إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

بعض الأطراف ، احتمال له ، لاحتمال انّ الطرف المرخّص فيه حرامٌ في الواقع ، فيكون محكوماً بحكمين متضادين وعلى ضوء ذلك فلا فرق بين الأمرين.

يلاحظ عليه : أنّ كلام الشيخ ليس بناظر إلى عالم الثبوت وإنّما هو ناظر إلى عالم الإثبات واستظهار الشمول من أدلّة الأُصول ، وانّها هل تختص بالشبهة البدوية ، أو تعمها وأطراف العلم الإجمالي. ولعلّ الشيخ ينظر في كلامه إلى البيان التالي : وهو انّ كلّواحد من أطراف الشبهة بشخصه بما انّه مشكوك وغير معلوم ، فهو داخل في صدر قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء حلال » حتى تعلم انّه حرام. وأمّا المجموع فلأجل العلم بوجود الحرام فيها فهو داخل في ذيل الحديث ، وينتج انّ جعل الترخيص في كلّ واحد بلا مانع أخذاً بصدر الرواية ، وجعل الترخيص في كلا الطرفين ممنوع لدخوله في ذيل الحديث.

فتكون النتيجة حرمة المخالفة القطعية وجواز المخالفة الاحتمالية.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل ، وحان حين البحث في المقام الثاني.

المقام الثاني : هل الامتثال الإجمالي كالامتثال التفصيلي؟

الامتثال الإجمالي تارة يقع في مقابل التمكن من العلم التفصيلي بالامتثال ، وأُخرى في مقابل التمكن من الحجّة على الامتثال التفصيلي كالاجتهاد والتقليد.

ويقع الكلام في أمرين :

الأمر الأوّل : الامتثال الإجمالي في مقابل العلم التفصيلي

إذا تمكن من الامتثال بالعلم التفصيلي القطعي ، فهل يجزي الامتثال الإجمالي ، كما إذا تمكن من تعيين جهة القبلة بالجهاز الصناعي المفيد للعلم ومع ذلك ، يصلّي إلى أربع جهات؟ ثمّ إنّ للمسألة صوراً :

١٠١

إنّ المورد إمّا أن يكون توصلياً أو تعبدياً ، وعلى كلا التقديرين إمّا أن يستلزم التكرار أو لا.

أمّا التوصليات فيكفي الامتثال الإجمالي مطلقاً استلزم التكرار كغسل الثوب النجس بماءين يعلم انّ أحدهما مطلق والآخر مضاف طاهر أو لا ، كما إذا ترددت كيفية الغسل بين العصر بين الغسلتين وعدمه ، لأنّ الفرض هو إنجاز العمل والمفروض انّه أُنجز بأحسن وجه.

وعلى هذا لو تردّدت صيغة النكاح بين لفظ النكاح أو الزواج ، يجوز له إنشاؤه بكلا اللفظين مع إمكان تحصيل العلم بما يقع به النكاح ، وأمّا ما أورد عليه الشيخ بأنّه قام الإجماع على بطلان العقد المعلق لأجل منافاته الجزم المعتبر في الإنشاء فغير تام ، فانّ كلامه يرجع إلى أمرين :

١. بطلان العقد المعلّق.

٢. لزوم الجزم في الإنشاء.

أمّا الأوّل : فمع قطع النظر عن عدم التعلّق في المقام إلافي الضمير بمعنى انّه لو صحّ النكاح بهذا اللفظ فقد أنشأتُ به ، انّه لا دليل على بطلانه إلاما دلّ الدليل الخارجي على بطلانه في مورده كالطلاق ونظيره وإلافالمعلّق كالمنجز عند العقلاء في صحّة الانشائية.

وأمّا الجزم في الإنشاء ، فإن أراد وجود القصد الجدي لإنشاء النكاح فهو أمر متحقّق ولولاه لما جمع بين اللفظين وإن أراد قصد الإنشاء الجدي بكلّ واحد من اللفظين فليس عليه دليل.

وأمّا التعبديات ، فيقع الكلام تارة فيما لا يستلزم الاحتياط تكرار العمل ، وأُخرى فيما يستلزمه ، ثمّ الأوّل على قسمين ، لانّ التكليف المحتمل ، تارة يكون تكليفاً مستقلاً ، وأُخرى تكليفاً ضمنياً ، وإليك الأقسام الثلاثة :

١٠٢

١. ما لا يستلزم الاحتياط التكرار وكان التكليف المحتمل تكليفاً مستقلاً كما في غسل الجمعة المردّد بين كونه واجباً أو مستحباً ، فالحقّ جواز الاحتياط وجواز ترك الاجتهاد والتقليد ، لأنّ اللازم هو إتيان العمل للّه أو كون المحرك إلى العمل أمره سبحانه.

وعلى كلا التقديرين فالقربة حاصلة ، والفعل مأتي به لأجله سبحانه ولأمره.

نعم الذي يفوت المحتاط هو قصد الوجه على وجه الوصفية ، كما إذا قال : اغتسل غسل الجمعة الواجب ، أو الغاية ، كما إذا قال : اغتسل غسل الجمعة لوجوبه ، ولكن الفائت وصفاً كان أو غاية ليس بلازم الاستيفاء ، لأنّه لم يدل دليل عقلي أو شرعي على وجوب قصد الوجه وراء قصد القربة ، بل يمكن أن يقال دلّ الدليل على خلافه.

وذلك لأنّا لو قلنا انّ قصد الوجه ممّا يمكن أخذه في متعلّق الأمر فإطلاق الأوامر في الشريعة دالّ على عدم وجوبه.

وإن قلنا بعدم جواز أخذه ، فالإطلاق اللفظي وإن كان مفقوداً لكن الإطلاق المقامي كاف في ردّ احتمال وجوبه ، والمراد منه : أنّ الأُمور التي يغفل عنها جمهور الناس ولا يلتفت إليها ـ إلا الأوحدي منهم ـ لو كانت واجبة لكان على الشارع بيانها ولو ببيان مستقل خارجاً عن متعلق الأوامر والنواهي ، والمفروض عدم وجود مثل هذا الدليل.

٢. ما لا يستلزم الاحتياط التكرار وكان التكليف المحتمل تكليفاً ضمنياً ، كما إذا دار أمر السورة بين كونها مستحبة أو واجبة وفي مثله لا يفوت قصد القربة ، بل يفوته قصد الوجه وتمييز المستحب عن الواجب ولا دليل عليه.

نعم لو دار أمر الجزء بين كونه واجباً أو مستحباً أو مباحاً ، فيمكن الإتيان

١٠٣

بالجميع بقصد الأمر المتعلّق بالطبيعة ، وإن كان الأمر بالجزء مشكوكاً ، وذلك لأنّوجود المستحبات والمباحات في ضمن الواجب ليس بمعنى مثل وجود المستحب أو المباح في ضمن الواجب كأدعية شهر رمضان في نهاره ، بل معناه انّ تحقّق الطبيعة لا يتوقف على تلك الأجزاء ، ولكنّه لو أتاه في ضمنها لكانت جزءاً للمأمور به ومن مشخصاته ، فيتعلق بها الوجوب بنفس تعلّقه بسائر الأجزاء.

٣. ما يستلزم الاحتياطُ التكرارَ سواء كانت الشبهة موضوعية كالصلاة إلى الجهات الأربع ، أو حكمية كالجمعة بين صلاة الظهر والجمعة ، وهذا هو محط البحث بين الأعلام ، وانّه هل يجوز مع التمكن من العلم التفصيلي بالامتثال ، الامتثال الإجمالي أو لا؟

ذهبت جماعة إلى عدم الجواز مستدلين بالوجوه التالية :

الوجه الأوّل : ادّعاء الإجماع على عدم الجواز.

الوجه الثاني : استلزام الاحتياط عدم قصد الوجه والتمييز.

الوجه الثالث : انّ التكرار استخفاف بأمر المولى.

الوجه الرابع : عدم صدق الإطاعة التي هي عبارة عن الانبعاث عن بعث المولى ، بحيث يكون الداعي والمحرّك له نحو العمل هو تعلّق الأمر به وانطباق المأمور به عليه ، وهذا غير متحقّق في الامتثال الإجمالي ، فانّ الداعي إلى الإتيان لكلّ واحد من فردي الترديد ، ليس إلا احتمال تعلّق الأمر به لا الأمر نفسه ، إذ لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص. (١)

يلاحظ عليه : المهمّ هو الوجه الرابع وسائر الوجوه واضحة الدفع ، فنقول : إنّه إن أراد من كون الإطاعة هي الانبعاث عن بعث المولى هو الانبعاث عن

__________________

١. الفوائد : ٣ / ٧٣.

١٠٤

البعث الموجود في البين ، فالانبعاث عن الأمر بهذا المعنى متحقّق في الامتثال الإجمالي فانّه لا ينبعث ولا يتحمل العناء إلا لامتثال الأمر الموجود ، وإن أراد الانبعاث من تعلّق الأمر بالفرد الذي هو بصدد إتيانه ، فليس شرطاً في صدق الإطاعة.

وبعبارة أُخرى : المكلّف تارة ينبعث عن الميول النفسية ، وأُخرى عن أمر المولى وبعثه. والمفروض في المقام هو الثاني ، لأنّه في جميع الحالات منبعث من العلم بأمره الموجود في البين حتى أنّه إنّما يمتثل كلّ واحد لأمره سبحانه أي لأجل احتمال تعلّقه به وهو يكفي في صدق الإطاعة.

فخرجنا بهذه النتيجة : انّ الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي في جميع المراحل إلا إذا كان الفعل في نظر العقلاء أمراً عبثاً.

الأمر الثاني : في كفاية الامتثال الإجمالي في مقابل الظن التفصيلي

وقد طرحه الفقهاء في مبحث التقليد ، وانّه هل يجوز للمكلّف أن يحتاط مع إمكان الاجتهاد والتقليد؟ قال السيد الطباطبائي في عروته : يجب على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً. (١)

واعلم أنّ العمل بالاحتياط تارة في مقابل الظن المعتبر بالخصوص ويسمى الظنّ الخاص كالخبر الواحد ، أو مقابل الظنّ الانسدادي الذي ثبتت حجيته بترتيب مقدمات خمس.

أمّا الأوّل ، فالامتثال الظني التفصيلي ليس بأفضل من الامتثال العلمي التفصيلي ، وقد عرفت عدم تقدّمه على الامتثال الإجمالي فكيف يقدم عليه ما هو أدون منه رتبة؟! والظاهر انّ كلاً من الامتثالين في عرض الآخر. نعم ذكر المحقّق

__________________

١. العروة الوثقى ، كتاب التقليد ، المسألة الأُولى.

١٠٥

الخراساني احتمالاً في حجّية الظن الخاص ، وهو انّه ليس بحجّة إلا فيما إذا لم يتمكن من الاحتياط ـ فلو صحّ هذا الاحتمال ـ فالامتثال الإجمالي يكون مقدماً على الظن التفصيلي المعتبر بالخصوص لفقدان شرط حجّيته.

وأمّا الثاني : فلو قلنا انّ من مقدماته عدم وجوب الاحتياط ، يكون الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال بالظن التفصيلي.

ولو قلنا بأنّ في مقدماته بطلان الاحتياط لاستلزامه اختلال النظام ، يكون الامتثال بالظن التفصيلي مقدماً على الامتثال الإجمالي.

وينبغي التنبيه على أُمور :

الأوّل : انّ اختلاف القوم في أنّ نتيجة دليل الانسداد ، هو الكشف أو الحكومة مبني على تعيين ما هو المأخوذ في مقدمة دليل الانسداد ، فإن كان المأخوذ هو بطلان الاحتياط ، فالنتيجة هو الكشف ، وذلك لانحصار طريق الامتثال في الظن بعد بطلان الاحتياط وعدم مساواة الوهم والشك بالظن ، وإلا يلزم نقض الغرض بخلاف ما إذا كان المأخوذ ، عدم وجوبه وكفاية الامتثال به ، فبما انّ الطريق متعدّد : الظن والاحتياط ، فلو لم يجعل الظن حجّة ، لما لزم نقض الغرض لاحتمال اكتفائه في مقام الامتثال بالاحتياط.

الثاني : انّ في الفقه مسائل لا يمكن الاحتياط فيها كما في باب المواريث ، فهل الحبوة للولد الأكبر أو لجميع الورثة؟ ومثله أبواب الحدود والقصاص ، فلا محيص من الرجوع إلى الظن التفصيلي ، أي الاجتهاد والتقليد.

الثالث : ربما يتصور انّ الاحتياط لأجل استلزامه العسر والحرج على الإنسان والعيال مرفوع بقوله : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ). (١)

__________________

١. الحج : ٧٨.

١٠٦

ولكنّه محجوج بما ذكره الشيخ في باب الشبهة غير المحصورة عن أنّ المرفوع بالآية ونظائرها ما إذا كان نفس الحكم بما هو هو مستلزماً للحرج ، كرفع المرارة عند المسح عن موضع الجرح ، لا ما إذا كان نفس الحكم غير حرجي غير انّ تردّده بين أطراف كثيرة صار سبباً لحرجية امتثاله ، فمثله غير مرفوع ولا أقلّ انّه مورد للشك. ومع ذلك فهو قابل للتأمّل ، لأنّ الحرج مستند إلى إطلاق الحكم وشموله لما علم بين أفراد غير محصورة ، وعلى كلا التقديرين فالحرج نابع إمّا من الحكم أو من إطلاقه.

١٠٧

في الحجج الشرعية

قد عرفت أنّ المقصد السادس انعقد لبيان الحجج الشرعية ، وكان البحث عن القطع وأحكامه بحثاً تمهيدياً لدراستها ، وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أمرين :

الأوّل : لا شكّ انّ الظنّ ليس كالقطع ، لأنّ الثاني حجّة بالذات بخلاف الأوّل فحجّيته رهن أحد أمرين :

١. جعل الحجّية وإفاضتها عليه بالجعل الخاص من جانب الشارع كآية النبأ بالنسبة إلى خبر الثقة ، أو بالجعل العام كدليل الانسداد بالنسبة إلى مطلق الظن بشرط تقرير مقدّمات الانسداد على نحو الكشف ، أي كشف العقل عن أنّ الشارع جعل الظن حجّة.

٢. استقلال العقل بالحجّية بعد ثبوت مقدماته بطروء حالات موجبة لاستقلال العقل وحجّيتها في الظروف الخاصة بناء على تقرير مقدمات دليل الانسداد بنحو الحكومة ، ومع استقلال العقل بالحجّية لا ملاك لإفاضة الحجّية عليها من الشرع لكفاية استقلاله بالحجّية عن جعلها له من جانب الشارع.

هذا من غير فرق بين ثبوت التكليف وسقوطه ، فالظن لا يثبت به التكليف كما لا يسقط به التكليف الثابت ، فما لم يحصل اليقين بالفراغ عن العمل وإتيانه على ما هو عليه لا يكفي الظن بالفراغ ، وما ربما ينقل عن المحقّق الخوانساري قدس‌سره من التفصيل بين ثبوت التكليف وسقوطه غير تام ، فكما لا يثبت به التكليف لا

١٠٨

يسقط به التكليف القطعي ، وذلك لاستقلال العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة العقلية والضرر المحتمل ( العقاب الأُخروي المحتمل ) غير مدفوع بالامتثال الظنّي وإنّما يدفع إذا خرج عن العهدة باليقين.

الثاني : قد وقع الخلاف في إمكان التعبد بالظن وعدمه ، فعن ابن قِبَة ادّعاء امتناع التعبد ، وعن غيره إمكان التعبد ، غير انّ القائلين بالإمكان اختلفوا في ورود الأمر بالعمل من الشارع وعدمه ، فالمرتضى وابن البراج والطبرسي على عدم الورود ـ بعد تسليم إمكانه ـ وغيرهم على ثبوت الورود ، فيقع الكلام في مقامين :

الأوّل : إمكان التعبد بالظن وعدمه.

الثاني : في ورود الأمر بالتعبد بالظن وعدمه.

المقام الأوّل : إمكان التعبد بالظن وعدمه

ما هو المراد من الإمكان في كلام النافي والمثبِتْ؟ فهناك احتمالات :

ألف. الإمكان الذاتي بمعنى مساواة نسبة الحجّية وعدمها إلى الظن نظير نسبة الوجود والعدم إلى ماهية الإنسان.

ب. الإمكان الوقوعي بمعنى كون الشيء ممكناً في ذاته ولا يترتب على وقوعه في الخارج أيّ فساد ، مثل إدخال المطيع في النار فانّه وإن كان أمراً ممكناً بالذات ، لأنّه سبحانه كما هو قادر على الحسن قادر على القبيح أيضاً لكن لا يصدر عنه لمخالفته عدله وحكمته ، فهو ممكن بالذات غير ممكن وقوعاً.

ونظيره قول أصحاب الهيئة البطليموسية بامتناع الخرق والالتئام في الأفلاك التسعة لا بمعنى عدم إمكانهما الذاتي بل بمعنى ترتب مفاسد عليها في عالم النظام ، فالخرق والالتئام غير ممكن وقوعاً لا ذاتاً ، وعلى ذلك رتبوا كون معراج النبي روحياً لا جسمانياً لاستلزام الثاني الخرق والالتئام.

١٠٩

وبذلك يعلم انّ التمثيل بالامتناع الوقوعي بتعدد الآلهة استلهاماً من قوله سبحانه : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلا اللّهُ لَفَسَدَتا ) (١) غير تام ، لأنّ المراد منه ما يتمحّض امتناعه في الوقوع ، وليس تعدد الآلهة كذلك فإنّ امتناعهما لا يتمحض في الوقوع بل هو ممتنع ذاتاً قبل الحكم عليه بالامتناع وقوعاً. نعم الآية الكريمة كفيلة ببيان امتناعه وقوعاً.

ج. الإمكان الاحتمالي ، ويراد منه عدم الجزم بامتناع الشيء بمجرّد سماعه ، وهو الذي أشار إليه الشيخ الرئيس في كلامه ، وقال :

كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان مالم يذدك عنه واضح البرهان.

والفرق بين المعاني الثلاثة واضح ، فالإمكان الماهوي وصف للماهية بما هي هي ، كما أنّ الثاني وصف لها بما انّه لا تترتب على وجودها مفسدة في مقابل ما يترتب على وجودها من مفسدة ، والمراد من الثالث احتمال الإمكان والامتناع فالإمكان بالمعنى الثالث يجتمع مع الممكن والممتنع بالذات والممتنع وقوعاً.

والإمكان بالمعنى الثالث لا يحتاج إلى الدليل ، إذ ليس فيه قضاء ولا حكم بخلاف الإمكان بالمعنيين الأوّليين فبما انّهما يحملان حكماً لا يصحّ الحكم بهما بلا دليل.

ما هو محل النزاع من معاني الإمكان؟

الظاهر انّ الإمكان بالمعنى الأوّل خارج عن محطّ النزاع ، إذ لا يشك أحد في إمكان التعبد بالخبر الواحد ذاتاً وماهية وانّ نسبة التعبد وعدمها بالنسبة إليه

__________________

١. الأنبياء : ٢٢.

١١٠

سيان ، ولو كان هناك نزاع فإنّما هو في الإمكان الوقوعي ، وانّه هل يترتب على التعبد الفساد أو لا؟ فابن قبة على الأوّل ، والآخرون على الثاني ، وسيوافيك كلام ابن قبة وهو ظاهر في أنّ هناك مانعاً خارجيّاً عن التعبد بالظن ويستشهد بأنّه يستلزم تحليل الحرام أو تحريم الحلال بمعنى أنّ هذا التالي الفاسد يصدّنا عن القول بصدور التعبد عن الشارع.

ومن هنا يعلم انّ الاستدلال على الإمكان الوقوعي بالإمكان الاحتمالي غير تام ، لأنّ الإمكان الاحتمالي لا يتضمن دعوى ولا حكماً بل هو بمعنى احتمال كلا الطرفين : الإمكان الذاتي والامتناع الذاتي ، وهذا بخلاف الإمكان الوقوعي فانّه يتضمن الحكم بإمكانه بالذات وإمكانه وقوعاً ، فكيف يستدل بالإمكان الاحتمالي على الوقوعي.

نعم يمكن أن يقال لا حاجة إلى إثبات الإمكان الوقوعي بل يكفي الإمكان الاحتمالي إذا ثبت بالدليل القطعي وقوع التعبد بالظن في الشريعة ، فانّ أدلّ دليل على إمكانه ، وقوعه.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني حمل الإمكان الوارد في كلامهم على معنى رابع وهو الإمكان التشريعي قائلاً بأنّ النزاع في أنّه هل يلزم من التعبد بالأمارات محذور في عالم التشريع من تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة واجتماع الحكمين المتضادين أو لا؟وليس المراد من الإمكان ، الإمكان التكويني بحيث يلزم عن التعبد بالظن محذور في عالم التكوين.

يلاحظ عليه : أنّ الإمكان التشريعي بهذا المعنى قسم من الإمكان التكويني وليس قسيماً له ، فانّ التوالي المتوهمة تعدّ أُموراً ممتنعة في صفحة الوجود والتكوين ، وكون مورد الإمكان تشريع التعبد بالظن ، لا يوجب عدّه قسماً مستقلاً.

إذا علمت هذا ، فلنرجع إلى دراسة أدلّة القول بالامتناع.

١١١

دليل القائل بامتناع التعبّد بالظن

إنّ القائل بامتناع التعبد بالظن استدل بوجهين :

أحدهما : لوجاز العمل بالخبر الواحد في الفروع لجاز العمل به في الأُصول ، فلو أخبر أحد من اللّه سبحانه لزم قبوله.

ولا يخفى وهن هذا الدليل ، لأنّ الأمر في الفروع أسهل ، فقبول الخبر فيها لا يلازم قبوله في الأُصول.

ثانيهما : انّه يستلزم تحليل الحرام أو تحريم الحلال.

هذا هو الدليل المهم في كلام ابن قبة ، وذكره المحقّق الخراساني تحت عناوين ثلاثة :

الأوّل : انّ التعبد بالظن يستلزم اجتماع أُمور مستحيلة :

أ. اجتماع المثلين فيما أصاب.

ب. اجتماع الضدين فيما أخطأ ، كأن يكون الواقع واجباً وقامت الأمارة على تحريمه.

ج. اجتماع إرادة وكراهة وهما من مبادئ الأحكام ، فالأُولى من مبادئ الإيجاب والثانية من مبادئ الحرمة.

د. اجتماع المصلحة والمفسدة ، وهما من ملاكات الأحكام فيما إذا كان الواقع حراماً وقامت الأمارة على الوجوب ، أو بالعكس.

كلّ ذلك فيما إذا لم يكن هناك كسر وانكسار في الملاكات ، وإلافلو غلب ملاك الحكم الظاهري على ملاك الحكم الواقعي يلزم التصويب وخلوّ الواقعة عن الحكم الواقعي واختصاص الحكم بالظاهريّ.

١١٢

الثاني : طلب الضدين (١) وهو فيما إذا أخطأت الأمارة وأدّت إلى وجوب ضدّ الواجب ، كما إذا أمر المولى بالإزالة واقعاً وهو واجب مضيّق وقامت الأمارة على وجوب الصلاة فيلزم طلب الضدين في ظرف لا يكفي لأحدهما.

الثالث : تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة ، وذلك فيما إذا أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب ، أو عدم حرمة ما هو حرام.

هذه هي التوالي الفاسدة الناشئة من التعبد بالأمارة الظنية.

ثمّ إنّ المحقّقين أجابوا عن تلك المحاذير بأجوبة مختلفة نتناول بعضها بالنقاش حسب ما يقتضيه الحال.

إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن تلك الإشكالات بأجوبة ثلاثة ، وبهذا جمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

الجواب الأوّل (٢)

المجعول في باب الأمارات هو الحجّية بمعنى انّه التنجيز لو أصاب والتعذير إذا أخطأ فقط لا جعل حكم مماثل لمؤدّى الأمارة حتى تستتبع حجّية الأمارة حكماً مجعولاً على نحو ما تتضمنه ، بل حجّيتها ليست إلا تنجيز الواقع إذا أصابت وتعذيره إذا أخطأت ، وليس في مخالفتها أو موافقتها سوى التجري والانقياد ، وعلى ضوء ذلك ليس هنا حكم وراء الواقع حتى يلزم اجتماع حكمين مثلين ـ إذا وافقت الواقع ـ أو ضدين ـ إذا خالفت الواقع ـ ولا طلب الضدين ـ لعدم الضد الثاني حتى يطلبه ـ ولا اجتماع المصلحة والمفسدة ولا الكراهة والإرادة ، لأنّ الجميع من فروع وجود حكم ثان والمفروض انتفاؤه.

وهو بهذا الجواب ردّ على جميع تلك الإشكالات :

__________________

١. وهذا المحذور غير ما مرّ من اجتماع الضدين فلاحظ.

٢. أشار إلى هذا الجواب بقوله : لأنّ التعبد بطريق غير علمي الخ.

١١٣

نعم بقي هنا إشكال ، وهو انّ جعل الحجّية للأمارة إذا كانت مخالفة للواقع يوجب تفويت مصلحة الواقع إذا قامت على إباحة الواجب أو الإلقاء في المفسدة إذا قامت على حلية الحرام واقعاً ، والفرق بين هذا الإشكال والإشكالات المتقدمة هي انّ الإشكالات المتقدّمة مترتبة على فرض حكم ثان وقد نفى بتاتاً ، وهذا الإشكال مترتب على ترخيص العمل بالأمارة بأيّ معنى كان سواء كان هنا حكم ثان أو لا.

ثمّ أجاب عنه قدس‌سره بأنّه لا مانع من تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة إذا كان هناك مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

الجواب الثاني (١)

إنّ للشارع حكماً ظاهرياً وراء الحكم الواقعي بمعنى انّ جعل الحجّية للأمارة مستلزم لجعل حكم مماثل لمؤدّاه ، أو بأنّه لا معنى لجعلها إلاجعل تلك الأحكام. فهناك حكمان مجعولان ، ومع ذلك كلّه لا يلزم المحاذير المتقدمة وذلك لاختلاف الحكمين جوهراً.

أحدهما : حكم واقعي ناشئ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه وقد تعلّقت به إرادة نفسانية أو كراهة كذلك.

ثانيهما : حكم طريقي لغاية تنجيز الواقع إذا أصاب والتعذير إذا أخطأ من دون أن تكون مصلحة أو مفسدة في المتعلّق ، أو تتعلّق الإرادة أو الكراهة به ، غاية الأمر وجود المصلحة في نفس إنشاء الحكم موافقاً كان للواقع أو لا ، فعندئذ ترتفع المحاذير السابقة لاختلاف الحكمين جوهراً فليس بمثلين عند الإصابة ، ولا ضدين عند المخالفة ، ولا يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة ولا تتعلق الإرادة

__________________

١. أشار إلى هذا الجواب بقوله : نعم لو قيل باستتباع جعل الحجّية للأحكام التكليفية الخ.

١١٤

والكراهة بشيء واحد ، لأنّ المفروض انّ الحكم الطريقي ليس في متعلقه مصلحة ولا مفسدة ولا هو متعلّق إرادة ولا كراهة.

نعم لا ينفك الحكم الواقعي عن المصلحة والمفسدة وعن تعلّق الإرادة والكراهة. (١)

والحاصل انّه لا تضاد بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا ، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما اتّفقا ولا إرادة ولا كراهة أصلاً إلا بالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي.

نعم يرد على هذا الجواب نفس ما أورده على الجواب الأوّل ، وهو انّ مشكلة تفويت المصلحة باق على حاله ، والجواب عنه نفس الجواب عنه في السابق طابق النعل بالنعل.

الجواب الثالث

إنّ المحقّق الخراساني لاحظ انّ ما ذكره ـ المجعول هو الحجّية أو الأحكام الطريقية ـ لا ينطبق على بعض الأُصول العملية كأصالة الإباحة الشرعية ، فانّ الظاهر منه انّ هناك حكماً شرعياً مجعولاً على المشكوك لا طريقاً إلى الواقع إذ الطريقية من أحكام الأمارات لا الأُصول ، ففي مثل هذا المورد تخلص عنه بجواب ثالث ، وهو انّه التزم بعدم كون الأحكام الواقعية فعلية مطلقة بل فعلية معلقة ( أو فعلية لكن غير منجّزة ) إلا إذا علم به أو أدت إليه الأمارة ولا تعارض بين الفعلي المعلق الذي لم يحصل فيه الشرط ، والحكم الفعلي المطلق فالأحكام الواقعية التي لم يتحقق شرطها أحكام فعلية معلقة بخلاف الأحكام الظاهرية

__________________

١. ثمّ إنّه قدس‌سره أشار في توضيح هذا الجواب إلى تفسير الإرادة والكراهة وانّه في المبدأ الأعلى بمعنى العلم بالمصلحة والمفسدة ، وفي المبادئ العالية ، أعني : النبي والوصي ، واقعية الإرادة والكراهة ، وهو غير دخيل في الجواب.

١١٥

فهي أحكام فعلية منجزة.

وبذلك جعل للفعلية مرحلتين :

أ. الفعلية المعلّقة التي لا يكون بعدها بعث ولا زجر.

ب. الفعلية المطلقة التي يكون بعدها بعث وزجر. هذا ما ذكره المحقّق الخراساني من الأجوبة الثلاثة أو جواب واحد في مراحل ثلاث :

يلاحظ على الجواب الأوّل : أنّ القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هو الحجّية خلاف التحقيق فانّه ليس للشارع أيّ جعل في باب الأمارات ، بل أمضى ما عليه العقلاء من العمل بقول الثقة ، بالسكوت أو بإخراج الفاسق وإبقاء العادل بالروايات الإرجاعية وغيرها (١) ، فما ورد في الروايات إمّا إرشاد إلى الصغرى أو إمضاء لما في يد العقلاء حتى انّ ما ورد في التوقيع عن الناحية المقدسة ، أعني قوله : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي وأنا حجّة اللّه » ليس بصدد إنشاء الحجّية ، بل اخبار عن كونهم حجج اللّه كما يخبر عن نفسه بأنّه حجّة من اللّه.

ويلاحظ على الجواب الثاني : أنّ القول بوجود حكمين أحدهما نفسي والآخر طريقي قول بلا دليل ، فانّ المجعول هو الحكم الواقعي النفسي ولا دليل على جعل حكم طريقي في مقابل الواقع ، بل أقصى ما هناك هو الأمر بالعمل بالطرق ليتوصل بها المكلف إلى الواقع ، فإن أوصلته إليه فمؤدى الأمارة هو حكم الواقع وإلافتكون اكذوبة نسبت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام.

وبالجملة : حكم نقلة الأحاديث والروايات عن اللّه سبحانه بواسطة أنبيائه وأئمته ، حكم الناطق في الأجهزة الإعلامية عن جانب الدولة ، فلو أصاب خبره

__________________

١. سيوافيك انّ الروايات على طوائف خمس.

١١٦

الواقع يكون المؤدّى نفس الواقع ، وإن أخطأ يكون كلاماً مكذوباً على لسان الدولة.

نعم ما أفاده في الجواب الثالث مبني على أنّ المجعول هو الحكم الشرعي حيث إنّ الظاهر من أدلّة الأُصول جعل الطهارة والحليّة للمشكوك وأنّ الواقع ليس بفعلي منجز.

الرابع : ما أفاده الشيخ الأعظم في المقام وأشار إليه المحقّق الخراساني بقوله : « فقد انقدح بما ذكرنا انّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأُصول والأمارات فعلياً » وبما انّ ما نسب إليه المحقّق الخراساني لا يوافق كلام الشيخ في الفرائد نأتي بخلاصة كلامه في هذا المقام : (١)

انّ القائل بامتناع التعبد إمّا يقول به في حال الانسداد أو في زمان الانفتاح. أمّا الأوّل فالمنع عن التعبد غير صحيح بعد انحصار الطريق بالظن وإلا يلزم ترك العمل بالشريعة.

وأمّا الثاني فلأنّ الإشكال إنّما يتوجه إذا لم تتدارك المصلحة الفائتة أو المفسدة الواردة ، بمصلحة في نفس التعبد بالظن بمعنى انّه لا مانع أن يكون في سلوك الأمارة وتطبيق العمل عليها مصلحة يجبر بها الفائتة منها أو الواردة من المفسدة ، وذلك لأنّ في بعث الناس إلى تحصيل العلم مفسدة العسر والحرج وبالتالي خروجهم عن الدين بخلاف الأمر بالعمل بالأمارة والأُصول ففيها تسهيل للمكلّفين في سلوكهم الاجتماعي والفردي ، والمصلحة السلوكية لا تمسّ كرامة الواقع ولا تغيره غير انّه إذا صادفت الأمارة الواقع يكون نفس الواقع

__________________

١. قد ابتدأ الشيخ بتقرير جوابه من صفحة ٢٦ بقوله : « فنقول في توضيح هذا المقام وإن كان خارجاً عن محلّ الكلام » وانتهى عنه في صفحة ٣٠ بقوله : « وتلخص من جميع ما ذكرنا انّ ما ذكره ابن قبة من استحالة التعبد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة غير العلمية ممنوع » ( لاحظ طبعة رحمة اللّه ص ٢٦ ـ ٣٠ ).

١١٧

وإلا يكون كاذباً ، ولكن نفس العمل بالأمارة لما كان ذات مصلحة سلوكية يتدارك به ما فات من المصالح أو ابتلى به من المفاسد.

ثمّ إنّه يعرف الحكم الواقعي بالبيان التالي ويقول :

إنّ المراد بالحكم الواقعي هو الحكم المتعين المتعلّق بالعباد الذي يحكى عنه الأمارة ، ويتعلّق به العلم والظن وأمر السفراء بتبليغه ، وإن لم يلزم امتثاله فعلاً في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه إلا أنّه يكفي في كونه الحكم الواقعي انّه لا يعذر فيه إذا كان عالماً به أو جاهلاً مقصراً ، والرخصة في تركه عقلاً كما في الجاهل القاصر أو شرعاً كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه. (١)

وعلى ضوء ذلك فتندفع جميع المحاذير.

أمّا محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة ، فلما عرفت من تداركه بالمصلحة السلوكية.

وأمّا التدافع بين الملاكين ، مثلاً إذا كان الواقع حراماً وقامت الأمارة على وجوبه ، فالمفسدة قائمة بمتعلّق الحكم والمصلحة بنفس السلوك.

وأمّا المحذور الخطابي من اجتماع المثلين أو الضدين فهو منتف بانتفاء الموضوع ، لأنّ الأمارة في خدمة الواقع ، فإن وافق فهو ، وإلافلا يتضمن حكماً شرعياً وليس للشارع فيه دور سوى الإمضاء ، ففي ظرف الموافقة والمخالفة لا حكم ثان حتى يتحقّق فيه مثلان أو ضدّان ، والدليل على أنّ قيام الأمارة لا تحدث حكماً شرعياً وافق أم خالف هو تصريحه بأنّ معنى « إيجاب العمل على الأمارة ، وجوب تطبيق العمل عليها لا وجوب إيجاد عمل على طبقها ». (٢)

__________________

١. الفرائد : ٣٠ ، طبعة رحمة اللّه.

٢. لاحظ الفرائد : ٢٧ ، طبعة رحمة اللّه.

١١٨

وأمّا المحذور الراجع إلى المبادي كالإرادة والكراهة ، فمثلاً لو فرضنا انّ الأمارة قامت على وجوب الحرام ، فالكراهة متعلّقة بالمتعلّق كالعصير العنبي ، والإرادة متعلّقة بتطبيق العمل على الأمارة ونفس السلوك ، وبهذا الجواب تندفع جميع المحاذير : الملاكية والخطابية والمبادئية.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على هذا الجواب إيرادين :

الأوّل : لو كانت الأحكام الواقعية أحكاماً انشائية يلزم عدم وجوب امتثالها لو قامت الأمارة عليها ، وذلك لأنّ جوهر الحكم الواقعي لما كان إنشائياً ، فقيام الأمارة لا يحدث شيئاً سوى انّه قام على حكم واقعي إنشائي غير لازم الامتثال.

الثاني : كيف يمكن التوفيق بذلك مع احتمال وجود أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق والأُصول العملية ، المتكفلة لأحكام فعلية ضرورة انّه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافين كذلك لا يمكن احتماله ، فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين بالتزام كون الحكم الواقعي الذي يكون لولا الطرق إنشائياً ، غير فعلي. (١)

يلاحظ على الأوّل : أنّ الإشكال مبني على كون الحكم الواقعي عند الشيخ إنشائياً ، وهو خلاف صريح كلامه ، فانّ صريح كلامه انّه فعلي وله آثار أربعة :

أ. لا يعذر إذا كان عالماً.

ب. لا يعذر إذا كان جاهلاً مقصراً.

ج. يعذر إذا كان قاصراً عقلاً.

د. معذور شرعاً.

إنّ احتمال المتنافيين وإن كان كالقطع بهما في الامتناع ، لكن إذا كان

____________

١. الكفاية : ٢ / ٥٢ ـ ٥٣.

١١٩

الحكمان مختلفين جوهراً كأن يكون أحدهما إنشائياً ـ حسب بعض كلماته ـ أو فعلياً حسب ما استظهرناه ، والآخر فعلياً مطلقاً ، فالقطع بوجودهما ليس محالاً فضلاً عن احتمالهما.

الخامس : ما نسب إلى المحقّق السيد محمد الفشاركي وقرّره المحقّق الخراساني بالنحو التالي : انّ الحكمين ليس من مرتبة واحدة بل في مرتبتين ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين. وقد أشار إلى هذا الجواب الشيخ الأنصاري في أوّل مبحث التعادل والتراجيح وإن كان كلامه في رفع التعارض بين الأُصول وما يحصله المجتهد من الأدلّة الاجتهادية ، ولكنّه عام لغير هذا المورد ، حيث قال : إنّ موضوع الحكم في الأُصول ، الشيء بنفس انّه مجهول الحكم فالحكم عليه بحلية العصـير ـ مثلاً ـ من حيث إنّه مجهول الحكم ، وموضوع الحكم الواقعي ، الفعل من حيث هو هو ، فإذا لم يطلع عليه المجتهد كان موضوع الحكم في الأُصول باقياً على حاله فيعمل على طبقه. الخ. (١)

وقد أورد عليه في الكفاية ما مرّ نظيره في تصوير الترتب ، وهو انّ الحكم الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلا انّه يكون في مرتبته أيضاً وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة.

إلى هنا تمت الأجوبة الخمسة للمجمع بين الحكم الواقعي والظاهري التي أشار إليها في الكفاية ، وهناك جواب سادس يندفع به جميع المحاذير المذكورة بالبيان التالي وربما يكون لبّه موجوداً ضمن الأجوبة السابقة.

تحليل جديد للمحاذير

إنّ المحاذير المتصورة في المقام لا تخلو إمّا أن تكون محاذير ملاكيّة ، أو

__________________

١. الرسائل : ٤٣١ ، خاتمة في التعادل والترجيح ، طبعة رحمة اللّه.

١٢٠