عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

بوجود الأمر الضمنيّ.

ورابعا أنّه لو سلّمنا امتناع الإتيان بالمركّب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره يؤول تعلّق الخطاب بالمركّب من قصد الامتثال إلى الاكتفاء بالإتيان بالصلاة مع قصد الأمر المتعلّق بالمركّب.

ومن المعلوم أنّ بمجرّد الإتيان بهذا القصد يحصل الجزء الآخر أعني قصد الامتثال قهرا ولا ضير في عدم قصد الامتثال في حصوله لعدم لزوم إتيانه بداعي القربة إذ لم يقل أحد من العلماء بلزوم إتيان داعي الأمر بقصد داعي الأمر ولا دليل عليه.

لا يقال : إنّ اللازم من ذلك هو تركّب المأمور به من التعبّديّ والتوصّليّ إذ قصد القربة ليس منوطا بقصد القربة.

لأنّا نقول : لا ضير في ذلك ألا ترى أنّ الصلاة مركّبة من الأجزاء والشرائط التي بعضها ليس تعبّديّا كالطهارة الخبثيّة.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه إمكان قصد القربة في متعلّق التكليف شرعا ولا يلزم من ذلك المحذورات المذكورة في ناحية تعلّق التكليف ولا في ناحية الامتثال.

وبعبارة اخرى كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره أنّ تعلّق إرادة الشارع بالصلاة بداعي الإرادة أمر ممكن وأدلّ شيء على إمكانه هو وجود العبادات المشروعة والأصل في وجوب الإطاعة هو إرادات المولى المكشوفة بالأوامر إذ الأوامر بما هو إنشاء أمر اعتباريّ لا أثر لها في وجوب الإطاعة بدون كشفها عن إرادات المولى ولذا إذا علم فقد الأوامر عن الإرادات كموارد التقيّة لا تجب الإطاعة كما إذا علم وجود الإرادات مع عدم تمكّن المولى من الأمر وجبت الإطاعة.

فإذا علم المكلّف بإرادة المولى للصلاة بداعي الإرادة أمكن له الإتيان بها بداعي الإرادة المتعلّقة بالمركّب وبمجرّد هذا القصد يحصل الجزء الآخر قهرا وهو كون

١٠١

إتيان الصلاة بداعي الإرادة كما لا يخفى.

ويتبيّن ممّا ذكر أنّ أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر مع وحدة الأمر لا محذور فيه ويكون ممكنا سواء قلنا بوجود الإرادة الضمنيّة أو لم نقل لكفاية الأمر المتعلّق بالمركّب في تحقّق الامتثال.

تصحيح أخذ قصد القربة بتعدّد الأمرين :

ولا يخفى عليك بعد ما تقدّم من المباحث إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر بالأمر الواحد ولو سلّم امتناع ذلك فقد وقع الكلام في أنّه هل يمكن ذلك بتعلّق الأمرين :

أحدهما : بذات المتعلّق.

وثانيهما : بالإتيان به بداعي أمره المتعلّق به.

واشتهر نقل إمكان ذلك من الشيخ الأعظم قدس‌سره وإن كان كلام مقرّر درسه غير ظاهر في ذلك كما حقّقه صاحب الوقاية. (١)

وكيف كان فلا مانع من ذلك بل لا حيلة للمولى في بيان كون مطلوبه عباديّا إلّا بذلك بعد فرض امتناع أخذ قصد القربة في المتعلّق بالأمر الواحد وعدم طريق عقليّ أو عقلائيّ لإفادة شرطيّة قصد القربة وأصل الاشتغال أيضا لا يفيد بعد اختصاص جريانه بما إذا لم يتمكّن المولى من البيان فإنّ مع التمكّن من بيان الشارع بتعدّد الأمرين فإذا لم يبيّن جرت أصالة البراءة عند الشكّ في أخذ قصد القربة وعدمه كما لا يخفى.

فأخذ قصد القربة في المتعلّق بتعدّد الأمرين ممكن ويدلّ على وقوعه وجود العبادات التي قامت الضرورة والإجماع على اشتراطها بقصد القربة إذ لا طريق إلى اشتراط القربة إلّا بتعدّد الأمرين بعد فرض امتناع أخذه في المتعلّق بأمر واحد.

__________________

(١) الوقاية / ٢٢٤.

١٠٢

أورد عليه في الكفاية أوّلا : بالقطع بأنّه ليس في العبادات إلّا أمر واحد كغيرها من الواجبات والمستحبّات.

والجواب عنه واضح بعد ما عرفت من حصر الطريق إلى اعتبار قصد القربة في تعدّد الأمرين والإحالة إلى العقل لا تفيد بعد اختصاص حكمه بالاشتغال فيما إذا لم يتمكّن الشارع من البيان ولو عند بعض العقول فالغرض مع تجويز ذلك عند بعض العقول لا يحصل بالإحالة بل لا بدّ من البيان بتعدّد الأمرين.

قال في تهذيب الاصول : إنّ الشرائط الآتية من قبل الأمر خارجة عن حريم الموضوع له في العبادات لكون ألفاظ العبادات موضوعة لمعنى غير مقيّد بشرائط آتية من قبل الأمر سواء قلنا بكونها موضوعة للصحيح أم الأعمّ فإذن نفس الأوامر المتعلّقة بالطبائع غير متكفّلة لإفادة شرطيّتها لخروجها عن الموضوع له فلا بدّ من إتيان بيان منفصل لإفادتها بعد امتناع أخذها في المتعلّق بل مع جوازه أيضا يكون البيان لا محالة منفصلا لعدم عين وأثر منها في الأوامر المتعلّقة بالطبائع. والإجماع والضرورة القائمتان على لزوم قصد الأمر أو التقرّب في العبادات يكشفان عن وجود أمر آخر فلا وجه لقوله : ليس في العبادات إلّا أمر واحد كغيرها .. إلى أن قال :

إنّ ما ذكره في آخر كلامه من استقلال العقل بوجوب الموافقة بما يحصل به الغرض غير صحيح لأنّ مرجعه إلى أنّ العقل يستقلّ بالاشتغال ومعه لا مجال لأمر مولويّ وفيه مضافا إلى جريان البراءة في المورد كما سيأتي بيانه أنّ حكم العقل بالاشتغال ليس ضروريّا بل أمر نظريّ تضاربت فيه الأفكار واكتفاء الشارع بحكم العقل إنّما يصحّ فيما لو كان الحكم العقليّ مقتضى جميع العقول وأمّا مع الاختلاف فلإعمال المولويّة مجال ولو لأجل ردّ القائلين بالبراءة. (١)

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٥٦.

١٠٣

ولقد أفاد وأجاد إلّا أنّ مع حصر الطريق فالأولى أن يقال : فلا بدّ من إعمال المولويّة ولو لأجل ردّ القائلين بالبراءة مكان قوله : فلإعمال المولويّة مجال.

وأورد عليه في الكفاية أيضا بأنّ الأمر الأوّل إن كان يسقط بمجرّد الموافقة ولو لم يقصد به الامتثال كما هو قضيّة الأمر الثاني فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله فلا يتوسّل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة. وإن لم يكد يسقط بذلك فلا يكاد له وجه إلّا عدم حصول غرضه بذلك من أمره لاستحالة سقوطه مع عدم حصول الغرض وإلّا لما كان موجبا لحدوث الأمر وعليه فلا حاجة في الوصول إلى الغرض إلى تعدّد الأمر والأمر الثاني لاستقلال العقل مع عدم حصول غرض الآمر بمجرّد موافقة الأمر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه.

وفيه :

أوّلا : كما في تهذيب الاصول أنّ السقوط لا مجال له بعد قيام الإجماع والضرورة على اعتبار قصد القربة في صحة العبادات الكاشفين عن ورود تقييد لمتعلّق الطبائع بوجود أمر آخر بدليل منفصل بعد امتناع تقييده بالأمر الأوّل كما هو المفروض.

هذا مضافا إلى ما في نهاية الدراية من أنّ لنا الالتزام بهذا الشقّ أي السقوط بمجرّد موافقته ولكن نقول بأنّ موافقة الأوّل ليست علّة تامّة لحصول الغرض بل يمكن إعادة المأتيّ به لتحصيل الغرض المترتّب على الفعل بداعي الأمر. توضيحه أنّ ذات الصلاة مثلا لها مصلحة ملزمة والصلاة المأتيّ بها بداعي أمرها لها مصلحة ملزمة اخرى .. إلى أن قال : فتجب الإعادة فموافقة الأمر الأوّل قابلة لإسقاط الأمر لو اقتصر عليه لكن حيث إنّ المصلحة القائمة بالمأتيّ به بداعي الامتثال لازمة الاستيفاء وكانت قابلة للاستيفاء لبقاء الأوّل على حاله حيث لم يكن موافقته علّة تامّة لسقوطه

١٠٤

فلذا يجب إعادة المأتيّ به بداعي الأمر الأوّل فيحصل الغرضان. (١)

ظاهر أوّله وإن كان هو الالتزام بالسقوط ولكن الذي ينتهي إليه في آخر العبارة هو أنّ الموافقة في أمثاله لا يكون علّة تامّة للسقوط وعليه فالأمر باق ومع بقائه كانت المصلحة القائمة بالمأتيّ به بداعي الامتثال قابلة للاستيفاء فحيث إنّ تلك المصلحة لازمة الاستيفاء تجب إعادة المأتيّ به بداعي الأمر الأوّل الباقي حتّى يحصل الغرضان.

وممّا ذكر يظهر ما في منتهي الاصول حيث أورد على المحقّق الأصفهانيّ بأنّ الأمر الأوّل بعد سقوطه وانعدامه ـ كما هو المفروض ـ لا يمكن أن يكون محرّكا نحو إتيان المأمور به فليس شيء في البين حتّى يؤتي المأمور به بذلك القصد ولو كان المراد من قصد الأمر المأخوذ في المتعلّق هو الأمر الثاني فيعود جميع المحاذير. (٢)

وثانيا : أنّ مع عدم السقوط لا يرفع الحاجة عن الأمر الثاني بدعوى كفاية استقلال العقل مع عدم حصول غرض الآمر بمجرّد موافقة الأمر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه فيسقط أمره. فإنّ استقلال العقل بذلك مختصّ بما إذا لم يتمكّن الشارع من البيان ولو بالأمر به ثانيا وإلّا فالعقل مع تمكّن الشارع من البيان وعدم بيانه يحكم بقبح العقاب بلا بيان ولذا نقول بجريان البراءة في الشكّ في المحصّل فيما إذا كان المحصّل شرعيّا مع تمكّن الشارع من بيانه فلو قلنا بأنّ الوضوء أمر معنويّ وهو الطهارة ومحصّله هو الغسلتان والمسحتان فإذا شكّ في شرطيّة شيء أو جزئيّته فالحكم هو البراءة لأنّ المحصّل شرعيّ ومع عدم البيان تجري فيه البراءة وأخذ اشتراط القربة في المقام أيضا أمر بيد الشارع فإذا لم يأخذه مع تمكّنه من أخذه ولو

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٢٠٠.

(٢) منتهى الاصول ١ / ١٣٩.

١٠٥

بالأمر الثاني تجري فيه البراءة.

وعليه فالحاجة إلى الأمر الثاني لإفادة شرطيّة قصد القربة باقية.

وإلى ما ذكر أشار المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره حيث قال : بعد مقدّمات : فتحصّل من جميع ما حرّرناه أنّ الأمر الأوّل لا يسقط بموافقته لبقاء ما له دخل في تأثيره على حاله ولا يلزم لغويّة الأمر الثاني فإنّه إنّما يلزم ذلك لو حكم العقل بإيجاده بعنوانه والفرض عدمه وحكم العقل بإتيان ما يحتمل دخله في الغرض مقيّد بعدم تمكّن المولى من البيان كي لا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان والمفروض تمكّنه بالأمر الثاني وتخصيص التمكّن بالتمكّن من بيانه بالأمر الأوّل بلا مخصّص. (١)

هذا مضافا إلى ما في تهذيب الاصول من أنّ حكم العقل بالاشتغال ليس ضروريّا بل أمر نظريّ تضاربت فيه الأفكار واكتفاء الشارع بحكمه إنّما يصحّ لو كان الحكم بالاشتغال مقتضى جميع العقول ومع هذا الاختلاف يبقى مجال لإعمال المولويّة ولو لأجل ردّ القائلين بالبراءة.

أورد في الوقاية على تعدّد الأمرين بأنّه يترتّب عليه اللوازم البعيدة بل الفاسدة من تعدّد الثواب على تقدير الإطاعة وتعدّد العقاب على تقدير الترك أصلا واجتماعهما على تقدير الإتيان بذات الفعل بغير قصد الأمر وسقوط الأمر بهما معا. أمّا الأمر الأوّل فبالإطاعة : وأمّا الثاني فبارتفاع موضوعه فيلزم سقوط الأمر بالصلاة مثلا مع بقاء الوقت إذا أتى بها بغير قصد القربة وهو خلاف الضرورة إلّا أن يقال بحدوث أمرين آخرين على طبق الأوّلين لبقاء الغرض وقيل ذلك ولا يخفى أنّ ذلك رجوع إلى حديث الغرض الذي عرفت آنفا ضعفه ومعه لا يبقى احتياج إلى هذا الوجه ولا تبقى

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٢٠٢.

١٠٦

ثمرة مهمّة لتكليف الأمرين. (١)

وفيه أنّ الغرض إذا كان قائما بوجود المركّب أو المقيّد فالمأمور به هو المركّب أو المقيّد وهو واحد من دون فرق بين أن يأمر بالأجزاء أو المقيّد دفعة أو يأمر بكلّ واحد واحد من الأجزاء والشرائط خصوصا إذا لم يمكن إفهام بعض الأجزاء أو الشرائط إلّا بتعدّد الأمر ومع وحدة المأمور به في الحقيقة فلا وجه لتعدّد الثواب أو العقاب أو اجتماعهما فلا تغفل.

تصحيح القربة بالإتيان بداعي المصلحة ونحوها :

وقد عرفت إمكان أخذ التقرّب بمعنى قصد الامتثال في العبادة بأمر واحد أو متعدّد والجواب عن الإشكالات التي أوردت فيه.

وأمّا إمكان أخذ دواعي القربة في المتعلّق بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه أو بداعي كونه ذا مصلحة أو بداعي محبوبيّته لله تعالى فقد أورد عليه في الكفاية بأنّ اعتباره في متعلّق الأمر وإن كان بمكان من الإمكان إلّا أنّه غير معتبر فيه قطعا لكفاية الاختصار على قصد الامتثال بالمعنى الذي مضى عدم إمكان أخذه فيه.

وأوضحه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره بأنّ جواز الاقتصار على الإتيان بداعي الأمر يكشف عن تعلّق الأمر بنفس الفعل لا الفعل بداعي حسنه أو غيره من الدواعي إذ لا يمكن إتيانه بداعي الأمر إلّا مع تعلّقه بذات الشيء وإلّا يلزم اجتماع داعيين على فعل واحد أو كون داعي الأمر من قبيل داعي الداعي وهو خلف لفرض كفاية إتيانه بداعي الأمر بنفسه. (٢)

يمكن أن يقال : إنّ اجتماع داعيين على فعل واحد لا مانع منه بعد ما مرّ من أنّ

__________________

(١) الوقاية / ٢٢٣.

(٢) نهاية الدراية ١ / ٢٠٢.

١٠٧

الأمر ليس إلّا المحرّك والباعث الإيقاعيّ لا المحرّك الحقيقيّ والتكوينيّ إذ المحرّك والداعي حقيقة ليس إلّا بعض المبادئ الموجودة في نفس المكلّف كمعرفته لمقام ربّه ودرك عظمته وكبريائه أو الخوف من عذابه أو الطمع في جنّته ورضوانه فشأن الأمر بنفس الفعل أو بالفعل بداعي حسنه أو غيره من الدواعي ليس إلّا تعيين موضوع الطاعة ولا يكون له تأثير تكوينيّ في بعث المكلّف وإلّا لزم اتّفاق افراد الإنسان في الإطاعة مع أنّ الضرورة على الخلاف. وعليه فلا يلزم اجتماع داعيين تكوينيّين على فعل واحد نظير توارد العلل المتعدّدة على معلول واحد إذا أتى بالفعل بداعي الأمر مع قصد حسنه أو مصلحته أو غيرهما من الدواعي إذ المحرّك والداعي الحقيقيّ هو شيء آخر وهو ما اشير إليه من بعض المبادئ الموجودة في نفس المكلّف كمعرفته لمقام ربّه ودرك عظمته وكبريائه أو الخوف من عذابه أو الطمع في جنّته ورضوانه. هذا مضافا إلى أنّ اعتبار قصد حسن الفعل أو مصلحته أو محبوبيّته في المتعلّق لتصحيح قصد القربة فيما اذا لم يأت بقصد الأمر والّا فمع قصد الأمر فلا حاجة في التقرّب به إلى قصد حسن الفعل أو مصلحته أو محبوبيّته حتّى يجتمع فيه الدواعي المتعدّدة على فعل واحد.

ولعلّ مقصود صاحب الكفاية من قوله : إلّا أنّه غير معتبر قطعا لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال أنّ ذلك أي جواز الاكتفاء بقصد الامتثال ينافي أخذ شيء من القصود الثلاثة في متعلّق الأمر إذ معنى الاكتفاء بقصد الامتثال في تحقّق التقرّب من دون قصد حسنه أو غيره من الدواعي هو عدم أخذ قصد حسنه أو مصلحته أو محبوبيّته في المتعلّق.

وأجاب عنه في نهاية النهاية بأنّ كفاية الإتيان بداعي الأمر لأجل أنّه يؤول إلى الإتيان بداعي المحبوبيّة أو الحسن أو المصلحة فالمدار على حصول أحد هذه الأمور ولو كان ذلك بتبع قصد الامتثال فإنّ كلّ ذلك كامن ومندرج تحت قصد الأمر فكفاية قصد الامتثال إنّما هي لحصول القصد الضمنيّ لا لأجل قصد الامتثال بنفسه

١٠٨

ليكون ذلك منافيا لأخذ شيء من القصود الثلاثة في متعلّق الأمر. (١)

وفيه : أنّ المفروض هو كفاية قصد الامتثال بنفسه من دون حاجة إلى إرجاعه إلى قصد المحبوبيّة أو الحسن أو المصلحة.

فالأولى هو أن يقال : كما أشرنا إليه آنفا من : أنّ اعتبار قصد حسن الفعل أو مصلحته أو محبوبيّته لتصحيح قصد القربة. ولا خصوصيّة فيه ، فإذا أتى بنفس الفعل مع قصد الأمر حصل القربة أيضا ولا حاجة إلى انضمام سائر الدواعي ، فكفاية قصد الامتثال لا ينافي أخذ سائر الدواعي في المتعلّق تصحيحا لقصد القربة.

فتحصّل أنّه لا خصوصيّة للدواعي المذكورة في تحصيل القربة والمناط هو الإتيان بالفعل مع القربة سواء حصل بقصد الدواعي المذكورة الممكنة أخذها في المتعلّق أو بقصد الأمر الذي توهّم عدم إمكان أخذه في متعلّق الأمر وعليه فكفاية قصد الامتثال لا ينافي أخذ الدواعي الثلاثة في متعلّق الأمر.

ولا يلزم من ذلك محذور لأنّ قصد الأمر على المفروض ليس مأخوذا في المتعلّق ولو بنحو التخيير ، بل المأخوذ هو الدواعي الثلاثة.

وممّا ذكر يظهر ما في المحكيّ في تعليقة المشكينيّ قدس‌سره من أنّ كلّ واحد من الأمور المذكورة إمّا أن يعتبر تعيينا فهو باطل للعلم بكفاية الاقتصار على قصد الامتثال أو يعتبر تخييرا بينه وبين قصد الامتثال فيعود المحذوران من الدور وسلب القدرة لعدم الفرق بين كونه مأخوذا تعيينا أو تخييرا.

وذلك لما عرفت من أنّ المفروض هو عدم أخذ قصد الأمر أصلا ولا خصوصيّة للامور المذكورة في تحصيل القربة بل الملاك هو الإتيان بالفعل مع القربة بها أو بقصد الأمر فلا تغفل.

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ١٠٨.

١٠٩

ثمّ إنّه أورد على إمكان أخذ الدواعي الثلاثة في متعلّق الأوامر بما أورد على إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق من الدور أو لزوم علّيّة الشيء لنفسه ونظائرهما.

قال في تهذيب الاصول : الظاهر أنّ بعض الإشكالات المتقدّمة واردة على المفروض فيقال في تقريره (١) : إنّ داعويّة المصلحة مثلا لمّا كانت مأخوذة في المأمور به تصير الداعويّة متوقّفة على نفسها أو داعويّة إلى داعويّة نفسها لأنّ الفعل لا يكون بنفسه ذا مصلحة حتّى يكون بنفسه داعيا إلى الإتيان بل بقيد داعويّتها ، فلا بدّ أن يكون الفعل مع هذا القيد القائم بهما المصلحة داعيا إلى الإتيان وهذا عين الإشكال المتقدّم. وأيضا لمّا كانت المصلحة قائمة بالمقيّد يكون الفعل غير ذي المصلحة فلا يمكن قصدها إلّا على وجه دائر لأنّ قصد المصلحة يتوقّف عليها وهي تتوقّف على قصدها بالفرض.

ويردّ أيضا ما قرّر هناك من أنّ الداعي مطلقا في سلسلة علل الإرادة التكوينيّة فلو أخذ في العمل الذي هو في سلسلة المعاليل يلزم أن يكون الشيء علّة لعلّة نفسه فإذا امتنع تعلّق الإرادة التكوينيّة امتنع تعلّق التشريعيّة لأنّها فرع إمكان الأوّل. (٢)

__________________

(١) وفي بدائع الأفكار : فتقريبه أنّ دعوة المصلحة إلى الإتيان بالفعل تتوقّف على كون الفعل مشتملا عليها في حدّ ذاتها قبل تحقّق الدعوة في نفس الفاعل ليكون تصوّره إيّاها داعيا له إلى الفعل المشتمل عليها فإذا كان المأمور مقيّدا بالدعوة المزبورة لزم أن تكون المصلحة الموجبة للأمر به قائمة بالفعل المقيّد بما هو مقيّد فيتوقّف تحقّقها في الفعل على تحقّق القيد أعني : الدعوة إليه. وقد فرض أنّ تحقّق الدعوة إلى الفعل متوقّف على تحقّق المصلحة فيه وهو دور واضح. (١ / ٢٣٥).

(٢) وفي بدائع الأفكار : فتقريبه أنّ الداعي إلى الفعل تكوينا لا يمكن أن يكون في عرض الفعل لتتعلّق به الإرادة التكوينيّة لأنّه في مرتبة سابقة عليها والفعل في مرتبة متأخّرة عنها لأنّه متولّد ـ

١١٠

ثمّ قال : ولك أن تذبّ عن الأوّل ببعض ما قدّمناه في قصد الأمر ، أضف إليه أنّه يمكن أن يقال : إنّ للصلاة مصلحة بنحو الجزء الموضوعيّ ولمّا رأى المكلّف أنّ قصدها متمّم للمصلحة فحينئذ لا محالة تصير داعية إلى إتيانها بداعي المصلحة من غير لزوم كون الداعي داعيا. (١)

وبذلك يتّضح قطع الدور فإنّ قصد المصلحة التي هي جزء الموضوع يتوقّف عليها وهي لا تتوقّف على القصد.

وبما أنّ المكلّف شاعر بأنّ هذا القصد موجب لتماميّة الموضوع وحصول الغرض فلا محالة تصير داعيا إلى إتيان الفعل قاصدا.

نعم لا يمكن قصد تلك المصلحة مجرّدة ومنفكّة عن الجزء المتمّم وفيما نحن فيه لا يمكن التفكيك بينهما.

وأمّا الجواب عن الثالث (٢) فبمثل ما سبق من أنّ الداعي والمحرّك إلى إتيان

__________________

ـ عنها فكيف يعقل أن يؤخذ ما هو في مرتبة سابقة على الشيء فيما هو متأخّر عنه وإلّا لزم أن يكون الشيء الواحد متقدّما على ذلك الشيء ومتأخّرا عنه في آن واحد وفرض واحد وهو عين الخلف. (١ / ٢٣٥).

(١) ونظير هذا الجواب في بدائع الأفكار ؛ حيث قال : ويمكن دفع الإشكال المزبور بأنّ موضوع المصلحة وإن كان الفعل المقيّد بالدعوة إلّا أنّ الفعل نفسه مقوّم لموضوع المصلحة وفيه استعداد لحصولها به حيث ينضمّ إليه القيد المزبور فالعاقل إذا تصوّر أنّ الصلاة مثلا مستعدّة لحصول القرب بها من الله تعالى أو النهي عن الفحشاء إذا انضمّ إليها دعوة المصلحة المذكورة كان ذلك التصوّر كافيا في دعوة العبد إلى فعل الصلاة كما هو الشأن في المصالح القائمة بالأفعال القصديّة كالتعظيم مثلا القيام في وجه القادم مستعدّ ليكون تعظيما له حيث يكون فاعله قاصدا به التعظيم مع أنّ الدور المزبور جار فيه لأنّ قصد التعظيم متوقّف على كونه تعظيما وكونه تعظيما متوقّف على قصد التعظيم ولكن هذا الدور كسابقه مندفع بما أشرنا إليه. (١ / ٢٣٥)

(٢) هذا مضافا إلى ما في بدائع الأفكار من : أنّ دعوة الداعي التي نقول بإمكان أخذها قيدا في ـ

١١١

المأمور به بعض المبادئ الموجودة في نفس المكلّف كالحبّ والخوف والطمع وتصير تلك المبادئ داعية إلى طاعة المولى بأيّ نحو أمر وشاء. فإذا أمر بإتيان الصلاة بداعي المصلحة تصير تلك المبادئ المتقدّمة داعية إلى إتيانها بداعي المصلحة من غير لزوم تأثير الشيء في علّته. (١)

بقي هنا إشكال آخر وهو كما في تعليقة الأصفهانيّ قدس‌سره : أنّ هذه الدواعي بين ما لا يوجب العباديّة والقربيّة وما يتوقّف على عباديّة الفعل وقربيّته. أمّا الإتيان بداعي كونه ذا مصلحة فقد عرفت سابقا أنّه بمجرّده لا يوجب الارتباط إلى المولى ولا انطباق عنوان حسن عليه وأمّا الإتيان بداعي كونه ذا مصلحة موافقة للغرض وداعية للمولى إلى إرادة ذيها فهو وإن كان يوجب الارتباط وانطباق الوجه الحسن لكنّه لا يعقل تعلّق الإرادة بما فيه مصلحة داعية إلى شخص هذه الإرادة وكما لا يمكن إرادة فعل بداعي شخص هذه الإرادة كذلك إرادة فعل بداعي ما يدعو إلى شخص هذه الإرادة بما هو داع إليها لا بذاته.

وأمّا الإتيان بداعي الحسن الذاتيّ أو بداعي أهليّته تعالى أوله تعالى بطور لام الصلة لا لام الغاية فكلّ ذلك مبنيّ على عباديّة المورد مع قطع النظر عن تلك الدواعي أمّا الأوّل فواضح وأمّا الأخيران فلانّه تعالى أهل لما كان حسنا وعبادة لا لما

__________________

ـ متعلّق الأمر ليست هي شخص الدعوة التي أوجبها نفس الأمر بل هي دعوة المصلحة والحبّ إلى إتيان العمل التي توجبها في نفس العبد دعوة الأمر المتوجّه إليه فالأمر المتعلّق بفعل الصلاة مثلا بداعي مصلحتها يدعو المكلّف إلى الإتيان بالصلاة بداعي مصلحتها فيكون الأمر من قبيل الداعي إلى الداعي كما هو المشهور في تصحيح أخذ الأجرة على العبادة والمحذور إنّما يلزم لو كان المأخوذ في متعلّق الأمر شخص الدعوة التي يوجبها الأمر في نفس المكلّف لا دعوة اخرى توجبها دعوة الأمر. (١ / ٢٣٦)

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٥٩.

١١٢

لا حسن فيه والعمل لله ليس إلّا العمل الإلهيّ من غير أن تكون إلهيّة من قبل الداعي وقد عرفت بعض الكلام فيما تقدّم. (١)

ويمكن الجواب عن قوله : «لا يعقل تعلّق الإرادة بما فيه مصلحة داعية إلى شخص هذه الإرادة» بما مرّ من أنّ غير المعقول هو ما إذا كان المأخوذ هو وجوده الخارجيّ وأمّا إذا كان المأخوذ وجوده العلميّ فلا إشكال لأنّ الوجود العلميّ لا يكون متقوّما بالوجود الخارجيّ بما هو بل بصورة شخصه لا بنفسه.

كما يمكن الجواب عن قوله : «فكلّ ذلك مبنيّ على عباديّة المورد» بمنعه في الأخيرين لأنّ ما لا حسن فيه لا يكون ممّا أهل له تعالى وأمّا ما فيه حسن فلم لا يكون أهلا له تعالى.

ودعوى «أنّ العمل لله ليس إلّا العمل الإلهيّ من غير أن تكون إلهيّة من قبل الداعي» مجازفة ومصادرة ولا دليل عليها لعدم لزوم تقدّم العباديّة وعليه يكفي تحقّقها من قبل الداعي فإذا أتى بشيء حسن أو ذي مصلحة له تعالى تحقّقت العبادة مقرونة بالداعي المذكور ولا حاجة إلى تقدّمها ولعلّ إليه أشار بقوله : «وقد عرفت بعض الكلام فيما تقدّم» فافهم.

فتحصّل أنّه لا وجه لاستحالة أخذ دواعي القربة في متعلّق الأوامر كما لا وجه لأخذ قصد الامتثال بأمر واحد أو بأمرين في متعلّق الأمر.

تصحيح العبادة من دون قصد القربة :

ولا يذهب عليك أنّ صاحب الدرر تفصّى عن الإشكالات الواردة على أخذ قصد الامتثال أو دواعي القربة بالوجهين الآخرين :

الوجه الأوّل : أنّ المعتبر في العبادات ليس إلّا وقوع الفعل على وجه يوجب

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٢٠٣.

١١٣

القرب عند المولى وهذا لا يتوقّف على الأمر.

وبيان ذلك أنّ الفعل الواقع في الخارج على قسمين :

أحدهما : ما ليس للقصد دخل في تحقّقه بل لو صدر من الغافل لصدق عليه عنوان.

والثاني : ما يكون قوامه في الخارج بالقصد كالتعظيم والإهانة وأمثالهما وأيضا لا إشكال في أنّ تعظيم من له أهليّة ذلك بما هو أهل له وكذا شكره ومدحه بما يليق به حسن عقلا ومقرّب بالذات ولا يحتاج في تحقّق القرب إلى وجود أمر بهذه العناوين. نعم قد يشكّ في أنّ التعظيم المناسب له أو المدح اللائق بشأنه ما ذا؟

وقد يتخيّل كون عمل خاصّ تعظيما له أو أنّ القول الكذائيّ مدح له والواقع ليس كذلك بل هذا الذي يعتقده تعظيما له توهين له. وهذا الذي اعتقده مدحا ذمّ بالنسبة إلى مقامه.

إذا تمهّد هذا ؛ فنقول :

لا إشكال في أنّ ذوات الأفعال والأفعال الصلاتيّة مثلا من دون إضافة قصد إليها ليست محبوبة ولا مجزية قطعا ولكن من الممكن كون صدور هذه الهيئة المركّبة من الحمد والثناء والتسبيح والتهليل والدعاء والخضوع والخشوع مثلا مقرونة بقصد نفس هذه العناوين محبوبا للآمر. غاية الأمر أنّ الإنسان لقصور إدراكه لا يدرك أنّ صدور هذه الهيئة منه بهذه العناوين مناسب بمقام البارئ عزّ شأنه ويكون التفاته موقوفا على إعلام الله سبحانه. فلو فرض تماميّة العقل واحتوائه بجميع الخصوصيّات والجهات لم يحتج إلى إعلام الشرع أصلا.

والحاصل أنّ العبادة عبارة عن إظهار عظمة المولى والشكر على نعمائه وثنائه بما يستحقّ ويليق به ومن الواضح أنّ محقّقات هذه العناوين مختلفة بالنسبة إلى الموارد.

١١٤

فقد يكون تعظيم شخص بأن يسلّم عليه وقد يكون بتقبيل يده وقد يكون بالحضور في مجلسه وقد يكون بمجرّد إذنه بأن يحضر من مجلسك أو يجلس عندك إلى غير ذلك من الاختلافات الناشئة من خصوصيّات المعظّم بالكسر والمعظّم بالفتح ولمّا كان المكلّف لا طريق له إلى استكشاف أنّ المناسب بمقام هذا المولى تبارك وتعالى ما هو إلّا بإعلامه تعالى لا بدّ أن يعلمه أوّلا ما يتحقّق به تعظيمه ثمّ يأمر به وليس هذا المعنى ممّا يتوقّف تحقّقه على قصد الأمر حتّى يلزم محذور الدور. (١)

وتبعه في الوقاية وقال بعد مقدّمات : وبعد هذا نقول : إنّ العبادات أفعال قصديّة وهي ما يقصد بها الخضوع لله تعالى كما يدلّ عليه لفظ العبادة ، إذ العبادة لغة هي غاية الخضوع وأداء الشكر لله تعالى ومدحه بما هو أهل له وكان سيّد أساتيدنا (طاب ثراه) يعبّر عنها ب «ستايش كردن» وهي عبارة فارسيّة ذكرناها توضيحا للمقصود وتأسّيا به طاب ثراه.

وهذه العبادات منها : ما هو من قبيل الأوّل كالسجود.

ومنها : ما يتوقّف العلم بكونه تعظيما وعبادة على تعريف الشارع كالصوم ويشترك القسمان في المعنى المتقدّم ولا معنى لتعبّديّتهما إلّا ما عرفت من حصول العبادة بها ولا معنى للعبادة إلّا ما عرّفناك من الخضوع ونحوه من المعاني القريبة منه ولا فرق بينها وبين التوصّليّات إلّا أنّ المقصود بها العبادة ومن التوصّليّات أغراض أخر.

وإذا اتّضح هذا لديك ـ ولا أخاله يخفى بعد هذا البيان عليك ـ عرفت أنّ العبادة لا تتوقّف معناها على وجود الأمر أصلا فضلا عن توقّفها على قصده بل تتحقّق مع النهي عنها كالسجود للأصنام إذ ليس المحرّم مجرّد الانحناء لها قطعا بل المحرّم الانحناء بقصد التعظيم والخضوع ومتى وقع الفعل بهذا القصد كان محرّما لكونه

__________________

(١) الدرر / ٩٦.

١١٥

عبادة لغير الله تعالى وإذا وقع بقصد الخضوع له تعالى كان عبادة له سبحانه ولو كان قصد الأمر مقوّما لمعنى العبادة لزم أن لا تتحقّق عبادة غير الله أصلا وممّا حقّقناه ظهر لك معنى قول كاشف الغطاء قدس‌سره أنّ قصد القربة ليس بجزء ولا شرط بل هو روح العبادة. وظهر أيضا أنّ المراد من قصد القربة وأنّه ليس المراد منه حصول القرب وأنّ العبادات تنقسم إلى الأحكام الخمسة فقد يكون محرّمة كصلاة الحائض فإنّها عبادة حقيقة ولكنّها مبغوضة منها في حال الحيض ولو كان قصد الأمر مقوّما لها لزم جواز الصلاة لها لأنّها إن كانت مأمورة بها فقد أتت بالواجب وإلّا فلم تتحقّق العبادة المنهيّة عنها وقد تكون مكروهة كالصلاة في الأوقات والأمكنة المنصوصة عليها ولا داعي إلى تكلّف أقلّيّة الثواب لما عرفت من عدم كون الأمر المستلزم للثواب من مقوّمات العبادة أصلا.

وبالجملة ليست عبادة الله سبحانه إلّا تعظيمه والخضوع لديه بأفعال وأقوال مخصوصة يؤدّي بها التعظيم والخضوع. ويمكن اختلاف المصلحة والمفسدة فيها باختلاف الحالات كسائر الأفعال ويزداد هذا وضوحا بملاحظة تعظيم الملوك وغيرهم إذ ربما يكون الملك في حال يترتّب على تعظيمه مفسدة عظيمة كما لو كان مختفيا من عدوّ يريد قتله فإذا عظّمه أحد بحضور عدوّه عرفه العدوّ فقتله فيكون تعظيمه مبغوضا في هذا الحال وربما يكون المعظّم بالكسر في حال لا ينبغي له تعظيمه. (١)

أورد عليه في نهاية الاصول : بأنّ قصد عنوان الفعل إن كان كافيا بلا احتياج إلى قصد حصول القربة كان حاصل ذلك عدم اشتراط قصد القربة في حصول العبادة

__________________

(١) الوقاية / ٢٢٦ ـ ٢٢٨.

١١٦

وهذا مخالف لضرورة الدين وإجماع المسلمين وإن لم يكن كافيا عاد محذور الدور. (١)

يمكن أن يقال : إنّ قصد التعظيم الذاتيّ كالسجدة له تعالى لا يخلو عن القربة لأنّه مقرّب بالذات ولا يلزم في قصد القربة قصدها بالمفهوم الاسميّ بل يكفي عنها قصد ما يقصد عليه القربة وأمّا قصد التعظيم غير الذاتيّ ممّا لا يكشف كونه تعظيما إلّا بالأمر الشرعيّ فهو يرجع إلى قصد التعظيم التعبّديّ ومعناه هو قصد ما جعله الشارع تعظيما إذ بعد ورود الأمر بمركّب صلاتيّ مثلا لا نصير عالمين وقاطعين إلّا بالتعظيم التعبّديّ وهو أيضا لا يخلو عن القربة لأنّ قصد ما جعله الشارع تعظيما له قربة وعليه فلا يكون مخالفا لضرورة الدين والإجماع.

نعم يرد عليهم بأنّ قصد التعظيم التعبّديّ بالمعنى المذكور قصد إلى ما أمر به تعبّدا فلا يصحّ دعوى خلوّ العبادة عن قصد الأمر.

هذا مضافا إلى أنّ تفسير العبادة بإظهار العظمة والشكر كما ترى. لأنّ العبادة المصطلحة التي عبّر عنها في اللغة العربيّة بالتألّه وفي اللغة الفارسيّة ب «پرستش» لا تتحقّق بمطلق التعظيم والخضوع ولذا لا يكون تعظيم النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمّة الأطهار عليهم‌السلام في زمن حياتهم ومماتهم عبادة مع أنّ التعظيم بالنسبة إليهم حصل في نهايته وأعلاه.

وعليه فالعبادة هي التعظيم في مقابل الغير بعنوان أنّه ربّ أو خالق يستحقّ العبادة سواء كان بمثل السجدة التي تكون تعظيما وخضوعا ذاتا أو بغيرها التي تحتاج الاطّلاع إلى كونه تعظيما إلى نصّ شرعيّ كالصلاة والصوم ونحوهما من العبادات الشرعيّة.

وعليه فمجرّد الخضوع والتعظيم له تعالى من دون اعتبار قصد التألّه ليس

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ١٠٤.

١١٧

بعبادة ولذلك قلنا :

إنّ السجدة لآدم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام لا تكون عبادة له لخلوّها عن قصد التألّه. نعم تكون السجدة له عبادة لله تعالى إذا اتي بها إطاعة لله تعالى وتسليما لربوبيّته تعالى.

وممّا ذكر يظهر أنّ السجدة لغيره تعالى من دون قصد التألّه لا تكون شركا وإن كانت منهيّة عنها بملاحظة بعض العوارض واللوازم وإنّما تكون السجدة للشمس والقمر ونظائرهما شركا من جهة تألّههم بها كما لا يخفى.

فتحصّل من جميع ما ذكر صحّة ما ذهب إليه صاحب الدرر وصاحب الوقاية في الجملة بالنسبة إلى ما يكون تعظيما ذاتيّا كالسجدة والركوع فإنّ قصد القربة لا يكون جزء ولا شرطا فيهما ومع ذلك يصدق عليهما العبادة إذا اتي بهما مع التألّه وأمّا بالنسبة إلى التعظيم التعبّديّ فقد عرفت أنّه لا يخلو عن قصد الأمر.

الوجه الثاني : أنّ ذوات الأفعال مقيّدة بعدم صدورها عن الدواعي النفسانيّة محبوبة عند المولى.

وتوضيح ذلك يتوقّف على مقدّمات ثلاث :

احداها : أنّ المعتبر في العبادة يمكن أن يكون إتيان الفعل بداعي أمر المولى بحيث يكون الفعل مستندا إلى خصوص أمره وهذا معنى بسيط يتحقّق في الخارج بأمرين :

أحدهما : جعل الأمر داعيا لنفسه.

والثاني : صرف الدواعي النفسانيّة عن نفسه ويمكن أن يكون المعتبر إتيان الفعل خاليا عن سائر الدواعي ومستندا إلى داعي الأمر بحيث يكون المطلوب المركّب منهما والظاهر هو الثاني لأنّه أنسب بالإخلاص المعتبر في العبادات.

الثانية : أنّ الأمر الملحوظ فيه حال الغير تارة يكون للغير واخرى يكون

١١٨

غيريّا مثال الأوّل : الأمر بالغسل قبل الفجر على احتمال. فإنّ الأمر متعلّق بالغسل قبل الأمر بالصوم فليس هذا الأمر معلولا لأمر آخر إلّا أنّ الأمر به إنّما يكون لمراعاة حصول الغير في زمانه. والثاني : الأوامر الغيريّة المسبّبة من الأوامر المتعلّقة بالعناوين المطلوبة نفسا.

الثالثة : أنّه لا إشكال في أنّ القدرة شرط في تعلّق الأمر بالمكلّف ولكن هل يشترط ثبوت القدرة سابقا على الأمر ولو رتبة أو يكفي حصول القدرة ولو بنفس الأمر؟

الأقوى الأخير لعدم وجود مانع عقلا في أن يكلّف العبد بفعل يعلم بأنّه يقدر عليه بنفس الأمر.

إذا عرفت هذا ، فنقول :

الفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانيّة وثبوت الداعي الإلهيّ الذي يكون موردا للمصلحة الواقعيّة وإن لم يكن قابلا لتعلّق الأمر به بملاحظة الجزء الأخير للزوم الدور أمّا من دون ضمّ القيد الأخير فلا مانع فيه.

ولا يرد أنّ هذا الفعل من دون ملاحظة تمام قيوده التي منها الأخير لا يكاد يتّصف بالمطلوبيّة فكيف يمكن تعلّق الطلب بالفعل من دون ملاحظة تمام القيود التي يكون بها قوام المصلحة.

لأنّا نقول : عرفت أنّه قد يتعلّق الطلب بما هو لا يكون مطلوبا في حدّ ذاته بل يكون تعلّق الطلب لأجل ملاحظة حصول الغير والفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانيّة وإن لم يكن تمام المطلوب النفسيّ مفهوما لكن لمّا لم يوجد في الخارج إلّا بداعي الأمر لعدم إمكان خلوّ الفاعل المختار عن كلّ داع يصحّ تعلّق الطلب به لأنّه يتّحد في الخارج مع ما هو مطلوب حقيقة كما لو كان المطلوب الأصليّ إكرام الإنسان فإنّه لا شبهة في جواز الأمر بإكرام الناطق لأنّه لا يوجد في الخارج إلّا متّحدا مع

١١٩

الإنسان الذي إكرامه مطلوب أصليّ وكيف كان فهذا الأمر ليس أمرا صوريّا بل هو أمر حقيقيّ وطلب واقعيّ لكون متعلّقه متّحدا في الخارج مع المطلوب الأصليّ.

نعم يبقى الإشكال في أنّ هذا الفعل أعني الفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانيّة ممّا لا يقدر المكلّف على إيجاده في مرتبة الأمر فكيف يتعلّق الأمر به وقد عرفت جوابه في المقدّمة الثالثة. هذا. (١)

أورد عليه في نهاية الاصول أنّ ما ذكر صرف تصوير في مقام الثبوت ضرورة أنّه ليس لنا في واحد من العبادات ما يستفاد منه اعتبار قيدين بحسب الواقع بنحو التركيب وتعلّق الطلب ظاهرا بالمقيّد بعدم الدواعي النفسانيّة بل الذي دلّ عليه الأدلّة الشرعيّة هو لزوم صدور الفعل عن داع إلهيّ. (٢)

ولقائل أن يقول : إنّ ما ذكره صاحب الدرر يكفي لرفع الإشكالات الواردة في مقام الثبوت لأخذ قصد الامتثال أو سائر دواعي القربة في متعلّق التكليف.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ صاحب الدرر استظهر في المقدّمة الاولى أنّ الأنسب بالإخلاص المعتبر في العبادات هو اعتبار قيدين بحسب الواقع بنحو التركيب فلا يكون كلامه ناظرا إلى خصوص مقام الثبوت.

ولكن مع ذلك لا يرد عليه ما ذكر من «أنّ الذي دلّ عليه الأدلّة الشرعيّة هو لزوم صدور الفعل عن داع إلهيّ» على نحو البساطة. لأنّ الإخلاص المعتبر في الأعمال العباديّة بمثل قوله تعالى : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) هو مركّب من ترك سائر الدواعي النفسانيّة مع الإتيان بداع إلهيّ إذ إخلاص الإطاعة لا يتحقّق بدون ترك سائر الدواعي النفسانيّة.

__________________

(١) الدرر / ٩٨ ط. جديد.

(٢) نهاية الاصول ١ / ١٠٤.

١٢٠