إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

٢. هل طريقية القطع أمر ذاتي له؟

المعروف انّ طريقية القطع من ذاتياته أو لوازمه فهي غنية عن الجعل.

توضيحه : انّ الجعل إمّا بسيط وهو جعل الشيء ، أو مركب وهو جعل الشيء شيئاً ومفاد الأوّل مفاد كان التامة ، ومفاد الثاني مفاد كان الناقصة ، ويسمّى جعلاً تأليفياً أيضاً.

ثمّ الجعل التأليفي ينقسم إلى : جعل تأليفي حقيقي كجعل الجسم أبيض ، وجعل تأليفي مجازي كجعل الأربعة زوجاً.

ثمّ إنّ ذاتي الشيء أو لازمه غنيان عن الجعل التركيبي الحقيقي ، وذلك لأنّ مناط الجعل الحقيقي هو الحاجة وعدم إغناء جعل الموضوع عن جعل المحمول كما هو الحال في جعل الجسم فانّ إيجاده لا يغني عن إيجاد البياض ، إذ ليس الجسم بما هو هو واجداً للبياض فيحتاج البياض إلى جعل أمر ، بخلاف الأربعة بالنسبة إلى الزوجية فانّ جعلها تُغني عن تعلّق جعل مستقل بها ، فجعلها جعل بالنسبة إلى لازمها ، وإذا كان هكذا حال اللازم ، فكيف بالذاتي كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان.

يلاحظ عليه : أنّ الطريقية ليست ذاتية للقطع وفي الوقت نفسه لا تنالها يدُ الجعل.

أمّا الأوّل : فإن أُريد من الذاتي ، ذاتي باب الايساغوجي ، فهو فرع كونها جنساً أو فصلاً أو نوعاً وليست كذلك ، لأنّ حقيقة القطع ترجع إلى كونه من الحالات النفسانية كسائر الصفات ، نعم فيه اقتضاء هداية الإنسان إلى الخارج في بعض الأوقات دون بعض.

٢١

أمّا الثاني : فلأنّـها لو كانت من لوازم وجوده لزم عدم صحّة الانفكاك بينهما مع أنّا نرى أنّ الإنسان غارق في الجهل المركّب وكم من قاطع ليس قطعه إلا ضلالة.

ومع الاعتراف بأنّ الطريقية ليست ذاتية للقطع تُصافِقُ القولَ بأنّ الحجّية لا تنالها يد الجعل ، لكن لا بالملاك السابق ـ أي كونها ذاتية أو من لوازمه ـ بل بملاك آخر ، وهو انّ المراد من الجعل هو الجعل الاعتباري التشريعي ، وهو ما لايتعلق إلابالأُمور الاعتبارية ، وأمّا الطريقية والكاشفية أو تتميم الكشف في الأمارات كلّها أُمور تكوينية لا تتحقق إلابيد التكوين لا بالجعل الاعتباري الذي هو موضوع البحث في المقام ، وبذلك يعلم انّ ما يظهر من المحقّق النائيني في غير واحد من المواضع من أنّ المجعول في الأمارات هو الطريقية ليس بتام.

ومثله ما اختاره السيد الحجّة الكوهكمري قدس‌سره في درسه الشريف ، فقد كان يقوِّي انّ عمل الشارع في الأمارات هو تتميم الكشف ، ومن المعلوم انّ التتميم كأصله أمر تكويني لا تنالهما يد الجعل.

فتخلص من ذلك ان الطريقية ليست ذاتية للقطع وفي الوقت نفسه لا تنالها يد الجعل ، وما ربما يقال من أنّ الطريقية ذاتية له عند القاطع غير تام ، لأنّ الأُمور التكوينية غير خاضعة للنسبية ، لأنّ أمرها دائر بين الوجود والعدم ، فالطريقية للقطع إمّا حاصلة أو لا؟ وكونها حاصلة له عند القاطع دون غيره يرجع معناه إلى جهله بالواقع فيزعم غير الطريق طريقاً.

نعم إذا صادف الواقع يكون طريقاً فيكون وصفاً مفارقاً لا دائماً.

٢٢

٣. هل القطع حجّة بالذات؟

قد تعرفت على حكم الطريقية وانّها غير قابلة للجعل ، وإن كانت غير ذاتية له ، فيقع الكلام في حجّية القطع ، فاعلم أنّ الحجّة على أقسام :

١. الحجّة اللغوية.

٢. الحجّة المنطقية.

٣. الحجّة الأُصولية.

ونبحث في الجميع واحداً تلو الآخر.

أمّا الحجّة اللغوية أو العقلائية ، فهي عبارة عمّا يحتجّ به المولى على العبد وبالعكس. وبعبارة أُخرى : ما يكون قاطعاً للعذر إذا أصاب ، وعذراً إذا أخطأ.

فقد افترض المحقّق الخراساني الحجّية بهذا المعنى من لوازم وجود القطع كالإحراق بالنسبة إلى النار ، ومن المعلوم امتناع الجعل التأليفي الحقيقي بين الشيء ولازمه ، نعم يصحّ الجعل التأليفي العرضي ، بجعل الموضوع وإيجاده بسيطاً ، فإن جعل النار ، جعل للإحراق تأليفاً مجازياً ، ثمّ رتب عليه انّه لا يصحّ المنع من تأثيره أي كونه قاطعاً للعذر أو معذّراً ، لعدم تعقل الانفكاك بين الشيء ولازمه بل يستلزم اجتماع الضدين في نظر القاطع مطلقاً وافق الواقع أم خالف ، وفي نفس الأمر إذا وافق.

وربّما يستدل على امتناع جعل الحجّية له باستلزامه التسلسل ، لأنّ الجاعل إمّا أن يكون القطع أو الظن أو الشكّ ، والأخيران أنزل من أن يكون مبدأً لحجّية القطع فينحصر بالقطع ، فينقل الكلام إليه ، إمّا يتسلسل أو يتوقف في مورد ، تكون

٢٣

الحجّية له هناك أمراً ذاتياً.

يلاحظ عليه : أنّ القطع وإن كان في غنى عن جعل الحجّية لها ، لكن لا لأجل كونها من لوازم وجوده وذاته ، كذاتي باب البرهان مثل الإمكان بالنسبة إلى الماهية ، والزوجية إلى الأربعة ، بل لأجل أنّ صحة الاحتجاج بالقطع من الأحكام القائمة بنفس العقل ، وليست الحجية من عوارض القطع أو لوازمه حتى يستدل بعدم صحّة الجعل بما سمعت من امتناع الجعل التأليفي بين الشيء وذاتياته أو لوازمه.

وهذا بخلاف الزوجية بالنسبة إلى الأربعة فإنّ الزوجية من لوازم وجود الأربعة وهي قائمة بها قيام اللازم مع الملزوم.

ونظير الحجية بالنسبة إلى القطع حسن العدل وقبح الظلم فربّما يتصور أنّ نسبتهما إلى العدل والظلم كنسبة الزوجية إلى الأربعة بتصور أنّهما من لوازمهما أو من ذاتياتهما.

ولكن الحق أنّ الحسن والقبح من الادراكات العقلية التي ينتقل إليها العقل من احساسه بالملائمة بين الفطرة والعدل وبالمنافرة بينها وبين الظلم ، فيعبر عن الاحساسين بالحسن والقبح دون أن يكونا من الأُمور القائمة بالعدل والظلم وقد أسهبنا البحث في ذلك في محله (١).

وهذا هو الوجه في عدم خضوع القطع لجعل الحجّية له ، لا كونها ذاتيةً له ، أو استلزامه التسلسل ، لأنّ الدليل الأوّل باطل والثاني تبعيد للمسافة.

__________________

١. انظر رسالة التحسين والتقبيح العقليين.

٢٤

٤. ليس القطع حجّة منطقية

إذا كان الحدّ الوسط في القياس المنطقي علّة لثبوت الأكبر للأصغر أو معلولاً لثبوته له فيوصف بالحجّة المنطقية كالتغيّـر الذي هو علّة لإثبات الحدوث للعالم ، وصورة القياس واضحة.

وبما انّ البحث في المقام في القطع الطريقي الذي ليس له دور في ثبوت المقطوع به واقعاً وتحقّقه ، غير كونه كاشفاً عن الواقع فلا يوصف بالحجّة المنطقية فلا يصحّ تنظيم قياس من القطع وجعله حدّالوسط بأن يقال : هذا مقطوع الخمرية ، وكلّ مقطوع الخمرية حرام ، فهذا حرام لكذب الكبرى ، إذ ليس الحرام إلا نفس الخمر ، تعلّق بها القطع أو لا ، لا خصوص مقطوع الخمريّة.

ومثله الظن والأمارة ، فليس الظن والأمارة علّة لثبوت المقطوع به ، وإنّما هو كاشف ، من دون أن يكون له دور في تحقّق متعلقه ، فلا يصحّ أن يقال هذا مظنون الخمرية وكلّ مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه ، لكذب الكبرى ، لأنّ المحرم هو ذات الخمر ، لا كونه بوصف المقطوعية.

هذا كلّه في القطع الطريقي ، وأمّا القطع الموضوعي خصوصاً إذا كان تمام الموضوع للحكم فبما انّ له دوراً في ثبوت الحكم كما إذا رتّب الشارع الحرمة على مقطوع الخمرية ، يكون القطع واسطة لثبوت الأكبر على الأصغر ، ويصحّ تأليف قياس منطقي منه ، فيقال هذا مقطوع الخمرية وكلّ مقطوع الخمرية حرام ، فهذا حرام والكبرى صادقة بخلاف ما إذا كان القطع طريقاً لا دخيلاً في الموضوع.

والعجب من الشيخ الأعظم حيث فرّق بين القطع والظن ، فقال بأنّه لا يحتج بالقطع على ثبوت الأكبر للأصغر ، بخلاف الظنّ أو البيّنة أو فتوى المفتي فصحح قول القائل هذا الفعل ما أفتى بتحريمه المفتي ، أو قامت البيّنة على كونه

٢٥

محرماً ، وكلّما كان كذلك فهو حرام (١) مع أنّ الجميع من باب واحد ، ولعلّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الحجّة المنطقية والحجّة الأُصولية ، فانّ التفكيك إنّما يصحّ في الثانية دون الأُولى ، وإليك بيانها.

٥. ليس القطع حجّة أُصولية بخلاف الظن

الحجّة الأُصولية عبارة عمّا لا يحكم العقل بالاحتجاج بها ولا يحكم بعدمه أيضاً غير أنّ العقلاء أو الشارع يرون الاكتفاء بالقطع يوجب العسر والحرج ، أو فوتَ المصالح لقلة القطع واليقين ، فيعتبرون الأمارة في الأحكام والبيّنة في الموضوعات حجّة لإثبات متعلقاتهما ، والحجّة بهذا المعنى من خصائص الحجج العقلائية والشرعية ، وذلك لأنّ كاشفية الأمارة ليست تامة فيحتاج في صحّة الاحتجاج بها إلى إضفاء الحجّية عليه ، من جانب العقلاء أو المولى.

وهذا بخلاف القطع فبما انّه كاشف تامّ عند القاطع ، يستقل العقل بصحة الاحتجاج به يراه غنيّاً عن إفاضة الجعل عليه ، مضافاً إلى ما عرفت من استلزامه التسلسل.

٦. لا يصحّ المنع عن العمل بالقطع

إذا كان الحكم مترتباً على الواقع كالحرمة على الخمر بما هو هو ، فلو قطع إنسان بكون المائع خمراً لا يصحّ النهي عن العمل به لاستلزامه كون الناهي مناقضاً في كلامه في نظر القاطع ، سواء أصاب أم أخطأ ، إذ معنى النهي هو تعلّق إرادتين تشريعيتين مختلفتين بشيء واحد.

نعم إذا كانت للطريق مدخليّة في موضوع الحكم ، فله أن يتصرّف في

__________________

١. الفرائد : ١ ، طبعة رحمة اللّه.

٢٦

الموضوع ويرتّب الحرمة على الخمر الثابت بالقطع الحاصل من الحسّ دون الحدس ، أو على الخمر الثابت بالبيّنة دون القطع ترجيحاً لها على قطع المكلّف لكثرة الخطأ في قطعه.

هذا كلّه في أحكام القطع.

بقي هنا شيء وهو ماذكره المحقّق الخراساني :

٧. أحكام القطع مترتّبة على القطع بالحكم الفعلي

قد مضى وسيوافيك انّ الحكم له مراتب أربع :

١. مرتبة الاقتضاء كالمصالح والمفاسد وتسميتها بالحكم بنوع من التوسّع والمجاز ، وإلافهما من مبادئه ومقدماته.

٢. مرتبة الإنشاء والتصويب قبل الإبلاغ إلى المكلّف.

٣. مرتبة الفعليّة ، وجعل البعث والزجر في مظان وجود التكليف.

٤. مرتبة التنجيز إذا وقف عليه المكلّف ، وإبلاغه إلى المكلّفين.

وما ذكر من الأحكام للقطع فإنّما هي في مورد تعلقه بحكم فعلي ، يتنجّز بالقطع ، وأمّا ما لم يبلغ تلك المرتبة ، فلا يترتب عليه حكم شرعي ، لأنّه ليس حكماً وإن كان يترتّب عليه الثواب إذا قام بالامتثال من باب الانقياد.

ثمّ أشار إلى مشكلة الجمع بين الحكم الواقعي الفعلي والظاهري ، وسيوافيك بيانه في مبحث الأمارات.

٢٧

الأمر الثاني

في التجرّي

وقبل الورود في الموضوع نذكر أُموراً :

١. التجرّي لغةً :

التجرّي في اللغة مطلق إظهار الجرأة ، فإذا كان المتجرّى عليه هو المولى فيتحقّق التجرّي بالإقدام على خلاف ما قطع بوجوبه أو بحرمته بترك الأوّل وارتكاب الثاني دون فرق بين كون قطعه مصيباً للواقع أو مخالفاً له ، ولكن المقصود من التجرّي هنا ليس المعنى اللغوي بل المعنى المصطلح ، وهو الإقدام على خلاف ما قطع به في مجال إطاعة المولى شريطة أن يكون قطعه خلافاً للواقع. كما إذا أذعن بوجوب شيء أو حرمته ، فترك الأوّل وارتكب الثاني فبان خلافهما ، ويسمّى مخالفة القطع المصيب بالمعصية.

ومنه يظهر حال الانقياد فهو لغة الإقدام على وفق ما قطع ، سواء كان في قطعه مصيباً أم لا ، لكن المراد هنا هو القسم الخاص ، أعني : ما إذا عمل على وفق قطعه ، لكن إذا تبيّن خطأ قطعه ، فيختصّ الإقدام على وفق القطع المصيب بالطاعة.

ومنه يعلم أنّ التجري والانقياد بالمعنى الاصطلاحي لا يختصان بالقطع بل يعمان الحجج الشرعية أيضاً من الأمارات والأُصول ، فلو خالف البيّنة أو الأصل

٢٨

العملي ثمّ ظهر عدم إصابتها للواقع يسمى تجريّاً ، ومثله الانقياد فهو لا يختص بالقطع بل يعم الحجج الشرعية أيضاً.

٢. التجرّي اصطلاحاً :

إنّ التجري بالمعنى الاصطلاحي إنّما يتصور إذا كان القطع طريقياً محضاً بحيث ينصبّ الحكم على ذات الواقع سواء أقطع به أم لا ، وسواء أكانت هناك حجّة أم لا.

وأمّا إذا كان الحكم منصبّاً على القطع بالشيء بحيث يكون القطع تمام الموضوع للحرمة سواء صادف الواقع أو لا ، فلا يتصور التجري الاصطلاحي هنا بل يعدّ من قبيل المعصية.

٣. هل المسألة كلامية أو أُصولية أو فقهية؟

قال شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري : إنّ النزاع يمكن أن يقع في استحقاق العقوبة وعدمه فيكون راجعاً إلى النزاع في المسألة الكلاميّة ، كما يمكن أن يقع النزاع في ارتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح أو لا؟ فتكون المسألة من المسائل الأُصولية التي يستدلّ بها على الحكم الشرعي ، ويمكن أن يكون النزاع في كون هذا الفعل ، أعني : ارتكاب ما قطع بحرمته مثلاً حراماً شرعاً أو لا ، فتكون من المسائل الفقهية. (١)

أقول : الظاهر انّ المسألة قاعدة فقهية ، ومصبّ البحث فيها كون نفس التجرّي حراماً أو لا ، حتى يكون دليلاً على الحكم الشرعي في أبواب مختلفة من الفقه.

__________________

١. درر الفوائد : ٢ / ١١.

٢٩

وأمّا البحث عن كونه قبيحاً أو لا؟ فإنّما هو من باب الاستدلال على الحرمة لكشف القبح عن الحرمة لو قلنا بصحّة الكشف في هذه المقامات ، كما أنّ البحث عن استحقاقه للعقاب بحث عن نتيجة المسألة.

٤. أقسام التجرّي :

إنّ الشيخ قسّم التجرّي إلى أقسام ستة نذكر منها ثلاثة :

أ. إذا نوى ارتكاب المحرم من دون ارتكاب مقدّماته فضلاً عن ارتكاب نفس الحرام ثم ارتدع.

ب. إذا نوى وارتكب بعض المقدمات ثمّ ارتدع.

ج. إذا ارتكب ما يراه محرماً ثمّ بان كونه مباحاً.

ومحلّ البحث هو القسم الثالث للاتفاق على عدم حرمة القسمين الأوّلين.

إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في حكم نفس ارتكاب ما قطع بحرمته مثلاً وانّه هل هو حرام أو لا؟ وأُخرى في حكم الفعل المتجرّى به الذي تحقّق التجرّي في ضمنه من حيث الحرمة وعدمها ، ولأجل ذلك يقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في حكم نفس التجرّي

إذا ارتكب المكلّف ما يراه معصية أو ما قامت الحجّة على كونه كذلك ، فهل ارتكب حراماً أو لا؟ ففيه أقوال ثلاثة :

١. الحرمة واستحقاق العقاب. وهو خيرة المحقّق الخراساني.

٢. عدم الحرمة وعدم استحقاق العقاب. وهو خيرة الشيخ الأنصاري

٣٠

وإنّما يستحق اللوم والذم.

وبعبارة أُخرى : ليس هناك قبح فعلي ، ولو كان هناك قبح ، فإنّما يرجع إلى الفاعل.

٣. القول بهما إلا إذا اعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة فلا يبعد عدم استحقاق العقاب ومرجعه إلى القول الأوّل غاية الأمر تتدارك الجهة القبيحة ، بالجهة المحسِّنة الواقعية. وهو خيرة صاحب الفصول.

واستدلّ القائل بالقبح أو الحرمة بالإجماع تارة ، وبناء العقلاء أُخرى ، ودليل العقل ثالثاً.

أقول : إنّ الإجماع على فرض ثبوته لا يحتجّ به في مثل تلك المسألة ممّا للعقل إليه سبيل لاحتمال اعتماد المجمعين على حكم العقل ، فيكون الإجماع مدركيّاً لا يحتجّ إلا بالمدرك لا بالإجماع.

على أنّ الإجماع مخدوش كما يظهر من التذكرة في من أخّر الصلاة مع ظنّ ضيق الوقت ثمّ بان بقاؤه ، فقال العلاّمة في التذكرة بعدم العقاب ، وحكي عن المفاتيح أيضاً.

نعم أفتوا بحرمة سلوك طريق محظور ، لأجل انّ الخوف هو موضوع الحرمة لا الخطر الواقعي.

وأمّا بناء العقلاء فلا يتجاوز عن ذم المرتكب ولومه لا عقابه ، وبقي الدليل الثالث أي العقلي فنقول :

قرّر الدليل العقلي بوجوه :

الأوّل : ما نقله الشيخ في فرائده ، وحاصله : إذا فرضنا انّ اثنين قصدا شرب الخمر ، فصادف أحدهما الواقع دون الآخر ، فإمّا أن نقول بصحّة عقوبتهما معاً ، أو

٣١

عدم عقوبتهما كذلك ، أو عقوبة المخطئ دون المصيب أو بالعكس; والأوّل هو المطلوب ، والثاني والثالث خلاف المتفق عليه ، وأمّا الرابع فيلزم أن يكون العقاب والثواب منوطين بأمر خارج عن الاختيار.

أقول : نحن نختار الشقّ الرابع وهو عقاب المصيب دون المخطئ ، ولكن القبيح هو إناطة العقاب بأمر خارج عن الاختيار ، وأمّا إناطة عدم العقاب بأمر خارج عن الاختيار فليس بقبيح كما أوضحه الشيخ الأنصاري ، والحاصل نعاقب المصيب لأنّه شرب الخمر عن اختيار ، كما شربها في حالة الانفراد ، ولا نعاقب المخطئ لأنّه لم يشرب وإن كان عن لا اختيار. وبعبارة أُخرى : تحقّق سبب الاستحقاق في المصيب وهو مخالفته عن عمد ، وعدمه في الثاني ولو بلا اختيار.

الثاني : ما ذكره المحقّق الخراساني من شهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته وذمّه على تجرّيه وهتك حرمة مولاه وخروجه عن رسم العبودية وكونه بصدد الطغيان والعزم على العصيان ، كما يشهد الوجدان على صحّة مثوبته على قيامه بما هو قضية عبوديته من العزم على موافقة القطع والبناء على طاعته.

أقول : إنّ موضوع البحث هو مخالفة الحجّة العقلية أو الشرعية لأجل غلبة الهوى على العقل ، والشقاء على السعادة وربّما مع استيلاء الخوف على المرتكب وعروض الارتعاش حينه ، فهل يستحق العقاب أو لا؟

وأمّا ضمّ عناوين أُخر إلى ذلك من الهتك والتمرّد ورفع علم الطغيان فكلّها أجنبيّة عن المقام ، ولا شكّ في استحقاق العقاب لو كان عمله مصداقاً للهتك ورمزاً للطغيان وإظهار الجرأة ، إلى غير ذلك من العناوين القبيحة.

والحاصل : انّ الإنسان ربما يرتكب ما يقطع بحرمته لا لأجل الطغيان وإظهار الجرأة وهتك الستر ، بل لما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي الذي علمه إيّاه الإمام السجاد عليه‌السلام حيث قال في مقطع من مناجاته معلّماً للداعي :

٣٢

« إلهي لم أعصك حين عصيتُك وأنا بربوبيّتك جاحد ، ولا بأمرك مستخف ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولا لوعيدك متهاون ، لكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي ، وأعانني عليها شقوتي ، وغرّني سترك المرخى عليّ ».

أضف إلى ذلك انّه يستلزم تعدّد العقاب عند الإصابة لموجبين : أحدهما : العصيان ، والثاني : العنوان المشترك ( كالتمرّد والهتك و ... ) ؛ فقد اتفقوا على أنّ مجرّد مخالفة أمر المولى بلا عذر ( العصيان ) بأيّ داع كان مستلزم للعقوبة ، فإذا ضمّ إليه العنوان المشترك بينه وبين التجرّي يلزم تعدّد العقاب.

ثمّ إنّ صاحب الفصول تفصّى عن الإشكال بتداخل العقابين ، ومن المعلوم انّه لا يسمن ولا يغني من جوع ، لأنّه إن أراد من التداخل وحدة العقاب فيكون ترجيحاً بلا مرجح ، وإن أراد كثرة العقاب فليس تداخلاً.

الثالث : ما هو الملاك للعقاب في المعصية؟ فهناك احتمالات :

١. ذات المخالفة للأمر والنهي.

٢. تفويت غرض المولى.

٣. ارتكاب مبغوض المولى.

٤. كونه هتكاً لحرمة المولى وجرأة عليه وإن شئت قلت : المخالفة الاعتقادية.

ولا تصلح الثلاثة الأُولى ملاكاً للعقاب ، لوجودها في الجاهل المعذور إذا خالف ، فتعيّن الرابع ، وهو مشترك بين المعصية والتجرّي. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الملاك للعقاب في المعصية أمر خامس غير موجود لا في المخالفة عن جهل ، ولا في التجري وهو مخالفة أمر المولى واقعاً عن عمد بلا عذر وهو مختص بالعصيان ، وأمّا غيرهما فالجزء الأوّل أي المخالفة في التجرّي غير

__________________

١. لمحقّق الاصفهاني : نهاية الدراية : ٢ / ٨.

٣٣

موجود ، والمخالفة للواقع وإن كانت موجودة في المعذور ، لكن القيد الثاني ( بلا عذر ) منتف.

الرابع : ما نقله المحقّق النائيني في كلام مبسوط حاصله : انّ المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب هو جهة البغض الفاعلي وحيثيّة صدور الفعل الذي يعلم بكونه مبغوضاً للمولى من دون دخل للواقع ، فانّ الإرادة الواقعية ممّا لا أثر لها عند العقل إلا بعد الوجود العلمي ، وهذا المعنى مشترك بين العاصي والمتجري.

وإن شئت قلت : إنّ المناط عند العقل في استحقاق العقاب هو البغض الفاعلي الناشئ عن العلم بالمخالفة والمعصية ، وهذا بعد ما كان العلم من باب الطاعة والمعصية موضوعاً عند العقل واضح. (١)

يلاحظ عليه بأمرين :

١. بعد تسليم كون مناط العقاب هو البغض الفاعلي ، انّ الملاك هو البغض الفاعلي المتولد من القبح الفعلي وهذا يختص بالمعصية ، وأمّا التجرّي ، فالقبح الفاعلي هناك متولد من سوء السريرة وخبث الباطن أو غلبة الهوى على العقل ، والشقاء على خلافه لا من القبح الفعلي.

٢. إنّ الهدف من إثبات قبح إرادة المعصية ، هو إثبات حرمته ليترتب عليه العقاب ، ولكن المحاولة فاشلة ، لأنّه ليس كلّ حسن ملازماً للحكم بالوجوب ، ولا كلّ قبيح ملازماً للحرمة ، إلا إذا تعلّق بمبادئ الأحكام وعللها وموضوعاتها كردّ الأمانة أو الخيانة بها ، فيكشف كلّ من الحسن والقبح عن وجوب الأوّل وحرمة الثاني ، وأمّا إذا تعلّق بمعاليل الأحكام كالطاعة والمعصية ، فانّ حسن الأوّل وقبح الثاني لا يكشفان عن حكم شرعي ، وإلا يلزم عدم انتهاء الأحكام إلى حدّ وتسلسل العقوبات ، وذلك لأنّ الطاعة والمعصية لا يتحقّقان إلا إذا سبق عليهما

__________________

١. الكاظمي : فوائد الأُصول : ٣ / ٤٨.

٣٤

حكم شرعي ، حتى يقال بحسن طاعته وقبح عصيانه ، فلو كشف الحكم بحسن طاعة ذلك الحكم ، وقبح عصيانه ، عن حكم شرعي ثالث يستقل العقل بحسنه وطاعته لتسلسل الأحكام والعقوبات وهو خلاف الوجدان والضرورة.

ومنه تظهر الحال في إرادة المعصية والطاعة ، فلو افترضنا حسن الأُولى وقبح الثانية فلا يكشفان عن حكم شرعي حتى تترتب عليه المخالفة والموافقة وبالتالي : المثوبة والعقوبة فالكلّ خارج عن حريم الملازمة كما لا يخفى.

تمّ الكلام في المقام الأوّل ، وإليك الكلام في المقام الثاني.

المقام الثاني : في حكم المتجرّى به

الفرق بين التجرّي ، والمتجرّى به واضح ، فانّ الأوّل فعل للعبد ينتزع من مخالفة المكلّف الحجّة العقلية والشرعية بخلاف الثاني فانّه عبارة عن نفس العمل الخارجي كشرب الماء الذي تتحقق به مخالفة الحجّة.

ثمّ الكلام فيه تارة من حيث القبح ، وأُخرى من وجه الحرمة الشرعية.

فقد استدل المحقّق الخراساني على عدم قبحه بوجوه ثلاثة :

١. انّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يصير الشيء حسناً وقبيحاً ولا ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية ، فقتل ابن المولى مبغوض وإن قتله بعنوان انّه عدوه ، وقتل عدوّه حسن وإن قتله بعنوان انّه ابنه.

٢. انّ الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختيارياً ، فانّ القاطع لا يقصده إلا بما قطع انّه عليه من العنوان الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الأوّلي بل يكون غالباً بهذا العنوان ممّا لا يلتفت إليه. (١)

__________________

١. كفاية الأُصول : ٢ / ١٣.

٣٥

٣. انّ المتجرّي قد لا يصدر عنه فعل إختياري أصلاً ، فمن شرب الماء باعتقاد الخمرية لم يصدر منه ما قصده وما صدر منه لم يقصده بل ولم يخطر بباله. (١)

يلاحظ على الأوّل : أنّ العنوان المقبح في كلامهم ليس هو القطع بالقبح بل الجرأة والتمرد والطغيان أو الهتك والظلم ولا شكّ انّـها من العناوين المقبحة ، ومنه يظهر حال الوجه الثاني فانّه مبني على كون العنوان القبيح هو القطع ومضافاً إلى ما في إنكار كون القطع مورداً للالتفات إجمالاً ، فانّ الالتفات إجمالاً إلى العلم ممّا لا ينكر.

ويلاحظ على الثالث انّه يكفي في صدور الفعل الاختياري ، كون الجامع بين الخمر والماء مورداً للالتفات وهو شرب المائع ، فكيف يقال انّه لم يصدر منه ، ولذلك يبطل صومه بشرب ما قطع كونه خمراً وهو ماء.

ومع ذلك كلّه ، فالحقّ مع المحقّق الخراساني انّ الفعل المتجرّى به باق على ما هو عليه ، لأنّ العناوين المقبحة لا تتجاوز عن خمسة : ثلاثة منها قائمة بالجنان ، كالجرأة ، والعزم على المعصية والطغيان ، وقبحها لا يسري إلى الفعل لكونها من الأُمور القلبية والفعل كاشف عنها ؛ واثنان منها الظلم والهتك وإن كانا قائمين بالفعل لكنّهما يختصان بالمعصية فالظلم على المولى بنقض قانونه ، والمفروض عدمه مثله والهتك بمعنى خرق الستر فانّه من خصائص المعاصي.

في حرمة الفعل المتجرّى به

قد عرفت أنّ الفعل المتجرّى به باق على ما كان عليه من الحسن والقبح إنّما الكلام في حرمته شرعاً لا باستكشاف حرمته من قبحه ، لما عرفت من عدم قبحه بل بوجهين تاليين :

__________________

١. تعليقة المحقّق الخراساني على الفرائد : ١٣.

٣٦

١. ادعاء شمول الخطابات الأوّلية له ( حرمته بالعنوان الأوّلي )

يمكن أن يقال : انّ متعلّق الخطابات الأوّلية ليس هو شرب الخمر الواقعي ، بل القدر الجامع بين مصادفة القطع للواقع ، ومخالفته له ، بأن يقال : انّ الحرام تحريك العضلات نحو شرب ما أحرز انّه خمر ، فيكون المتجرّي عاصياً حقيقة.

والدليل عليه : انّ متعلّق التكليف يجب أن يكون مقدوراً وليست المصادفة والمخالفة الواقعيتين تحت الاختيار حتى يتعلق التكليف بالمصادف دون المخالف ، فيجب أن يكون متعلّقه إرادة ما أحرز انّه من مصاديق الموضوع إذ هو الفعل الاختياري ، فتكون نسبته إلى المطابق والمخالف على حدّ سواء. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الأحكام تتعلّق بما تشمل على المصالح والمفاسد ، ولا شكّ انّ المفسدة قائمة بشرب الخمر بما هو هو سواء كان عالماً أو جاهلاً غير انّ الحكم الشرعي لا يتنجز إلا بالعلم ، فإذا كان كذلك ، فالخطابات الأوّلية لا تعمّ إلا شرب الخمر الواقعي ، لا شرب ما أحرز انّه خمر ، وإلا يلزم تعلّق الأحكام بالأوسع ممّا قام به الملاك.

وأمّا كون الإصابة وعدمها خارجتين عن الاختيار ، فقد عرفت أنّ الأُولى داخلة تحته ، نعم الخطاء وعدم الإصابة خارج عنه ، فلو قصد شخصان قتل إنسان فأطلقوا الرصاص فأصاب أحدهما دون الآخر ، يعاقب الأوّل لأجل قيامه بالفعل الاختياري من قتل إنسان بريء.

هذا كلّه حول حرمته حسب العنوان الأوّلي. بقي الكلام في حرمته بالعنوان الثانوي.

__________________

١. فوائد الأُصول : ٢ / ٣٧ ـ ٣٨.

٣٧

٢. حرمته بالعنوان الثانوي

قد عرفت أنّ ادّعاء شمول الإطلاقات للفعل المتجرّى به في غاية الضعف ، ومثله القول بحرمته لأجل العناوين الثانوية كالجرأة والطغيان والتمرّد ، والظلم والهتك ، فانّ الثلاثة من الأُمور النفسانية غير القائمة بنفس الفعل ، كما مرّ سابقاً ، وأمّا الظلم على المولى فرع نقض القانون وهو يختص بالعاصي ، وأمّا الهتك فهو فرع التظاهر بالعمل والمفروض في المقام غيره ، بل البحث مركز على مخالفة الحجّة وإن كان في خفاء مع الخوف والوجل.

وبذلك يعلم حال الفعل المنقاد به ، فلا يوصف بالحسن ، كما إذا جامع امرأة أجنبية بزعم انّها زوجته قضاء للواجب في كلّ أربعة أشهر ، فالفعل باق على قبحه ، نعم يفارق الانقياد عن التجرّي بورود الدليل على ترتب الثواب على الأوّل ، دون العقاب على التجرّي.

أسئلة ثلاثة وأجوبتها

السؤال الأوّل : حكم التجرّي في الآيات والروايات

إذا لم يكن في مورد التجرّي قبح فعلي وبالتالي لم يكن أي عقاب ، فما معنى ما دلّ من الآيات والروايات على ثبوت العقاب لنية العصيان بالدلالة المطابقية أو الالتزامية.

الجواب : لا دلالة لما استدل به من الأدلّة على المدّعى ، وإليك دراسة الآيات أوّلاً ، ثمّ الروايات ثانياً.

الف. قوله سبحانه : ( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ

٣٨

فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاء ). (١)

والجواب بوجهين : أوّلاً : انّ الآية كبرى كلية لما مرّفي الآية المتقدمة ، أعني : قوله سبحانه : ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادة وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ). (٢) ممّا يجب إظهارها ويحرم كتمانها وليست نية المعصية من مصاديق هذه المقولة ممّا يجب إظهارها ويحرم كتمانها.

وثانياً : انّ القدر المتيقن من الآية ، الأُمور التي لها رسوخ في النفس كالإيمان والكفر ، والملكات الفاضلة أو الرذيلة ، ولا تعم الأُمور الآنيّة كنية العصيان التي تأتي وتزول.

٢. قوله سبحانه : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسئُولاً ). (٣)

يلاحظ على الاستدلال : أنّ ظاهرها انّ لكلّ من السمع والبصر والفؤاد وظائف وأحكاماً يكون كلّ منها مسؤولاً عنها ، وهذه الضابطة أمر مسلم ، انّما الكلام في الصغرى وهي هل الفؤاد مسؤول عن حرمة نيّة المعصية إذا نواها وإن لم يرتكبها؟ فلم يدلّ دليل عليه.

والحاصل : انّ الكبرى لا تدل على الصغرى أي كون الفؤاد مسؤولاً عنه لا يدل على أنّه يسأل حتّى عن نيّة المعصية ، نعم هو مسؤول عن الإيمان والكفر والنفاق وغيرها ممّا دلّ الدليل القطعي على أنّها من وظائفه ، نعم لو ثبت انّ الفؤاد مسؤول عن كلّ ما يرجع إليه ، يكون هذا دليلاً على حرمة نيّة الجرأة.

٣. ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ

__________________

١. البقرة : ٢٨٤.

٢. البقرة : ٢٨٣.

٣. الاسراء : ٣٦.

٣٩

قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَليمٌ ). (١)

وكيفية الاستدلال واضحة :

والجواب انّ المراد من قوله : ( بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) بقرينة مقابلته لقوله : ( باللّغو في أيمانِكُم ) هو اليمين التي يحلف بها الإنسان عن عقد القلب وقصد منه ، وأين هو من المؤاخذة على كلّ عمل قلبي. وحاصل الآية : انّ ما يحلف به الإنسان جرياً على عادته من قوله : « واللّه » ، « بلى واللّه » لا يؤخذ به ، بل يؤخذ على كلّ يمين كان للقلب والشعور تأثير فيه وهو الأيمان الجدية.

٤. ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الدُّنْيا وَالآخِرَة وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون ). (٢)

ترى أنّه سبحانه أوعد بالعذاب على من أحبّ شيوع الفاحشة في الّذين آمنوا وهو أمر قلبي.

يلاحظ على الاستدلال : أنّ حبّ شيوع الفاحشة من المعاصي الموبقة كما سيوافيك إن شاء اللّه عند البحث في الروايات ، فانّ هناك أعمالاً قلبية محرمة كالرضا بمعصية الغير ، وأين هو من النية العارية بالنسبة إلى فعل الناوي؟!

أضف إلى ذلك انّ الحب في الآية قد اقترن بالعمل ، لأنّها نزلت في حقّ عبد اللّه بن أُبيّ الّذي قام بقذف الأبرياء بالفحشاء والمنكر ، والمورد يصلح للقرينية ، فلا يمكن التمسك بالإطلاق حتى لمن أحبّ شيوع الفاحشة عارياً عن العمل.

٥. قوله سبحانه : ( تِلْكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَساداً وَالعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين ). (٣)

__________________

١. البقرة : ٢٢٥.

٢. النور : ١٩.

٣. القصص : ٨٣.

٤٠