إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره تحليل عقلي صحيح في عالم الثبوت ، ولكنّه على خلاف ظاهر الآية ، لأنّها ليست بصدد بيان أحكام النبأ على وجه الإطلاق ليعلم بالمنطوق والمفهوم حكم كلا القسمين ، بل هي بصدد بيان حكم موضوع واحد ، وهو « نبأ الفاسق » ، فالتبين عند المجيئ وعدمه عند عدم المجيئ ، يتواردان على موضوع واحد ، وهو قول الفاسق.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني سلّم أنّ الموضوع هو « نبأ الفاسق » لا مطلق النبأ ، لكن حاول استفادة حكم نبأ العادل من طريق آخر ، وهو : أنّ ظاهر الآية انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق ، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر ، ثمّ أمر بالتدبّر.

ولعلّ وجه ما ذكره من ظهورها في انحصار وجوب التبيّن في نبأ الفاسق ، هو ما أشار إليه تلميذه المحقّق العراقي : انّ وجوب التبيّن يناسب جهة فسق المخبر لعدم تحرّزه عن المعاصي ، التي منها تعمّد كذبه ، فوجب التبيّن عن حال خبره لئلا يقع المكلّف في خلاف الواقع ، فتحصل له الندامة ، وهذا بخلاف خبر العادل فانّه من جهة تورّعه عن محارم اللّه لا يقدم على التعمّد بالكذب ، فاحتمال تعمّد كذبه منفي بعدالته. (١)

ثمّ إنّ الإشكال المزبور راجع إلى نفي الاقتضاء وانّه لا مفهوم للقضية الشرطية في الآية ، وهناك إشكالات ترجع إلى إيجاد موانع بعد تسليم اقتضائه ، ولم يذكر منها المحقّق الخراساني إلا إشكالاً واحداً ، بخلاف الشيخ الأعظم فانّه أشار إلى إشكالات عديدة منها ونحن نقتفيه.

__________________

١. نهاية الأفكار : ٣ / ١٠٧ ، للشيخ محمد تقي البروجردي تلميذ المحقّق العراقي.

٢٢١

الإشكال الأوّل : عموم التعليل مانع عن تمامية دلالة الآية

هذا الإشكال هو الذي نقله الشيخ الأعظم عن الشيخ الطوسي في عدّته بقوله : لا يمتنع ترك الخطاب ( مفهوم المخالفة ) لدليل والتعليل دليل. (١)

وحاصله : انّه لو سلمنا دلالة مفهوم الآية على قبول خبر العادل غير المفيد للعلم ، لكن مقتضى عموم التعليل هو وجوب التبيّن في كلّ خبر لا يُؤمن من الوقوع في الندم من العمل ، وإن كان المخبر عادلاً ، فيعارض المفهوم ، والترجيح مع ظهور التعليل. (٢)

وبتقرير آخر : انّ التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم والمنطوق قرينة على أنّ الآية فاقدة للمفهوم (٣) ، والفرق بين التقريرين واضح ، فالأوّل يركز على احتمال الندامة المشترك بين خبري العادل والفاسق ، والثاني على صدق الجهالة بمعنى عدم العلم على الموردين.

وقد أُجيب عن الإشكال بوجوه :

الوجه الأوّل :

ما أفاده الشيخ : من أنّ المراد من التبيّن ما يعم الظهور العرفي الحاصل من الاطمئنان الذي هو في مقابل الجهالة والاطمئنان منتف في خبر الفاسق دون العادل.

يلاحظ عليه بوجهين :

أوّلاً : أنّ تفسير التبين بالظهور العرفي لا يصدقه القرآن الكريم ، فانّه

__________________

١. الطوسي ، العدة : ١ / ١١٣.

٢. الفرائد : ٧١.

٣. كفاية الأُصول : ٢ / ٨٦.

٢٢٢

استعمل فيه في الظهور الحقيقي :

١. كقوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ في سَبيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنِ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمناً يَبتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدُّنْيا ) (١) ومورد الآية إراقة الدماء ، ولا يكتفى فيه بالوثوق والاطمئنان ، بل لابدّ من العلم أو البيّنة.

٢. وقال سبحانه : ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنّهُ الحَقّ ) (٢) أي يتبين أنّ القرآن حقّ بأجلى مظاهره.

٣. وقوله سبحانه : ( حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَد مِنَ الْفَجْر ). (٣)

ثانياً : لو صحّ ما ذكره لدلّ منطوق التعليل على حجّية الخبر العادل ، من دون حاجة إلى المفهوم ، لأنّ الظهور العرفي بمعنى الاطمئنان موجود في خبر العادل قطعاً.

الوجه الثاني :

ما أجاب به المحقّق الخراساني : من أنّ الإشكال مبنيّ على أنّ الجهالة بمعنى عدم العلم ، ولكنّه بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل ، وهو غير موجود في خبر العدل.

فإن قلت : لو كان العمل بقول الفاسق عملاً سفهيّاً لما أقدم عليه أصحاب النبي وهم عقلاء.

__________________

١. النساء : ٩٤.

٢. فصلت : ٥٣.

٣. البقرة : ١٨٧.

٢٢٣

قلت : إنّهم أقدموا على العمل بقوله غافلين عن فسقه ، ولولا الغفلة لما ركنوا إلى قوله.

أقول : لا شكّ أنّ الجهالة تستعمل في معنى السفاهة ، لكنّها في الآية ليست بهذا المعنى ، بل هي فيها بمعنى عدم العلم بالواقع ضدّ التبيّن.

أمّا الأوّل : فقد استعملت في قوله سبحانه : ( أَنّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَة ثُمَّ تابَ مِنْ بعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنّهُ غَفُورٌ رَحِيم ) (١) وقال سبحانه : ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَة ثُمَّ تابُوا مِنْ بعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيم ) (٢) وقال سبحانه : ( إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلى اللّهِ لِلَّذينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَريب ) (٣).

قال الراغب في المفردات : إنّ الجهل على ثلاثة أضرب : ثالثها فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل.

وأمّا الثاني : فلأنّ الظاهر انّ الجهالة في الآية في مقابل التبيّن ، الذي هو إمّا بمعنى العلم القطعي كما قلناه ، أو الاطمئنان ، ويكون المراد من مقابله أعني الجهالة ، ضدّهما ، لا مقابل الحكمة.

الوجه الثالث : ما أجاب به المحقّق النائيني من أنّ المفهوم حاكم على التعليل ، لأنّ أقصى ما يدل عليه التعليل عدم جواز العمل بما وراء العلم ، والمفهوم يقتضي إلغاء احتمال الخلاف وجعل الخبر العادل محرِزاً للواقع وعلماً في مقابل التشريع ، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما ، لأنّ المحكوم لا يعارض الحكم ولو كان ظهوره أقوى. (٤)

__________________

١. الأنعام : ٥٤.

٢. النحل : ١١٩.

٣. النساء : ١٧.

٤. فوائد الأُصول : ٣ / ١٧٢.

٢٢٤

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الحكومة عبارة عن نظارة أحد الدليلين إلى الدليل الآخر ، وتكون نتيجتها تارة رفع حكم الدليل المحكوم بلسان رفع موضوعه ، كما إذا قال : إذا شككت فابن على الأكثر ، ثمّ قال : لا شكّ للإمام مع حفظ المأموم ، أو بالعكس ، فهو بلسانه ناظر إلى الدليل المحكوم ، ويدل على أنّ شكّ الإمام أو المأموم مع حفظ الآخر خارج عن تحت الدليل الأوّل ، لكن لا بنحو الإخراج عن الحكم ابتداء حتى يكون تخصيصاً ، بل بنحو رفع الموضوع تعبداً لغاية رفع الحكم. وأُخرى بالتعرض لحالات الحكم المحكوم ، كما إذا قال صاحب الشريعة : ( ماجَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) (١) ، فهو بلسانه متعرض لأحوال الأحكام الواردة في الشريعة ، ويدل على أنّ الحكم إذا كان حرجياً فإطلاقه غير مجعول. وعلى كلّ تقدير الحكومة قائمة بلسان الدليل ، والمفروض في المقام أنّ المفهوم فاقد للّسان ، فكيف يكون حاكماً؟!

ثانياً : أنّ مفاد المفهوم على القول به ، هو عدم وجوب التبيّن ، وأين هو من إلغاء احتمال الخلاف ، وكونه محرزاً للواقع وعلماً في مقام التشريع؟!

ثالثاً : أنّ ما ذكره يستلزم الدور ، لأنّ انعقاد المفهوم وظهور القضية في المفهوم ، فرع حاكميته على التعليل المزاحم لانعقاد المفهوم ، وكون القضية ذات مفهوم وكونه حاكماً ، فرع وجوده واشتمال القضية على المفهوم.

الوجه الرابع : انّ التعليل يختص بما إذا كان العمل بالخبر في معرض الندامة ، وهو يلازم خبر الفاسق دون خبر العادل ، والعادل وإن كان يخطأ ، كالعلم القطعي لكنّهما ليسا في معرض الندامة ، ولعلّ هذا الجواب أظهر.

__________________

١. الحج : ٧٨.

٢٢٥

الإشكال الثاني : خروج المورد عن المفهوم

ما أشار إليه الشيخ أيضاً ، وهو انّ مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجية التي منها مورد الآية وهو إخبار الوليد بارتداد طائفة ، ومن المعلوم انّه لا يكفي فيه خبر العادل فلا أقلّ من اعتبار العدلين ، فلابدّ من طرح المفهوم لعدم جواز إخراج المورد.

وقد أجاب عنه الشيخ بانّه لا يلزم إخراج المورد ، غاية الأمر يقيّد إطلاق المفهوم في مورد الموضوعات بضمّ عادل آخر إليه ، فقول العادل حجّة مطلقاً ، غاية الأمر إذا كان المخبَر به حكماً شرعياً يؤخذ بقوله ، وإذا كان موضوعاً خارجياً ، فليلتمس ضمُّ عادل إليه.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره ليس جواباً عن الإشكال ، بل هو تقرير له ، وهو خروج المورد عن مفهوم الآية ، وما ذكره ليس إلا تغييراً في التعبير ، فانّ معنى قوله : « يقيد إطلاق المفهوم في مورد الموضوعات » عبارة أُخرى عن عدم حجّية المفهوم في مورد الآية وانّه لو كان المخبر أيضاً عادلاً لا يعمل به بل لابدّ من البيّنة.

وقد أجاب المحقّق النائيني عن الإشكال بوجه آخر ، ولم يرتضه السيد الأُستاذ والجواب والإشكال مذكور في التهذيب ، فلاحظ. (١)

الإشكال الثالث : اختصاصه بالموضوعات الخطيرة

والذي عندي في تفسير الآية من أوّلها إلى آخرها أمر وراء ما ذكره الأعاظم ، وحاصله : أنّ الآية غير ناظرة إلى الخبر بما هو خبر ، حتى نبحث عن المنطوق والمفهوم ونناقش ما يزاحم أصل المفهوم أو يعارضه ، بل الموضوع في الآية هو النبأ

____________

١. تهذيب الأُصول : ٢ / ١١٤.

٢٢٦

لا الخبر ، وهو ليس مطلق الخبر ، بل الأمر العظيم الذي يوجب على الإنسان الحزم والاحتياط وتحصيل التبين واليقين ، وترك الإقدام مع الجهل ، من غير فرق بين خبر الفاسق والعادل ، ويخصص الفاسق بالذكر لأجل التصريح بفسق الوليد.

توضيح ذلك : أنّه فرق في لغة العرب بين الخبر والنبأ ، ولا يطلق الثاني إلا على الخبر الخطير ، ولا يطلق النبيّ على مطلق المخبِر ، بل الذي يُخبر عن خبر خطير وينقل أخبار السماء إلى الأرض.

وقد استعمل القرآن لفظ النبأ في خمسة عشر مورداً وأُريد من الكل الأمر الخطير ، قال سبحانه :

١. ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْقَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَر ). (١)

٢. ( وَلَقْد جاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلين ). (٢)

٣. ( وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأ بِنَبأ يَقين ). (٣)

٤. ( عَمَّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَبَأِ الْعَظِيم ) (٤) ، وتوضيحه بالعظم لغاية المبالغة.

ومحط البحث في الآية هو الموضوعات الخطيرة ، فلا يستخدم فيها إلا العلم والتبيّن القطعي ولا يكتفى بغيره ، من غير فرق بين خبر العادل والفاسق ، وقد مرّ أنّ التبيّن في الآية ليس هو الاطمئنان بل التبيّن العلمي في مقابل الجهل.

فالآية تركِّز على أنّه لا يصلح في تلك المواقف الخطيرة سوى التبيّن والعلم ،

__________________

١. المائدة : ٢٧.

٢. الأنعام : ٣٤.

٣. النمل : ٢٢.

٤. النبأ : ١ ـ ٢.

٢٢٧

وأمّا في غيرها من سائر الأُمور غير المهمة فالآية ساكتة عنها منطوقاً ومفهوماً ، ولا يستعمل لفظ النبأ إلا في الموضوعات ولا يعمّ الأحكام ، ويختص بالموضوعات التي لها خطر وشأن ، لا مطلقه.

هذا حول الإشكالات المختصة بالآية ، وهناك إشكالات لاتختص بها بل تعم جمع أدلّة حجّية الخبر الواحد.

الإشكالات غير المختصة بآية النبأ

هناك إشكالات لا تختص بالآية بل تعم جميع ما استدل به على حجّية الخبر الواحد ، وكان على الشيخ التفكيك بين النوعين :

الأوّل : التعارض بين المفهوم والآيات الناهية

وقد أشار إليه الشيخ وحاصله : معارضة المفهوم بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم والنسبة عموم من وجه ، فيفترق المفهوم عنها في خبر العادل المفيد للعلم ، كما تفترق الآيات عن المفهوم في خبر الفاسق ويجتمعان في خبر العادل المفيد للظن ، فالمرجع هو عموم الآيات لأقوائيتها.

والحقّ أن يقال : إنّ النسبة بين المفهوم والآيات الماضية هي التباين ، لأنّ المراد من الظن كما مرّ هو الخرص والتخمين والحدس ، غير المبنيّ على دليل ، وأين هذا من خبر العادل الحاكي عن حس؟

الثاني : المفهوم يعمّ قول السيد

لو كان خبر العادل حجّة ، فقول السيد أيضاً خبر الواحد ، داخل تحت الآية فلو كان حجّة لزم عدم حجّية الخبر الواحد بتاتاً.

٢٢٨

وأُجيب بوجوه كثيرة :

١. انّ السيد لا يخبر عن قول المعصوم إلاعن حدس ، والحجّة هو الإخبار عن حس.

٢. انّ ادعاءه معارض بادّعاء الشيخ عن إجماع الطائفة على حجّية الخبر الواحد.

٣. انّ الأمر دائر بين دخوله وخروج غيره ، أو بالعكس ، فالثاني هو المتعيّن ، لاستلزامه التخصيص المستهجن.

٤. لو شمله إطلاق المفهوم ، يكون مآلها التعبير عن عدم حجّية الخبر الواحد بنقيضه ، وذلك بإدخال قول السيد ، وهذا خلاف البلاغة.

٥. انّ قول السيّد ، ليس من مصاديقه ، بل يناقض المفهوم ، لأنّه يدل على حجّية خبر الواحد ، وهو ينفيه ، فلا يعدّ مثله من مصاديقه.

٦. لو كان قول السيّد من مصاديق الآية لزم من حجّيته عدمه ، لأنّ إخباره عن عدم حجّية خبر الواحد ، يشمل قول نفسه ـ بتنقيح المناط ـ وما يلزم من وجوده ، عدمه ، باطل.

وهنا كلام للمحقّق الخراساني وحاصله : من الجائز أن يكون خبر العادل حجّة في زمان نزول الآية إلى زمان صدور هذا الخبر من السيّد ، وعند ذاك يدخل قول السيد تحت الآية ، ودخوله منتهى أمد الحكم الأوّل أعني الحجّية. (١)

يلاحظ عليه : أنّه لا يمكن إدخال قول السيد في مفهوم الآية لا من عصر الرسالة ولا من عصر صدوره من السيّد ، إذ على الأوّل يعود محذور تخصيص الأكثر المستهجن ، وصيرورة الكلام أشبه باللغز وغيرها من الإشكالات ، وعلى الثاني يلزم حدوث النسخ في الأحكام بعد رحيل النبي ، وهو ممنوع إجماعاً.

__________________

١. تعليقة الخراساني على الفرائد : ٦٣.

٢٢٩

الثالث : عدم شمولها للاخبار مع الواسطة

هذا الإشكال يتوجه على أخبار الآحاد المنقولة بوسائط ، دون المنقول بواسطة واحدة ، وفي الحقيقة إشكال واحد ويقرر بوجوه مختلفة ، وقد جاء في الكفاية وجهان منها.

أشار إلى الأوّل بقوله : « ربّما أشكل شمول مثلها ».

وإلى الثاني بقوله : « ولا يخفى أنّه لا مجال بعد اندفاع الإشكال ».

وأمّا الشيخ فقد اختلفت نسخ الفرائد ، فبعضها تشتمل على ثلاثة ، والبعض الآخر على أربعة ، أو خمسة ، وممّن بينها بوجه واضح المحقّق النائيني في فوائده.

ونحن نذكر في المقام أكثر الوجوه مع إيضاح ما في الكفاية.

١. انصراف الأدلة عن الاخبار بوسائط

إنّ القدر المتيقن من أدلّة حجّية الخبر الواحد ، هو الإخبار بلا واسطة ، لا الاخبار بواسطتين أو بوسائط.

٢. انصرافه عن الخبر التعبدي

الدليل منصرف عن الخبر التعبّدي ولا يعمّ سوى الخبر الوجداني ، فمن وقع في مبدأ السند فكلامه خبر وجداني ، دون من يحكيه هو عنهم فانّها أخبار تعبّدية لا دليل على حجّية قولها.

يلاحظ عليه : أنّه لا فرق بين الاخبار بلا واسطة أو معها عند العقلاء ، كما لا فرق عندهم بين الوجداني وغيره ، واقتصارهم على الوجداني يوجب العسر

٢٣٠

والحرج في الحياة ، ولو ثبت ذلك فمعناه إلغاء التاريخ عن قاموس العلم فانّه يقوم على العنعنة ، مع اهتمامهم بها. نعم لو كثرت الواسطة على نحو لا تسكن النفس بمثله كان لما ذكر وجه ، وأمّا الاخبار المنقولة في الكتب الأربعة وغيرها فليست الوسائط على حدّ تسقط كثرة الوسائط لها عن الاعتبار.

٣. لزوم كون المخبر به ذا أثر شرعي

إنّ التعبّد بتصديق العادل لابدّ أن يكون لأجل ترتيب أثر شرعي على قوله ، وإلا فلو كان المخبَر به فاقداً للأثر ، فلا يجب تصديقه ، فلو أخبر عن مقدار ارتفاع المنارة أو عن عمق البئر ، فلا يجب تصديقه لعدم ترتّب أثر شرعي عليه ، وعلى هذا فلو أخبر الراوي عن الإمام يجب تصديقه ، لترتّب الأثر على تصديقه ، فالمخبِر كالصفار إذا أخبر عن الإمام العسكري اشتمل على الحكم الشرعي ، وأمّا إذا أخبر عن إخبار المخبر ، كالصدوق أخبر عن إخبار الكليني ، وهو عن إخبار الصفار ، وهو عن الإمام العسكري عليه‌السلام ، فلا يترتب على تصديق الصدوق ولا الكليني أيّ أثر ، لأنّ المخبَر به ليس كلام الإمام ، بل إخبار الراوي الفاقد للأثر.

يلاحظ عليه : أنّه يكفي في صحّة التعبّد أن يكون جزء الموضوع للأثر لا تمام الموضوع ، فيصحّ الأمر بتصديق الصدوق والكليني ، لغاية إثبات قول الصفار الذي يحمل قول الإمام والحكم الشرعي.

وبعبارة أُخرى : يكفي وقوعه في طريق ثبوت موضوع ذي أثر شرعي.

٤. اتحاد الحكم مع جزء الموضوع

إنّ قول القائل « صدّق العادل » في كلّ خبر ذي أثر شرعي مركّب من أُمور ثلاثة :

٢٣١

أ. الحكم وهو : صدِّق.

ب. الموضوع : كلّ خبر.

ج. قيده : ذو أثر شرعي.

فإذا أخبر زرارة عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن طهارة العصير بعد التثليث أو نجاسته قبله ، فالأُمور الثلاثة متحققة بالشكل التالي ، فالحكم هو : وجوب التصديق ، والموضوع : خبره أعني « طهارة الشيء » أو نجاسته ، وأثره هو : وجوب الاجتناب عنه ، وعدم وجوبه.

فالأُمور الثلاثة متحققة كما هو واضح.

وأمّا إذا أخبر الصدوق عن الكليني ، وهو عن الصفار ، وهو عن الإمام العسكري عليه‌السلام فوجوب تصديق الصدوق يتوقف على تحقّق أُمور ثلاثة :

الأوّل : الحكم وهو : وجوب التصديق.

الثاني : الموضوع : إخباره عن الكليني.

الثالث : الأثر : وليس الأثر هناك إلا نفس الحكم ، إذ لا يترتب على إخبار الكليني للصدوق أيّ أثر شرعي سوى وجوب التصديق ، فيلزم أن يكون الحكم مأخوذاً في الموضوع ، وهو غير صحيح ، لأنّ الحكم متأخر رتبة ، والموضوع بعامّة أجزائه متقدّم.

وبعبارة أُخرى : لا يمكن التعبّد بالتصديق إلا أن يكون للموضوع ( إخبار الكليني للصدوق ) أثر شرعي قبل التعبّد ، والمفروض أنّ الأثر جاء من جانب الحكم ، وترتّب عليه في ناحيته وهذا نفس الدور.

نعم لو كان هناك إنشاءان لوجوب التصديق بحيث يكون أحدهما جزء الموضوع ، والآخر الحكم المترتب عليه ، لارتفع الإشكال.

٢٣٢

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن هذا الإشكال بوجوه ثلاثة :

١. انّ قوله : « صدّق العادل في كلّ خبر ذي أثر » لو كان قضيّة حقيقية ناظرة إلى كلّ فرد فرد من الآثار التي يدل عليها لفظة « ذي أثر » لصحّ الإشكال ، إذ عندئذ يكون من الآثار هو وجوب التصديق الجائي من ناحية الحكم ، مع أنّه يلزم أن يكون الموضوع ذا أثر قبل الحكم ، فكيف تكون بعض الآثار نفس الحكم؟!

وأمّا إذا كانت القضية طبيعيّة والحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر ، فعندئذ لا يلزم اتحاد الحكم والموضوع ، لأنّه حكم بترتيب طبيعة الأثر من غير نظر إلى أفراده ، غير أنّ ذلك الأثر في قول زرارة غير الحكم ، وفي اخبار الصدوق نفس الحكم ، وهذا أمر غير مخل.

٢. انّ قوله : صدّق العادل في كلّ خبر ذي أثر ، وإن لم يدل بالدلالة اللفظية على ترتيب تصديق العادل للمحذور السابق أعني وحدة الحكم مع جزء الموضوع ، ولكن بما أنّه لا فرق بين ذلك الأثر ( وجوب التصديق ) وسائر الآثار كالاجتناب وعدمه يترتب على خبر العادل جميع الآثار حتى وجوب التصديق.

٣. عدم القول بالفصل بين هذا الأثر وبين سائر الآثار في وجوب الترتيب لدى الاخبار بموضوع صار أثره الشرعي وجوب التصديق.

هذا توضيح ما في الكفاية إشكالاً وجواباً.

يلاحظ على الجواب الأوّل : بأنّ الإجمال في مقام الثبوت غير صحيح ، فإذا قال : صدّق العادل في كلّ خبر ذي أثر ، فإمّا يراد منه أثر غير وجوب التصديق أو الأعمّ منه ومن غيره.

فعلى الأوّل لا يصحّ التعبّد بإخبار الصدوق ، لعدم الأثر فيما أخبر به ، أعني : إخبار الكليني له ، مع أنّ تصديقه فرع وجود الأثر في خبره.

٢٣٣

وعلى الثاني يعود الإشكال ويلزم أن يكون الحكم مأخوذاً في الموضوع. والأولى أن يقال : إنّ تصديق الصدوق لا يتوقف على كونه ذا أثر شرعي وراء كونه جزءاً لثبوت الأثر الشرعي أعني قول العسكري.

وبالجملة : انّ وجوب التصديق فرع عدم لغوية التعبد بتصديق العادل ، ويكفي في مصونيته عنها ثبوت قول العسكري بهذه التصديقات المتكررة.

٥. إثبات الحكم لموضوعه

وهذا هو الإشكال الثاني في الكفاية والإشكال الخامس حسب تقريرنا ، وحاصله :

انّه لو عمّت الدليل للاخبار مع الواسطة لزم إثبات الموضوع بالحكم ، مع أنّه يتوقف عليه.

توضيحه : لا شكّ أنّ كلاً من إخبار الشيخ ، والمفيد ، والصدوق ، والكليني ، والصفار ، موضوعات لقوله : « صدّق العادل » والمحرز لنا بالوجدان هو أوّل السند ، وهو خبر الشيخ ، وأمّا الباقي فإنّما يثبت ببركة تصديق الشيخ فيما يحكي ، فيلزم أن يكون الحكم ( صدّق العادل ) مثبتاً للموضوع ، أي قول المفيد بأنّ الصدوق أخبره وهكذا.

وقد أجاب عنه في الكفاية بوجوه ثلاثة :

١. إذا كان خبر له أثر شرعي حقيقة بحكم الآية ، وجب ترتيب أثره عليه عند اخبار العدل به كسائر ذوات الآثار من الموضوعات ، لما عرفت من شمول مثل الآية ، للخبر الحاكي للخبر بنحو القضية الطبيعية.

٢. أو لشمول الحكم فيها له مناطاً إن لم يشمله لفظاً.

٣. أو لعدم القول بالفصل.

٢٣٤

وحاصل الجواب الأوّل : انّ الموضوع المحرز قبل الحكم وإن كان هو خبر الشيخ عن المفيد فقط ، ولكن لما كانت القضية ( صدّق العادل ) قضية طبيعية لا حقيقية ، يسري الحكم إلى جميع الأفراد المحرزة قبل الحكم ( خبر الشيخ ) والمحرزة بعده كإخبار المفيد عن الصدوق ، وليست حكمها حكم القضية الخارجية ، التي يتوقف صدور الحكم على تحقّق الموضوع قبله ، وعلى ذلك فالموضوعات المحرزة بعد تصديق الشيخ ، تقع تحت الحكم وإن كان الموضوع متأخراً عن الحكم إحرازاً وثباتاً.

نظير ذلك قول القائل : « كلّ خبري صادق » فلو أخبر قبله بعشرة أخبار ، فهو كما يعم العشرة هكذا يعم حتى نفسه ، لأنّ الموضوع هو طبيعة الخبر حتى وإن صار خبراً بهذا الإخبار.

يلاحظ عليه : أنّ الجواب مبني على أنّ هنا « وجوب تصديق واحد » فتوصل بهذا الجواب ، وأمّا لو قلنا : إنّ قول القائل : « صدّق العادل » ينحل حسب تعدد الاخبار إلى قضايا كثيرة ، غير أنّ الموضوع الأوّل لما كان محرزاً يشمله الحكم بلا تأخير ، ولكن يثبت بفضل تصديق الشيخ موضوع ثان ، وهو خبر المفيد عن الصدوق ، له وجوب تصديق خاص غير التصديق المتعلق بخبر الشيخ حسب القول بالانحلال ، فيصدَّق المفيد فيثبت خبر عدل ثالث وهو خبر الصدوق عن الكليني ، فيشمله وجوب تصديق ثالث متولد من انحلال قوله : « صدّق العادل » وهكذا يثبت الموضوع اللاحق ببركة ثبوت الموضوع السابق.

وهذا نظير الإقرار بالإقرار ، فيشمله قوله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » فلأنّ الإقرار الثاني يثبت بفضل الإقرار الأوّل ، ومثله إقامة البيّنة على البيّنة كما لا يخفى.

وفي الختام أعطف نظر القارئ إلى أنّ هذه الإشكالات نابعة من الدقة

٢٣٥

العقلية ، فلا تلتفت إليها أذهان العامة الذين هم المخاطبون بالخطابات فلا تصير مانعة عن شمول العمومات ، ولو افترضنا أنّ الإشكالات بقيت بحالها ، ولم نتوفق لحلها ، لما كانت مانعة عن شمول العمومات.

الآية الثانية : آية النفر

قال اللّه تبارك وتعالى : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون ). (١)

والاستدلال بالآية يتوقف على الكلام في أُمور :

١. تفسير الآية ، ٢. كيفية الاستدلال ، ٣. ما أشكل على الاستدلال.

الكلام في تفسير الآية

لا شكّ أنّ الآية وردت في سياق آيات الجهاد ، فانّ الآية المتقدمة عليها والمتأخرة عنها راجعتان إلى الجهاد قال سبحانه : ( وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُون ). (٢)

وقال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً واعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقين ). (٣)

ومع هذا الارتباط الوثيق بين الآية وسائر الآيات الحافّة بها فالاستدلال بها على حجّية الخبر الواحد يحتاج إلى فصلها عن سائر الآيات ، ولنذكر الوجوه

__________________

١. التوبة : ١٢٢.

٢. التوبة : ١٢١.

٣. التوبة : ١٢٣.

٢٣٦

المحتملة في الآية حيث فسّرت بوجوه :

الأوّل : انّ الخطاب متوجه للمؤمنين في المدينة ومَن حولها ، ويخاطبهم بأنّ نفر الجميع إلى الجهاد أمر غير ممكن لاستلزامه تعطيل أمر الحياة واختلاله ، فأمر بنفر طائفة من كلّ فرقة لغاية التفقه في ميادين الحرب ، ثمّ إنذار قومهم المتخلفين في المدينة وما حولها ، عند الرجوع إليهم ، والمراد من التفقّه ما ذكره الطبرسي « ليتبصّروا ويتيّقنوا بما يُريهم اللّه من الظهور على المشركين ونصرة الدين ، وأمّا الإنذار عند الرجوع إليهم باخبارهم بنصر اللّه النبي والمؤمنين لعلّهم يحذرون أن يقاتلوا النبي فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفّار ».

ومزية هذا الوجه أمران :

١. حفظ السياق وصلة الآية بما قبلها من سائر الآيات.

٢. عدم التفكيك في ضمائرها ، حيث إنّ الضمائر المتصلة الثلاثة : ( ليتفَقَّهُوا ) و ( ليُنذِروا ) و ( إِذا رَجَعُوا ) ترجع إلى النافرين.

ولكن الذي يبعده أمور ثلاثة :

أ : انّ الظاهر من التفقّه هو فهم معارف الدين وتعلّم أحكامه ، وأمّا رؤية النصر في الحروب فهو يوجب مزيّة الثقة بأنّ اللّه ينصر رسوله والمؤمنين ، كما قال سبحانه : ( إِنّا لَنَنْصُرُرُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهاد ) (١) ، وهذا ليس تفقهاً في الدين ، بل مزيد إيمان باللّه وبما وعد.

ب : انّ النصر لم يكن حليف المسلمين دائماً ، بل ربما كانوا يرجعون مع النكسة والهزيمة ، كما هو الحال في غزوة أُحد وحنين ، فلا يمكن أن يكون مثل هذا غاية النفر ، التي يجب أن لا تنفك عنه.

____________

١. غافر : ٥١.

٢٣٧

ج : لازم ذلك أن يكون النافرون أفقه من الذين بقوا في المدينة وتعلموا من النبي كلّ آية نزلت وحديث صدر.

د : القول بأنّ المراد من ( ولينذروا ) هو إنذار قومهم الكافرين كي لا يقاتلوا النبي ، خلاف الفرض ، لأنّ المفروض ، انّ الخطاب للمؤمنين من أهل المدينة ومن حولها ولم يكن يوم نزول الآية أيّ كافر فيها ، لأنّها نزلت في العام التاسع من الهجرة ، وقد أسلمت القبائل في الجزيرة العربية إلا قليلاً في جانب شمالها قرب الشامات ، إلا أن يفسر الإنذار بتشجيعهم بالتمسّك بأهداب الإيمان والإسلام.

الثاني : الخطاب للقاطنين في المدينة والمقيمين فيها والمراد انقسامهم إلى طائفتين ، طائفة نافرة وطائفة قاعدة ، فغاية النفر ، هو الجهاد ، وغاية القعود ، هو التفقه في الدين لغاية إنذار النافرين عند الرجوع عن الجهاد ، روى الطبري في تفسيره عن أبي زيد : انّ معنى الآية ( فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين ) أي ليتفقّه المتخلفون في الدين ، ولينذروا النافرين إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون. (١)

وعلى هذا الوجه فالصلة بين الآيات محفوظة مثل السابق ، لكن ويفضل عليه ، بخلوّه عن الإشكالات الثلاثة المتوجهة إلى الأوّل.

لكن يرد عليه استلزامه التفكيك في مراجع الضمائر المتصلة ، وعليه فالضمير في ( ليتفقّهوا ) و ( لينذروا ) راجعان إلى القاعدين ، والضمير في ( إِذا رَجَعُوا ) إلى النافرين وهو خلاف الظاهر. وهذان الوجهان يشتركان في أنّ الخطاب للمقيمين في المدينة ، وهناك وجه ثالث وهو يفارق الوجهين بتوجيه الخطاب إلى غيرهم ، وإليك البيان :

__________________

١. تفسير الطبري : ١١ / ٤٩.

٢٣٨

الثالث : انّ الخطاب لمؤمني سائر البلاد ، والمراد من النفر ، النفر إلى المدينة للتعلّم والتفقه ، وعليه يجب أن ينفر من كلّ قبيلة ، طائفة للتفقّه في حضرة النبي لغاية إنذار قومهم عند الرجوع.

ومزية هذا الوجه ، التحفظ على وحدة مراجع الضمائر المتصلة وخلوه عن الإشكالات الثلاثة المتوجهة إلى الوجه الأوّل ، غير انّ لازمه الاختزال وقطع الصلة الآيات ، وهو ليس بأمر سهل.

نعم تؤيده روايات كثيرة مذكورة في التفاسير الروائية.

١. روى الصدوق في عيون الأخبار عن الرضا عليه‌السلام ـ عند بيان علل الحج ـ : انّ منها التفقّه ونقل أخبار الأئمة عليهم‌السلام إلى كلّ صقع وناحية ، كما قال اللّه عزّوجلّ : ( فَلَولا نَفَرَمِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَة ... ). (١)

٢. وروى عنهم عليهم‌السلام في تفسير قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اختلاف أُمّتي رحمة » : انّ المراد اختلافهم إلى البلدان ، وأنّ الرسول أراد من قوله : « اختلاف أُمّتي رحمة » ، قول اللّه عزّوجلّ : ( فَلَولا نَفَرَمِنْ كُلِّ فِرْقَة ... ). (٢)

وهذا الوجه أتقن الوجوه ، وهو دليل على لزوم تأسيس الحوزات العلمية في البلدان لينتقل إليها طلاب العلم وبغاة الفضيلة حتى يتفقّهوا فيها ويرجعوا إلى بلدانهم للإنذار.

ولكن يرد عليه : أنّه على خلاف سياق الآية ، فالآية واردة في ضمن آيات الجهاد ، فكيف يمكن أن تكون مشيرة إلى هذا المعنى؟

نعم يمكن الذبّ عن هذا الإشكال : إمّا بالالتزام بنزول هذه الآية مرتين : مرة في ثنايا آيات الجهاد ، ومرّة أُخرى مستقلة ومنفصلة عن آياته ، وليس ذلك

__________________

١. نور الثقلين : ٢ / ٢٨٣ ، الحديث ٤٠٧ والحديث منقول عن الفضل بن شاذان ، انّه عن الرضا عليه‌السلام.

٢. المصدر نفسه : الحديث ٤٠٨.

٢٣٩

بعزيز ، فقد نزلت بعض الآيات مرّتين ، مثل قوله سبحانه : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ). (١)

كما يمكن الذبّ عنه بوجه آخر وهو : انّ للآية بعدين يتعلّق واحد منهما بأمر الجهاد والآخر بتحصيل العلم والتفقّه ، والأوّل منهما معلوم من سياق الكلام ، والآخر بعد مجهول يعلم من تفسير الأئمّة وتبيينهم ، ولا مانع من أن يكون لبعض الآيات بعدان أحدهما معلوم والآخر مجهول يحتاج إلى التنبيه.

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي فسّر الآية بوجه يتّحد مع هذا الوجه ، ولكن لا ترد عليه مشكلة عدم انطباقه على سياق الآيات ، وإليك بيانه وإن شئت فاجعله رابع الوجوه.

الرابع : انّ الآية تنهى مؤمني سائر البلاد غير مدينة الرسول ، أن ينفروا إلى الجهاد كافة ، بل يحضهم على أن تنفر طائفة منهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه في الدين ، وينفر غيرهم إلى الجهاد ، ومعنى الآية انّه لا يجوز لمؤمني البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً ، فهلاّ نفر وخرج إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائفة من كلّ فرقة من فرق المؤمنين يتعلموا الفقه ويفهموا الدين فيعملوا به ، ولينذروا ـ بنشر معارف الدين ـ قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلّهم يحذرون. (٢)

وعلى ذلك ، فتنفر طائفة للتفقّه ، في الوقت الذي تنفر طائفة أُخرى للجهاد ، فعندما قضيا حاجتهما يتلاقيان في موطنهما للإنذار والحذر. فتكون للآية صلة بالجهاد ، وصلة بالتفقّه.

ولا يخفى انّ سياق الآية انّ هنا نفراً واحداً تقوم به طائفة واحدة لغاية واحدة ، لا نفرين تقوم بهما طائفتان لغايتين مختلفتين ، كما هو صريح كلامه ،

__________________

١. الضحى : ٥.

٢. الميزان : ٢ / ٤٢٨ بتصرف يسير.

٢٤٠