عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

في ناحية هيئة الأمر أيضا كما لا يخفى بل الحكم بالفوريّة وعدمها كالحكم بالوجوب وعدمه خارجان عن مفاد الصيغة وإنّما يستفاد من أحكام العقلاء فلا تغفل.

فتحصّل أنّ الأظهر أنّ مقتضى صيغة الأمر بحكم العقلاء هو الإتيان فورا ففورا من دون أن يكون قيد الفوريّة داخلا في المادّة أو الهيئة.

بقي شيء :

وهو أنّ النزاع هل يعمّ الأمر الندبيّ أو لا؟

والحقّ أن يقال : إنّ النزاع وإن كان في الأمر اللزوميّ ولكنّه لا فرق فيما ذكر بين كون الأمر لزوميّا أو غيره فإنّ مقتضى كون البعث الإنشائيّ كالبعث الخارجيّ هو الفور فإذا أمر ندبا كان مقتضاه أيضا هو الفور بل لو لم يأت به في أوّل الأزمنة فمقتضى عدم كون قيد الفور قيدا للمادّة ولا للهيئة هو بقاء البعث ومقتضى بقائه هو الفوريّة أيضا وهكذا ، هذا إذا لم تقم قرينة على الخلاف وأمّا معها كما هو كثير فلا يكون مقتضيا للفور كما لا يخفى.

قال الميرزا الشيرازيّ قدس‌سره : ثمّ إنّ اتّصاف الطلب الإيجابيّ بكلّ من صنفي الفور والتراخي واضح فهل يتّصف بهما الطلب الندبيّ أيضا؟

الظاهر نعم فإنّ معنى الطلب الندبيّ إنّما هو إظهار الشوق إلى الفعل مع الرخصة في تركه ويمكن أن يكون ذلك الشوق مشتملا على الشوق إلى وقوعه في أوّل الأزمنة أيضا .. إلى أن قال :

فثبت جواز اتّصاف الطلب الندبيّ بالفور فإذا ثبت ذلك ثبت جواز اتّصافه بالتراخي أيضا فإنّه مقابل له.

فعلى هذا فيمكن تعميم النزاع بالنسبة إلى الأمر الندبيّ لكن كلماتهم في المقام لا تساعد عليه بل ظاهرة في اختصاص النزاع بالإيجابيّ منه لكن بعد ظهور الحال في

٢٠١

الإيجابيّ يظهر الحال في الندبيّ أيضا لفقد ما يوجب الفرق بينهما فإنّ جهة الوجوب والندب غير جهة الفور والتراخي فلا ملازمة بينهما فافهم. (١)

ولقد أفاد وأجاد في تعميم البحث ، هذا مع الغمض عمّا فيه من كون الفوريّة من قيود الطلب وأوصافه كما عرفت التحقيق فيه.

__________________

(١) تقريرات الميرزا ٢ / ١٢٤.

٢٠٢

الخلاصة :

والحق أنّ البعث الإنشائيّ كالبعث الخارجيّ فكما أنّ البعث الخارجيّ يفيد الفوريّة فكذلك البعث الإنشائيّ والفوريّة المذكورة كالوجوب والندب من الأمور المنتزعة من البعث بحكم العقلاء من دون أن تكون مأخوذة في الهيئة أو المادّة.

إذ البعث من المولى كما يكون موضوعا لحكم العقلاء بتماميّة الحجّة على لزوم الإتيان فانتزع من هذا الحكم عنوان الوجوب فكذلك يكون موضوعا لحكمهم بالفوريّة وعدم جواز التراخي فيه ما لم تكن قرينة على الخلاف.

ثمّ إنّ مقتضى ما ذكر لزوم الإتيان بمتعلّق الأوامر فورا ففورا بحيث لو عصى في الآن الأوّل لوجب عليه الإتيان به فورا في الزمان الثاني وهكذا.

وذلك لما عرفت من أنّ البعث الإنشائيّ كالبعث الخارجيّ فكما أنّ البعث الخارجيّ ما دام باقيا يكون موضوعا عند العقلاء للفور فالفور فكذلك البعث الإنشائيّ القائم مقامه يكون موضوعا لحكمهم بالفور فالفور.

وينقدح ممّا ذكر من أنّ الفور وهكذا الفور فالفور كالوجوب والندب أنّهما ليسا داخلين في الهيئة ولا في المادّة لا بالوضع ولا بنحو آخر بل يكونان من الامور الانتزاعيّة تبعا لانتزاعيّة الوجوب والندب.

ثمّ إنّ النزاع في الفور والتراخي وإن اختصّ بحسب كلماتهم بالأوامر الوجوبيّة ولكن بعد ما ذكرناه في الأوامر الوجوبيّة يظهر الحال في الأوامر الندبيّة أيضا لعدم الفرق بينهما في عدم كونهما من قيود الطلب أو المادّة وإنّما يستفادان من حكم العقلاء بعد تحقّق موضوع حكمهم بإنشاء البعث فلا تغفل.

٢٠٣

الفصل الثالث : في الإجزاء

وقبل الخوض في تفصيله لا بدّ أن نلاحظ امورا :

«أحدها :» أنّ أصحابنا الاصوليّين اختلفوا في تحرير محلّ النزاع فعنونه جمع منهم بأنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟

وعنونه صاحب الفصول تبعا عن الأكثرين على المحكي بأنّ الأمر بالشيء إذا اتي به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أو لا؟

واختار الأوّل صاحب الكفاية حيث قال : الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة بلا شبهة.

واستوجهه المحقّق الأصفهانيّ بأنّ الإجزاء من مقتضيات إتيان المأمور به وشئونه لا من مقتضيات الأمر ولواحقه بداهة أنّ مصلحة المأمور به المقتضية للأمر إنّما تقوم بالمأتيّ به فتوجب سقوط الأمر إمّا نفسا أو بدلا فاقتضاء سقوط الأمر قائم بالمأتيّ به لا بالأمر ومجرّد دخالة الأمر كي يكون المأتيّ به على طبق المأمور به لا يوجب جعل الأمر موضوعا للبحث بعد ما عرفت من أنّ الاقتضاء من شئون المأتيّ به لا الأمر فجعل الأمر موضوعا وإرجاع الاقتضاء إليه بلا وجه. (١)

هذا مضافا إلى ما في تهذيب الاصول من أنّ جعل النزاع في دلالة لفظ الأمر

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٢٢١.

٢٠٤

بعيد عن الصواب جدّا ، أمّا عدم المطابقة والتضمّن فظاهران إذ لا أظنّ أن يتوهّم أحد أنّ الأمر بمادّته أو هيئته يدلّ على الإجزاء إذا أتى المكلّف بالمأمور به على وجهه بحيث يكون هذا المعنى بطوله عين مدلوله أو جزئه.

وأمّا الالتزام فبمثل ما تقدّم وما يقال في تقريبه من أنّ الأمر يدلّ على أنّ المأمور به مشتمل على غرض للآمر ولا محالة أنّ ذلك الغرض يتحقّق في الخارج بتحقّق المأمور به وحينئذ يسقط الأمر لحصول ذلك الغاية مدفوع بأن عدّ تلك القضايا الكثيرة العقليّة من دلالة الأمر عليها التزاما لا مجال للالتزام به إذ جعلها من المداليل الالتزاميّة يتوقّف على كونها من اللوازم البيّنة حتّى يجعل من المداليل الالتزاميّة بالمعنى المصطلح مع أنّ المقدّمتين المذكورتين في كلامه قد تشاجرت في صحّتهما الأشاعرة والمعتزلة فكيف يكون أمرا بيّن الثبوت. (١)

وعليه فيكون البحث عن علّيّة الإتيان للإجزاء عقليّا ويناسب المباحث العقليّة الاصوليّة ولا يرتبط بمباحث الألفاظ كما لا يخفى.

ويمكن أن يقال : إن كان البحث في إجزاء إتيان المأمور به بالنسبة إلى أمر نفسه سواء كان واقعيّا أو اضطراريّا أو ظاهريّا فهو كذلك لأنّ البحث حينئذ راجع إلى علّيّة الإتيان للإجزاء ويكون بحثا عقليّا ولا يرتبط بمباحث الألفاظ ولكن حيث كان اقتضاء الإتيان للإجزاء بالنسبة إلى أمر نفسه من البديهيّات فلا يصلح ذلك أن يكون محلّ النزاع كما قال في الوقاية :

إنّ إجزاء كلّ أمر عن نفسه إذا اتي به على وجهه أي مستجمعا لجميع الشرائط والأجزاء المأخوذة في موضوعه ينبغي أن يعدّ من البديهيّات ضرورة حصول متعلّقه

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٧٧.

٢٠٥

فطلبه مع ذلك طلب الحاصل ولا يشكّ في امتناعه العاقل. (١)

فإذا لم يكن ذلك محلّ النزاع فلا بدّ أن يكون النزاع في أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ أو الأمر الظاهريّ هل يكون مجزيا عن الأوامر الواقعيّة أم لا؟

وهذا النزاع كما صرّح به سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره في بعض كلماته يرجع لا محالة إلى النزاع في دلالة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء بتنقيح موضوع الأوامر الاختياريّة والواقعيّة بنحو الحكومة فيلاحظ لسان أدلّتها بأنّه هل تدلّ على التوسعة في المأمور به أو لا؟ (٢)

وهذا النزاع أمر معقول وليس من المباحث العقليّة إذ البحث حينئذ في أنّ إطلاق أدلّة اعتبار الأوامر الاضطراريّة أو الظاهريّة هل يكون في مقام بيان إجزاء الأوامر الاضطراريّة أو الظاهريّة عن الأوامر الواقعيّة أم لا؟

ومن المعلوم أنّ هذا البحث يكون من مباحث الألفاظ ولا ارتباط له بدلالة نفس الأمر على الإجزاء بالمطابقة أو التضمّن أو الالتزام حتّى يقال أنّه خلاف الوجدان بل البحث في مفاد أدلّة اعتبار الأوامر.

اللهمّ إلّا أن يقال كما في تهذيب الاصول : إنّ جعل البحث في الأمر الظاهريّ أو الواقعيّ الثانويّ في الدلالات اللفظيّة من التوسعة وتنقيح الموضوع بالحكومة ممّا أحدثه المتأخّرون من الاصوليّين فلا يجوز حمل كلام القوم عليه. (٣)

هذا مضافا إلى ما في الكفاية من قوله : نعم لكنّه لا ينافي كون النزاع فيهما (أي الأمر الاضطراريّ والظاهريّ) كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدّم (أي الاقتضاء بنحو

__________________

(١) الوقاية ١ / ١٩٦.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ١٧٨.

(٣) تهذيب الاصول ١ / ١٧٨.

٢٠٦

العلّيّة والتأثير) غايته أنّ العمدة في سبب الاختلاف فيهما إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما هل أنّه على نحو يستقلّ العقل بأنّ الإتيان به موجب للإجزاء ويؤثّر فيه وعدم دلالته. انتهى

وعليه فالنزاع في اقتضاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ للإجزاء بالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة جائز وهذا النزاع أمر معقول ولا يكون بديهيّا ويجوز حمل كلام القوم عليه ولازم ذلك هو الاختلاف في سببه أيضا وهو كيفيّة دلالة دليلهما ونسبة الغفلة إليهم من هذه الجهة كما ترى.

وعليه فالتحقيق أن يقال : إنّ للمسألة حيثيّتين :

إحداهما : حيثيّة دلالة أدلّة اعتبار الأوامر الظاهريّة أو الاضطراريّة على تنقيح الموضوع بالحكومة وبهذا الاعتبار يكون النزاع في الدلالة ومن مباحث الألفاظ.

وثانيتهما : حيثيّة اقتضاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ للإجزاء عن الأوامر الواقعيّة وحيث كان اقتضاء الإتيان المذكور بنحو العلّيّة والتأثير على ما قيل يكون البحث بهذا الاعتبار في الاقتضاء العقليّ ومن المباحث العقليّة فلا تغفل.

وممّا ذكر يظهر ما في المحاضرات حيث قال : إنّ هذه المسألة من المسائل العقليّة كمسألة مقدّمة الواجب ومسألة الضدّ وما شاكلهما والسبب في ذلك هو أنّ الإجزاء الذي هو الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة إنّما هو معلول للإتيان بالمأمور به خارجا وامتثاله ولا صلة له بعالم اللفظ أصلا. (١)

وذلك لما عرفت من أنّ للمسألة حيثيّتين ، فيصحّ جعل المسألة من المسائل العقليّة باعتبار إحداهما ومن المسائل اللفظيّة باعتبار الاخرى.

__________________

(١) المحاضرات ٢ / ٢٢٠.

٢٠٧

وممّا ذكر ينقدح أنّ ذكر المسألة في المباحث اللفظيّة ليس غير مناسب ولا بأجنبيّ فافهم.

«ثانيها» : أنّ نتيجة المسألة الاصوليّة لا بدّ أن تكون كلّيّة وذلك واضح.

قال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره في تعليقته : إنّ مباني المسألة الاصوليّة أيضا لا بدّ أن تكون كلّيّة ولذا استشكل في الأمر الاضطراريّ بأنّ مبناه جزئيّ وليس بكلّيّ لابتنائه على دلالة قوله عليه‌السلام «التراب أحد الطهورين» ، من حيث الإطلاق الملازم للإجزاء وعدمه.

هذا بخلاف الأوامر الظاهريّة فإنّ إجزائها وعدمه مبنيّان على السببيّة والطريقيّة فيمكن تحرير النزاع في الإجزاء وعدمه للسببيّة على الأوّل وللطريقيّة على الآخر ويمكن النزاع في السببيّة والطريقيّة وتفريع الإجزاء وعدمه عليهما وأمّا المأمور به بالأمر الاضطراريّ فليس له دليل كلّيّ ليعمّ كلّ بدل اضطراريّ حتّى يمكن النزاع تارة في الإجزاء وعدمه واخرى في الإطلاق وعدمه وعليه فالبحث عن إجزاء الأوامر الاضطراريّة وعدمه لا يناسب المباحث الاصوليّة.

ثمّ قال : فالصحيح تحرير النزاع في الإجزاء وعدمه كلّيّا حتّى يعمّ جميع الأقسام حتّى المأتيّ به بالإضافة إلى أمره فتدبّر. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ مبنى الأوامر الاضطراريّة لا يختصّ بقوله عليه‌السلام : «التراب أحد الطهورين» إذ التقيّة دينيّ ونفي الضرر ونفي الحرج وقوله عليه‌السلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» وغير ذلك كلّها من مباني تلك الأوامر الاضطراريّة وهي كلّيّة وعليه فلا وجه لجعل مبنى الأوامر الاضطراريّة جزئيّا.

وثانيا : أنّ كلّيّة نفس المسألة من أنّ الأوامر الاضطراريّة مجزية أو ليست

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٢٢٤.

٢٠٨

بمجزية تكفي في إدراجها في المسائل الاصوليّة الكلّيّة لمناسبتها لها مع كلّيّتها.

وثالثا : أنّ تصحيح تحرير النزاع في الإجزاء وعدمه كلّيّا بتعميمه حتّى يعمّ جميع الأقسام حتّى المأتيّ به بالإضافة إلى أمره كما ترى إذ إجزاء المأتيّ به عن أمره من البديهيّات ولا ينبغي النزاع فيه من قبل الأصحاب (قدّس الله أسرارهم).

«ثالثها :» في المراد من قولهم في عنوان البحث : «على وجهه».

ذهب في الكفاية إلى أنّ المراد من «وجهه» في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذلك النهج شرعا وعقلا مثل أن يؤتى به بقصد التقرّب في العبادة لا خصوص الكيفيّة المعتبرة في المأمور به شرعا وإلّا يكون قوله : على وجهه ، قيدا توضيحيّا وهو بعيد مع أنّه يلزم خروج التعبّديّات عن حريم النزاع بناء على المختار كما تقدّم من أنّ قصد القربة من كيفيّات الإطاعة عقلا لا من قيود المأمور به شرعا.

وفيه : منع خروج التعبّديّات بناء على المختار من إمكان اعتبار قصد القربة في المأمور به شرعا لأنّ عنوان المأمور به يعمّ كلّ ما له دخل في المأمور به شرعا وعقلا فلا يكون التعبّديّات خارجة إن كان قوله : على وجهه ، مخصوصا بالكيفيّات المعتبرة الشرعيّة وكان قيدا توضيحيّا.

هذا مضافا إلى إمكان منع كون : على وجهه ، قيدا توضيحيّا لاحتمال أن يكون المقصود به في كلمات السابقين كما أفاد في نهاية الاصول هو ردّ عبد الجبّار (قاضي القضاة في الري من قبل الديالمة) حيث استشكل على الإجزاء بما إذا صلّى مع الطهارة المستصحبة ثمّ انكشف كونه محدثا فإنّ صلاته باطلة غير مجزية مع امتثاله الأمر الاستصحابيّ. ووجه ردّه بذلك أنّ المأمور به في هذا المثال لم يؤت به على وجهه من جهة أنّ الطهارة الحدثيّة بوجودها الواقعيّ شرط. (١)

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ١١٢.

٢٠٩

وعليه فبالقيد المذكور يخرج ما ليس على وجهه واقعا فالقيد لا يكون توضيحيّا.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المأمور به في العنوان إن كان واقعيّا فصحّ أن يقال :

إنّه لم يؤت به على وجهه وإن كان ظاهريّا كما في المثال فهو أتى به على وجهه في الفرض والمعيار في إجزاء الأوامر الظاهريّة هو الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهريّ على وجهه ومن المعلوم أنّ هذا موجود وعليه فلا إخراج حتّى يكون القيد احترازيّا فبناء على المختار من إمكان اعتبار قصد القربة في المأمور به فالقيد أعني «على وجهه» يكون توضيحيّا ولكن لا يلزم منه خروج التعبّديّات ، فتأمّل.

وأمّا ما في تهذيب الاصول من أنّ صاحب الكفاية أراد من القيد ما يعتبر فيه عقلا بالخصوص ففيه أنّه خلاف ظاهر كلامه حيث قال :

الظاهر أنّ المراد «من وجهه» في العنوان هو النهج الّذي ينبغي أن يؤتى به على ذلك النهج شرعا وعقلا.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ تخصيص التوضيح بما إذا اريد بالقيد خصوص الكيفيّة الشرعيّة يدلّ على أنّ القيد لم يكن توضيحيا على ما ذهب إليه فاللازم حينئذ هو إرادة خصوص ما يعتبر به عقلا من قوله «على وجهه» فيرفع اليد به عن ظهور أوّل كلامه ولكنّه لا يخلو عن بعد وتكلّف.

«رابعها :» في معنى الاقتضاء في قولهم : الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أو لا؟

وفي قولهم : إنّ الأمر بالشيء إذا اتي به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟

ولا يخفى عليك أنّ النزاع إن كان في دلالة أدلّة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة فالمراد من الاقتضاء هو الاقتضاء الإثباتيّ وهو ليس إلّا الدلالة فيرجع البحث إلى أنّ الأدلّة المذكورة هل تدلّ على اعتبار المأمور به بالأمر الظاهريّ أو الاضطراريّ

٢١٠

على نحو يفيد الإجزاء أو لا يدلّ؟

وإن كان النزاع في أنّ الإتيان بالمأمور به في الخارج هل يقتضي الإجزاء فقد ذهب صاحب الكفاية إلى أنّ المراد من الاقتضاء حينئذ هو العلّيّة والتأثير ولعلّه من جهة أنّ المأمور به خارجا هو الذي يتحقّق به الغرض ومع تحقّق الغرض حصل علّة سقوط الأمر ورفعه فالإتيان مؤثّر في رفع الأمر وسقوطه ويشكل ذلك كما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره بأنّ المعلوم أنّ المعلول ينعدم بانعدام علّته لا أنّ القائم به الغرض علّة لسقوط الأمر لأنّ الأمر علّة لوجود الفعل في الخارج فلو كان الفعل علّة لسقوط الأمر لزم علّيّة الشيء لعدم نفسه فسقوط الأمر لتماميّة اقتضائه وانتهاء أمده. (١)

وتبعه في تهذيب الاصول حيث قال : وأقصى ما يتصوّر لسقوط الإرادة من معنى صحيح عند حصول المراد هو انتهاء أمدها بمعنى أنّ الإرادة كانت من بدأ الأمر مغيّاة ومحدودة بحدّ خاصّ فعند وصولها إليه لا اقتضاء لها في البقاء لا أنّ لها بقاء والإتيان بالمأمور به قد رفعها وأعدمها كما هو قضيّة العلّيّة كما أنّ الأمر لمّا صدر لأجل غرض وهو حصول المأمور به فبعد حصوله ينفذ اقتضاء بقائه فيسقط لذلك كما هو الحال في إرادة الفاعل المتعلّقة بإتيان شيء لأجل غرض فإذا حصل الغرض سقطت الإرادة لانتهاء أمدها لا لعلّيّة الفعل الخارجيّ لسقوطها والأولى دفعا للتوهّم أن يقال : إنّ الإتيان بالمأمور به هل هو مجز أو لا فتدبّر. (٢)

يمكن أن يقال إنّ انتهاء الأمد وانعدام المعلول بانعدام علّته صحيح في إتيان المأمور به بالنسبة إلى أمر نفسه كإتيان المأمور به بالأمر الواقعيّ بالنسبة إلى أمره الواقعيّ وإتيان المأمور به بالأمر الاضطراريّ بالنسبة إلى أمره الاضطراريّ وإتيان

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٢٢٣.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ١٧٩.

٢١١

المأمور به بالأمر الظاهريّ بالنسبة الى امره الظاهريّ. فإنّ كلّ واحد من هذه الأوامر ينتهي أمده بوجود الغرض وهو وجوده في الخارج وأمّا بالنسبة إلى غير أمره من الأمر الواقعيّ فليس كذلك إذ مع الإتيان بالمأمور به الاضطراريّ أو الظاهريّ لا ينعدم أمد الأمر الواقعيّ مع عدم وجوده في الخارج.

ففي مثله يصحّ أن يقال : أنّ الإتيان بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ هل يؤثّر في رفع الأمر الواقعيّ أو لا؟

فالاقتضاء عليه يكون بمعنى العلّة والتأثير كما أفاده صاحب الكفاية ، وإن كان منشأ ذلك في الحقيقة هو كيفيّة اعتبار الأمر الظاهريّ أو الاضطراريّ بأدلّة اعتبارهما ويرجع البحث إلى دلالة دليل الحكم الظاهريّ أو الاضطراريّ سواء كان أصلا أو أمارة على اشتمال ذلك الحكم على مصلحة تفي بمصلحة الحكم الواقعيّ أو لا يبقى مجالا لاستيفاء ما بقي من مصلحة الحكم الواقعيّ لو لم تف بها فلا تغفل.

«خامسها» : في معنى الإجزاء ؛ ولا يخفى عليك أنّ الإجزاء لغة بمعنى الكفاية ، وفي الاصطلاح بمعنى إسقاط التعبّد بالفعل ثانيا إعادة كان أو قضاء وربما يتوهّم أنّ الإجزاء في عنوان البحث أعني قولهم «يقتضي الإجزاء» بمعنى الاصطلاحيّ مع أنّه لا وجه لرفع اليد عن معناه اللغويّ من دون قرينة كما أفاد الشيخ في محكيّ كلامه وتبعه صاحب الكفاية ، إذ غاية الأمر أنّ متعلّق الإجزاء والكفاية مختلف باختلاف الموارد إذ قد يكون مجزيا وكافيا عن الإعادة كما قد يكون كذلك عن القضاء ومجرّد اختلاف المتعلّق أو المكفي عنه لا يوجب اختلافا في حقيقة الإجزاء وعليه فلازم الكفاية عن الإعادة والقضاء هو كون الإتيان مسقطا لهما فتفسير الإجزاء بإسقاط التعبّد بالفعل ثانيا بالإعادة أو القضاء تفسير الملزوم بلازمه كما لا يخفى.

«سادسها» : في الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرّة والتكرار ومسألة تبعيّة القضاء للأداء :

٢١٢

ربما يتوهّم وحدتهما بدعوى أنّ القول بالإجزاء موافق للقول بالمرّة والقول بعدم الإجزاء موافق للتكرار كما أنّ دعوى القول بتبعيّة القضاء للأداء مستلزمة لبقاء الأمر خارج الوقت عند عدم امتثاله في الوقت وهو متّحد في النتيجة مع القول بعدم الإجزاء والقول بعدم التبعيّة للأداء مستلزم لعدم بقاء الأمر خارج الوقت عند عدم امتثاله في الوقت وهو متّحد في النتيجة مع القول بالإجزاء لعدم كونه مكلّفا بعد مضيّ الوقت.

ولكنّ الفرق واضح ، أمّا في المرّة والتكرار فلأنّ البحث فيهما في تعيين مقدار المأمور به وكمّيّته والبحث في المقام بعد الفراغ عن تعيين كمّيّة المأمور به في أنّ الإتيان به مجز وكاف أو لا؟

وعليه فمسألتنا في طول مسألة المرّة والتكرار. هذا مضافا إلى أنّ المأمور به الواقعيّ لم يؤت به عند الإتيان بالأمر الظاهريّ أو الاضطراريّ وكشف الخلاف فيبحث عن كفايتهما عن المأمور به الواقعيّ بخلاف مسألة المرّة والتكرار فإنّ المأمور به اتي به في الخارج وإنّما يبحث عن لزوم إعادته وتكراره وعدمه.

وأمّا في مسألة القضاء فالفرق فيها أيضا واضح ، فإنّ في المقام يقع النزاع في الكفاية عن الأداء أو القضاء بعد الإتيان بالمأمور به بخلاف مسألة القضاء فإنّ البحث فيها بعد الفوت وعدم الإتيان بالمأمور به إذ النزاع في كون الأمر بالطبيعة المضروب لها الوقت يكفي في إيجاب القضاء بعد الوقت أو يحتاج إلى أمر جديد وبعبارة اخرى يقع البحث في المقام في السقوط وعدمه بخلاف مسألة القضاء فإنّ البحث في ثبوت القضاء وعدمه فلا تشابه بين المسألتين وبالجملة اختلاف الموضوع وجهة البحث يكفيان للفرق بين المسألتين.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية وغيرها حيث ذهبوا إلى أنّ الفرق بين المسألتين باختلاف ملاك المسألتين. وقال ان المدرك في دلالة العقل في أنّ الإتيان بالمأمور به

٢١٣

يجزي عقلا عن إتيانه ثانيا أداء أو قضاء أو لا يجزي؟

بخلاف مسألة تبعيّة القضاء للأداء فإنّ البحث فيها في دلالة الصيغة على التبعيّة وعدمها وذلك لما مرّ من أنّ البحث في إجزاء الأوامر الظاهريّة أو الاضطراريّة يعود إلى دلالة دليلهما على ذلك أم لا؟

فلا فرق بينهما من هذه الجهة هذا مضافا إلى أنّ الاختلاف في المدارك لا يلازم الفرق في المسألتين لأنّه كثيرا ما يكون مدرك المسألة الواحدة متعدّدا وعقليّا وشرعيّا فلا تغفل.

إذا عرفت هذه المقدمات ؛

فتحقيق المقام في الإجزاء وعدمه يستدعي البحث والكلام في الموضعين :

الموضع الأوّل :

إنّ من البديهيّ أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعيّ يجزي عن أمره وهكذا في الأمر الظاهريّ والاضطراريّ ، إذ مع موافقة الأمر بإتيان المأمور به بما له من القيود والشروط يسقط الإرادة والأمر إذ الغرض من كلّ واحد من الأوامر المذكورة ليس إلّا هو إتيان المأمور به بما له من القيود والحدود ومع حصول الغرض المذكور ينتهي أمد الإرادة والبعث ولا وجه لبقائهما لعدم مقتض لهما وإلّا لزم الخلف أو بقاء المعلول بدون علّة كما أفاد المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره حيث قال :

إنّ بقاء الأمر : إمّا لأنّ مقتضاه تعدّد المطلوب فهو خلف لأنّ المفروض وحدة المطلوب.

وإمّا لأنّ المأتيّ به ليس على نحو يؤثّر في حصول الغرض فهو خلف أيضا.

وإمّا لا شيء من ذلك بل الأمر باق ولازمه عدم الإجزاء فيلزم بقاء المعلول

٢١٤

بلا علّة. (١)

وممّا ذكر يظهر أنّه لا مجال لتبديل الامتثال بامتثال آخر إذ الامتثال فرع بقاء الأمر والمفروض أنّ مع الإتيان بالمأمور به لا مجال لبقاء أمره وامتثال وما ورد في المقام ممّا يتوهّم أنّ المراد منه هو الامتثال عقيب الامتثال محمول على أمر لا ينافي ما يقتضيه حكم العقل بأنّه لا مجال لتبديل الامتثال بامتثال آخر وسيجيء تفصيل الكلام فيه «إن شاء الله تعالى».

هذا ولكن فصّل في الكفاية بين ما إذا كان مجرّد الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض فلا مجال لتبديل الامتثال وبين ما إذا لم يكن كذلك وإن كان وافيا بالغرض لو اكتفى به كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد فإنّ الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ولذا لو أهرق الماء واطّلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانيا كما إذا لم يأت به أوّلا ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه وإلّا لما أوجب حدوثه فحينئذ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر كما كان له قبل إتيانه الأوّل بدلا عنه نعم فيما كان الإتيان علّة تامّة لحصول الغرض فلا يبقى موقع للتبديل كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه بل لو لم يعلم أنّه من أيّ القبيل فله التبديل باحتمال أن لا يكون علّة فله إليه سبيل ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعة وأنّ الله تعالى يختار أحبّهما إليه. انتهى.

وفيه كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره : أوّلا : أنّه ليس الملاك في الامتثال صرف الشيء ، في الغرض الأقصى والنهائيّ وإلّا لم يصدق الامتثال بإتيان الماء قبل صرفه في الغرض الأقصى وهو الشرب مع أنّه خلاف المفروض من تبديل الامتثال بالامتثال. ويشهد له أنّ المولى ليس له بعد إتيان العبد بالماء أن يقول : لم لا تمتثل

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٢٢٦.

٢١٥

أمري؟

وهذا يكشف عن تحقّق الامتثال بإتيان الماء والغرض الأدنى وهو التمكّن من الشرب فمنه يعلم أنّ الملاك في الامتثال هو الإتيان بالمأمور به على وجهه وهو متحقّق ومع تحقّق الامتثال لا يبقى أمر ولا إرادة ومع عدم بقائهما لا مجال للامتثال الآخر وعليه فليس الغرض الباعث على الأمر بإتيان الماء هو الغرض الأقصى بل الغرض هو التمكّن من الشرب وهو حاصل بنفس الإتيان كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ المقام لا يقاس بما إذا اهرق الماء لوجود الفارق بينهما فإنّ مع الإهراق تجدّدت الإرادة الملزمة فمع العلم بها يجب تحصيل الماء ثانيا ولكنّه ليس امتثالا للأمر السابق والإرادة السابقة الساقطة بإتيان الماء أوّلا بل هو امتثال آخر للإرادة الجديدة والأمر الجديد وبالجملة فلا يتعقّل تبديل الامتثال بالامتثال مع الإتيان بالمأمور به على حدوده وشروطه سواء كان الأمر واقعيّا أو ظاهريّا أو اضطراريّا فإنّ مع الإتيان بالمأمور به على وجهه لا يبقى إرادة ولا أمر ومع عدم بقائهما لا مجال للامتثال الآخر حتى يتبدّل الامتثال الأوّل بالامتثال الثاني والملاك في تحقّق الامتثال هو الإتيان بالمأمور به على وجهه وهو يتحقّق بإتيان الماء ومع إتيان الماء لا يبقى إرادة ولا أمر كما لا يحدث الإرادة ولا يوجد أمر لو كان الماء من أوّل الأمر موجودا عنده للشرب فلا تغفل.

وثالثا : أنّ بعد ما عرفت من حكم العقل بامتناع تبديل الامتثال بالامتثال فاللازم هو توجيه الروايات المذكورة لو سلّمنا ظهورها في ذلك لمنافاتها مع حكم العقل كسائر الظواهر التي لا توافق البديهيّات العقليّة ولذلك ذكر الاستاذ المحقّق الداماد وغيره (قدس الله ارواحهم) حول الروايات الآتية وجوها كما تلي وإليك عمدة الروايات ووجوهها ؛

منها : ما رواه الصدوق بإسناده عن هشام بن سالم أنّه قال في الرجل يصلّي

٢١٦

الصلاة وحده ثم يجد جماعة ، قال : يصلّي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء (١)

بدعوى أنّها تدلّ على جواز إعادة الصلاة المأتيّ بها ناويا بها الوجوب ومن المعلوم أنّ قصد الوجوب بها ثانيا لا يتمّ إلّا ببقاء الأمر بعد الامتثال الأوّل.

واجيب عنه بمنع المراد هو نيّة الوجه وقصد الوجوب ثانيا بل المقصود من الفريضة هو الإشارة إلى الصلاة المأتيّ بها كالظهر أو الفائتة التي لم يأت بها من الفرائض.

وفي تهذيب الاصول : أنّ المراد من قوله عليه‌السلام : «ويجعلها فريضة» أنّه يأتي الصلاة ناويا بها الظهر أو العصر مثلا لا إتيانه امتثالا للأمر الواجب ضرورة سقوطه بإتيان الصلاة الجامعة للشرائط ولهذا حكي عن ظاهر الفقهاء إلّا من شذّ من المتأخّرين تعيين قصد الاستحباب في المعاداة للأمر الاستحبابيّ المتعلّق بها. (٢)

وقال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره أيضا إنّ قوله : «إن شاء» ، إن كان قيدا لقوله : يصلّي معهم ، يكون مفاده هو جواز الصلاة مع الجماعة ولكن الواجب عليه أن يأتي عند الاقتداء بصلاة الفريضة دون النافلة والمراد بالفريضة هي الصلاة التي أتى بها أو صلاة فريضة اخرى ممّا فاتت منه وليس المراد هو أن يقصد الوجه وأتى بها ناويا للوجوب ، وإن كان قوله : «إن شاء» قيدا لقوله : «ويجعلها الفريضة» ، يكون مفاد قوله : «ويجعلها الفريضة» هو استحباب الإعادة وجواز جعلها الصلاة التي أتى بها كما يجوز جعلها الفائتة وبالجملة المقصود من قوله : «ويجعلها الفريضة» هو الإشارة إلى الصلاة المأتيّ بها أو الفائتة لا إتيان المأتيّ به بقصد الوجوب وعليه فلا يدلّ إلّا على جواز الإتيان بالمأتيّ به ثانيا ولا يدلّ على أنّه امتثال ثان للأمر الأوّل كما أنّه لو أتى بها

__________________

(١) الوسائل ٥ / ٤٥٥.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ١٨٤.

٢١٧

بعنوان الفائتة يكون أجنبيّا عن المقام من جواز الامتثال بعد الامتثال للأمر الواحد كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى أنّه لو سلّم أنّ المراد من الفريضة هو الإتيان بالمأتيّ به أوّلا بقصد الوجوب ثانيا لزم حملها على أنّ مفاد الخبر يرجع إلى أنّ صحّة الامتثال الأوّل موقوفة على عدم تعقّبه بوجدان الجماعة فإذا صلّى وامتثل ثمّ وجد الجماعة صار الامتثال الأوّل باطلا كبطلان العمل بالعجب المتأخّر بناء على كونه مفسدا للعمل أو يرجع مفاد الخبر إلى أنّ الامتثال الأوّل يكون صحيحا ما دام لم يقصد الإتيان بها جماعة وإلّا فقد أفسده وعليه فإذا أتى بالصلاة ثانيا بقصد الوجوب لا يتحقّق إلّا امتثال واحد ولا مورد للامتثال عقيب الامتثال.

ومنها : ما رواه الشيخ قدس‌سره في التهذيب عن أحمد بن الحسن عن عمرو بن سعيد عن مصدّق عن عمّار : قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي الفريضة ثمّ يجد قوما يصلّون جماعة أيجوز له أن يعيد الصلاة معهم؟

قال : نعم وهو أفضل. قلت : فإن لم يفعل؟ قال : ليس به بأس. (١)

بدعوى أنّه يدلّ على استحباب الإعادة وأفضليّتها وليس ذلك إلّا لبقاء الأمر وإمكان الامتثال عقيب الامتثال.

وفيه : أنّ الأفضليّة لعلّ وجهها هو وجود الإرادة الاستحبابيّة والأمر الاستحبابيّ بالإعادة كما أفاد سيّدنا الاستاذ أو كونه من باب تبديل مصداق المأمور به الذي تحقّق به الامتثال بمصداق آخر غير محقّق للامتثال لكن محصّل للغرض اقتضاء مثل المصداق الأوّل أو بنحو أوفى فهو لا يتوقّف على بقاء الأمر بل من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر لا بصفة كونه مأمورا به كما أفاد سيّدنا الإمام

__________________

(١) الوسائل ٥ / ٤٥٦.

٢١٨

المجاهد قدس‌سره.

ومنها : ما رواه الشيخ قدس‌سره في التهذيب بإسناده عن سهل بن زياد عن محمد بن الوليد عن يعقوب عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصلاة فقد صلّيت فقال : صلّ معهم يختار الله أحبّهما إليه. (١)

بدعوى أنّه يدلّ على أنّ الامتثال يقع بكلّ واحد منهما وإنّما يختار الله تعالى أحبّهما.

وفيه أوّلا كما أفاد سيّدنا الاستاذ قدس‌سره أنّ المقصود من السؤال هو إقامة الصلاة مع جماعة العامّة في المسجد لا مع جماعة الشيعة لبعد إقامة جماعة الشيعة في المساجد في تلك الأعصار وعليه فيمكن أن يكون المراد من قوله «يختار الله أحبّهما إليه» هو اختيار الصلاة التي أتى بها منفردا فلا يدلّ على التبديل أصلا.

يمكن أن يقال : إنّ هذا التوجيه لا يناسب ما ورد في فضيلة إقامة الصلاة مع جماعتهم كصحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : من صلّى معهم في الصفّ الأوّل كان كمن صلّى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٢)

وثانيا : كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : أنّ اختيار الأوفى بالغرض بين الأفراد المأتيّ بها لا يدلّ على تبديل الامتثال بالامتثال إذ يمكن أن يكون من باب تبديل مصداق المأمور به الذي تحقّق به الامتثال بمصداق آخر غير محقّق للامتثال لكونه محصّلا للغرض اقتضاء بنحو أوفى مما أتى وامتثل به أوّلا ومن المعلوم أنّه لا يتوقّف على بقاء الأمر بل من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر لا بصفة كونه

__________________

(١) الوسائل ٥ / ٤٥٦.

(٢) نفس المصدر ٥ / ٣٨١.

٢١٩

مأمورا به. (١)

وثالثا : كما في المحاضرات ؛ أنّ معناه والله العالم «أنّ الله تعالى يعطي ثواب الجماعة فإنّها أحبّ عنده تعالى من الصلاة فرادى وهذا تفضّل منه تعالى». (٢)

ولعلّه يرجع إلى الوجه الثاني بالتأمّل وإمعان النظر.

ومنها : ما رواه في الفقيه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : لا ينبغي للرجل أن يدخل معهم في صلاتهم وهو لا ينويها صلاة بل ينبغي له أن ينويها وإن كان قد صلّى فإنّ له صلاة اخرى. (٣)

بدعوى أنّ قوله : «بل ينبغي له أن ينويها وإن كان قد صلّى» يدلّ على صحّة الامتثال عقيب الامتثال.

وفيه كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق قدس‌سره أنّ صدر الرواية هكذا : رجل دخل مع قوم في صلاتهم وهو لا ينويها وأحدث إمامهم فأخذ بيد ذلك الرجل فقدّمه فصلّى بهم أتجزيهم صلاتهم بصلاته وهو لا ينويها صلاة؟ فقال : لا ينبغي للرجل أن يدخل ... الحديث.

وهو يشهد على أنّ المطلوب عند الإقامة معهم هو أن ينوي الصلاة وإن كان قد صلّى ولا يأتي بصورة الصلاة ولكن المراد من الصلاة الاخرى مردّد بين أن يكون الفائتة أو المأتيّ به أوّلا (أو مصداقا آخر من دون اتّصافه بكونه مأمورا به أو مأمورا به بالأمر الاستحبابيّ) أو غير ذلك.

ومع الاحتمالات المذكورة لا ترجيح لواحد منها على الآخر فلا يدلّ على إمكان

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٨٤.

(٢) المحاضرات ٢ / ٢٢٧.

(٣) الوسائل ٥ / ٤٥٥.

٢٢٠