأصل بالنسبة إلى الإجزاء مع دلالة أدلّة الاعتبار.

هذا بخلاف ما إذا لم نقل بذلك الإطلاق بل قلنا بالإجزاء على السببيّة دون الكشف فاللازم عند الشكّ في الطريقيّة أو السببيّة هو الرجوع إلى مقتضى الأصل.

ذهب في الكفاية إلى ما محصّله هو أنّ أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للإعادة في الوقت.

٣١٨

وأجاب عن معارضتها بأصالة عدم كون التكليف بالواقع فعليّا في الوقت فيثبت أنّ ما أتى به يكون مسقطا بأنّ أصالة عدم فعليّة التكليف الواقعيّ لا تجدي ولا تثبت كون ما أتى به مسقطا إلّا على القول بالأصل المثبت وتمسّك في نهاية الأمر بقاعدة الاشتغال حيث إنّ المفروض بعد كشف الخلاف هو حصول العلم بالتكليف الواقعيّ والشكّ في الفراغ عنه بإتيان العمل على طبق الأمارة ومقتضى قاعدة الاشتغال هو الحكم بالإعادة في الوقت والقضاء في خارجه بناء على وحدة حقيقة القضاء مع الأداء وعدم الحاجة في وجوب القضاء إلى أمر جديد بخلاف ما إذا كان القضاء مبنيّا على فرض جديد فإنّ القضاء حينئذ معلّق على عنوان الفوت وهذا العنوان أمر ثبوتيّ (لأنّه مساوق لذهاب شيء من يده).

وعليه فلا ينتزع من العناوين العدميّة فأصالة عدم الإتيان لا يكفي لانتزاعه وأيضا لا يثبت بها إلّا على القول بالأصل المثبت فالأصل هو البراءة عن وجوب القضاء.

هذا أورد عليه أوّلا : بما أفاده المحقّق الأصفهانيّ وأستاذنا المحقّق الداماد (قدس‌سرهما) من عدم الإتيان بالمسقط ليس هو أثرا شرعيّا ولا موضوعا للأثر الشرعيّ مع أنّ اللازم في جريان الاستصحاب أن يكون مجراه أمّا هو الحكم الشرعيّ أو موضوعه وعليه فلا تجرى أصالة عدم الإتيان بالمسقط.

وثانيا : بأنّ قاعدة الاشتغال تكفى في إثبات وجوب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه بناء على وحدة حقيقة القضاء مع الأداء وعدم الحاجة إلى أمر جديد فإنّ بعد العلم بالتكليف يكفي في الحكم بالإعادة أو القضاء على البناء المذكور نفس الشكّ في الفراغ ولا حاجة إلى أصالة عدم الإتيان بالمسقط.

وثالثا : بما أفاده أستاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ استصحاب عدم الإتيان بالمسقط في المقام مع معلوميّة المأتيّ به كالجمعة ومعلوميّة ما لم يأت به كالظهر

٣١٩

كاستصحاب بقاء اليوم عند دوران نهايته بين الغروب والمغرب.

فكما أنّ الاستصحاب في اليوم لا مجرى له لأنّ الخارج أمّا معلوم الوجود وأمّا معلوم العدم ولا شكّ فيه وما شكّ فيه من الوضع لا يجري فيه الأصل لأنّ أصالة عدم وضعه لما ينتهي إلى الاستتار معارضة مع أصالة عدم وضعه لما ينتهي إلى ذهاب الحمرة المشرقيّة كذلك في المقام فإنّ الخارج يدور بين معلومين فإنّ الجمعة معلومة الإتيان والظهر معلوم العدم في الفرض المذكور ومسقطيّتهما يبتني على أنّ اعتبار الأمارات يكون بنحو الكشفيّة والطريقيّة حتّى لا يكون المأتيّ به مسقطا أو بنحو الموضوعيّة والسببيّة حتى يكون المأتي به مسقطا وأصالة عدم كون الاعتبار على نحو الكشفيّة معارضة مع أصالة عدم كون الاعتبار على نحو الموضوعيّة وعليه فلا يجري استصحاب عدم الإتيان بالمسقط كما لا يجري استصحاب بقاء اليوم في الفرض المذكور.

فانحصر دليل المسألة في قاعدة الاشتغال وهي تقتضي الفراغ اليقينيّ مع الشكّ في إتيان المسقط وعدمه أورد شرط على تلك القاعدة المحقّق الأصفهانيّ إشكالا حاصله أنّ بعد العلم بالخلاف تعلّق العلم بحكم لم يكن حال ثبوته وعدم العلم به فعليّا لأنّ المفروض في هذا الحال هو قيام الأمارة على خلاف الواقع وحيث إنّ العلم بالخلاف بعد العمل بالأمارة لم يعلم ببقاء ما علم بثبوته حال قيام الأمارة لاحتمال اجتزاء ما أتى به عنه وعليه فلا أثر لتعلّق العلم بالحكم بعد العمل بالأمارة.

ولذا قال : إنّ الحكم الذي تعلّق العلم به لم يكن فعليّا حال ثبوته على الفرض ولم يعلم بقائه حال تعلّق العلم به ليصير فعليّا به فلا أثر لتعلّق العلم به.

ولقد أفاد وأجاد في جوابه بوجهين :

أحدهما : أن يكفي استصحاب بقاء التكليف الواقعيّ الذي هو عبارة عن الإنشاء بداعي جعل الداعي الذي علم به بعد كشف الخلاف إذ الحكم الاستصحابيّ

٣٢٠