إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

وبما أنّ ملاك البحث هو استصحاب الحكم الكلّي المتعلّق بعنوان العشرة فلا يمكن تسريته إلى عنوان التسعة.

الرابع : استصحاب الحكم المتعلّق بالعنوان

هناك بيان آخر يختلف مع ما مرّ ، وذلك لأنّ التقرير السابق كان مبنياً على تعلّق الحكم بالأجزاء مباشرة ، وعندئذ يتوجّه إشكال مغايرة القضية المشكوكة مع المتيقّنة. وانّ العشرة ، تغاير التسعة ، وأمّا لو قلنا ـ كما مرّ في المركب المنسي بعض أجزائه ـ بأنّ الأمر يتعلّق بالعنوان الذي هو وجود إجمالي للأجزاء ، وهي وجود تفصيلي له ، وله مع وحدة مفهومه عرض عريض ، يصدق على الواجد والفاقد ، بقرينة صدقه على صلاة الحاضر والمسافر ، والقادر والعاجز ، فإذا تعذّر بعض الأجزاء وشككنا في كيفية دخله في الموضوع ، فهل هو مطلوب مطلقاً ، أو عند التمكن يصحّ لنا ، استصحاب الوجوب المتعلّق به إلى أن يعلم ارتفاعه ، لوحدة القضيتين ، لصدق العنوان على الفاقد والواجد وهذا المقدار من الوحدة يكفي في جريان الاستصحاب.

وعلى ضوء ذلك يكون المحكّم هو الاستصحاب لا البراءة.

حكم القواعد الثانوية

هذا حكم القواعد الأوّلية ودونك الكلام في حكم الأدلّة الثانوية الواردة في خصوص هذا الموضوع.

الحديث النبوي

أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ، قال : خطبنا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :

٦٢١

أيّها الناس قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا ، فقال رجل : أكلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً قال : لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم ، ثمّ قال : ذروني ما تركتكم ، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ». (١)

ورواه النسائي في كتاب الحجّ باب وجوبه بالنحو التالي :

« فإذا أمرتكم بشيء فخذوا به ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ». (٢)

ورواه البيهقي في سننه (٣) بلفظ قريب ممّا نقله مسلم.

هذا ما لدى السنّة وأمّا الشيعة فلم يروه أصحاب الكتب الأربعة ولا غيرها ، إلا ابن أبي جمهور الأحسائي في كتابه غوالي اللآلي وهو من علماء القرن التاسع الهجري.

قال : روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنّ اللّه قد كتب عليكم الحجّ » قال فقام الأقرع بن الحابس فقال : في كلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت ، ثمّ قال : « لو قلت نعم لوجب ، ثمّ لا تسعون ولا تطيعون ، ولكنّه حجّة واحدة ». (٤)

واستدلّ به السيد عميد الدين على ما حكاه الشهيد في الذكرى في مسألة صلاة العاري ، حيث كان يقوِّي صلاته جالساً ليومئ للسجود عارياً استناداً إلى أنّه حينئذ أقرب إلى هيئة الساجد فيدخل تحت قوله : فأتوا به ما استطعتم. (٥)

__________________

١. التاج الجامع للأُصول : ٢ / ١٠٠ ، كتاب الحج.

٢. سنن النسائي : ٥ / ١١١ ، ومعها تعليقات السيوطي.

٣. سنن البيهقي : ٤ / ٣٢٦.

٤. غوالي اللآلي : ١ / ١٦٩.

٥. بحار الأنوار : ٨٠ / ٢١٤.

٦٢٢

وعلى أيّ حال فالرواية عندنا مرسلة وعند غيرنا مسندة ينتهي سندها إلى أبي هريرة الذي لا يركن إلى رواياته ، ولكن إتقان المضمون يشهد على صدقه ولذلك يعلوه سمو النبوة ونورها.

وأمّا الدلالة فالظاهر أنّها غير صالحة للاستدلال به للمقام بوجهين :

١. موردها الحجّ على ما عرفت ، فيكون دليلاً على لزوم الإتيان في ذوي الأفراد ، لا في ذوي الأجزاء خصوصاً انّ النسائي رواه : « فخذوا به » مكان « فأتوا منه » ، والأوّل صريح في ذوي الأفراد ، هذا لو فسرنا الرواية بملاحظة الصدر أمّا مع الغض عنه فنقول : قوله : « فأتوا به ما استطعتم » فيه احتمالات :

فإنّ لفظة « ما » إمّا مصدرية ، أو موصولة.

وعلى الأُولى إمّامصدرية غير زمانية ، أو مصدرية زمانية ، و « من » للتعدية بمعنى « الباء » وعلى الثانية فلفظة « من » إمّا بيانية أو تبعيضية.

فتلك احتمالات أربعة :

١. أن تكون مصدرية غير زمانية والجار بمعنى الباء للتعدية : نظير قوله سبحانه : ( فَاتَّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ). (١) أي فأتوا به قدر الاستطاعة ، وتكون النتيجة محبوبية تكرار العمل الواجب أو المستحب بقدر الوسع ، ولا صلة لهذا المعنى بالمقام.

٢. أن تكون مصدرية زمانية فالجار أيضاً بمعنى الباء للتعدية مثل الأُولى ، ويكون المعنى فأتوا به زمان الاستطاعة ، وهذا خيرة السيد الأُستاذ والمحقّق الخوئي ، وعندئذ يكون إرشاداً لحكم العقل ولا يفيد معنى جديداً.

٣. أن تكون « ما » موصولة مفعولاً لقوله : « فأتوا » والجار بيانيّة والمعنى فأتوا

__________________

١. التغابن : ١٦.

٦٢٣

الذي استطعتم من إفراد ذلك الشيء ويتحد مع المعنى الأوّل.

٤. أن تكون « ما » موصولة مفعولاً لقوله « فأتوا » والباء تبعيضية.

والمعنى : فأتوا الذي استطعتم من بعض ذلك الشيء وهذه المحتملات الأربعة ولا صلة لها بالمقام إلا المعنى الرابع.

والحقّ انّ المعنيين الأخيرين بعيدان لاستلزامهما تقدّم عائد الموصول ( منه ) على الموصول أعني : « ما » وهو غير جائز إلا عند الضرورة.

والظاهر أنّ المتبادر هو المعنى الأوّل ، وهو منطبق على المورد ( الحج ).

العلويان

روى صاحب غوالي اللآلي : وقال عليه‌السلام : « لا يُترك الميسور بالمعسور ». وقال عليه‌السلام : « ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك كلُّه ».

وقد استدلّ به الوحيد البهبهاني في كتاب « مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع » في باب الوضوء عند قول المصنف : « وترك الاستعانة » فقال ما هذا لفظه : نعم مع الاضطرار يجوز ان يولّي طهارته غيره ، واستدلّ بالعلويين.

وقال بحر العلوم في منظومته :

وفي اضطرار يسقط المعســور

في الكلّ فالفــرض هو الميسور

وليس في كتب القدماء من الحديثين عين ولا أثر ، وعلى ذلك فالاعتماد عليهما في إثبات الحكم الشرعي مشكل.

وأمّا دلالة الأوّل على لزوم الإتيان بالأجزاء الباقية فمبني على أنّ المراد : الميسور من أجزاء المركب لا يسقط بالمعسور من أجزائه.

٦٢٤

وقد أُورد على الاستدلال بالحديث وجوه :

١. ما أشار إليه المحقّق الخراساني في عدم ظهور الرواية في ذي الأجزاء من الواجب ، لاحتمال كون المراد هو ذي الافراد كالحج.

يلاحظ عليه : أنّ الأولى بالذكر هو الأوّل ، لأنّ توهم السقوط في المركبات ذات الأجزاء المتلاحمة أقوى من توهم السقوط في الأفراد المتبائنة ، فاحتمال سقوط الجلّ لأجل سقوط الكلّ أكثر من احتمال سقوط بعض الأفراد لسقوط البعض الآخر ، فالأوّل أولى بالذكر.

ويمكن أن يقال : انّ إطلاق لفظة « الميسور » يعم ميسور كلّ شيء ، سواء كان ذا أفراد أو ذا أجزاء.

٢. انّ الرواية تعمّ الواجبات والمستحبات ، ومعه يحمل قوله : « لا يسقط » على مطلق المحبوبية ، ولا يتم الاستدلال على لزوم الإتيان بالأجزاء الباقية في الواجب.

يلاحظ عليه : بما أشار إليه المحقّق الخراساني من أنّ المراد هو ما لا يسقط بما له من الحكم إن كان واجباً فيبقى الوجوب ، وإن كان مستحباً فيبقى الاستحباب.

٣. ما أشارإليه المحقّق الخوئي انّ السقوط فرع الثبوت ، فالرواية مختصة بتعذّر بعض أفراد الطبيعة باعتبار انّ غير المتعذّر منها كان وجوداً ثابتاً قبل طروء التعذّر فيصدق انّه لا يسقط بتعذّر غيره ، بخلاف بعض أجزاء المركب فإنّه كان واجباً بوجوب ضمني قد سقط بتعذّر المركب من حيث المجموع ، فلو ثبت وجود بعد ذلك فهو وجوب استقلالي حادث ، فلا معنى للإخبار عن عدم سقوطه بتعذر غيره. (١)

__________________

١. مصباح الأُصول : ٢ / ١٨٤.

٦٢٥

يلاحظ عليه : أنّه إنّما يتم لو قلنا بوجوب الأجزاء الباقية بوجوب ثان ، ولكن عرفت أنّ كلّ جزء ، واجب بنفس الوجوب المتعلّق بالكلّ ، ولمّا سقطت دعوة الأمر إلى الكلّ ، بقيت دعوته إلى الأجزاء الباقية بحالها ، والحديث كشف عن بقاء الدعوة.

أضف إلى ذلك انّا نفترض أنّ الأجزاء الباقية وجبت بوجوب ثان ولكن لما كانت النتيجة واحدة يصحّ أن يقال عرفاً انّ الوجوب لم يسقط.

٤. انّ التمسك بهذا الحديث وإثبات مطلوبية الباقي مستلزم الدور ، لأنّ كون الأجزاء الباقية ميسوراً للمكلّف فرع كونها واجدة للملاك وإثبات الملاك فرع تعلّق الأمر بالباقي ، وتعلّق الأمر فرع إحراز كونه ميسوراً للسابق ومطلوباً ثانوياً له.

يلاحظ عليه : أنّ المراد من الميسور ما يعد ميسوراً في العرف للعمل المتعذر ، ويكفي في صدقه عدّه منزلة نازلة للمعسور ، من دون نظر إلى كونه ذا ملاك حتى يتوقف صدق الميسور على إحرازه ، وإحراز الملاك ، على إحراز الأمر المتوقّف على صدق الميسور.

وبالجملة ليس المراد من المماثلة هو المماثلة في الملاك الذي هو أمر غيبي ، بل المماثلة في الشؤون الظاهرية بحيث يعد الباقي عرفاً انّه ميسور ذلك ، كالتسعة بالنسبة إلى العشرة ، لا الاثنين بالنسبة إليها.

ذكر سيدنا الأُستاذ انّ في الحديث احتمالات أربعة :

١. أن يراد من الميسور والمعسور ، معسور الطبيعة وميسورها.

٢. أن يراد منهما ، معسور الأجزاء ، من الطبيعة وميسورها.

٣. أن يراد من الأوّل ، معسور الطبيعة ومن الثاني ميسور الأجزاء.

٦٢٦

٤. عكس الاحتمال الثالث.

أقول : لا سبيل إلى الأخيرين بحكم وحدة السياق ، فالأوضح هو الاحتمال الأوّل لولم نقل انّ هنا احتمالاً خامساً وهو إرادة الجامع بين معسور الطبيعة ومعسور الأجزاء أخذاً بإطلاق لفظ الميسور.

الحديث الثاني

العلوي الثاني عبارة عن قوله عليه‌السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » وفيه احتمالات تستخرج من كون المراد من لفظ « كل » في كلا الموردين ، العامّ الاستغراقي أو العام المجموعي.

وإليك الاحتمالات المفروضة في هذا المجال :

١. أن يراد من لفظة « كل » في كلتا الجملتين العام الاستغراقي.

٢. أن يراد منهما العامُ المجموعي.

٣. أن يراد من الصدر العام الاستغراقي ومن الذيل العام المجموعي.

٤. عكس الاحتمال الثالث.

لا شكّ انّ المعنى الأوّل ، أعني : إرادة العام الاستغراقي من كلتا الفقرتين ، أمر غير معقول ، لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان بكلّ فرد وجزء من الواجب ، فكيف يؤمر بأن لا يترك كلّ فرد وجزء منه ، وهل هذا إلا كون الذيل مناقضاً للصدر؟

أمّا الثاني : أي إذا أُريد من كلتا الجملتين ، العامُّ المجموعي ، فهو أمر معقول بشرط أن يُفسَّر الذيل بعدم ترك المجموع لا بالإتيان بالمجموع ، ومعنى الحديث : إذا لم يمكن الإتيان بمجموع الأفراد أو الأجزاء فلا يترك المجموع بمعنى سلب

٦٢٧

العموم ، ويحصل الامتثال بالإتيان ببعض الأفراد أو الأجزاء ، لأنّه يصدق انّه لم يترك المجموع.

نعم لو فسّرنا النهي عن ترك المجموع بالإتيان بالمجموع كما عليه السيد الأُستاذ في تهذيبه والسيد الخوئي في مصباح الأُصول كان مفاده غير معقول (١) لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان بالمجموع كيف يؤمر بالإتيان به؟

وأنت خبير بأنّ النهي تعلّق بترك المجموع ، أي لا تترك المجموع ، وعدم تركه يحصل بالإتيان بالبعض ; وأمّا تفسير النهي عن ترك المجموع بالإتيان به ، فلا يدل عليه اللفظ بالدلالة العرفية.

وأمّا الثالث : أعني إذا أُريد من الصدر : العامُّ الاستغراقي ، ومن الذيل : العام المجموعي ، فهو معنى معقول ، أي إذا لم يمكن الإتيان بكلّ فرد أو جزء ، فلا يترك مجموع الأفراد والأجزاء.

وأمّا الرابع : أعني ما إذا أُريد من الأوّل العام المجموعي ومن الآخر الاستغراقي ، فهو أيضاً غير معقول ، لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان بالمجموع فكيف يتمكن من عدم ترك كلّ واحد أو جزء؟

وليعلم أنّ ملاك الامتناع جعل لفظة « كل » في الذيل لعموم الاستغراق ، وعلى ذلك فالصورتان : الأُولى والرابعة ، باطلتان ; والثانية والثالثة ، مقبولتان. ولعلّ المتبادر هو المعنى الثالث ، وهو صادق على ذي الأفراد وذي الأجزاء ، بل ظهوره في ذي الأجزاء أوضح من ظهوره في ذي الأفراد ، وذلك لأجل لفظة « كل » ، بما انّه مقابل للجزء.

__________________

١. تهذيب الأُصول : ٢ / ٤٠٦ ؛ مصباح الأُصول : ٢ / ٤٨٠.

٦٢٨

الإشكالات الواردة على الاستدلال بالحديث

ثمّ إنّه استشكل على الاستدلال بالحديث بوجهين :

١. عموم القاعدة للواجب والمستحب

إنّ عموم الموصول يقتضي شموله للواجب والمستحب ، وعلى ذلك لابدّ من حمل النهي في قوله : « لا يترك » على مطلق المحبوبية ، فلا يدل على وجوب الإتيان بالباقي ، بل يدل على رجحان عدم الترك.

يلاحظ عليه : بما ذكرنا في مبحث الأوامر من أنّ الوجوب والحرمة خارجان من مداليل الأمر والنهي ، فالأمر يدل على البعث ، والنهي على الزجر ، وأمّا كون البعث إلزاميّاً أو كون الزجر كذلك ، أو غير إلزامي ، فإنّما يستفاد من دليل خارج ، فالعقل يدل على أنّ بعث المولى لا يترك بلا جواب فيحكم بلزوم الامتثال بالفعل في الأمر والترك في النهي إلى أن يدل دليل على الرخصة فيهما.

وعلى ذلك فحمل النهي على رجحان عدم الترك لا يكون منافياً لوجوب الأجزاء الباقية أو الأفراد الممكنة ، فلأنّه على كلّ تقدير مستعمل في مطلق البعث أو الزجر الشامل للواجب والمستحب.

وإن شئت قلت : إنّ الحديث ظاهر في أنّ ما يمكن من الأفراد والأجزاء لا يترك بما له من الحكم ، كما مرّذكره في تفسير قوله : « لا يسقط ».

٢. ورود التخصيص الكثير عليها

إنّ الأصحاب لم يعملوا بها في غير باب الصلاة ، فلا تكون سنداً إلا إذا عمل بها الأصحاب.

٦٢٩

يلاحظ أنّ الأصحاب عملوا بها في كتاب الطهارة ، والصلاة في مختلف أبوابها ، وأمّا عدم العمل به في باب الصوم فلأنّه عمل بسيط يدور أمره بين الوجود والعدم ومثله لا يعد تخصيصاً في القاعدة.

ما هو الشرط لجريان القاعدة؟

ثمّ إنّه يشترط في جريان القاعدة ، عدّ الميسور ، ميسوراً للطبيعية ، فتعد الجبيرة في بعض الأجزاء ميسوراً للوضوء ولا تعد الجبيرة في معظمها ميسوراً من غير فرق بين الموضوعات العرفية والشرعية.

وأمّا دلالة العلويين على هذا ، فلو قلنا بأنّ المراد هو ميسور الطبيعية ومعسورها ، فمعناه انّ للطبيعة فردين ، ميسوراً ومعسوراً ، وكلاهما من مصاديقها.

وأمّا لو قلنا بالاحتمال الثاني ، أي أجزاء المعسورة من الطبيعة وميسورها منها ، فلا وجه لاشتراط صدق الطبيعة على الميسور بل يكفي عدّ الميسور جزء من المعسور ، لا مصداقاً له ، ولكن بما أنّ القاعدة إرشاد إلى ما عند العقلاء منالإتيانبميسور المطلوب عند معسوره لا محيص عن شرطية صدق ميسور الطبيعة.

وأمّا العلوي الثاني فدلالته غير واضحة ، لأنّ المراد من الموصول هو الشيء ، والضميران في لفظة « كلّه » في الموضعين يرجع إليه ، والمعنى ما لا يدرك كلّ أجزاء الشيء فلا يترك كلّها ، واللازم كون المأتي به ، من أجزاء المعسور ، أمّا لزوم صدق الشيء عليه فلا. ويجري فيه ما ذكرناه في العلوي الأوّل من كونها إرشاداً إلى بناء العقلاء ، فيحمل على ما إذا عدّ فرداً نازلاً للطبيعة.

وعلى ذلك فلو دلّ الدليل الخارجي على لزوم الإتيان وإن لم يصدق عليه ميسور الشيء المعسور كما في المسح على المرارة في رواية عبد الأعلى مولى

٦٣٠

آل سام (١) ، أو دلّ على السقوط وإن عُدَّ ميسوراً عرفاً نأخذ به وإلا فلا يصحّ التمسّك بإطلاق القاعدة إلا فيما إذا صدق على المورد عرفاً انّه ميسوره ، ومثلاً لا ينتقل إلى الصلاة قاعداً مادام متمكناً من القيام ، فلو دار الأمر بين القيام معتمداً على شيء ، أو القيام غير مستقر ، وبين القعود بلا اعتماد أو مع الاستقرار ، يقدّم الأوّلان لأنّهما ميسورا القيام ، والمرجع هو العرف.

التنبيه الرابع : في دوران الأمر بين الجزئيّة والمانعيّة ...

إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته ، وبين مانعيته أو قاطعيته ، بمعنى انّا علمنا اعتبار شيء في المأمور به ، ودار الأمر بين كون وجوده مؤثراً في الصحّة ، أو كون وجوده مانعاً عنها ، وقد تقدّم الفرق بين المانعية والقاطعية وقلنا إنّ الاعتبار الصحيح فيهما كون وجودهما مزاحمين لا اعتبار عدمهما.

وهذا كالجهر بالقراءة في صلاة الظهر يوم الجمعة لمن لم يصلّ الجمعة فدار أمر الجهر في الحمد بين كونه شرطاً للصحّة أو مانعاً عنها ، ونظيره تدارك الحمد لمن نسيه بعد ما أتمّ السورة أو دخل فيها ، حيث إنّ التدارك يدور أمره بين كونه شرطاً في الصحّة أو مانعاً عنها ، فهل المقام من مجاري التخيير أي من قبيل دوران الأمر بين المحذورين فيأتي فيه كلّ ما قلناه في ذلك المقام من إجراء البراءة عن جميع المحتملات من الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية ، كما عليه الشيخ الأنصاري؟

أو من مجاري الاحتياط ، أي من قبيل دوران الأمر بين المتباينين كدوران الواجب بين الظهر أو الجمعة ، فيجري فيه الاحتياط كما عليه المحقّق الخراساني؟

ولنذكر دليل الشيخ فقد استدل بوجهين :

الأوّل : انّ العلم الإجمالي غير منجّز في المقام ، لأنّ آية منجِّزيته لزوم المخالفة

__________________

١. الوسائل : الجزء ١ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

٦٣١

القطعية عند جريان الأصل ، والمقام خارج عن تحت تلك القاعدة لعدم لزومها مع جريان أصل البراءة من جميع المحتملات ، لأنّ الإنسان في صلاة واحدة لا يخلو من فعل وترك والمخالفة القطعية غير ممكنة. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الميزان في تنجّز العلم الإجمالي إمكان الاحتياط لا لزوم المخالفة القطعيّة ، وهو أمر ممكن بتكرار الصلاة كما سيوافيك بيانه ، وقد مرّ في بيان مجاري الأُصول أنّ الموضوع للتخيير هو عدم إمكان الاحتياط ، لا عدم إمكان المخالفة ، وقلنا هناك إمّا أن يلاحظ الحالة السابقة أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن لا يمكن الاحتياط أو يمكن ، وعلى الثاني إمّا أن يكون في التكليف أو في المكلّف به ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى التخيير ، والثالث مجرى البراءة ، والرابع مجرى الاحتياط فلاحظ.

الثاني : انّ المسألة مبنية على ما هو المختار في الأقل والأكثر ، فلو قلنا بالبراءة هناك ، تجري البراءة في المقام ، وإن قلنا بالاحتياط هناك فيكون المقام مثله وتعيّن الجمع بالاحتياط. قال قدس‌سره ما هذا لفظه : التحقيق أنّه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشكّ في الشرطية والجزئية وعدم حرمة المخالفة القطعية للواقع إذا لم تكن عملية ، فالأقوى التخيير هنا وإلا تعيّن الجمع بتكرار العبادة. (٢)

يلاحظ عليه : وجود الفرق بين المقامين إذ ليس هناك علم يأخذ شيء في المأمور به ، وإنّما الموجود هو الشك ، وهذا بخلاف المقام لوجود العلم بأخذ شيء فيه ، إمّا بما أنّ وجوده مؤثر ، أو بما أنّ وجوده مانع.

أمّا القول الثاني : فهو خيرة المحقّق الخراساني ، ووجهه وجود العلم الإجمالي وإمكان الاحتياط بتكرار الصلاة ولكن بالتفصيل الآتي :

__________________

١ و ٢. الفرائد : ٢٩٨ طبعة رحمة اللّه.

٦٣٢

١. إذا كان الواجب واحداً شخصياً ولم يكن له إلا فرد واحد ، كما إذا ضاق الوقت وانحصر الثوب في النجس منه ، فدار الأمر بين الصلاة عارياً ـ إذا كان الستر المذكور مانعاً في هذه الحالة ـ أو مع الثوب ، إذا كان شرطاً ، فالمرجع هو التخيير ، لعدم إمكان الموافقة القطعية ، والمخالفة القطعية بترك الصلاة غير جائزة ، فلم يبق إلا الموافقة الاحتمالية وهي تحصل لكلّ واحد من الفردين.

٢. إذا كانت الوقائع متعددة ولكن لم يكن لكلّ واقعة إلا فرد واحد ، كما إذا دار أمر الجهر في صلاة الجمعة بين كونه شرطاً أو مانعاً. فالمرجع هو التخيير لكن تخييراً ابتدائياً لا استمرارياً ، لانتهاء التخيير الاستمراري إلى المخالفة القطعية وقد تقدّم حكمه.

٣. إذا كانت الوقائع متعددة وللواجب أفراد طولية ، كدوران الأمر بين التمام والقصر للشكّ في كون الركعتين الأخيرتين شرطاً أو لا ، للشكّ في جزئيتهما ومانعيتهما ، فالمرجع هو الاحتياط بتكرار الصلاة.

٦٣٣

خاتمة في شرائط جريان الأُصول

وقبل الخوض في المقصود لابدّ من تفسير العنوان ، وهو انّ الشرط في مورد الأُصول على قسمين : تارة يكون شرطاً لجريان الأصل بحيث لولاه لما يكون المورد مجرى له ، وهذا كالفحص عن البيان الشرعي الذي لولاه لما تجري البراءة العقلية والنقلية ، إذ لا يصدق الموضوع أي العقاب بلا بيان ، بلا مخصص.

وأُخرى يكون شرطاً للعمل بالأصل ، وهذا كعدم التعارض في العمل بالأصل ، فالعمل بالأصل المسببي مشروط بعدم وجود أصل سببي آخر.

وما عن المحقّق المشكيني من جعل الفحص عن البيان شرطاً للجريان في البراءة العقلية وشرطاً للعمل في البراءة الشرعية ، غير تام ، لأنّ الدليل المهم للثانية هو حديث الرفع ، أعني قوله : « ما لا يعلمون » ولا يصدق قوله إلا لغير المتمكن من تحصيل العلم ، أعني : الحجة الشرعية لا المتمكن فانّ العالم بالقوة بحيث إذا رجع علم ، لا يعدّ غير عالم.

إذا علمت ذلك فتارة نبحث عن شرائط جريان الاحتياط ، وأُخرى عن شرائط سائر الأُصول.

أمّا الاحتياط فلا شكّ انّه حسن ، لكونها مجاهدة في طريق درك الحقّ والعمل به والعقل حكم بحسنه في العبادات والمعاملات لكن بشرطين :

٦٣٤

١. عدم استلزامه اختلال النظام وإلا يصبح أمراً مبغوضاً لا حسناً.

٢. عدم مخالفته لاحتياط آخر ، وإلا لايصدق عليه عنوان الاحتياط.

وأمّا موارده فتحصر في المواضع التالية :

١. الاحتياط المطلق في الشبهات وإن لم يكن في المورد علم إجمالي ولا حجّة شرعية.

٢. الاحتياط فيما إذا كان في المورد علم إجمالي.

٣. الاحتياط فيما إذا كان في المورد حجّة شرعية.

ثمّ إنّه لا فرق في الاحتياط في العبادات بين ما يتوقف على التكرار وعدمه ، لما عرفت من أنّ الاحتياط بنفسه أمر حسن ، لأنّ الهدف إحراز الواقع على ما هو عليه ما لم يستلزم الاختلال في النظام ، بل لم يستلزم العسر والحرج ولم يكن مخالفاً للاحتياط الآخر ، وعلى ذلك فللعامي أن يترك التقليد والاجتهاد ويعمل بالاحتياط في العبادات والمعاملات.

وربما يمنع عن الاحتياط مطلقاً لأنّه مفوِّت لقصد الوجه والتمييز من غير فرق بين كونه مستلزماً للتكرار وعدمه.

يلاحظ عليه : أنّ الواجب في العبادات هو قصد الأمر ، بل إتيان الفعل للّه سبحانه ، وكلاهما حاصلان في العمل بالاحتياط في العبادات ، لأنّه يأتي مثلاً بالتسبيحة الثانية أو الثالثة في الركعتين الأخيرتين للّه سبحانه أو لأمره المحتمل. وهكذا يأتي بالصلاة الثانية إذ دار الأمر بين القصر والإتمام لذلك الغرض ، وإنّما الفائت هو الإتيان بالفعل بوصف وجوبه أو لغايته وهو أمر ليس بواجب.

٦٣٥

في شروط جريان البراءة

يقع الكلام في تحقيق شروط جريان البراءة العقلية في مواضع ثلاثة :

الأوّل : في لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي قبل التمسّك بها.

الثاني : في استحقاق تارك الفحص العقاب وعدمه.

الثالث : في صحّة عمل تارك الفحص إذا وافق الواقع.

الموضع الأوّل : في لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي

اتّفقت كلمتهم على لزوم الفحص في جريان البراءة العقلية والنقلية ، أمّا البراءة العقلية فقد استدل على لزوم الفحص بوجوه نذكر منها وجهين :

الوجه الأوّل : عدم استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان إلا بعد الفحص واليأس من الظفر بالحجّة.

توضيحه : أنّ البيان الرافع لقبح العقاب بلا بيان ليس هو وجود البيان عند اللّه سبحانه أو عند حججه عليهم‌السلام ، بل المراد هو البيان الواصل إلى المكلّف هذا من جانب ، ومن جانب آخر ليس المراد من الوصول هو وصوله إلى كلّ واحد شخصاً ، بل المراد وجوده في مظان البيان بحيث لو رجع إليها لعثر عليه ، كما هو حال السيد بالنسبة إلى عبده والحكومات بالنسبة إلى شعوبها في الوقوف على تكاليفهم ووظائفهم أمام السيد والدولة ، وعند ذلك يكفي وجود البيان عند الرواة

٦٣٦

وحملة العلم أو الكتب والجوامع الحديثية التي حفظت بيان الشارع ( أوامره ونواهيه ).

وإن شئت قلت : إنّ تنجّز التكليف رهن أحد أمرين :

١. العلم بالتكليف ٢. احتمال العثور على التكليف في مظانّه ، وعلى ضوء ذلك فلا يكون الجهل عذراً إلا إذا رجع إليها ولم يعثر على البيان ، قال سبحانه : ( لِئَلاّ يَكونَ للنّاسِ عَلى اللّهِ حُجَّةٌ بعدَ الرُّسُل ). (١) فقبل الفحص عن الحجّة ، فالمولى هو صاحب الحجّة على عبيده ، وبعد الفحص وعدم العثور عليه ينقلب الأمر ويحتج العبد على مولاه.

وإن شئت فعبّر بعبارة ثالثة : انّ المراد من البيان هو البيان الصالح لقطع العذر في وجه العبد لمخالفته للتكليف ، وليس هو إلا وجود البيان على نحو لو تفحّص عنه لعثر عليه ، وهذا النوع من البيان قاطع لعذر المكلّف في مخالفة التكليف. ولا يعلم وجود العذر وعدمه إلا بالفحص عن مظانّه.

الوجه الثاني : ما استدل به المحقّق الاصفهاني وقال : إنّ الاقتحام في المشتبه مع أنّ أمر المولى ونهيه لا يعلم عادة بالفحص خروج عن رسم العبودية وزي الرقية.

والفرق بين البيانين واضح ، لأنّ الباعث إلى الفحص ، في البيان الأوّل هو نفس التكليف الواقعي إذا احتمل انّه يعثر عليه إذا فحص ، وعلى الثاني الباعث هو انّ الاقتحام في المشتبه قبل الفحص ظلم وتعد على حقّ المولى فيجب الانتهاء عنه.

ثمّ لو خالف الواقع فالعقاب على البيان الأوّل عقاب التكليف ، وعلى

__________________

١. النساء : ١٦٥.

٦٣٧

البيان الثاني العقاب على نفس التجرّي وتحقّق عنوان الظلم. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الحكم الواقعي في صورة احتمال وجوده إمّا منجّز أو لا ، فعلى الأوّل فالباعث هو احتمال التكليف وصحّة العقاب عليه لا على كون الاقتحام بلا فحص ظلماً ، للإجماع على أنّ المعصية الواحدة ليست لها إلاعقاب واحد ، وعلى الثاني لا وجه لانطباق الظلم عليه إذ لا تكون مخالفة الحكم الواقعي الشأني ظلماً حتى يعاقب عليه.

هذا كلّه في الشبهات الحكمية ، وأمّا الموضوعية ، فالمشهور انّ التمسّك بها ليس رهناً للتفحص ، فلو دار أمر المائع بين كون خلاً أو خمراً يجوز ارتكابه بلا فحص وإن انتهى إلى شرب الخمر.

واحتجّوا عليه بأنّ الاحتجاج فرع ثبوت الصغرى والكبرى ، والثانية وإن كانت متحقّقة أي تعلم انّ كلّ خمر حرام ولكن الصغرى غير محرزة فلا يحتج بالكبرى المجرّدة عن الصغرى.

يلاحظ عليه : أنّ الاحتجاج وإن كان فرع إحراز الصغرى ، لكنّه لو كان إحرازه أمراً سهلاً غير موجب للعسر والحرج يصحّ الاحتجاج بالصغرى التي لو تفحص عنها لعثر عليها.

ولذلك أفتى الأصحاب بلزوم الفحص في بعض الشبهات الموضوعية حتى أنّ الشيخ استثنى الموارد الثلاثة : الدماء والأعراض والأموال ، كما أنّ الفقهاء أفتوا بوجوب الفحص في الموارد التالية :

١. إذا شكّ في مقدار المسافة هل هي مسافة شرعية أو لا؟

٢. إذا شكّ في بلوغ الأموال الزكوية إلى حدّ النصاب.

__________________

١. نهاية الدراية : ٢ / ٣٠٥ بتصرّف يسير.

٦٣٨

٣. إذا شكّ في زيادة الربح على المؤونة حتى يخمس.

٤. إذا شكّ في حصول الاستطاعة إلى الحجّ.

٥. إذا شكّ في مقدار الدين مع العلم بضبطه في السجل إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع في الفقه ، فالأولى لزوم الفحص في التمسّك بالبراءة العقلية في الشبهات الحكمية والموضوعية معاً إلى حدّ لا ينتهي إلى العسر والحرج أو المشقة وربما يظهر من بعض الروايات انّ الأمر في باب الطهارة والنجاسة سهل.

في شرط جريان البراءة النقلية

اتّفقت كلمتهم على أنّه لا مجال للبراءة النقلية موضوعاً قبل الفحص وإن اختلفوا في كيفية إقامة الدليل ، ونحن نقدّم ما هو الأمتن من الأدلّة :

الأوّل : ترك الفحص ولغوية بعث الرسل

إنّ العقل مستقل بلزوم بعث الرسل وإنزال الكتب ، إذ لولا البعث ، لبقي الإنسان في تيه الضلال ولم يتحقق غرض الخلقة ، فلو وجب على اللّه سبحانه بعث الرسل من باب اللطف ، وجب على الناس سماع كلامهم ـ بعد ثبوت نبوّتهم بالطرق المألوفة ـ ، ولو جاز الإعراض عنهم ، لكان البعث لغواً ، وعادت الخلقة سدىً ، تعالى عنه سبحانه قال : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (١) وقال سبحانه : ( فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرين ) (٢) وقال تعالى : ( رُسُلاً مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل ) (٣). وعلى ذلك فقد أتم سبحانه

__________________

١. المؤمنون : ١١٥.

٢. البقرة : ٢١٣.

٣. النساء : ١٦٥.

٦٣٩

ببعث الرسل الحجّة على العباد ، فلا عذر لهم في ترك ما أمروا به ، وفعل ما نهوا عنه ، فهو سبحانه يحتج عليهم بما بلّغه أنبياءهم ورسلهم ، فليس لهم الصفح عن تلك الحجج بترك التعلم والفحص عن الحكم الشرعي والتمسك بإطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون » أو : « انّ الناس في سعة ما لا يعلمون » من غير فرق بين مَنْ لم يتعلم شيئاً ، أو تعلم أشياء وشكّ في مورد خاص ، فلا محيص عن إنكار الإطلاق أو انصرافه إلى ما بعد الفحص ، وإلا يلزم الأمر بأمرين متنافيين فمن جانب يأمر الرسل ، بالتبشير والإنذار ، ومن جانب يرخّص في ترك التعلم ويعدُّ جهل العباد عذراً لهم ولا محيص في مقام الجمع عن حمل الحديثين وما أشبهها ، على ما إذا تفحّص ولم يعثر على شيء ، فبما أنّه أدّى الوظيفة ، فلو كان هناك بيان فهو معذور في تركه ، لأنّه سبحانه رفع عن الأُمّة ما لا يعلمون ، ولم يلزمهم بالاحتياط.

وإن شئت قلت : إنّ حديث الرفع وأمثاله ، حديث امتنان ، فأيّ امتنان للجاهل بالإذن له في البقاء على الجهل؟ أليست الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، وإقرار الجاهل على جهله ، مفوّت للمصلحة أو موقع له في المفسدة؟ ولأجل ذلك لا مناص من القول بانصراف أدلّة الأُصول كلّها عن مثل المتمكن من التعلم.

الثاني : المورد قبل الفحص شبهة مصداقية

إنّ المراد من « عدم العلم » المأخوذ موضوعاً في لسان أدلّة البراءة ليس العلم المنطقي ، أعني : الاعتقاد الجازم ، بل المراد الحجّة ، كما هو الحال في لفظ « اليقين » ، الوارد في أدلّة الاستصحاب فالمعنى رفع عن أُمّتي ما لم تقم الحجّة عليه ، ومن المعلوم أنّ الحجّة هو الكتاب والسنّة ، فإذا لم يرجع إليهما مع التمكن ، يكون المورد شبهة مصداقية لأدلّة البراءة ، لأنّه يشك في كونه ممّا قامت به الحجّة أم لم تقم ، ومنه

٦٤٠