إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

فالعقلاء يعتدون بواحد في مقابل العشرة.

وأمّا على مبنى المحقّق النائيني وهو عدم حرمة المخالفة القطعية لأجل عدم التمكن من المخالفة القطعية ، فالظاهر عدم تنجيز العلم الإجمالي لكون المقام ممّا لا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية عادة ، فهو جعل عدم التمكن العادي دليلاً على جواز المخالفة القطعية ، فلو كانت المخالفة القطعية غير ممكنة عادة كما هو المفروض ، فيجوز الارتكاب.

الثالث : في كون الساقط هو العلم أو هو مع الشكّ

لا شكّ أنّ العلم الإجمالي بوجود الحرام في الأطراف ينتج الشكّ في كل واحد منها ، فالشكّ نابع من العلم ومن نتائجه.

وعلى ذلك فلو قلنا بسقوط العلم ، فهل الساقط هو نفس العلم فقط على وجه لو كان للشكّ أثر شرعي من الاشتغال يجب ترتيب أثره عليه لكون المفروض انحصار السقوط بالعلم دون الشكّ ، أو الساقط هو العلم والشكّ معاً؟

وتظهر الثمرة في ما إذا علم بماء مضاف بين الأواني الكثيرة غير المحصورة ، فالعلم بوجود الماء المضاف يوجب وجود الشكّ في كلّ واحد من الأواني ، فلو قلنا بسقوط العلم والشكّ معاً يجوز التوضّؤ بواحد منها والاقتصار عليه ، لكون الشكّ ساقطاً عن الاعتبار فيصبح كلّ واحد من الأواني محكوماً بالإطلاق.

وأمّا لو قلنا بأنّ الساقط هو العلم دون الشكّ فيكون الشكّ هنا موضوعاً للاشتغال مثل ما إذا شكّ في إطلاق ماء على نحو الشبهة البدوية ، فلو شكّ في ماء أنّه مطلق أو مضاف لا يجوز له الاقتصار بالتوضّي بهذا الماء ، ويكون المقام مثله إذا قلنا بسقوط العلم دون الشكّ.

والتحقيق انّه على مبنى الشيخ يسقط العلم والشكّ معاً ، لأنّ إلغاء العلم

٥٢١

وجعله كالمعدوم إلغاء لأثره الناتج منه ، أعني : الشك ، فليس هنا شك تعبّداً حتى يكون موضوعاً للاشتغال.

وبعبارة أُخرى : انّ الحكم بموهومية التكليف عند العقلاء يلازم وجود أمارة على كون الماء مطلقاً لا مضافاً ومعه لا موضوع للاشتغال.

وأمّا على مبنى المحقّق النائيني ، فقد ذهب المحقّق الخوئي إلى أنّ الساقط هو العلم دون الشكّ ، وقال : إنّ الملاك في عدم التنجيز عدم حرمة المخالفة القطعية ، لعدم القدرة عليها ، وانّ وجوب الموافقة القطعية متفرّع عليها ، فالعلم بالتكليف المردّد بين أطراف غير محصورة يكون كعدمه.

وأمّا الشكّ في كلّ واحد من الأطراف فهو باق على حاله ، وهو بنفسه مورد لقاعدة الاشتغال ، إذ يعتبر في صحّة الوضوء إحراز كون ما يتوضّأ به ماء مطلقاً ، فنفس احتمال كونه مضافاً كاف في الحكم بعدم صحّة الوضوء به ، ولو لم يكن علم إجمالي بوجود مائع مضاف ، فلابدّ حينئذ من تكرار الوضوء بمقدار يعلم منه وقوع الوضوء بماء مطلق. (١)

ولكن المحقّق الكاظمي نقل في تقريره لدروس أُستاذه أنّه كان يميل إلى سقوط حكم الشكّ ، وهو الظاهر طبقاً لمبناه ، وذلك لأنّه قال : لا تحرم المخالفة القطعية لعدم التمكن العادي عليها ، وبما انّ المانع من جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي لزوم المخالفة القطعية ، فإذا لم تحرم تجري الأُصول بلا معارض ، فاستصحاب الإطلاق في الماء الذي يريد التوضّؤ به محرز للموضوع ولا يعارضه أصل آخر ، ومعه يكون الشكّ فاقد الأثر لوجود الأصل المحرز.

وأمّا ما ذكره المحقّق الخوئي من وجود الشكّ في قرار ذهنه ، فيرد عليه أنّ الموضوع ليس مطلق الشكّ بل الشكّ الذي لم يحكم عليه بحكم ، وهذا نظير :

__________________

١. مصباح الأُصول : ٢ / ٣٧٨.

٥٢٢

« لا شكّ لكثير الشكّ » ، أو « لا شكّ للمأموم مع حفظ الإمام » ، فمثل هذا الشكّ المحكوم بحكم ، خارج عن أدلّة الشكوك ، أعني قوله : إذا شككت فابن على الأكثر ، ومثله المقام فإنّ الشارع بما أنّه لم يُحرِّم المخالفة القطعية وحكم بجريان الأُصول في كلّ آنية ، صارت النتيجة كون الماء مطلقاً ، ومعه لا شكّ تعبداً حتى يحكم بالاشتغال.

الرابع : لزوم كون العلم الإجمالي محدثاً للتكليف على كلّ تقدير؟

يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون مبدأ لحكم فعلي يطلبه الشارع على كلّ حال ، فهذا الحكم الفعلي النابع من العلم الإجمالي فرع أن يكون العلم محدثاً للتكليف على كلّ تقدير ، وإلا فلو أحدث التكليف إذا كان المعلوم في هذا الطرف ولم يكن محدثاً له إذا كان المعلوم في الطرف الآخر لا يكون هناك علم فعلي بالحكم أوّلاً ، ولا تتعارض الأُصول في الطرفين ثانياً ، إذ لا يجري فيمالم يحدث تكليفاً ويبقى جارياً فيما نحتمل إحداث التكليف فيه.

وعلى ذلك فلو علم بنجاسة أحد الثوبين وفي الوقت نفسه علم بغصبية الثوب المعيّن منهما ، فليس لمثل هذا العلم تأثير على كلّ تقدير ، لأنّ النجاسة لو كانت في غير الثوب المغصوب يحدث تكليفاً ويمنع عن استعماله في الصلاة. وأمّا لو كان في الثوب المغصوب فالعلم بنجاسته لا يحدث تكليفاً لأنّه ممنوع الاستعمال سواء كان طاهراً أم نجساً (١) ، ولذلك لا تجري أصالة الطهارة في الثوب المغصوب إذ لا أثر للطهارة فيه لما عرفت من أنّه ممنوع الاستعمال في كلتا الصورتين وعندئذ تجري أصالة الطهارة في جانب الثوب الآخر بلا معارض.

__________________

١. فعدم إحداث التكليف فيه صار سبباً لأمرين : ١. فقدان العلم بالحكم الفعلي المنجّز. ٢. عدم تعارض الأُصول في ناحية ما يحتمل حدوث التكليف فيه.

٥٢٣

وإن شئت قلت : ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بلزوم الاجتناب عن الثوب المغصوب قطعاً ، إمّا لكونه مغصوباً فقط ، أو لكونه مغصوباً ونجساً ؛ وإلى شكّ بدوي في ناحية الثوب الآخر.

الخامس : كفاية اندراج الطرفين تحت عنوانين

لا يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي اندراج الطرفين تحت عنوان واحد كالنجاسة ، بل يكفي اندراجهما تحت أحد عنوانين محدثين للتكليف ، كما إذا علم بنجاسة هذا الثوب أو غصبية الآخر لما عرفت من أنّ الميزان كون العلم الإجمالي محدِثاً للتكليف الفعلي على كلّ حال.

وعلى ضوء ذلك ، فلو كان ذلك الثوب نجساً فهو يحدث التكليف ، كما أنّه لو كان الآخر غصباً فكذلك ، فالعلم بتحقّق أحد العنوانين في أحد الطرفين يُنتج حكماً فعلياً قطعياً باسم الاجتناب عن المغصوب للشارع ولا يحصل إلا باجتنابهما ويتعارض الأصلان.

وعلى ضوء ذلك ، فإذا علمنا بخروج بلل مردّد بين البول والمني يكفي في التنجيز في بعض الظروف فلو كان متطهراً من الحدث الأصغر والأكبر فعلم بوجود ناقض للطهارة على كلّ تقدير ، فمثلاً لو كان البلل بولاً في الواقع فقد نقض طهارته على وجه يوجب التوضّؤ ، ولو كان منيّاً تنقض طهارته أيضاً على وجه يورث الغسل.

وبالتالي وقف على حكم فعلي مردّد بين التوضّؤ والغسل ، فيجب الامتثال على وجه تحصل الموافقة القطعية.

نعم لو كان محدثاً بالحدث الأصغر فخرج مثل ذلك البلل ، فهو يحدث التكليف على فرض ، أعني : إذا كان منيّاً دون ما إذا كان بولاً ، لأنّ المفروض أنّه

٥٢٤

محدث بالحدث الأصغر ، وعلى ذلك لا ينتج العلم الإجمالي حكماً فعلياً قطعياً يجب امتثاله بل ذلك العلم مؤثر على وجه وغير مؤثر على وجه آخر ، ففي مثله ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وهو وجوب الوضوء على كلّ حال وشكّ بدوي وهو وجوب الغسل.

وإن شئت قلت : ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب رفع الحدث الأصغر ، وإلى شكّ في وجود الحدث الأكبر. ومع الشكّ تجري البراءة في الناحية الثانية.

لا يقال انّ الأثر مترتب أيضاً على فرض كون الخارج بولاً ، للزوم غسل المخرج ، لأنّا نقول إنّ العلم بوجوب الغَسْل نتيجة علم تفصيلي بنجاسة المخرج لخروج النجس منه سواء أكان منياً أم بولاً ، لا على خصوص كون الخارج بولاً.

التنبيه الرابع : في حكم ملاقي الشبهة المحصورة

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :

الأوّل : انّ محل البحث في لزوم الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة وعدمه ، إنّما هو فيما إذا لاقى الشيء أحد الطرفين مثلاً ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الطرفين من السجادة ، ثمّ لاقى شيء رطب أحد الطرفين ; وأمّا إذا لاقى كليهما مع الرطوبة فهو يعد ملاق للنجاسة ، وليس ملاقياً للمشتبه.

ومثله ما إذا لاقى شيء رطب أحد الطرفين وشيء آخر ، الطرف الآخر ، فيحصل العلم الإجمالي بنجاسة أحد الملاقيين زائداً على العلم الإجمالي المتعلّق بنفس الشيئين.

الثاني : انّ الكلام في ما إذا لاقى أحد الطرفين ، وأمّا إذا انقسم أحد الطرفين بالملاقاة قسمين فهو خارج عن محط البحث ، كما إذا غمس إحدى يديه في الإناء وأخرجها منه وكانت القطرات عالقة عليها ، فمادام الحال كذلك ، فهي تعد من

٥٢٥

أطراف العلم حيث يعلم بنجاسة هذا الإناء أو ذاك مع ملاقيه ، لأنّه أشبه بما إذا قسم ماء أحد الإناءين إلى إناءين فيتوسع طرف العلم ، فيدور العلم بين نجاسة ذاك الإناء أو هذين الإناءين.

والحاصل انّ الكلام فيما إذا كان هناك مجرّد الملاقاة ، من دون أن ينتقل شيء من الملاقى إلى الملاقي كما في المقام.

ومن هنا يعلم حكم ما إذا علم بغصبية إحدى الشجرتين ثمّ أثمرت إحداهما دون الأُخرى ، فربّما يقال بجواز التصرف في الثمرة تكليفاً ولعدم ضمانها وضعاً ، باعتبار انّ الموجب لحرمة الثمرة كونها نماء المغصوب وهو مشكوك فيه ـ والأصل عدمه ـ كما أنّ موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير وهو أيضاً مشكوك والأصل عدمه.

يلاحظ عليه : بأنّ الثمرة ، عصارة الشجرة وجزء منها ، فهي أشبه بما إذا كبرت الشجرة وأورقت وارتفعت أغصانها ، فتكون الشجرة مع ثمارها وأوراقها طرفاً للعلم ، نظيره ما إذا علم بغصبية إحدى الشاتين فانتجت إحداهما ، فلا يعد الولد خارجاً عن طرف العلم.

وأمّا الأصل الذي أُشير إليه فهو غير تام ، لأنّه من قبيل الأصل الأزلي الذي لا نقول به ، ولا عبرة عند العقلاء ولا يعد عدم الاعتداد به عند العقلاء ، نقضاً لليقين السابق.

الثالث : لا إشكال في وجوب ترتيب كلّ ما للمعلوم من الأحكام والآثار ، على كلّ واحد من الطرفين من باب المقدمة العلمية ، فإذا علم بنجاسة أحد الإناءين فبما انّه لا يجوز التوضّؤ بالنجس ، ولا بيعه لا يجوز التوضّؤ بأحدهما ولا بيع أحد منهما ، فما للمعلوم من الآثار يترتّب على كلّ واحد لتحصيل البراءة القطعية إنّما الكلام في ترتّب أثر المعلوم بالإجمال على ملاقي الطرفين كوجوب

٥٢٦

الاجتناب المترتب على الملاقي ، فهل يترتب على ملاقي أحد الأطراف أو لا؟ واستنباط حكمه رهن الوقوف على حكم ملاقي النجس الواقعي ، فهل الاجتناب عنه من جهة انّه من شؤون الاجتناب عن النجس وليس هنا تعبد وراء التعبد بلزوم الاجتناب عن النجس ، أو انّه موضوع مستقل له حكم خاص وامتثال وعصيان مستقل ، نسب الأوّل إلى ابن زهرة والثاني إلى المشهور؟

وقد استدل للقول الأوّل بوجهين

الأوّل : قوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا المُدَّثِر * قُمْ فَانْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّر * وَثِيابَكَ فَطَهِّر * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ). (١)

قال ابن زهرة قوله : ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) وقوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ) (٢) يقتضي تحريم استعمال الماء المخالط للنجاسة مطلقاً. (٣) ترى أنّه استدل على تحريم استعمال الماء المخالط للنجاسة ، بما دلّ على لزوم هجرها ، فالآية تدل على هجر نفس العين النجسة ، لكنّه جعلها دليلاً على هجر مخالطها أيضاً.

أقول : إنّ الرِّجْز ـ بكسر الراء ـ ورد في القرآن الكريم تسع مرّات ، أُريد منه في ثمانية موارد ، العذاب ; وفي مورد واحد ، القذارة ، وهي أثر الاحتلام الذي ابتلى به بعض الحاضرين في وقعة بدر ، قال سبحانه :

( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطان ). (٤)

__________________

١. المدثر : ١ ـ ٥.

٢. المائدة : ٣.

٣. الغنية : ١ / ٤٦ ، الطبعة المحقّقة.

٤. الأنفال : ١١.

٥٢٧

وأمّا الرُّجز ، فقد ورد مرة واحدة ، وفسّر بالعذاب تارة والمراد الابتعاد من أسبابه ، والوثن أُخرى ، والقذارة ثالثة. فعلى التفسيرين الأوّلين لا صلة للآية بالمقام ويكون خطاب الآية للنبي ، بمنزلة قولهم : إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، وقوله سبحانه : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَن مِنَ الْخاسِرين ). (١)

وعلى المعنى الثالث يمكن أن يراد القذارة المعنوية كالحسد والبخل ويكون مساقها مساق المعنيين السابقين ، كما أنّه يمكن أن يراد منه القذارة الظاهرية ، وقد ورد في تفسيره انّ رجلاً بإيعاز من أبي جهل ألقى شيئاً قذراً على النبي ّ ، فلو أُريد منه نجس العين فلا صلة لها بالمقام ، ولو أُريد منه الأعم منه ومن المتنجس فيصحّ الاستدلال ، لأنّه سبحانه أمر بهجرهما بكلمة واحدة وأمراً واحداً ، وهذا يدل على أنّ هجر المتنجس من شؤون هجر النجس موضوعاً مستقلاً.

يلاحظ عليه : بعد تسليم المقدّمات ، لا مانع من أن يكون كلّ من النجس والمتنجس مهجوراً بأمر مستقل ، ومع ذلك يصحّ الأمر بهجرهما بمفهوم جامع بينهما وذلك مثل ما إذا كان شخصان محرّمي الإكرام كلّ بملاك خاص ، ومع ذلك صحّ أن يقعا موضوعاً لحكم واحد ، كما إذا قال : لا تكرم العاصيين أو لا تكرم الجالسَين.

الثاني : ما رواه الشيخ ، عن محمد بن أحمد بن يحيى ( الأشعري القمي صاحب كتاب نوادر الحكمة المتوفّى حوالي ٢٩٠ هـ ) عن محمد بن عيسى اليقطيني ( المعروف بالعبيدي الثقة عند الجميع إلا عند أُستاذ الصدوق ابن الوليد ) عن النضر بن سويد ( الذي وثّقه النجاشي ) عن عمرو بن شمر بن يزيد ( الذي ضعّفه النجاشي ، ولم يوثّقه أحد من القدماء وإن سعى العلاّمة المجلسي والبهبهاني في إثبات وثاقته ) عن جابر ( بن يزيد الجعفي من أصحاب الباقر الثقة

__________________

١. الزمر : ٦٥.

٥٢٨

على الأقوى ) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أتاه رجل ، فقال : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟

قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « لا تأكله » ، فقال له الرجل : الفأرة أهونُ عليّ من أن أترك طعامي من أجلها.

قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « إنّك لم تستخف بالفأرة ، وإنّما استخففت بدينك انّ اللّه حرم الميتة من كلّ شيء ». (١)

ويمكن تقريب الاستدلال بوجهين :

١. انّه فسر أكل الطعام الذي وقعت فيه فأرة استخفافاً بالدين وفسّـره بتحريم الميتة ، فلو كانت نجاسة الملاقي للميتة فرداً آخر وراء التعبد بنجاسة الميتة ، لم يكن أكل السمن أو الزيت استخفافاً بالدين المفسّر بتحريم الميتة بل كان استخفافاً بالدين المفسّـر بوجوب الاجتناب عن الملاقي.

٢. انّ الإمام عليه‌السلام فسّر الاجتناب عن السمن أو الزيت بأنّ اللّه حرم الميتة من كلّ شيء ، ولولا كون الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) من شؤون الاجتناب عن الملاقى فقط لما كان لهذا التفسير وجه ، بل كان عليه أن يقول : إنّ اللّه حرم كلّ شيء لاقى النجس.

وبالجملة نجد انّ الإمام يجعل الفأرة والميتة موضوعاً للحكم من الاستخفاف والتحريم مع أنّ المطروح للراوي هو الزيت والسمن الّذين وقعت فيهما الفأرة.

كلّ ذلك دليل على أنّ حكم السمن والزيت مندك في حكم الميتة والفأرة ، ولذلك جعل أكل السمن استخفافاً بالدين وردّاً لتحريم الميتة.

__________________

١. الوسائل : ١ ، الباب ٥ من أبواب الماء المضاف ، الحديث ٢.

٥٢٩

يلاحظ عليه : مضافاً إلى أنّ الرواية ضعيفة السند وإن كان يلوح عليها أثر الصدق بأنّ وجه التركيز على الفأرة والميتة مكان التركيز على السمن والزيت لأجل تفسّخ الميتة في السمن والزيت وانحلالها فيه ، فكان أكلها ملازماً لأكله.

أضف إلى ذلك انّ دلالة الرواية لا تخرج عن حدّ الإشعار ، ولعلّ التركيز على الأمرين مكان السمن والزيت لأجل الحفاظ على الانسجام بين كلام الراوي والإمام عليه‌السلام حيث إنّ الراوي لمّا قال : الفأرة أهون علي ، فركّز الإمام على الفأرة وأجاب : بأنّ عدم الاعتناء بها ليس استخفافاً بها وإنّما هو استخفاف بالدين ، ثمّ قال : كيف تقول الفأرة أهون مع أنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء.

على أنّ التدقيق في الرواية يرشدنا إلى أنّها بصدد أمر آخر ، وهو انّ الراوي تعجب من أن تكون الفأرة الصغيرة سبباً لحرمة زيت أو سمن الخابية ، فأجاب الإمام عليه‌السلام بأنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء من غير فرق بين الصغير والكبير ، وأمّا كون نجاسة الملاقي من شؤون الملاقى أو فرد آخر فليس بصدد بيانه.

إلى هنا تمّ دراسة قول ابن زهرة ، وإليك دراسة دليل المشهور ، فيدل على قولهم أُمور :

١. قوله عليه‌السلام في الخبر المستفيض : « وإذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء » (١) فإنّ مفهومه انّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه شيء ، وظاهره هو العلّية وصيرورة الملاقي موضوعاً لأحكام النجاسة لا انّ نجاسة الملاقي نفس نجاسة ذلك الشيء ومن توابعها وشؤونها وأطوارها.

٢. انّ الظاهر من مطهرية الماء والأرض والشمس هو كون مسألة الطهارة والنجاسة داخل تحت عنوان السببية والعلّية ، فالمطهرات علّة لزوال النجاسة ، كما أنّ النجاسات سبب لعروضها على شيء.

__________________

١. الوسائل : ١ / ١٧ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ ، ٢ و ٥.

٥٣٠

٣. اختلاف الملاقي في كثير من الأحكام عن الملاقى ، فلو ولغ كلب في إناء يجب تعفيره ، ولو لاقاه شيء لا يجب إلا الغَسْل ، ومثله وجوب غسل ما لاقى البول مرتين ، دون ما إذا لاقى الماء الملاقي له ، فيجب مرّة واحدة ، وعلى ذلك جرى مذاق المشهور في أبواب الطهارات والنجاسات ، كلّ ذلك يؤيد نظرية المشهور.

الرابع : إذا كان المعلوم بالإجمال تمام الموضوع لحكم شرعي يترتب أثر المعلوم بالإجمال على كلّ من الطرفين ، كما إذا علم بخمرية أحد المائعين ، فلا يجوز بيعهما ، ولا بيع أحدهما ولا التوضّؤ بواحد منهما ، وذلك لأنّ الخمر وحده موضوع لحرمة البيع والتوضّؤ فيترتب حكم المعلوم على كلّ من الطرفين من باب المقدمة العلمية.

الخامس : إذا كان المعلوم بالإجمال جزء الموضوع للحكم الشرعي فلا يترتب الحكم عليه ، كما إذا شرب أحد المائعين المردّدين بين الخمر والماء ، فلا يحكم على الشارب بالحدّ ، لأنّ الموضوع للحدّ هو شرب الخمر ، والمعلوم بالإجمال هو نفس الخمر فلا يترتب أثره على شرب أحد الطرفين ، ومثله ما إذا علم وجداناً بكون أحد الجسدين ميِّتَ إنسان والآخر جسد حيوان مذكّى مأكول اللحم ، فلا يجوز بيعهما ولا واحد منهما ، لعدم ترتّب منفعة محللة مع العلم الإجمالي ، ولكن لو مسّ واحداً من الجسدين لا يجب عليه غسل المس ، لأنّ المحرز هو مسُّ أحد الجسدين المردّد بين ما يجب على من مسّه الغسل ، وعدمه ، والأثر مترتّب على مس ميت الإنسان ، والمعلوم بالإجمال هو وجود الميت بين الجسدين.

هذه هي المقدّمات الخمس المؤثرة في استنباط حكم الملاقي والأقوال فيه ثلاثة :

١. كونه محكوماً بحكم الملاقى في لزوم الاجتناب والاشتغال.

٢. إجراء البراءة والحكم بطهارة الملاقي.

٣. التفصيل الظاهر من المحقّق الخراساني في الكفاية.

٥٣١

دليل القائل بلزوم الاجتناب

إنّ محط البحث فيما إذا حصل الملاقاة بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الشيئين ، فعندئذ يحصل بعد الملاقاة علوم ثلاثة :

١. العلم بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر.

٢. العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر.

٣. العلم بنجاسة الملاقي والملاقى أو ذاك الطرف ، وذلك لاتحاد حكمها ، فيجب الاجتناب عن الجميع بغية الاجتناب عن النجس في البين.

يلاحظ عليه بما مرّ في الأمر الأخير : من أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي ، كونه محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير ، حتى يحصل منه علم بتكليف فعليّ ، وإلا فلو أحدث على فرض دون فرض ، لا يحصل منه العلم به قطعاً ، ولذلك لا يكون العلم الإجمالي منجِّزاً في الفروع التالية :

١. لو علم إجمالاً بوقوع النجاسة في أحد الإناءين الّذين كان أحدهما محكوماً بالنجاسة ووجوب الاجتناب بدليل شرعي ، وبما أنّ العلم الإجمالي لا يُحدِث تكليفاً في الإناء المحكوم بالنجاسة ، لأنّه محكوم بها وإن لم يكن هناك علم إجمالي ، فلا يجري فيه الأصل ، للعلم بنجاسته ووجوب الاجتناب عنه ، ويجري في الإناء الآخر بلا معارض.

٢. لو علم إجمالاً انّه فات منه إحدى الصلاتين : صلاة العصر مع انقضاء وقته ، وصلاة العشاء مع بقاء وقته ، وبما انّ العلم الإجمالي بفوت إحداهما لا يُحدث تكليفاً في جانب صلاة العشاء ، لأنّ صرف الشكّ في الوقت ، وإن لم يكن هناك علم إجمالي كاف في لزوم الإتيان بها ، فلا يجري فيها الأصل ، وإنّما تجري أصالة البراءة أو قاعدة التجاوز في جانب صلاة العصر بلا معارض.

٥٣٢

٣. لو علم إجمالاً بنجاسة أحد المائعين ، ثمّ علم إجمالاً بوقوع نجاسة إما في أحدهما أو في الإناء الثالث ، وبما انّ العلم الإجمالي لا يؤثر في جانب الإناءين ، لأنّ المفروض وجوب الاجتناب عنهما ولو لم يكن هناك علم إجمالي ، فلا يجري الأصل في جانبهما ، ويجري الأصل في جانب الإناء الثالث بلا معارض.

هذه الأمثلة وماضاهاها داخلة تحت الضابطة السابقة من أنّه يشترط في تنجّز العلم الإجمالي كونه محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير وإلا فلا يحصل علم فعلي لازم الامتثال على كلّ تقدير ، كما لا يجري الأصل في جانب الموضوع المحكوم سابقاً ويجري في جانب الطرف الآخر المشكوك.

وعلى ضوء هذا ، يعلم جواب الاستدلال ، لأنّ مورد البحث فيما إذا تقدّم العلم الإجمالي على الملاقاة ، وفي مثله يكون العلم الإجمالي الأوّل منجِّزاً ، والثاني غير منجِّز ، والثالث ليس علماً جديداً بل تلفيقاً من الأوّلين الّذين اتضح حكمهما.

أمّا منجِّزية العلم الأوّل فواضح ، وأمّا عدم منجِّزية العلم الثاني فلأنّ العلم الإجمالي الدائر بين وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر ، أو الملاقى ، ليس محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير لافتراض انّ الطرف الآخر كان واجب الاجتناب ببركة العلم الأوّل ، وإن لم يكن هناك علم إجمالي ثان ، فلا يكون الثاني مؤثراً فيه ، كما لا تجري فيه أصالة الطهارة لكونه محكوماً بوجوب الاجتناب بالعلم الأوّل ، ويكون الشك في الملاقي من قبيل الشكّ في الشبهة البدوية ويجري فيه الأصل.

وأمّا العلم الثاني فهو ليس علماً جديداً ، بل هو تلفيق من العلمين الّذين تبيّن حكمهما.

هذا هو الحقّ القراح في الجواب ، وإليك دراسة إجابة الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

٥٣٣

تحليل إجابة الشيخ الأنصاري

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري أجاب عن الاستدلال بقوله : قلت : إنّ أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي ـ بالكسر ـ سليم عن معارضة أصالة الطهارة في المشتبه الآخر ، وحلّيته ، بخلاف أصالة الطهارة والحلّ في الملاقى ( بالفتح ) فانّ جريان الأصلين فيه يعارض جريانهما في المشتبه الآخر ، والسرّ في ذلك انّ الشكّ في الملاقي ( بالكسر ) ناش عن الشبهة المتقوّمة بالمشتبهين ، فالأصل فيهما أصل في الشكّ السببي ، والأصل فيه أصل في الشكّ المسببي ، وقد تقرّر في محلّه انّ الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي ، ومع جريان الأصل في الملاقى لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي ( بالكسر ) والمفروض انّ الأصل في الملاقى سقط لأجل التعارض مع أصل الطرف الآخر ، فتصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي بلا معارض. (١)

يلاحظ عليه : أنّه مبنيّ على أنّ الرتب العقلية موضوعة للأحكام الشرعية ، فعندئذ يقدم الأصل المتقدّم رتبة على الأصل المتأخر كذلك ، فإذا سقط الأصل في الرتبة المتقدمة بالتعارض ، تصل النوبة إلى الأصل في الرتبة المتأخرة بلا معارض.

ولكنّه أمر غير صحيح ، وذلك لأنّ المخاطب بقوله : « كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر » هو العرف لا الفيلسوف العارف بدقائق المسائل العقلية ، وعلى ذلك فالخطابات ناظرة إلى المصاديق الخارجية للشك ، والمفروض انّ كلّ واحد من الطرف الآخر والملاقى والملاقي ، مشكوك الطهارة معاً ، فيجري فيهما الأصل في عرض واحد ، لأنّ المكلّف عندما يشكّ في طهارة الملاقي ( بالكسر ) يشكّ في طهارة العدلين الآخرين ، فلا وجه لجريان الأصل فيهما قبل جريانه في الملاقى.

__________________

١. الفرائد : ٢٥٣.

٥٣٤

وبذلك يعلم عدم صحّة الشبهة الحيدرية التي حاولت إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي ، ببيان جديد ، وحاصلها : انّ كلاً من الطرف والملاقى والملاقي ( بالكسر ) صالح لجريان أصلين في كلّ واحد منها :

١. أصالة الطهارة ٢. أصالة الحلية.

ومنشأ الشكّ في الحلّية ، هو الشكّ في طهارته ، فلو ثبتت طهارته ، ثبتت حليته ، كما لو ثبتت نجاسته ، ثبتت حرمته.

وعلى ذلك فأصالة الطهارة في الطرف والملاقى ( بالفتح ) في رتبة واحدة.

ولكن أصالة الطهارة في الملاقي في مرتبة ثانية.

كما أنّ أصالة الحلية في الطرف الآخر هي أيضاً في رتبة متأخرة.

وعندئذ فأصالة الطهارة في الملاقي ( بالكسر ) وإن كان لا يعارض أصالة الطهارة في الملاقى لما عرفت من أنّ الأصل يجري في الملاقى في رتبة متقدمة على الأصل الجاري في الملاقي ، لكن أصالة الحل في جانب الطرف الآخر مع أصالة الطهارة في الملاقي في درجة واحدة فيتعارضان ويتساقطان ، وتكون النتيجة انّ الطرف الآخر يكون محكوماً بالحرمة ، كما يكون الملاقي محكوماً بالنجاسة.

وجه عدم الصحّة : انّ التعارض مبني على حفظ الرُّتَبِ في جريان الأُصول وانّ أصالة الطهارة تجري في الملاقى وطرفه قبل جريانها في الملاقي ، ثمّ في مرتبة متأخّرة تجري فيه أصالة الطهارة التي تعارضها أصالة الحلية في الطرف الآخر بما أنّـها أيضاً في درجة ثانية ، لأنّـها مسببة من أصالة الطهارة فيه.

وقد عرفت أنّ الموضوع لقوله : « كلّ شيء طاهر ، كلّ مشكوك » في زمان واحد والمفروض انّ الملاقى مشكوك الطهارة والحلية في عرض الشكّ في الطرفين.

والجواب ما ذكرناه فلاحظ.

٥٣٥

القول بالتفصيل للمحقّق الخراساني

إلى هنا عرفت دليل القولين ، أعني : وجوب الاجتناب وعدمه ، وإليك دليل القائل بالتفصيل الذي اختاره المحقّق الخراساني في كفايته وحاصل كلامه : إنّ هنا صوراً ثلاث :

الأُولى : ما يجب فيه الاجتناب عن الطرف والملاقى دون الملاقي ، وذلك فيما إذا كان العلم الإجمالي متقدماً على الملاقاة والعلم بها ، وهذا هو الذي فرغنا من البحث فيه ووجهه واضح كما تقدّم بالبيانين السابقين.

أ : انّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الظرف الآخر غير منجِّز لأنّه لا يحدث التكليف على كلّ تقدير ، لأنّ الطرف الآخر كان واجب الاجتناب فلا يجري فيه الأصل ويجري في الملاقي بلا معارض.

ب : ما اعتمد عليه الشيخ الأنصاري من تقدّم جريان الأصل في السببي أي الملاقى على المسببي أي الملاقي فإذا تعارض الأصلان في ناحية السببي تصل النوبة حينها إلى المسببي فتجري بلا معارض.

الثانية : (١) مايجب فيه الاجتناب عن جميع الأطراف : الملاقى والملاقي والطرف الآخر. وذلك إذا علم بالملاقاة ، ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر فعندئذ يحدث العلم الإجمالي متعلّقاً بالجميع وتكون الثلاثة معاً طرفاً للعلم.

الثالثة : ما يجب فيه الاجتناب عن الملاقي والطرف الآخر دون الملاقى.

وقد مثّل لذلك مثالين :

__________________

١. هذه هي الصورة الثالثة في كلام المحقّق الخراساني قدمناها لأجل وضوح حكمها بخلاف الصورة الآتية التي جاءت في كلامه لبيان الصورة الثانية فإنّ فيها غموضاً بياناً وإشكالاً.

٥٣٦

الأوّل : لو علم إجمالاً بنجاسة الملاقي (١) ونجاسة شيء آخر ثمّ حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى وذاك الشيء أيضاً ، فانّ حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال الملاقي في الصورة السابقة في عدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي وانّه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعاً غير معلوم النجاسة أصلاً لا إجمالاً ولا تفصيلاً.

مثلاً علم نجاسة يده أو نجاسة الجانب الأيسر من السجادة ثمّ علم بملاقاة اليد للجانب الأيمن منها على وجه يكون العلم متأخراً والمعلوم ( الملاقاة ) متقدماً ثمّ علم بنجاسة أحد الجانبين منها ، فالعلم الإجمالي الثاني الدائر بين نجاسة أحد الجانبين غير منجّز ولا مؤثر ، وذلك لأنّ الجانب الأيسر قد وجب الاجتناب عنه بحكم العلم الإجمالي الأوّل ، فلا يجري فيه الأصل ويجري في طرفه أي الجانب الأيمن بلا معارض.

فتكون النتيجة وجوب الاجتناب عن اليد والجانب الأيسر ، بحكم العلم الإجمالي الأوّل وعدم وجوب الاجتناب عن الجانب الأيمن لعدم منجّزية العلم الثاني ، وهذا هو الذي قال فيه المحقّق الخراساني : يجب الاجتناب عن الملاقي والطرف الآخر دون الملاقى.

الثاني : لو علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي ولكن كان الملاقى خارجاً عن محلّ الابتلاء في حال حدوث العلم الإجمالي وقد وقع محلاً للابتلاء بعد حدوث العلم ، مثلاً ، لو لاقت يده إحدى السجادتين ثمّ علم إجمالاً بنجاسة هذه السجادة أو السجادة الأُخرى ولكن كانت السجادة الأُولى حين حدوث العلم الإجمالي خارجة عن محل الابتلاء بأن سرقها سارق وأخرجها من البلد ، ثمّ عثر

__________________

١. الملاقاة متقدمة وجوداً ومتأخرة علماً ولذلك قال : حدث العلم بالملاقاة ، فالحادث هو العلم لا المعلوم ، فتدبر.

٥٣٧

عليها وصارت محلاً للابتلاء.

وبما انّ الملاقى عند حدوث العلم كان خارجاً عن محلّ الابتلاء لم يكن العلم الإجمالي محدثاً للتكليف بالنسبة إليها ، وعندئذ يقوم الملاقي بحكم وحدة حكمهما في الواقع مكانه ويكون طرفاً للعلم الإجمالي وتُصبح النتيجة وجوب الاجتناب عن اليد والسجادة الثانية ويكون العلم الإجمالي منجِّزاً.

ولكن عودة السجادة الأُولى إلى محل الابتلاء لا يجعلها طرفاً للعلم الإجمالي لخروجها عند حدوث العلم الإجمالي.

هذا توضيح ما في الكفاية.

ولنا معه نقاش في كلا الموردين من الصورة الثالثة.

أمّا النقاش في المورد الأوّل فنقول : إنّ هنا تصويرين :

التصوير الأوّل : أن يكون العلم الإجمالي الأوّل ثابتاً غير زائل عند حدوث العلم الثاني ، مثلاً إذاعلم نجاسة يده أو الجانب الأيسر من السجادة ثمّ علم بالملاقاة على وجه يكون العلم والمعلوم ( الملاقاة ) متأخرين عن العلم الإجمالي الأوّل ثمّ علم بنجاسة أحد الجانبين منها من دون أن تكون نجاسة اليد مستندة إلى الملاقاة ، ففي مثل هذه الصورة يصحّ ما ذكره من وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى ، لأنّ العلم الإجمالي نجّز وجوب الاجتناب عن الجانب الأيسر مع اليد ، فلا يكون العلم الإجمالي الثاني الدائر بين نجاسة أحد الجانبين محدثاً للتكليف في الأيسر لكونه محكوماً بوجوب الاجتناب من قبل ، ولأجل ذلك لا يجري فيه الأصل ، وبالتالي يجري في الجانب الأيمن بلا معارض.

ومن المعلوم انّ هذه الصورة خارجة عن محطّ البحث ، لأنّه فيما إذا كان للملاقاة أثر في وجوب الاجتناب وتأثير في نجاسة الملاقي أمّا في هذه الصورة فليس للملاقاة أي أثر ، فلا معنى لطرحه في البحث ، وليس هذا أيضاً مقصوده ،

٥٣٨

ويشهد بذلك انّه فرض كون الملاقاة متقدمة وجوداً ومتأخّرة علماً وليس لهذا الفرض ( تقدّم الملاقاة وجوداً ) وجه سوى كونه أساساً للعلم الإجمالي الأوّل وإلا يكون وزانه وزان ما علم بنجاسة أحد الإناءين الأصغر والأكبر ثمّ علم إجمالاً أيضاً بنجاسة الإناء الأكبر أو الإناء الثالث ، ومن المعلوم انّ هذا النوع من العلم الإجمالي لا يؤثر ، لأنّ الإناء الأكبر صار محكوماً بوجوب الاجتناب بتنجز العلم الإجمالي الأوّل ، فلا يكون للعلم الإجمالي الثاني تأثير بالنسبة إلى الإناء الأكبر ويكون الإناء الثالث مجرى للأصل بلا معارض.

التصوير الثاني : تلك الصورة ولكن كان للملاقاة تأثير وانّه لو كان الملاقي نجساً فإنّما هي لأجل ملاقاته للجانب الأيمن من السجادة ، ففي مثل هذه الصورة ينهار العلم الإجمالي الأوّل ويظهر خطؤه ، لأنّ نجاسة الملاقي على فرضها ناجمة من نجاسة الملاقى وانحصار سبب نجاسة الملاقى بالملاقاة وإن لم يصرّح به في متن الكفاية إلا أنّه صرّح به في حاشيتها ووجه الحاجة إلى القيد واضح. (١)

وعندئذ ينقلب العلم الإجمالي الأوّل الدائر بين نجاسة اليد والجانب الأيمن إلى علم إجمالي آخر وهو نجاسة أحد الجانبين من السجادة ، فلو كانت اليد نجسة فإنّما هو لملاقاتها فيزول العلم الإجمالي الأوّل ، ويبقى العلم الإجمالي الثاني وتكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الجانبين على خلاف ما ذكره المحقّق الخراساني.

وأمّا الملاقي فبما انّ العلم بالملاقاة كان متحقّقاً قبل العلم الإجمالي الثاني الذي هو العلم الحقيقي فينضم الملاقي إلى الملاقى ويكونان معاً طرفاً للعلم الإجمالي والطرف الآخر هو الجانب الأيسر ويشبه هذا المورد الصورة الثانية في كلامنا أو الصورة الثالثة في كلام المحقّق الخراساني. وتكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الملاقي والملاقى والطرف الآخر ، وإليك الكلام في المورد الثاني.

__________________

١. فوائد الأُصول : ٤ / ٨٥.

٥٣٩

تحليل المورد الثاني : أعني ما إذا علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر قبل الملاقاة لكن كان الملاقى حين حدوث العلم خارجاً عن محلّ الابتلاء ، فحينئذ يقع الملاقي طرفاً للعلم ويحلّ محلَ الملاقى وبالتالي : لا وجه للاجتناب عن الملاقى ولو دخل محل الابتلاء ثانياً.

يلاحظ عليه : أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء إنّما يكون مانعاً عن جريان الأصل إذا لم يترتب عليه أثر ، دونما إذا كان له أثر حتى في هذه الحالة أيضاً ، والأثر المترتب على الأصل الجاري في الملاقى الخارج عن محلّ الابتلاء هو طهارة ملاقيه ، وعند ذلك ، يجري الأصل في الملاقى وإن كان خارجاً عن محلّ الابتلاء ويتعارض مع جريانه في الطرف الآخر ، ويتساقطان ، وعلى ذلك لو عاد الملاقى إلى محلّ الابتلاء وجب الاجتناب عنه ، لأنّه ـ لأجل ترتّب الأثر عليه ـ لم يخرج عن كونه طرفاً للعلم.

وأمّا الملاقي ، فالظاهر وجوب الاجتناب عنه ، لأنّه لمّا كانت الملاقاة متقدمة على العلم الإجمالي وجوداً وعلماً فقد حدث العلم الإجمالي والمكلّف عالم بملاقاة اليد بإحدى السجادتين ، فيتعلق العلم الإجمالي بالثلاثة مرّة واحدة غاية الأمر يشكِّل مجموع الملاقى والملاقي طرفاً والشيء الآخر طرفاً آخر.

هذا هو حال التفصيل للمحقّق الخراساني والنتيجة هي الموافقة معه في الصورة الأُولى والثانية ، وأمّا الثالثة ، فحكمها هو الاجتناب عن جميع الأطراف حتى الملاقى على ما عرفت.

ثمّ إنّه ينبغي طرح ضابطة يعلم بها حكم الموارد التي لا يجب الاجتناب عن الملاقي عمّا يجب ، وسيوافيك قريباً.

٥٤٠