إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

لاستلزامه وجود حكمين متناقضين في الشريعة ، حيث يقول الدم نجس وفي الوقت نفسه ينهاه عن العمل بقطعه بأنّ هذا دم.

نعم لو أراد عدم كفايته في الحكم بصحّة العمل بعد انكشاف الخلاف ، كما إذا قطع بدخول الوقت وتبيّن عدم دخوله ، فيحكم عليه بالبطلان ، كان له وجه ، ولكن لا فرق عندئذ بين القطّاع وغيره.

وأمّا الثاني : أي القطع الموضوعي ، فبما انّ القطع جزء الموضوع فللمقنن التصرف في موضوع حكمه ، فيصح جعل مطلق القطع جزءاً للموضوع كما يصحّ جعل القطع الخاص جزءاً له ـ أي ما يحصل من الأسباب المتعارفة ـ فللنهي عندئذ له مجال ، فإذا قطع بأسباب غير عادية فللشارع النهي عن العمل به ، لأنّ المأخوذ في الموضوع غيره.

ثمّ لو وقف الإنسان على خطأ القاطع ـ قطاعاً كان أم غيره ـ في الأحكام ، والموضوعات ، فهل يجب على الغير إرشاده أو لا؟ فالظاهر وجوبه في مورد الجهل بالأحكام بالنظر إلى أدلّة إرشاد الجاهل من غير فرق بين البسيط والمركب ، وأمّا الموضوعات فلا شكّ في عدم وجوب إرشاده إلا في مهام الأُمور كالدماء والأعراض والأموال الطائلة.

هذا كلّه حول القطاع.

أمّا الظنّان فيمكن للشارع سلب الاعتبار عنه من غير فرق بين كونه طريقاً محضاً إلى متعلقه ، أو مأخوذاً في الموضوع والفرق بينه وبين القطع واضح ، لأنّ حجّية الظن ليست ذاتية له وإنّما هو باعتبار الشارع ، وجعله حجّة في مجال الطاعة والمعصية ، وعليه يصحّ النهي عن العمل به مطلقاً من غير فرق بين كونه طريقيّاً محضاً أو موضوعيّاً.

ثمّ إنّ ظنّ الظنّان يكون محكوماً بحكم الشك ، وإليك التوضيح بمثالين :

٨١

١. لو ظن بعد الخروج عن المحل انّه ترك التشهد ، فلا يعود ، لكونه من قبيل الشك بعد المحل ، نعم لو كان ظاناً متعارفاً كان عليه الرجوع لحجّية الظن في الركعات الأخيرة وأجزاء الصلاة فعلاً أو تركاً.

٢. لو ظن قبل الخروج عن المحل ، بالإتيان فيعود ، لأنّ الشاك في المحل يعود فيحكم عليه بالرجوع والإتيان به مع أنّه لو كان ظاناً متعارفاً كان عليه عدم الرجوع.

وأمّا الشكّاك ففيه التفصيل : ففي كلّ مورد لا يعتنى بالشك العادي لا يعتنى بشكّ الشكّاك بطريق أولى ، كالشكّ بعد المحل ؛ وأمّا المورد الذي يعتنى فيه بالشكّ العادي ويكون موضوعاً للأثر ، فلا يعتنى بشكّ الشكّاك ، كما في الشك في عدد الركعتين الأخيرتين فلو شكّ بين الثلاث والأربع ، فالشاك المتعارف يجب عليه صلاة الاحتياط بعد البناء على الأكثر ، وأمّا الشكّاك ، فلا يعتنى بشكّه ولا يترتب عليه الأثر بشهادة قوله : « لا شكّ لكثير الشكّ » فلو اعتدّ به أيضاً لم يبق فرق بين الشكّاك وغيره.

٨٢

الأمر السابع

حجّية العقل

في مجالات خاصة

انّ الشيعة الإمامية ، أدخلت العقل في دائرة كشف الحكم فيستكشف به الحكم كما يستكشف بسائر الادلّة من الكتاب والسنة والإجماع.

وليس الاعتراف بحجّية العقل بمعنى انّه يطلق سراحه في جميع المجالات وستغنى به عن الشرع بل للعقل مجالات خاصة لا يصلح له القضاء إلا فيها وقبل تحديد نطاقه نقدّم أُموراً :

الاول : قد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام على حجّية العقل نذكر منها نصّين :

قال الصادق عليه‌السلام : حجّة الله على العباد النبي والحجّة على ما بين العباد دين الله القفل. (١)

فهذا هو الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام يخاطب هشام بن الحكم ويقول : يا هشام انّ لله على الناس حجّتين : حجّة طاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والائمة وأما الاباطنة فالعقول. (٢)

ــــــــــــــــ

١. الكافي : ١ / ٢٥ ، الحديث ٢٢.

٢. الكافي ١ / ١٦ ، الحديث ١٢.

٨٣

الثاني : ان فقهاء الشيعة حضروا الأدلة في الأربعة ، الكتاب والسنة والإجماع والعقل ولم يُعيروا أهمية للقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها ، ولنأت بنصّ من قدماء الطائفة يعرف عن انحصار الأدلة عندهم في الأربعة.

يقول ابن إدريس الحلي ( ٥٤٣ ـ ٥٩٨ ) : انّ الحقّ لا يعدو أربع طرق : امّا كتاب الله سبحانه ، أو سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المتوارتة المتفق عليها ، او الإجماع ، أو دليل العقل ، فإذا فقد من الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة ، التمسك بدليل العقل فيها ، فانّها مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذا الطريق يوصل إلى علم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها فمن تنكب عنها عصف وخبط خبط عشواء وفارق قوله من المذهب. (١)

الثالث : الإدراك العقلي ينقسم إلى إدراك نضري وإدراك عملي ، فألاوّل إدراك ما ينبغي أن يعلم كإدراك وجود الصانع وصفاتهوأفعاله وغير ذلك والثاني غدراك ما ينبغي أن يعمل كإدراكه حسن العدل وقبع الظلم ووجوب ردّ الوديعة وترك الخيانة فيها ، والمقصم هو الإدراك ، فهو ينقسم إلى نظري وعملي وربما يتوسع فيقسم العقل إلى قسمين :

ثمّ إن المتكلّم يعتمد على العقل في المسائل النظرية التي نعبّر عنها بالعقائدية فاعقل هو الذي يعرف به العبد إلهه سبحانه وصفاته وأفعال ، كما انّ الفقيه يعتمد على العقل في المسائل العلمية التي نعبّر عنها بالأحكام الشرعية.

إذا عرفت هذا فلنذكر المجالات التي يعتمد فيها الفقيه على العقل العملي.

ــــــــــــــــ

١. السرائر : ١ / ٤٦.

٨٤

١. مجال التحسين والتقبيح

إذا استقل العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه ، وتجرّد في قضائه عن كلّ شيء إلا النظر إلى نفس الفعل فهل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع ، نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وحسنه معه ، فهل يستكشف منه انّ حكم الشرع كذلك؟ والجواب نعم وذلك لانّ الحكم المزبور من الأحكام البديهية للقعل العملي.

ونظير ذلك حسن العدل وقبح الظلم ، فإذا عرض الإنسان ذينك الأمرين على وجدانه وعقله يجد في نفسه نزوعاً غلى العدل وتنفراً عن الظلم وهكذا كلّ فعل يصدق عليه أحد العنوانين وهذا من الأحكام العقلية النابعة عن صميم العقل من دون أن يكون متأثراً عن الجوانب اللاشعورية او الغرائز الحيوانية أن العواطف الإنسانية ، يقول العلّامة الحلي :

انّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع ، فانّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه ويقبح الإساءة والظلم ويذمّ عليه ، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع. (١)

ويقول أيضاً في كتاب آخر : إنّ من الأفعل ما هو معلوم الحسن والقبح بضرورة العقل ، كعلمنا بحسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضار ، فكل عاقل لا يشك في ذلك واليس جزمه بهذا الحكم بادون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب ، وأنّ الاشياء المساوية لشيء واحد متساوية.

ومنها ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أو قبحه فيكشف الشرع عنه

ـــــــــــــــ

١. كشف المراد في شرح تجريد الاتقاد : ٥٠، المطبوع مع تعاليق شيخنا الأُستاذ ـ مدّ طلّه ـ.

٨٥

كالعبادات.

وقالت الاشاعرة : إنّ الحسن والقبح شرعيان ، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها ولا بقبحه ، بل القاضي بذلك هو الشرع وما حسّنه فهو حسن وما قبحه فهو قبيح. (١)

ومن حسن الحظ ان الذكر الحكسم يشير إلى موقف العقل من درك تحسين الاشياء وتقبيحها ، فترى أنّه يحتج في موارد بقضاء فطرة الإنسان على حسن بعض الافعال وفي الوقت نفسه يقبح بعضها على وجه يُسلِّم ان الفطرة الإنسانية صالحة لهذين الإدراكين ،ولذلك يتخذ وجدان الإنسان قاضياً صادقاً في قضائه ويقول :

١. ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ). (٢)

٢. ( افنجعلُ المسلمين كالمُجرمين ). (٣)

٣. ( هَل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان ). (٤)

ففي هذه الالطائفة من الآيات يوكّل الذكرُ الحكيم القضاء إلى وجدان الإنسان وانه هل يصحّ التسوية بين المفسدين والمتّقين ، والمسلمين والنجرمين ، كما يتخذ من الوجدان قاضياً ، في قوله : ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ).

وهناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي على نحو تسلِّم غن المخاطب ، يعرفهما معرفة ذاتية ولا يحتاج إلى الشرع في التعرّف على الموضوع ، وكأن الشرع يؤكد ما يجده

ــــــــــــــ

١. نهج الحق وكشف الصدق : ٨٣.

٢. ص: ٢٨.

٣. القلم : ٣٥.

٤. الرحمن : ٦٠.

٨٦

الإنسان بفطرته.

ويقوله سبحانه :

١. ( إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ). (١)

٢. ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ). (٢)

٣. ( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ). (٣)

الآثار المترتبة على حجية العقل في مجال الحسن والقبح

إن الفقيه يعتمد على فاعدة التحسين والتقبيح العقليين ويستخرج مها القواعد التالية:

١. البراءة من التكليف لقبح العقاب بلا بيان.

٢. الاشتغال بالتكليف عند العلم الإجمالي وتردد المكلّف به بين أمرين لحكمه بان الاشتغال اليقيني يستدعي البراعة اليقينية وحسن عقوبة من لم يخرج عن عهدة التكليف عندئذٍ قطعاً.

٣. الإتيان بالمأمور به مجز عن الإعادة والقضاء ، لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال.

٤. وجوب تقديم الأهم على المهم إذا دار الأمر بيهما لقبح العكس.

٢. في مجال الملازمات

قد تقدّم ان العقل حجّة في مجالات خاصة ، منها : حكمه بالتحسين

ــــــــــــــ

١. النحل : ٩٠.

٢. الأعراف : ٣٣.

٣. الأعراف : ١٥٧.

٨٧

والتقبيح على النحو الذي ذكرنا ، ومن المجالات التي يؤخذ فيها بحكم العقل ويستكشف حكم الشرع ، هو مجال الملازمات ، أعني بها :

١. الملازمة بين الوجوبين ، كوجوب الشيء وجوب مقدّمته.

٢. الملازمة بين الحرمتين ، كحرمة الشيء وحرمة مقدّمته.

٣. الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه ، كوجوب المضيق وحرمة الموسع عند التزاحم.

٤. الملازمة بين النهي عن العبادة ، وفسادها.

٥. الملازمة بين النهي عن المعاملة ، وفسادها.

٦. الملازمة بين وجود الحكم لدى وجود الشرط والوصف و ...، والانتفاء لدى الانتفاء ( المفاهيم).

إلى غير ذلك من أبواب الملازمة الموصوفة عندهم بالملازمات غير المستقلة ، فان الحكم المستكشف في هذه الموارد عن طريق الملازمة ، حكم شرعي نظير :

١. كوجوب مقدمة ، الواجب.

٢. حرمة مقدّمة الحرام.

٣. حرمة الضد الموسع المزاحم للمضيق كالصلاة عند الابتلاء بإزالة النجاسة عن المسجد ، أو أداء الدين الحال.

٤. فساد العبادة المهية ، كالصوم في السفر.

٥. فساد المعاملات كبيع الخمر.

٦. أو ارتفاع الحكم عند ارتفاع القيد كما في قوله في سائمة الغنم زكاة.

٨٨

إلى غير ذلك من الموارد التي توصف بباب الملازمات غير المستقلة. وفي الفقه الشيعي والأصول دور كبير لباب الملازمات ، فمن مثبت وناف ومفصل. (١)

٣. في مجال تنقيح

المجال الثالث لإمكان حجّية حكم العقل باب تنقيح مناطات الأحكام وملاكاتها بالسبر والتقسيم بأن يحصر الأوصاف التي توجد في وواقعة الحكم وتصلح لأن تكون العلة واحدة منها ويختبرها وصفاً وصفاً على ضوء الشروط الواجب ، وبواسطة هذا الاختبار تستبعد الأوصاف التي لا يصح أن تكون علة ويستبقى ما يصح أن يكون علة ، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصل إلى الحكم بأن هذا الوصف هو العلة ثم يتبعه التشريع ، وهذا ما يسمى في الفقه الشيعة الإمامي بتنقيح المناط واستنباط العلة.

إلا أن هذا الشق من إدراك العقل إنما يكون حجة إذا حصل اليقين بان ما أدركه مناطاً هو المناط في الواقع فعندئذ يدور الحكم مداره ويستكشف حكم الشرع.

ولكن أني للعقل إدراك هذا الأمر ، وذلك لانه لو افترضنا انه أصاب في كشف المناط اين علم انه تمام المناط ولعلها جزء العلة وهناك جزء آخر منضم إليه في الواقع ولم يصل الفقيه إليه؟

ولاجل ذلك رفض أصحابنا حجية العقل في مجال تنقيح المناط عن طريق السير والتقسيم.

ــــــــــــــ

١. لاحظ القوانين : ٢ / ١ ، حاشية السيد علي القزويني.

٨٩

٤. في مجال درك مصالح الافعال ومفاسدها

إذا أدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في فعل إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء كوجود المقسدة في استعمال المخدرات ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي دونما لا يكون كذلك ، كإدراك فرد أو فردين وجوب المصلحة الملزمة أو المفسدة ، وذلك.

إذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة ولم يكن إدراكه مستنداً إلى المصلحة أو المفسدة العامتين يتساوى في إدراكها جميع العقلاء فلا سبيل للعقل إلى الحكم بان ما أدركه علة ، هي العلة التامة التي يدور الحكم مدارها ، إذا يحتمل أن يكون هناك مانع يمنع من حكم الشارع على وفق ما أدركه العقل وإن كان ما أدرك مقتضياً لحكم الشرع.

يقول المحقق الاصفهاني : إن مصالح الأحكام الشرعية المولوية التي هي ملاكات تلك الأحكام ومناطاتها ، لا تندرج تحت ظابطة ، ولا تجب أن تكون هي بعينها ، المصالح العمومي ، المبني عليها حفظ النظام وإبقاء النوع وعليه لا سبيل للعقل بما هو إليها.

اللهم إلا إذا وصل الأمر إلى المصالح والمفاسد العامة التي أطبق العقلاء عامة على صلاحها أو فسادها على نحو صار من الضروريات وهذا كتعاطي المخدرات التي أطبع العقلاء على ضررها ، ومثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجدري والحصبة وغيرهما فقد أصبحت من الأُمور التي لا يتردد في صلاحيتها ذوو الاختصاص.

هذا موجز القول في حجية العقل واللتفصيل مجال آخر. (١)

ـــــــــ

١. وقد بسط شيخنا الاُساد ـ مدّ ظلّه ـ الكلام فيه في الجزء من كتابه « الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف».

٩٠

عنوان المسألة بين الأخباريين

هذا هو موقف الأُصوليين من حكم العقل ، وأمّا موقف الأخباريين فهم يرفضون العقل في مجال الاستنباط بأحد الوجهين :

أ. منع الصغرى وانّه لا يحصل للعقل قطع بالحكم بل كلّ ما يدركه لا يخرج عن تحت الظنون.

ب. منع الكبرى بعد تسليم الصغرى ، وانّ القطع بالحكم وإن كان حاصلاً ، لكنّه ليس بحجّة لعدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وإليك دراسة هذين الوجهين :

أمّا الوجه الأوّل : فهو الظاهر من كلام المحدِّث الاسترابادي رائد الحركة الأخبارية حيث صرّح بأنّه لا يحصل اليقين من التمسك بغير الوحي ، ويدل على ذلك كلامه في مواضع عديدة قال : كلّ مسلك غير التمسك بكلامهم إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنَّ بحكم اللّه وقد أثبتنا سابقاً انّه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها.

ج. قال في فهرست فصول كتابه : الأوّل : في إبطال التمسك بالاستنباطات الظنية في نفي أحكامه تعالى شأنه ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم اللّه ، أو بحكم ورد عنهم عليهم‌السلام.

ولكنّه لم يذكر وجه عدم حصول اليقين ونحن نشير إلى الوجوه التي يمكن أن يعتمد عليها الأخباري في ادّعائه فنقول :

الأوّل : احتمال سعة مناط الحكم عند العقل

إنّ العقل وإن كان مدركاً للمصالح والمفاسد والجهات المحسنة والمقبحة

٩١

إلا أنّه من الممكن أن تكون لتلك الجهات ، موانع ومزاحمات في الواقع وفي نظر الشارع ولم يصل العقل إليها إذ ليس من شأن العقل ، الإحاطة بالواقع. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خلاف المفروض ، لأنّ الكلام فيما إذا حكم العقل بحكم قطعي على الموضوع بما هو هو كقبح الظلم والخيانة في الأمانة ، أو كقبح ترجيح الأهم على المهم ولا يحتمل أن يكون للحكم مانع في الواقع أو شرط عند الشارع ، فما ذكره خارج عن محط البحث.

نعم لو احتمل العقل أحد هذه الأُمور لم يحكم بحكم باتّ.

الثاني : جواز خلو الواقعة عن الحكم

يجوز أن لا يكون للشارع فيما حكم فيه العقل بالوجوب أو الحرمة ، حكم أصلاً لا موافقاً ولا مخالفاً بأن تخلو الواقعة عن الحكم رأساً وعلى ذلك لا حكم للشرع في الموضوع وفاقاً أو خلافاً. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ احتمال خلو الواقعة من الحكم يضاد مع ما ورد عنهمعليهم‌السلام : « ما من شيء إلاوفيه كتاب أو سنة ».

وفي حديث آخر : أكلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيه أو تقولون فيه؟ قال : « بل كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه » أو « في الكتاب والسنة ». (٣)

فكيف يمكن أن لا يكون للشارع حكم في الموضوعات الخطيرة ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة حجّة الوداع : « يا أيّها الناس ما من شيء يقربكم من الجنّة ويبعدكم من النار ، إلا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم

__________________

١. فوائد الأُصول : ٣ / ٦٠ ، نقله المؤلف من الفصول ولم نعثر عليه فيه.

٢. الفصول في علم الأُصول : ٣٣٧.

٣. الكافي : ١ / ٥٩ ـ ٦٢ ، باب الرد إلى الكتاب والسنّة.

٩٢

من الجنة إلاوقد نهيتكم عنه ». (١)

ثمّ إنّ الأخباريين استدلوا بطوائف من الروايات التي زعموا دلالتها على مدّعاهم ، وإليك استعراضها تحت عناوين خاصة ليسهل للطالب الوقوف على ما لم نذكر من الروايات فانّ جميعها غير خارجة عن تلك العناوين.

الطائفة الأُولى : لزوم توسيط الحجّة في بيان الحكم

قامت الأدلّة على لزوم العمل بحكم يتوسط الحجّة في تبليغه وبيانه ولا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجّة ، ويدلّ على ذلك صحيح زرارة « فلو انّ رجلاً صام نهاره ، وقام ليله ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي اللّه فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على اللّه ثواب ولا كان من أهل الإيمان ». (٢)

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من دان بغير سماع ألزمه اللّه ألبتة إلى الفناء ». (٣)

قال أبو جعفر عليه‌السلام : « كلما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل » (٤) إلى غير ذلك من الروايات.

يلاحظ عليه أوّلاً : انصراف الرواية إلى المعرضين عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام والمستهدين بغيرهم على وجه كان جميع أعمالهم بدلالة سواهم ، وأمّا من أناخ مطيّته على عتبةِ أبوابهم في كلّ أمر كبير وصغير ومع ذلك اعتمد على العقل في مجالات خاصة فالرواية منصرفة عنه جداً.

وبعبارة أُخرى : كما للآيات أسباب وشأن نزول ، فهكذا الروايات ، فهي تعبّر

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ١٢ من أبواب مقدمات التجارة ، الحديث ٢.

٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٣.

٣ و ٤. الوسائل : ١٨ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤ و ١٨.

٩٣

عن سيرة قضاة العامة وفقهائهم كأبي حنيفة وابن شبرمة وأضرابهم الذين أعرضوا عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ولم يُنيخُوا مطيّتهم على أبواب أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام فيخاطبهم الإمام بما في هذه الروايات.

وأمّا فقهاء الشيعة الذين رجعوا في كلّ واقعة إلى الكتاب والسنّة وتمسكوا بالثقلين فلا يعمهم ، والمورد وإن لم يكن مخصِّصاً لكن يمكن إلقاء الخصوصية بالنسبة إلى المماثل والمشابه لا المباين ، وتمسك أصحابنا بالعقل في مجالات خاصة لا يعدُّ إعراضاً عنهم بخلاف غيرهم.

وثانياً : إذا كان العقل أحد الحجج ـ كما في صحيح هشام ـ فيكون الحكم المستكشف ممّا وصل إلى المكلّف بتبليغ الحجّة أيضاً.

روى هشام ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام : « يا هشام إنّ للّه على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ؛ فالظاهرة الرسل والأنبياء والأئمة ، وأمّا الباطنة فالعقول ». (١)

والقول بلزوم توسط الحجّة الظاهرة ، يلزم طرح ما دلّ على كونه من الحجج.

الطائفة الثانية : ما تدل على عدم حجّية القياس

هناك روايات متضافرة دلت على المنع عن العمل بالقياس.

روى عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن القياس فقال : « ما لكم وللقياس انّ اللّه لا يسأل كيف أحل وكيف حرّم ». (٢)

يلاحظ عليه : أنّ العمل بالقياس عمل بالدليل الظني المنهيّ عنه ، وأين هو

__________________

١. الكافي : ١ / ١٣ ـ ١٦ ، باب العقل والجهل.

٢. الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥ ؛ ولاحظ الحديث ١٨ و ٢٨.

٩٤

من العمل بالحكم القطعي الذي ربما لا يختلف فيه اثنان ، كما هو الحال في باب التحسين والتقبيح العقليين ، فالاستدلال بهذه الروايات على عدم حجّية العقل في مجالات خاصة استدلال بالمباين على المباين.

الطائفة الثالثة : ما تدل على عدم حجّية الرأي

وهناك طائفة أُخرى تدل على عدم حجّية الرأي ، فقد روي عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه ولم يأخذه عن رأيه ». (١)

وروى ابن مسكان ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « ما أحد أحبَّ إليّ منكم إنّ الناس سلكوا سبلاً شتى ، منهم من أخذ بهواه ، ومنهم من أخذ برأيه ، وانّكم أخذتم بأمر له أصل ». (٢)

المهم في الباب هو تفسير الرأي ، فالمستدل جعله مرادفاً للاستدلال بحكم العقل مع أنّ المقصود منه هو التفسير بما لا يعلم ، قال أبو جعفر عليه‌السلام : « من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم ». (٣)

وحصيلة الكلام حول تلك الروايات التي استعرضناها وبسطها الشيخ الحرّ العاملي في أبواب متفرقة من أبواب صفات القاضي إنّها وردت في تفنيد عمل فقهاء العامة وقضاتهم الذين لم يستندوا في الأُصول والفروع إلى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وأخذوا يُفتون ويقضون بقول كلّ من هبّودبّ معتمدين على معايير وأُصول منهية أو لم يدل عليها دليل ، فإسراء مفاد تلك الروايات إلى عمل أصحابنا الأُصوليين بحكم أنّهم يستدلّون بواضح العقل وبداهة الفطرة على حكم شرعي يَقْضي عجباً.

إنّ أبا حنيفة بنى فقهاً كبيراً ، والحال انّه لم يثبت عنده من الأحاديث النبوية

__________________

١ و ٢ و ٣. الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١ ، ٣١ ، ١٢.

٩٥

إلا سبعة عشر حديثاً (١) ، فما حال فقه هذا أساسه؟!ولذلك أخذ الإمام الصادق يذمّ أبا حنيفة وابن شبرمة ، يقول الأخير : دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد عليهما‌السلام فقال لأبي حنيفة : « اتّق اللّه ولا تقس في الدين برأيك ، فانّ أوّل من قاس إبليس ». (٢)

وقال أبو جعفر عليه‌السلام لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة : « شرّقا وغرّبا فلا تجدان ، علماً صحيحاً إلا شيئاً صحيحاً خرج من عندنا أهل البيت ». (٣)

الطائفة الرابعة : ما تدل على أنّ المرجع هو الكتاب والسنّة

هناك روايات تدلّ على أنّ المرجع في الأحكام هو الكتاب والسنّة ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال ، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة زالت الجبال ولم يزل ». (٤)

وقال عليه‌السلام : « إنّما الناس رجلان : مُتَّبعُ شرعة ، ومبتدع بدعة ليس معه من اللّه برهان سنة ولا ضياء حجّة ». (٥)

يلاحظ عليها : أنّها بصدد ردّ عمل من يعمل بكلّ ما اشتهر على ألسن الناس وإن لم يكن له دليل مقابل من يرجع إلى الكتاب والسنّة ، ولا صلة له بالبحث أبداً.

__________________

١. ابن خلدون ، المقدمة ، طبعة دار ومكتبة الهلال ص ٢٨٢.

٢ و ٣. الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢ و ١٦.

٤ و ٥. الوسائل : ١٨ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢ و ٣١.

٩٦

الامر الثامن

العلم الإجمالي تنجيزاً وامتثالاً

هل العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في تنجيز الحكم الواقعي وكفاية الامتثال أو لا وقبل الشروع نطرح سؤالين :

الأوّل : العلم من مقولة الكشف ، وهو لا يقبل التفصيل والإجمال ، بل أمره دائر بين الوجود والعدم ، وكما هو لا يقبل ذاك التقسيم ، فهكذا لا يقبله ، متعلّقه ، لأنّ تشخّص العلم بالمعلوم كتشخص الإرادة بالمراد ، فلو كان فيه إجمال لسرى إلى العلم أيضاً.

الجواب : انّوصف العلم بالإجمال من باب وصف الشيء بوصف مصداق متعلقه ، لأنّه لا إجمال في العلم ولا في متعلقه وإنّما الإجمال في مصداق المتعلّق ، فإذا تردّدت النجاسة بين الإناءين ، فهنا علم تفصيلي تعلّق بمتعلق لا إجمال فيه ، أعني : النجاسة ، غير أنّها مردّدة وجوداً ومصداقاً بين الإناءين ، فحقيقة العلم الإجمالي يرجع إلى علم تفصيلي ، انضم إليه الجهل بمصداق المعلوم بالذات.

الثاني : انّ الأُصوليين يبحثون عن العلم الإجمالي في مبحث القطع أوّلاً ، وفي مبحث الاشتغال ثانياً ، فما هو وجه التكرار؟!

الجواب : يمكن أن يُبرّر التكرار بأحد الوجوه الآتية :

١. ما ذكره الشيخ الأنصاري ، وهو أنّ لاعتبار العلم الإجمالي مرتبتين :

٩٧

أحدهما : كونه كالتفصيلي في حرمة المخالفة القطعية ، ثانيهما : كونه كالتفصيلي في وجوب الموافقة القطعية. والمتكفّل للبحث في الأوّل هو مبحث القطع ، وللثاني هو مبحث الاشتغال.

٢. ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ تعدّد البحث لأجل تعدّد الغرض : فالغاية للبحث عنه في مبحث القطع هو التعرّف على أنّه علّة تامة للتنجز أو مقتض له ، فلو قلنا بالأوّل ، يترتب عليه بطلان جعل الترخيص في بعض أطرافه ، وحينئذ لا يبقى مجال عنه في باب الاشتغال. وأمّا لو قلنا انّه مقتض للتنجّز أي انّه قابل لجعل الترخيص ، يبقى مجال للبحث عن ورود الترخيص لبعض الأطراف في الشرع وعدمه ، وهذا ما يبحث عنه في باب الاشتغال ويكون البحث صغروياً.

٣. ما ذكره سيدنا الأُستاذ قدس‌سره هو انّ المراد من العلم الإجمالي في مبحث القطع ، غيره في مبحث الاشتغال ، وذلك انّ المراد منه في المقام هو العلم القطعي الذي لا يرضى المولى بتركه كالعلم بكون أحد الغريقين مسلماً ، بخلاف العلم في مبحث الاشتغال ، فالمراد منه : قيام الحجّة على التكليف ، كما إذا قال : اجتنب عن الدم ، وصار مقتضى إطلاق الدليل هو الاجتناب عنه مطلقاً ، كان معلوماً تفصيلاً أو إجمالاً ، فالمورد الأوّل هو اللائق بمبحث القطع ، ولا شكّ انّ العلم الإجمالي فيه علّة تامّة للتنجز ولا يصحّ معه جعل الترخيص ، والمورد الثاني هو اللائق بمبحث الاشتغال ولا شكّ انّه بالنسبة إلى الأمرين مقتض وقابل لجعل الترخيص لأحد الطرفين أو كليهما.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ البحث يقع في مقامين :

الأوّل : في كون العلم الإجمالي منجّزاً كالعلم التفصيلي أو لا.

الثاني : كون الامتثال الإجمالي كالامتثال التفصيلي.

أمّا المقام الأوّل ففيه أقوال :

٩٨

١. العلم الإجمالي مقتض لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيتين ومعناه انّه يجوز جعل الترخيص وإن انتهى إلى المخالفة القطعية ، وهو خيرة المحقّق الخراساني في المقام.

٢. كونه علّة تامة لكلا الأمرين وهو خيرته في باب الاشتغال ، ومعناه عدم جواز جعل الترخيص مطلقاً.

٣. كونه علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية ، ومقتضياً للموافقة القطعية ، ومعناه عدم جواز جعل الترخيص في كلا الطرفين وجوازه في واحد منهما.

استدل المحقّق الخراساني على مدعاه في المقام بالبيان التالي :

وجود الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي ، فانّ الأوّل بما انّه لا سترة فيه وانكشف الواقع بتمامه فلا موضوع ( الجهل والشك ) لجعل الحكم الظاهري بخلاف المقام ، فانّ وجود الجهل بمصداق المكلّف به والشكّ في كلّ واحد من الطرفين ، يجعل المقام صالحاً لجعل الحكم الظاهري فيجوز للشارع الإذن في المخالفة احتمالاً وقطعاً.

ثمّ أورد على نفسه إشكالاً ، حاصله : كيف يجتمع العلم بالتكليف مع الإذن في المخالفة المحتملة أو القطعية؟ ثمّ أجاب بوجهين :

١. انّه ليس إشكالاً جديداً ، بل نفس الإشكال في الجمع بين الواقعي والحكم الظاهري في باب الشبهة غير المحصورة والشبهة البدوية ، مع العلم بوجود التكليف في الصورة الأُولى واحتمال وجوده في الصورة الثانية ، فإذاً لا فرق بينهما وبين المقام ، وما هو الجواب عنه فيهما هو الجواب عنه في المقام.

٢. يمكن رفع المناقضة بافتراض انّ الحكم الواقعي في الموارد الثلاثة فعلي معلّق ، بمعنى انّه يتنجّز التكليف الواقعي إذا تعلّق به العلم التفصيلي ، والمفروض عدم حصول المعلق عليه ، فبذلك يرتفع التناقض ، وسيأتي تفصيله عند البحث

٩٩

عن الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

وعلى ضوء ذلك فالعلم الإجمالي يوجب تنجّز التكليف لو لم يمنع عنه مانع عقلاً ، كما في أطراف كثيرة غير محصورة ؛ أو شرعاً ، كما إذا أذن الشارع في الاقتحام في المحصورة ـ بناء على شمول قوله : كلّ شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه لأطراف العلم الإجمالي ـ كلّ ذلك دليل على أنّ العلم الإجمالي مقتض للتنجز لو لم يمنع عنه مانع.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يصحّ فيما إذا علم التكليف عن طريق إطلاق الحجّة ، كما إذا قال : اجتنب عن الدم ، وكان مقتضى الإطلاق لزوم الاجتناب عن الدم المعلوم بالتفصيل أو بالإجمال ، ففي مثل ذلك يمكن دعوى أنّ العلم الإجمالي ليس بعلّة تامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، بل هو مقتض بالنسبة إليهما ، وأمّا إذا كان هناك علم وجداني بالحكم بحيث يعلم انّ المولى لا يرضى بتركه أبداً سواء كان معلوماً بالتفصيل أو بالإجمال ، فادّعاء كونه مقتضياً بالنسبة إليهما كما ترى.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استعرض نظرية الشيخ ـ أعني : كون العلم الإجمالي علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية ومقتضياً بالنسبة إلى الموافقة القطعية ـ فرد عليه بقوله : « فضعيف جداً » ضرورة انّ احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة ، فلا يكون عدم القطع بذلك معها ، موجباً لجواز الإذن في الاقتحام بل لو صحّ معها الإذن في المخالفة الاحتمالية صحّ في القطعية أيضاً ». (١)

توضيحه : أنّ احتمال جعل المتناقضين محال كالقطع بجعل المتناقضين ، ففي مجال جعل الترخيص بالنسبة إلى كلا الطرفين قطع بالتناقض ، وبالنسبة إلى

__________________

١. كفاية الأُصول : ٣٦.

١٠٠