عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

فمطلوبيّة الاختياريّ محرزة وإنّما الكلام في أنّه متعيّن أو هو مطلوب مع عدله وهو الاضطراريّ فيدور الشكّ بين التعيين والتخيير فيحكم العقل بعدم جواز العدول إلى المشكوك بعد العلم بأصل التكليف كما لا يخفى.

وحيث كان الوقت الموسّع أمرا واحدا فلا وجه لابتناء المسألة على القول بتنجيز العلم الإجماليّ في التدريجيّات لأنّ الوقت الموسّع عدّ وقتا واحدا لا أوقات متعدّدة متدرّجة.

هذا مضافا إلى أنّ التحقيق في التدريجيّات هو تنجيز التكليف وحرمة مخالفته بالعلم به فيها. إذ لا فرق لدى العقل بين حرمة مخالفة المولى قطعا أو احتمالا في ارتكاب الأطراف المحقّقة فعلا أو في ارتكاب الأطراف التدريجيّة فلو علم بوجوب شيء أو بحرمة شيء عليه إمّا في الحال أو في زمان مستقبل يحكم العقل بوجوب إتيانها أو تركها في كلا الحالين لتنجيز التكليف الواقعيّ عليه بالعلم به. (١)

لا يقال : إنّ المقام يلحق بالأقلّ والأكثر لأنّ تعلّق التكليف بالجامع بين الاضطراريّ والاختياريّ معلوم وإنّما الشكّ في خصوصيّة الاختياريّ فتجري فيها البراءة كما تجري في الأكثر البراءة. (٢)

لأنّا نقول : إنّ المعلوم أصل التكليف وأمّا متعلّقه فهو مردّد بين كونه هو الجامع حتّى يفيد التخيير وبين خصوص الاختياريّ حتّى يفيد التعيين وعليه فالجامع طرف الترديد ولا يكون تعلّق التكليف به معلوما فلا يقاس بالأقلّ والأكثر حتّى تجري البراءة في خصوصيّة الاختياريّ فالأمر يدور بين التعيين والتخيير والحكم فيه كما عرفت هو عدم جواز الاقتصار على الاضطراريّ فلا تغفل.

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول ٢ / ٢٧١.

(٢) راجع المحاضرات ٢ / ٢٤٨.

٢٤١

ثمّ إنّ حكم القضاء في خارج الوقت بناء على وحدة حقيقة القضاء مع الأداء وتعدّد المطلوب واضح فإنّ مقتضى العلم بمطلوبيّة الإتيان بالعمل مطلقا من دون دخالة للوقت فيه هو وجوب القضاء في خارج الوقت ولو بالاستصحاب فيما إذا لم تدلّ أدلّة الاضطرار على الإجزاء بالإتيان بالاضطراريّ كما هو المفروض.

ولذا قال استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره : والارتكاز يشهد بكون القضاء هو الإتيان بنفس العمل في خارج الوقت لا الإتيان بحقيقة اخرى للتدارك عن العمل في الوقت وعليه فنستكشف من أدلّة تشريع القضاء في مثل الصلوات اليوميّة.

أنّ مطلوب المولى من مثل قوله : صلّ في الوقت ، متعدّد :

أحدهما : هو الإتيان بالعمل ولو في خارج الوقت.

وثانيهما : هو وقوعه في الوقت.

وعليه فإذا لم يأت أو لم يتمكّن من الإتيان في الوقت كان مقتضى العلم بمطلوبيّة الإتيان بالعمل مطلقا هو وجوب القضاء في خارج الوقت من دون حاجة إلى أمر جديد.

فالإتيان بالاضطراريّ مع عدم العلم بكونه وافيا بمصالح الاختياريّ وعدم دلالة أدلّة الاضطرار على الإجزاء كما هو المفروض لا يكفي في رفع التكليف بعد العلم بالمطلوبيّة المطلقة المستكشفة بالارتكاز المذكور فدعوى عدم وجوب القضاء بطريق أولى فيما إذا لم يكن إطلاق لفظيّ أو مقاميّ على الإجزاء كما في الكفاية غير سديد بناء على وحدة حقيقة القضاء مع الأداء وتعدّد المطلوب كما لا يخفى.

وعليه فلا مجال لما يقال من أنّ موضوع وجوب القضاء هو الفوت وهو غير محقّق الصدق بعد إتيان المشكوك وتوهّم إثباته باستصحاب عدم إتيان الفريضة مبنيّ على حجّيّة الاصول المثبتة لأنّ الفوت غير عدم الإتيان مفهوما وإن كانا متلازمين في الخارج إذ الموضوع هو الفوت وإثباته باستصحاب عدم الإتيان كإثبات أحد

٢٤٢

المتلازمين باستصحاب الآخر. (١)

لأنّ بناء على وحدة حقيقة القضاء مع الأداء وتعدّد المطلوب بالاستكشاف المذكور يكفي في وجوبه العلم بمطلوبيّة الإتيان بالعمل مطلقا سواء كان في الوقت أو خارجه فلا يكون وجوب القضاء مبتنيا على صدق الفوت. نعم لو لم يعلم تعدّد المطلوب ووحدة حقيقة القضاء مع الأداء فلا دليل على وجوب القضاء في خارج الوقت لأنّ المطلوب متقيّد بالوقت وحال تقييد المأمور به بالوقت كما في المحاضرات كحال تقييده بغيره من القيود فكما أنّ المتفاهم العرفيّ من تقييده بأمر زمانيّ هو وحدة المطلوب لا تعدّده وأنّ المأمور به هو الطبيعيّ المقيّد بهذا القيد فكذلك المتفاهم العرفيّ من تقييده بوقت خاصّ فلا فرق بينهما من هذه الناحية. (٢)

اللهم إلّا أن يقال : إنّ الوقت وإن كان قيدا بحسب لسان الدليل ولكن بحسب المتفاهم العرفيّ قيد الزمان كسائر القيود الزمانيّة لا يكون من مقوّمات الموضوع إذ مع انتفائها يكون الموضوع عند العرف باقيا وحيث كان الموضوع في الاستصحاب أمرا عرفيّا فالوحدة المعتبرة في القضيّة المشكوكة مع القضيّة المتيقّنة محفوظة فيمكن إجراء الاستصحاب لإبقاء الوجوب كما في المستمسك.

وعليه فلا حاجة في وجوب القضاء إلى صدق الفوت ولو مع عدم ثبوت وحدة حقيقة القضاء مع الأداء الّا أن يقال إنّ القيود في المتعلّقات الكلّيّة توجب المباينة فمع انتفائها لا تبقى الوحدة المعتبرة نعم لو جرى استصحاب في المكلّف كانت الوحدة محفوظة وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى في الموسّع والمضيّق فانتظر.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٨٩.

(٢) المحاضرات ٢ / ٢٧٤.

٢٤٣

المقام الثاني في إجزاء الأوامر الظاهريّة :

ويقع الكلام هنا في امور :

الأمر الأوّل : في تحرير محلّ النزاع :

ولا يخفى عليك أنّه خصّص في تهذيب الاصول محلّ النزاع في الأمارات والاصول بما إذا كانتا قائمتين على متعلّقات الأحكام دون نفس الأحكام حيث قال : وليعلم أنّ محلّ النزاع في كلا المقامين ما إذا كان المأمور به مركّبا ذا شروط وموانع وقام دليل اجتهاديّ أو أصل عمليّ على تحقّق الجزء والشرط أو عدم تحقّق المانع ثمّ انكشف خلافه أو قام واحد منهما على نفي جزئيّة شيء أو شرطيّته أو مانعيّته.

ثمّ بان أنّ الأمر بخلافه فيقال : إنّ الإتيان بمصداق الصلاة مثلا مع ترك ما يعتبر فيها استنادا إلى أمارة أو أصل هل يوجب الإجزاء أو لا؟

وأمّا ما يجري في إثبات أصل التكليف ونفيه كما إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعة ثمّ انكشف خلافه فهو خارج عمّا نحن فيه ولا معنى للإجزاء فيه. (١)

وإليه ذهب المحقّق الخراسانيّ حيث قال : هذا كلّه فيما يجري في متعلّق التكاليف من الأمارات الشرعيّة والاصول العمليّة.

وأمّا ما يجري في إثبات أصل التكليف كما إذا قام الطريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها فلا وجه لإجزائها مطلقا غاية الأمر أن تصير صلاة الجمعة فيها أيضا ذات

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٩٠.

٢٤٤

مصلحة لذلك ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة كما لا يخفى إلّا أن يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد. (١)

وجه ذلك كما أشار إليه المحقّق الخراسانيّ «بقوله : غاية الأمر .. الخ» : أنّ الأمارات على السببيّة والاصول فيما إذا كانت قائمة على متعلّقات التكليف تكون ناظرة إلى الواقعيّات ومبيّنة لها في هذا الحال بوضع جزء أو شرط أو رفعهما فضمّ الأصل مثلا إلى الدليل الواقعيّ مبيّن لاختصاص فعليّة جزئيّة السورة بحال العلم بالواقع وأنّ الأمر بما عداها وهكذا فلا بدّ أن يكون مصالح الأمارات والاصول مسانخة لمصالح الواقعيّات ومع مسانخة مصالحها معها يمكن البحث حينئذ عن كونها وافية حتّى تجزي عنها أو غير وافية حتّى لا تكون مجزية في بعض صورها دون ما إذا كانت الأمارات والاصول قائمة على نفس التكاليف إذ ليست الأمارات والاصول حينئذ ناظرة إلى الواقعيّات ولم تكن مبيّنة لكيفيّة الواقعيّات المعلومة إجمالا فلا تكون مصالحها مسانخة لمصالح الواقعيّات ومع عدم المسانخة لا مجال للوفاء حتّى يبحث عن إجزائها أو عدمه مثلا ، كما أفاد في نهاية النهاية أنّ لسان «صدّق العادل» في الأمارة القائمة على الحكم على السببيّة تكليف تعبّديّ مستقلّ في عرض الواقع فيكون قول العادل كأمر الأب والمولى وسائر العناوين المورثة للتكليف موجبا لتكاليف مستقلّة فمصالحها مصالح اخرى في عرض المصالح الواقعيّة ولا يغني إدراكها عن إدراك المصالح الواقعيّة كما لا يغني إدراك بعض المصالح الواقعيّة عن إدراك بعض آخر وامتثال تكليف عن امتثال آخر. (٢)

ولكنّ الإنصاف أنّه لا فرق بين كون الأمارات والاصول قائمة على متعلّقات

__________________

(١) الكفاية ١ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٢) نهاية النهاية ١ / ١٣٠.

٢٤٥

التكاليف وبين كونها قائمة على نفس التكاليف بعد كونها مشروعة لتسهيل النيل إلى التكاليف المعلومة بالإجمال فإنّ كلّها حينئذ في مقام بيان أنّ الواقعيّات تكون في كذا وكذا فلا بدّ من أن تكون مصالحها مسانخة لمصالح الواقعيّات من دون فرق بين مواردها.

ولقد أفاد وأجاد في نهاية النهاية حيث قال : إنّ البصير يعلم أنّ لسان «صدّق العادل» ليس كلسان «أطع والدك».

فإنّ مفاد «صدّق العادل» هو أنّ الواقع المعلوم على سبيل الإجمال هو في قول العادل فقد اعتبر قوله بعنوان أنّه هو الواقع فلا بدّ أن تكون مصلحته هي مصلحة الواقع لا سنخ آخر من المصلحة كي لا يغني إحرازه عن إحرازه.

فإذا ظهر أنّ الواقع على خلاف قول العادل فقد احرز مصلحته باتّباع قوله فيما إذا كان وافيا بتمام مصلحة الواقع وإلّا جاء باقي الاحتمالات الأربع المتقدّمة التي حكم أحدها فقط عدم الإجزاء.

وأيضا لو كان إخبار العادل محدثا لمصلحة اخرى في عرض الواقع لم يكن وجه لترك مراعات الواقع المعلوم بالإجمال بالإتيان بمحتملاته بمجرّد إخبار العادل ببعض المحتملات فإنّه يكون من قبيل ما لو نذر الإتيان ببعض المحتملات أو أمر الأب ببعضها في عدم انحلال العلم الإجمالى بالتكليف الواقعيّ بذلك فيؤتى بالذى وجب بالعنوان الثانويّ ويؤتى بسائر المحتملات تحصيلا للبراءة اليقينيّة عن التكليف الواقعيّ (١) وإليه يؤول ما في المحاضرات حيث قال ولنأخذ بالمناقشة إلخ ... (٢) ودعوى لزوم التصويب كما ترى بعد كون الواقع محفوظا وإنّما الإجزاء يفيد التقبّل

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ١٣٠.

(٢) راجع المحاضرات ١ / ٢٨١.

٢٤٦

المصداقيّ فلا تغفل.

وعليه فلا وجه للتخصيص المذكور كما لا يخفى نعم ربما يدّعى خروج موارد عن محلّ النزاع لا بأس بذكر بعضها كما يلي :

منها : ما إذا كان سبب الأمر الظاهريّ مجرّد الوهم والخيال كأن يقطع بوجود أمر واقعيّ ثم يكشف أنّه لا أمر أو يقطع بأمر ظاهريّ ثمّ يظهر الخطأ ، كأن يقطع بإخبار العدل أو عدالة المخبر ثمّ يكشف أنّه ليس بعدل أو لم يخبر أصلا أو يعتقد أنّ الرواية مسندة ثمّ ظهر أنّها مرسلة ففي أمثال هذه الموارد ليس أمر شرعيّ ظاهريّ وتوهّم الأمر من جهة الاشتباه في التطبيق بتخيّل إخبار العادل أو الرواية مسندة أو غير ذلك لا يستلزم وجود الأمر الظاهريّ حتّى يبحث عن إجزائه وعدمه بخلاف ما إذا فحص عن الأدلّة ولم يطّلع على شيء وأخذ بأصل من الاصول ثمّ انكشف الخلاف واطّلع على الدليل الاجتهاديّ على خلافه فإنّ مع الفحص يجري الأصل وتكون حجّة فعليّة عليه ويتحقّق الأمر الظاهريّ فيصحّ البحث عن إجزائه وعدمه وممّا ذكر يظهر ما في كتاب بحوث في علم الاصول حيث عطف بعد ذهابه إلى عدم إجزاء الأوامر الظاهريّة عدم إجزاء الأوامر التخيّليّة بالأولويّة فراجع. (١)

لما عرفت من أنّ تخيّل الأمر لا يستلزم وجود الأمر الظاهريّ من ناحية الشرع والبحث عن إجزاء الأوامر الشرعيّة أجنبيّ عن الأوامر التخيّليّة ولذلك تسالموا على خروج الموارد المذكورة عن محلّ النزاع كما صرّح به في المحاضرات حيث قال :

قد تسالموا على خروج موارد انكشف عدم الحكم الظاهريّ فيها رأسا عن محلّ الكلام كما لو استظهر المجتهد معنى من لفظ وأفتى على طبقه استنادا إلى حجّيّة الظهور ثمّ بعد ذلك انكشف أنّه لا ظهور له في هذا المعنى المعيّن بل هو مجرّد وهم

__________________

(١) بحوث في علم الاصول ٢ / ١٧٢.

٢٤٧

وخيال فلا واقع موضوعيّ له فعندئذ لا ريب في عدم حجّيّة هذا المعنى لعدم اندراجه تحت أدلّة حجّيّة الظهورات ، إلخ .. (١)

وإليه يؤول ما في الكفاية حيث قال :

تذنيبان : الأوّل : لا ينبغي توهّم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ فإنّه لا يكون موافقة للأمر فيها وبقي الأمر بلا موافقة أصلا وهو أوضح من أن يخفى إلى أن قال : وهكذا الحال في الطرق الخ. (٢)

ومنها : ما إذا انكشف الخلاف بالقطع واليقين ، حكى المحقّق النائينيّ دعوى الإجماع على عدم الإجزاء فيه عن جماعة. (٣)

ذهب في المحاضرات إلى أنّه لا إشكال ولا خلاف بين الأصحاب في عدم الإجزاء في موارد انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهريّة بالعلم الوجدانيّ بأن يعلم المجتهد مثلا بمخالفة فتواه السابقة للواقع. (٤)

وفيه أنّ إطلاق عبارة الأصحاب كالكفاية تشمل هذا الفرض أيضا إذ ملاك الإجزاء المذكور في ما إذا انكشف الخلاف بغير العلم الوجدانيّ وهو قيام الحجّة الشرعيّة الظاهريّة على خلاف الواقع موجود في المقام ومقتضاه هو تحكيمها على الأدلّة الأوّليّة الدالّة على اشتراط الشروط أو على جزئيّة الأجزاء ولازم التحكيم هو سقوط الشرط أو الجزء في هذا الحال أيضا ومن المعلوم أنّ هذا المعنى لا فرق فيه بين أن يكون كشف الخلاف باليقين أو غيره من الحجج فمن ذهب إلى الإجزاء فيما إذا

__________________

(١) راجع المحاضرات ٢ / ٢٥٩ ـ ٢٨٢.

(٢) الكفاية ١ / ١٣٦.

(٣) التقريرات ١ / ١٩٧.

(٤) المحاضرات ٢ / ٢٥٩.

٢٤٨

انكشف الخلاف بغير العلم الوجدانيّ ذهب إليه فيما إذا انكشف بالعلم واليقين أيضا ومن لم يذهب إلى الإجزاء فيه لم يذهب إلى الإجزاء فيه أيضا.

ولذا صرّح شيخنا الأستاذ الأراكيّ (مدّ ظلّه العالي) بعدم الفرق بينهما حيث قال :

لا فرق فيما ذكرنا من عدم الإجزاء عند انكشاف خطأ الحكم الظاهريّ بين الانكشاف بطريق القطع أو بطريق الظنّ المعتبر شرعا. (١)

والإجماع في المقام غير ثابت مضافا إلى أنّه محتمل المدرك كما لا يخفى.

ومنها : ما في المحاضرات من التفصيل بين الأمارات والاصول القائمة على الشبهات الموضوعيّة كالبيّنة واليد وما شاكلهما ممّا يجري في تنقيح الموضوع وإثباته والأمارات والاصول القائمة على الشبهات الحكميّة.

وذهب إلى أنّ الاولى خارجة عن محلّ البحث بدعوى أنّ السبب في ذلك أنّ قيام تلك الأمارات على شيء لا يوجب قلب الواقع عما هو عليه والقائلون بالتصويب في الأحكام الشرعيّة لا يقولون به في الموضوعات الخارجيّة وسيأتي إن شاء الله تعالى في ضمن البحوث الآتية أنّ الإجزاء في موارد الاصول والأمارات غير معقول إلّا بالالتزام بالتصويب فيها والتصويب في الأمارات الجارية في الشبهات الموضوعيّة غير معقول بداهة أنّ البيّنة الشرعيّة إذا قامت على أنّ المائع الفلانيّ خمر مثلا لا توجب انقلاب الواقع عمّا هو عليه من هذه الناحية فلو كان في الواقع ماء لم تجعله خمرا وبالعكس كما إذا قامت على أنّه ماء وكان في الواقع خمرا لم تجعله ماء ، أو إذا قامت على أنّ المال الذي هو لزيد قد نقل منه بناقل شرعيّ إلى غيره ثمّ بعد ذلك انكشف الخلاف وبان أنّه لم ينتقل إلى غيره لم توجب انقلاب الواقع عمّا هو عليه وتغيّره يعني

__________________

(١) الدرر ، ط جديد ١ / ٢٦٠.

٢٤٩

قلب ملكيّة زيد إلى غيره ، أو إذا افترضنا أنّها قامت على أنّ المائع الفلانيّ ماء فتوضّأ به ثمّ انكشف خلافه لم يكن مجزيا ، لما عرفت من أنّها لا توجب انقلاب الواقع ولا تجعل غير الماء ماء ، ليكون الوضوء المذكور مجزيا عن الواقع. (١)

وفيه : أنّ المقصود من جريان الأمارات والاصول في الموضوعات هو ترتيب الآثار الواقعيّة عليها في الظاهر لا تغيير الموضوعات وقلبها عمّا هو عليها في الواقع بحسب الوجود وتغيّر الآثار والأحكام الخاصّة الجزئيّة كتغيّر الآثار والأحكام الكلّيّة فإن كان التغيّر في الأحكام الكلّيّة جائزا ففي الأحكام الخاصّة الجزئيّة أيضا يكون جائزا وإن لم يكن فيها ممكنا ففي الخاصّة أيضا لم يكن ممكنا.

فلا وجه للفرق بينهما إلّا من جهة أنّ التصويب في بعض صوره مجمع على بطلانه في الأحكام دون الموضوعات فأمر التصويب في الآثار والأحكام في الموضوعات أهون من التصويب في الأحكام الكلّيّة.

وقد صرّح في منتهى الاصول بإمكان القول بالسببيّة والموضوعيّة في الأمارات القائمة على الموضوعات ولكن ذهب إلى خلافه من جهة عدم مساعدة ظواهر الأدلّة فراجع. (٢)

ومنها : ما في التنقيح من أنّ موارد قاعدة لا تعاد خارجة عن محلّ البحث فإنّها مع العلم بالمخالفة محكومة بالدليل الخاصّ على الإجزاء كما إذا صلّى من دون سورة معتقدا أنّ فتوى مجتهده ذلك ثمّ علم فتواه وجوب السورة في الصلاة فإنّه لا تجب عليه إعادة صلاته أو قضائها لحديث لا تعاد بناء على شمول «لا تعاد» للجاهل القاصر. (٣)

__________________

(١) المحاضرات ٢ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٢) منتهى الاصول ١ / ٢٥٤.

(٣) التنقيح ١ / ٤٨.

٢٥٠

وفيه أوّلا : أنّ الأوامر الظاهريّة التي تجري فيها قاعدة «لا تعاد» لا تكون مستثناة عمّا يبحث عنه في الأوامر الظاهريّة من حيث نفسها لو لا قاعدة «لا تعاد» كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ المثال المذكور ليس محلّ النزاع لأنّه من موارد توهّم الأمر بل اللازم هو تبديل المثال بما إذا صلّى المجتهد من دون سورة من جهة استنباطه عدم جزئيّتها ثمّ كشف الخلاف وعلم أنّها جزء الصلاة.

ومنها : ما في التنقيح أيضا من أنّ بطلان العمل إذا كان مستندا إلى استكشاف المجتهد أو استنباط المجتهد الثاني من الأدلّة يكون محلّ النزاع أمّا إذا كان مستندا إلى الاحتياط وأصالة الاشتغال فلا مورد للكلام بالنسبة إلى عدم وجوب القضاء في خارج الوقت بناء على أنّه بأمر جديد إذ موضوعه هو الفوت ومع الإتيان به في الوقت على طبق الحجّة الشرعيّة لا يمكن إحراز الفوت بوجه لاحتمال أن يكون ما أتى به مطابقا للواقع ومع عدم إحراز الفوت يرجع إلى أصالة البراءة عن وجوب القضاء فهذه الصورة أيضا ينبغي أن تكون خارجة عن محلّ النزاع. (١)

وهو كذلك بناء على عدم وجوب القضاء في خارج الوقت إلّا بأمر جديد ووحدة المطلوب وأمّا إذا كان المطلوب متعدّدا فبعد انقضاء الوقت بقي مطلوبيّة أصل العمل ولو بالاستصحاب فمن ذهب إلى الاشتغال في الوقت فعليه أن يذهب إليه في خارج الوقت كما لا يخفى.

الأمر الثاني : في إجزاء الاصول الظاهريّة :

ذهب جماعة إلى أنّ الاصول الظاهريّة كقاعدة الطهارة والحلّيّة والاستصحاب

__________________

(١) التنقيح ١ / ٥٠ ـ ٤٩.

٢٥١

بناء على كونه بناء عمليّا على ترتيب آثار المتيقّن لا أصلا محرزا وغيرها حاكمة بالنسبة إلى أدلّة الشرائط والأجزاء كقوله عليه‌السلام : لا صلاة إلّا بطهور ، فإذن قوله عليه‌السلام كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر يكون حاكما على قوله عليه‌السلام لا صلاة إلّا بطهور ، ومبيّنا لدائرته وأنّه أعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة.

وجه ذلك أنّ الحكم بالطهارة مثلا حكم بترتيب آثارها ومنها الشرطيّة فإذا ضمّ هذا الحكم إلى أدلّة الأجزاء والشرائط يستفاد منه عرفا أنّ المقصود هو التوسعة في الشرطيّة ومن المعلوم أنّ ضمّ غير الواقع إلى الواقع ليس له كشف الخلاف فإذا أتى بالعمل مع هذا الشرط التعبّديّ أتى به مع شرطه إذ الشرط أعمّ من الواقعيّ والظاهريّ وانكشاف عدم الطهارة الواقعيّة لا يوجب لانكشاف فقدان العمل لشرطه إذ المفروض أنّ العمل اتي به مع الطهارة الظاهريّة التي جعلت لها الشرطيّة أيضا بالأدلّة الحاكمة نعم إذا انكشف عدم الطهارة الواقعيّة ارتفع موضوع الطهارة الظاهريّة من ذلك الحين فلا تبقى الطهارة الظاهريّة مع ارتفاع الجهل وأمّا العمل فقد اتي به مع شرطه في حال الجهل وهو الطهارة الظاهريّة.

وبعبارة موجزة أنّ الطهارة الواقعيّة كما أنّها شرط في جميع الأحوال بالنسبة إلى العمل كذلك تكون الطهارة الظاهريّة في حال الجهل ما لم ينكشف خلاف الطهارة واقعا شرطا للعمل ، فدائرة شرطيّة الطهارة الظاهريّة محدودة بحدود وجود الجهل بالواقع بخلاف دائرة الطهارة الواقعيّة فلا كشف الخلاف بالنسبة إلى الطهارة الظاهريّة في موضوعها. فالصلاة المأتيّ بها في المشكوك المحكوم بالطهارة واجدة لما هو الشرط واقعا وحقيقة لا ظاهرا بحيث يمكن كشف الخلاف فيه لأنّ بعد حكومة قاعدة الطهارة صار الشرط أعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة ولا يقبل ما فرض فيه الشرط أعمّ من الخطأ لأنّ الطهارة الظاهريّة معتبرة واقعا من حيث نفسها لا من حيث كونها طريقة إلى الطهارة الواقعيّة.

٢٥٢

اورد عليه أوّلا بالنقوض :

منها : أنّ لازم ذلك هو القول بطهارة الملاقي للمشكوك طهارته بعد العلم بالنجاسة أو القول بنجاسة الملاقي للمشكوك نجاسته بعد العلم بالطهارة فيما إذا استصحبت النجاسة.

واجيب عن ذلك بأنّ القائل بالإجزاء لا يدّعي أنّ أصالة الطهارة مثلا حاكمة على أدلّة النجاسات وأنّها في زمان الشكّ طاهرة بل يقول أنّها محفوظة في واقعيّتها وأنّ ملاقيها نجس حتّى في زمان الشكّ لكن يدّعي حكومتها على دليل شرطيّة طهارة ثوب المصلّي واعتبار أنّه لا بدّ أن يكون طاهرا وخلاصة حكومتها أنّ ما هو نجس واقعا يجوز ترتيب آثار الطهارة عليه في ظرف الشكّ ومن تلك الآثار إتيان الصلاة المشروطة بها لكن بلسان تحقّق الطهارة ولازمه تحقّق مصداق المأمور به لأجل حكومتها على أدلّة الشرائط والموانع وعليه فالخلط بين المقامين أوقع المستشكل فيما أوقعه وقد عرفت أنّ الحكومة بين القاعدة ودليل شرطيّة طهارة لباس المصلّي وبدنه لا بينها وبين أدلّة النجاسات إذ الحكومة عليها باطلة بضرورة الفقه. (١)

بل يمكن الجواب أيضا كما في نهاية الاصول بأنّ الحكم الظاهريّ إنّما يثبت مع انحفاظ الشكّ وأمّا بعد زواله فينقلب الموضوع فالملاقي ايضا يحكم بطهارته ما دام الشك واما بعد زواله فيحكم بنجاسة كلّ من الملاقيّ والملاقى. (٢)

وبعبارة اخرى أنّ الحكم بالطهارة مع انحفاظ الشكّ وأمّا بعد زواله فينقلب الموضوع ويتغيّر حكمه من دون حاجة إلى تجدّد الملاقاة فالحكم الواقعيّ وهو النجاسة يسقط عن الفعليّة بوجود الحكم الظاهريّ فيكون الحكم الفعليّ حال جريان

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول ١ / ١٩٤.

(٢) نهاية الاصول ١ / ١٣١.

٢٥٣

الحكم الظاهريّ هو الحكم الظاهريّ فإذا زال موضوع الحكم الظاهريّ صار الواقع فعليّا فالنجس حال جريان قاعدة الطهارة ليس بنجس فعليّ فإذا ارتفع موضوع قاعدة الطهارة صار فعليّا فالحكومة بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة تؤثّر في سقوط الواقع عن الفعليّة ولا ضير في القول بذلك ولا يكون باطلا بضرورة الفقه لأنّ ذلك هو المقول في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ ولا يلزم منه التصويب المحال أو المجمع على بطلانه لأنّ الحكم غير الفعليّ موجود في الواقع.

ولكن مقتضى هذا الكلام هو القول بتغيير الحكم في مثل الصلاة التي تؤتى بها مع الطهارة الظاهريّة أيضا بعد كشف الخلاف والعلم بأنّ الثوب نجس إذ موضوع الحكم الظاهريّ وهو الجهل بالواقع يرتفع بكشف الخلاف ومع ارتفاع الجهل ينقلب الموضوع ويتغيّر حكمه وتصير الصلاة محكومة بالبطلان كما أنّ الملاقي بمجرّد كشف الخلاف يصير محكوما بالنجاسة أو بالطهارة عند ظهور الخلاف مع عدم تجدّد الملاقاة.

إلّا أن يقال أن ذلك صحيح لو لا حكومة الاصول الظاهريّة على أدلّة الشروط والأجزاء فمع حكومتها عليها فلا تصير الصلاة محكومة بالبطلان بل هي مجزية لأنّها اتيت بها مع شرطها حال كون موضوع الحكم الظاهريّ موجودا والمفروض بعد الحكومة هو شرطيّة الطهارة الظاهريّة أيضا.

فلا حاجة في الجواب عن النقض المذكور بنفي الحكومة بالنسبة إلى الواقعيّات وتخصيصها بأدلّة الشروط والأجزاء.

ربما يقال : لا مجال لحكومة الاصول الظاهريّة بالنسبة إلى الواقعيّات لأنّها متأخّرة عنها بسبب أخذ الشكّ في موضوعها فمع اختلاف الرتبة يستحيل أن تكون الاصول الظاهريّة معمّمة أو مخصّصة بالنسبة إلى الواقعيّات. هذا بخلاف ما إذا كانت الاصول الظاهريّة حاكمة بالنسبة إلى أدلّة الشروط والأجزاء فإنّها معها في رتبة

٢٥٤

واحدة.

واجيب عن ذلك بأنّه لا مجال لدعوى الاستحالة بعد كون الأحكام مطلقا سواء كانت ظاهريّة أو واقعيّة من الامور الاعتباريّة التي لا تضادّ بينها إلّا باعتبار مباديها من الإرادة أو الكراهة أو باعتبار مقام امتثالها فرفع اليد عن فعليّة الأحكام الواقعيّة بسبب حكومة الاصول الظاهريّة لا استحالة فيه إذ تتعلّق الإرادة بها كذلك ويتمكّن المكلّف من الامتثال للأحكام الظاهريّة بعد سقوط الواقعيّات عن الفعليّة بقيام الاصول الظاهريّة كما يتمكّن من الامتثال للأحكام الواقعيّة بعد سقوط الظاهريّة بارتفاع موضوعها وفعليّة الواقعيّات وبالجملة فالواقعيّات والظاهريّات لا تجتمعان في الفعليّة فلا استحالة لا من جهة نفس الأحكام ولا من جهة مباديها ولا من جهة الامتثال وعليه فمعنى الحكومة هو توسعة المأمور به وإسقاط الشرطيّة الواقعيّة وجعل فرد طوليّ لما هو المأمور به.

ومنها : أنّ لازم الإجزاء والحكومة هو أنّه لو توضّأ بماء قد حكم بطهارته من جهة قاعدة الطهارة أو استصحابها ثمّ انكشف نجاسته هو الحكم بصحّة الوضوء وعدم وجوب إعادته لأنّ الوضوء مشروط بأن يكون بماء طاهر ومقتضى جريان قاعدة الطهارة أو استصحابها على الحكومة هو التوسعة في الطهارة المشروطة في الماء فمع حكومتهما بالنسبة إلى اشتراط الطهارة في الماء وأعمّيّتها من الطهارة الظاهريّة أتى الوضوء بماء طاهر مع وجود شرطه فلا وجه لبطلانه مع أنّ أحدا من الفقهاء لم يلتزم بذلك بل ذهب إلى لزوم إعادة الوضوء.

ويمكن الجواب عنه بما مرّ عن نهاية الاصول من أنّ حكومة الاصول الظاهريّة موقوفة على وجود الموضوع وهو الشكّ فإذا انكشف الخلاف وعلم بنجاسة الماء ارتفع حكومتها ومع ارتفاع الحكومة لا يحكم بطهارة من توضّأ بالماء المذكور ، ومع عدم طهارة من توضّأ بذلك الماء لا يصحّ إتيان العبادة مع الوضوء المذكور فتجب

٢٥٥

إعادة الوضوء. نعم كلّ عبادة أتى بها في حال الشكّ بالوضوء المذكور يحكم بصحّتها لحكومة الاصول الظاهريّة بالنسبة إلى أدلّة اشتراط العبادة بالطهارة المائيّة.

وممّا ذكر يظهر الجواب أيضا عن النقض بأمثاله كما إذا غسل ثوبه أو بدنه بماء قد حكم بطهارته من جهة قاعدة الطهارة أو استصحابها ثمّ انكشف نجاسة الماء فإنّ حكومة الاصول الظاهريّة على أدلّة اشتراط طهارة الماء في حصول طهارة المغسول تقتضي الحكم بحصول الطهارة للثوب النجس فيما إذا غسل بالماء المشكوك طهارته ولكنّه ثابت مع انحفاظ الشكّ فإذا زال الشكّ انقلب الموضوع ومع انقلاب الموضوع لا مجال للحكومة فيحكم بنجاسة الثوب الموجود المغسول بالماء الذي كشف نجاسته نعم لو أتى بعمل مشروط بالطهارة مع الثوب المذكور في حال بقاء الموضوع والشكّ حكم بصحّته لوجود الشرط حال الشكّ حكومة.

وهكذا يمكن الجواب عن النقض بما «إذا افترضنا أنّ زيدا كان يملك دارا مثلا ثمّ حصل لنا الشكّ في بقاء ملكيّته فأخذنا باستصحاب بقائها ثمّ اشتريناها منه وبعد ذلك انكشف الخلاف وبان أنّ زيدا لم يكن مالكا لها فمقتضى الحكومة هو الحكم بصحّة هذا الشراء لفرض أنّ الاستصحاب حاكم على الدليل الواقعيّ وأفاد التوسعة في الشرط وجعله أعمّ من الملكيّة الواقعيّة والظاهريّة مع أنّه لا يلتزم بذلك أحد حتّى القائل بالحكومة».

وذلك لأنّ موضوع الحكومة هو الشكّ فمع انقلاب الموضوع والعلم بعدم مالكيّة البائع لا حكومة نعم لو أتى بعمل عباديّ مشروط بالملكيّة كملكيّة الثوب وإباحته في حال الشكّ لكان صحيحا لأنّ الملكيّة بعد فرض وجود الحاكم أعمّ من الملكيّة الواقعيّة فالعمل اتي به مع وجود شرطه.

لا يقال : مقتضى ما ذكر هو الحكم بصحّة المعاملات المتعاقبة في حال الشكّ أيضا لأنّها كانت واقعة في حال الشكّ وحكومة الاصول الظاهريّة.

٢٥٦

لأنّا نقول : أنّ الأعيان المتبادلة بعد ارتفاع موضوع الحكومة حيث تكون موجودة بخلاف الأعمال العباديّة الماضية فلا حاكم على كونها متبادلة بالملكيّة بل مقتضى كشف الخلاف هو بقائها على ملكيّة مالكها الأصليّ كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ الحكومة ليست مختصّة بأدلّة الشروط بل تجري في الأدلّة الأوّليّة الدالّة على نجاسة الأشياء وطهارتها وحلّيّتها وحرمتها ونحوها ولكنّها تدور مدار بقاء الموضوع وهو الشكّ في الحكم الواقعيّ.

وهكذا يمكن الجواب عن النقض بأنّ لازم الإجزاء هو أنّه لو توضّأ بماء نجس ظاهرا بالاستصحاب مثلا ولو رجاء ثمّ انكشف الخلاف كان وضوؤه باطلا إذ كما يفرض توسيع الشرطيّة الواقعيّة للطهارة كذلك ينبغي أن يفرض توسيع المانعيّة الواقعيّة للنجاسة. (١)

مع أنّه لم يقل به أحد.

وذلك لأنّ الحكم بالمانعيّة ما دام يكون الموضوع محفوظا وهو الشكّ وأمّا مع ارتفاع الشكّ وظهور كون الماء طاهرا في الواقع لا يبقى حكم وحيث أنّ الوضوء اتي بالماء المذكور مع قصد القربة ووجود الملاك والمفروض ارتفاع الحكم بالبطلان بارتفاع الموضوع وهو الشكّ يحكم بصحّة الوضوء وبعبارة اخرى لا يخرج بالاستصحاب المذكور الماء الذي يكون طاهرا في الواقع عن الملاك بل هو حال جريان الاستصحاب صار محكوما وغير فعليّ ومع عدم خروجه عن الملاك وتحقّق الوضوء في هذا الحال وارتفاع موضوع الحكم لا يبقى مانع من فعليّة صحّة الوضوء كما لا يخفى.

نعم لو أتى بعمل مشروط بالطهارة في حال جريان الاستصحاب المذكور كان

__________________

(١) بحوث في علم الاصول ٢ / ١٥٩.

٢٥٧

مقتضى حكومة الاصول الظاهريّة على الأحكام الواقعيّة هو البطلان لأنّ العمل في هذا الحال محكوم بعدم إتيانه مع شرطه كما إذا أتى بعمل مشروط بالطهارة في حال جريان استصحاب الطهارة كان مقتضى الاصول الظاهريّة هو الصحّة لأنّ العمل في هذا الحال محكوم بإتيانه مع وجود شرطه وهذا هو مقتضى الحكومة فلا تغفل.

وهنا اشكال

وهو كما في المحاضرات أنّ الأحكام الظاهريّة لا تنافي الأحكام الواقعيّة إذ الحكم لم ينشأ عن المصلحة في متعلّقه وإنّما نشأ عن المصلحة في نفسه ولا يجتمعان أيضا في مرحلة الامتثال لكي لا يقدر المكلّف من الامتثال إذ الحكم الظاهريّ إنّما هو وظيفة من لم يصل إليه الحكم الواقعيّ لا بعلم وجدانيّ ولا بعلم تعبّديّ وأمّا من وصل إليه الحكم الواقعيّ فلا موضوع عندئذ للحكم الظاهريّ في مادّته فلا يجتمعان في مرحلة الامتثال لكي تقع المنافاة بينهما في هذه المرحلة.

وعلى ضوء هذا الأساس فلو صلّى المكلّف مع طهارة البدن أو الثياب ظاهرا بمقتضى قاعدة الطهارة أو استصحابها وكان في الواقع نجسا فصلاته وإن كانت في الظاهر محكومة بالصحّة ويترتّب عليها آثارها إلّا أنّها باطلة في الواقع لوقوعها في النجس وعليه فإذا انكشف الخلاف انكشف أنّها فاقدة للشرط من الأوّل وأنّه لم يأت بالصلاة المأمور بها واقعا وأنّ ما أتى به ليس مطابقا لها فإذن بطبيعة الحال تجب الإعادة أو القضاء والإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهريّ إنّما يكون عذرا له في تركها ما دام بقاء الجهل والشكّ وأمّا إذا ارتفع وانكشف الحال لم يكن معذورا في تركها فالأحكام الظاهريّة في الحقيقة أحكام عذريّة فحسب.

وليست أحكاما في الحقيقة في قبال الأحكام الواقعيّة والمكلّف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها ما دام الجهل وإذا ارتفع ارتفع عذره وبعده لا يكون معذورا في ترك الواقع وترتيب آثاره عليه من الأوّل.

٢٥٨

وأمّا حديث حكومة تلك القواعد على الأدلّة الواقعيّة كما تقدّم ذكره فلا يجدي والسبب في ذلك هو أنّ هذه الحكومة حكومة ظاهريّة موقّتة بزمن الجهل بالواقع والشكّ فيه وليست بحكومة واقعيّة لكي توجب توسعة الواقع أو تضييقه ونتيجة هذه الحكومة بطبيعة الحال ترتيب آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف فإذا انكشف فلا بدّ من العمل على طبق الواقع .. إلى أن قال :

بداهة أنّ لسانها ليس إثبات أنّ الشرط أعمّ منها بل لسانها إثبات آثار الشرط ظاهرا في ظرف الشكّ والجهل ، وعند ارتفاعه وانكشاف الخلاف ظهر أنّ الشرط غير موجود.

ومن هنا يظهر أنّ هذه الحكومة إنّما هي حكومة في طول الواقع وفي ظرف الشكّ بالإضافة إلى ترتيب آثار الشرط الواقعيّ عليها في مرحلة الظاهر فحسب وليست بحكومة واقعيّة بالإضافة إلى توسعة دائرة الشرط وجعله الأعمّ من الواقع والظاهر حقيقة. (١)

يمكن الجواب عنه :

أوّلا : كما في نهاية الاصول بأنّه لا ريب في أنّ المستفاد من الأدلّة الواردة في الاصول الظاهريّة كون الصلاة أو الحجّ أو نحوهما بالنسبة إلى هذا المكلّف عبارة عن نفس ما يقتضيه وظيفته الظاهريّة فقوله مثلا كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ظاهر في أنّه يجوز للمكلّف ترتيب جميع آثار الطهارة على الشيء المشكوك فيه ومن جملتها شرطيّتها للصلاة فيكون مفاده جواز إتيان الصلاة في الثوب المشكوك في طهارته وبعبارة اخرى ليس هذا الكلام إخبارا بالواقع المشكوك فيه وإلّا لزم الكذب في بعض مصاديقه فيكون المراد منه وجوب ترتيب آثار الطاهر الواقعيّ على الشيء

__________________

(١) المحاضرات ٢ / ٢٥٨ ـ ٢٥٦.

٢٥٩

المشكوك فيه.

ولأجل ذلك ترى أنّه يتوقّف صحّة هذا الكلام على كون الطهارة ذات آثار بحسب الواقع ومن جملة آثارها توقّف الصلاة عليها وحينئذ فهل يكون المتبادر من هذا الكلام أنّ المكلّف يعد إتيانه الصلاة في الثوب المشكوك فيه قد أدّى وظيفته الصلاتيّة وامتثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، أو أنّه عمل عملا يمكن أن يكون صلاة وأن يكون لغوا ويكون الصلاة باقية في ذمّته؟

لا إشكال في أنّ المتبادر هو أنّ الصلاة في حقّ هذا الشخص عبارة عمّا أتى به وأنّه قد عمل وظيفته الصلاتيّة وأوجد الفرد المأمور به فقوله عليه‌السلام : لا ابالي أبول أصابني أم ماء ، لا يتبادر منه أنّي لا ابالي وقع الصلاة منّي أم لا ، بل المتبادر منه كون المشكوك فيه طاهرا بالنسبة إلى الشاكّ وأنّ العمل المشروط إذا فعله مع هذه الطهارة الظاهريّة يكون منطبقا للعنوان المأمور به وأنّ المصلّي فيه يكون من المصلّين لا أنّه يمكن أن لا يكون مصلّيا غاية الأمر كونه معذورا في المخالفة. (١)

وإليه يؤول ما في مناهج الوصول حيث قال في توضيح مفاد قاعدة الطهارة والحلّيّة مفاده جواز ترتيب آثار الطهارة على المشكوك فيه بلسان تحقّقه فيفهم منه عرفا أنّ الصلاة المشروطة بالطهارة يجوز الإتيان بها في حال الشكّ بهذه الكيفيّة ويكون المأتيّ به مع هذه الكيفيّة مصداقا للصلاة المأمور بها وواجدا لما هو شرطها وهو معنى الإجزاء.

لا يقال : هذا إذا لم ينكشف الواقع.

فإنّه يقال : لا معنى لانكشاف الخلاف هاهنا لأنّ الأصل ليس طريقا للواقع

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ١٢٧.

٢٦٠