إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

أصل إليك ، أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمان ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال : « نعم ». (١)

١٢. رواية أبي بصير قال : إنّ أبا عبد اللّه عليه‌السلام قال له في حديث : « لولا زرارة ونظراؤه لظننت أنّ أحاديث أبي ستذهب ». (٢)

١٣. رواية شعيب العقرقوفي ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : ربّما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال : « عليك بالأسديّ » يعني أبا بصير. (٣)

١٤. رواية جميل بن دُرّاج قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول : « بشر المخبتين بالجنة : بريد بن معاوية البجلي ، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي ، ومحمد بن مسلم ، وزرارة ، أربعة نجباء أُمناء اللّه على حلاله وحرامه ، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست ». (٤)

إلى غير ذلك من الروايات التي تُرجِعُ الشيعة إلى أشخاص معيّنين ، ويوصفهم بالوثاقة والأمانة معرِباً عن كون الوثوق بالقول هو مناط الأخذ.

الطائفة الثالثة : الأخبار العلاجية

إنّ الأخبار العلاجية ، على قسمين : قسم يأمر بالأخذ بذي المزية من الخبرين ، وقسم يأمر بالتخيير. وسيوافيك الجميع في باب التعادل والترجيح.

أمّا القسم الأوّل فمنه ما يلي :

١٥. ما يأمر بأخذ خبر أعدل الراويين وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما. (٥)

__________________

١. الباب ١١ ، الحديث ٣٣ ، ١٦ ، ١٥ ، ١٤.

٢. الباب ١١ ، الحديث ٣٣ ، ١٦ ، ١٥ ، ١٤.

٣. الباب ١١ ، الحديث ٣٣ ، ١٦ ، ١٥ ، ١٤.

٤. الباب ١١ ، الحديث ٣٣ ، ١٦ ، ١٥ ، ١٤.

٥. الكافي : ١ / ٦٨.

٢٦١

١٦. ما يأمر بالأخذ بموافق الكتاب : كرواية عبد الرحمان بن أبي عبد اللّه قال : قال الصادق عليه‌السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فردّوه ». (١)

١٧. ما يأمر بأخذ ما خالف العامّة : كرواية عبد الرحمان بن أبي عبد اللّه المصري ، قال : قال الصادق عليه‌السلام : « فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فأعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه ». (٢)

وأمّا القسم الثاني الذي يأمر بالتخيير فمنه ما يلي :

١٨. رواية الحسن بن الجهم ، عن الرضا عليه‌السلام قال : قلت له : ... يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال : « فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّـهما أخذت ». (٣)

١٩. رواية الحارث بن المغيرة ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتى ترى القائم فترد إليه ». (٤) إلى غير ذلك من الروايات الآمرة بالتخيير. (٥)

الطائفة الرابعة : الواردة في الحث على نقل الحديث وكتابته ونشره

قد جمع صاحب الوسائل الشيء الكثير ممّا يدل على بثِّ الحديث وكتابته في الباب الثامن من أبواب صفات القاضي ، ومن أراد فليرجع إليه. لكن نذكر في المقام بعض الكتب التي عرضت على الأئمة فصدقوها.

__________________

١. الباب ٩ ، الحديث ٢٩ ولاحظ الحديث ٢١.

٢. الباب ٩ ، الحديث ٢٩.

٣ و ٤. الباب ٩ ، الحديث ٤٠ ، ٤١.

٥. لاحظ الحديث ٤٤ من الباب ٩.

٢٦٢

٢٠. روي عن أبي عمرو المتطبب انّه قال : عرضته على أبي عبد اللّه عليه‌السلام ، يعني كتاب ظريف في الديات. (١)

٢١. روى يونس بن عبد الرحمان في حديث قال : أتيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام ووجدت أصحاب أبي عبد اللّه عليه‌السلام متوافرين فسمعت واحداً واحداً ، وأخذت كتبهم فعرضتها بعدُ على الرضا ، فأنكر منها أحاديث. (٢)

٢٢. روى أحمد بن أبي حنف قال : كنت مريضاً فدخل عليّ أبو جعفر عليه‌السلام يعودني عند مرضي ، فإذا عند رأسي كتاب يوم وليلة ، فجعل يتصفّحه ورقة ورقة حتى أتى عليه من أوّله إلى آخره ، وجعل يقول : « رحم اللّه يونس ، رحم اللّه يونس ، رحم اللّه يونس ». (٣)

٢٣. روى داود بن القاسم الجعفري قال : أدخلت كتاب يوم وليلة الذي ألّفه يونس بن عبد الرحمان على أبي الحسن العسكري عليه‌السلام ، فنظر فيه وتصفّحه كلّه ، ثمّ قال : « هذا ديني ودين آبائي كلّه ، وهو الحقّ كلّه ». (٤)

٢٤. روى بورق البوشجاني قال : خرجت إلى سرّ من رأى ومعي كتاب يوم وليلة ، فدخلت على أبي محمد عليه‌السلام وأريته ذلك الكتاب وقلت له : إن رأيتَ أن تنظر فيه وتصفّحه ورقة ورقة فقال : « هذا صحيح ينبغي أن تعمل به ». (٥)

٢٥. روى حامد بن محمد انّه دخل على أبي محمد عليه‌السلام ، فلما أراد أن يخرج سقط منه كتاب في حضنه ملفوف في رداء ، فتناوله أبو محمد عليه‌السلام ونظر فيه ، وكان الكتاب من تصنيف الفضل ، فترحّم عليه وذكر أنّه قال : « أغبط أهل خراسان لمكان الفضل بن شاذان وكونه بين أظهرهم ». (٦)

__________________

١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦. الباب ٨ ، الحديث ٣٢ ، ٧٣ ، ٧٤ ، ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٧.

٢٦٣

٢٦. روى عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح ، عن الحسين بن روح ، عن أبي محمد الحسن بن علي عليهما‌السلام انّه سئل عن كتب بني فضّال فقال : « خذوا ما رووا ، وذروا ما رأوا ». (١)

٢٧. ذكر النجاشي أنّ كتاب عبيد اللّه بن علي الحلبي عرض على الصادق عليه‌السلام فصححه واستحسنه. (٢)

إلى غير ذلك من الكتب المعروضة.

الطائفة الخامسة : ما ورد في ذمّ الكذّابين ووضّاع الحديث

٢٨. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار ». (٣)

٢٩. قال الصادق عليه‌السلام : لعن اللّه المغيرة بن سعيد انّه كان يكذب على أبي فأذاقه اللّه حر الحديد. (٤)

٣٠. وقال الصادق عليه‌السلام : « إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا ، فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ». (٥)

٣١. وقال عليه‌السلام : « إنّ الناس أولعوا بالكذب علينا ، كأنّ اللّه افترض عليهم ولا يريد منهم غيره ». (٦)

__________________

١. الباب ٨ ، الحديث ٧٩ ، ٨١.

٢. رجال النجاشي : برقم ٦١٠.

٣. الكافي : ١ / ٦٢ وبحار الأنوار : ٢ / ٢٢٥.

٤. رجال الكشي : ١٩٥.

٥. رجال الكشي : ٢٥٧.

٦. بحار الأنوار : ٢ / ٢٤٦.

٢٦٤

روى الكشي في ترجمة « المغيرة بن سعيد وأبي الخطاب » شيئاً كثيراً من تقول الكذابين على أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام. (١)

٢. كيفية الاستدلال

لا يخفى انّ من لاحظ تلك الروايات الهائلة يستكشف أنّ حجّية الخبر الواحد عندهم كان أمراً مسلماً على وجه لولاها لم يكن لصدور هذه الروايات وجه.

فإذا كانت الحجّة هو الخبر المتواتر ، فما معنى الإرجاع إلى رواة الأحاديث ، أو الإرجاع إلى آحادهم بأسمائهم؟ كما أنّ السؤال عن علاج المتعارضين من الخبرين ، آية تسليم كون كلّ منهما حجّة لولا المعارض.

ومثله الحثّ على كتابة الحديث ، ونقله وبثّه ، كما أنّ عرضَ الكتب آية كونه حجّة ، وقد عرضوها للتأكد من صحتها.

ولو كان بناء المسلمين على الاقتصار على المتواترات لم يكن لوضع الحديث وجه ، لأنّ الغاية هي قبول الناس والمفروض انّ بناءهم كان على عدم قبول الآحاد ، فالمجموع يكشف عن جريان السيرة على قبول الآحاد بشرائطها الخاصة.

نعم ولكن لا تجد فيها رواية هي بصدد جعل الحجية للخبر الواحد ، بل تدور الروايات بين الفحص عن الصغرى وانّ الراوي ثقة أو لا ، أو انّ كتابه مصون من الدس أو لا ، أو الإرشاد إلى السيرة المألوفة بين العقلاء وانّه لا عذر لموالينا في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا وفي الوقت نفسه النهي عن الأخذ عن غير الموالين.

__________________

١. رجال الكشي : ١٩٤ ـ ١٩٨ و ٢٤٦ ـ ٢٦٠.

٢٦٥

٣. الإشكال على الاستدلال

هذا هو المقام الثالث قد أورد على الاستدلال بها إشكالات نذكر أهمها :

أ. الأخبار ليست بمتواترة

إنّ هذه الأخبار ليست بمتواترة لأنّها تنتهي إلى الكتب الأربعة ، ولفيف منسائر الكتب ، وشرط التواتر بلوغ الخبر من كلّ طبقة من الطبقات حدّ التواتر ، وليس الأمر كذلك ، فانّها في نهاية المطاف تنتهي إلى ثلاثة ، أو أربعة أشخاص.

والجواب : انّ المراد من التواتر في المقام ليس التواتر اللفظي ، بل التواتر الإجمالي.

أمّا الأوّل ، فالمراد منه إذا إتحدت ألفاظ المخبرين في خبرهم عن موضوع واحد كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه » أو قوله : « إنّما الأعمال بالنيّات » وفي مثله لا يحصل العلم إلا ببلوغ الخبر في كلّ طبقة حدّ التواتر.

وأمّا الثاني ، والمراد منه هو العلم الإجمالي بصدور بعض من الأحاديث المختلفة وتسميته بالتواتر ، مسامحي والمراد العلم الإجمالي بصدور البعض.

ب. انّ هذه الأخبار مختلفة المضمون

إنّ هذه الأخبار مختلفة المضمون واللسان ، وإليك عناوينها :

١. كونه شيعياً

الظاهر من بعضها كفاية كون الراوي شيعياً ، مثل قوله عليه‌السلام : « رواة

٢٦٦

حديثنا » (١). وقوله عليه‌السلام : « من غير شيعتنا » (٢). أو قوله عليه‌السلام : « كلّ مسنّ في حبنا ، كثير القدم في أمرنا ». (٣)

٢. كونه ثقة

إنّ الظاهر من البعض الآخر ، كونه ثقة ، مثل قوله عليه‌السلام : « التشكيك فيما يرويه ثقاتنا » (٤). أو قوله عليه‌السلام : « العمري ثقتي » (٥). أو قوله عليه‌السلام : « فيونس بن عبد الرحمان ثقة » (٦). وقوله عليه‌السلام : « كلاهما أو كلّهم ثقة » (٧).

٣. كونه مجتهداً

الظاهر من بعضها لزوم كونه مجتهداً لا ناقلاً مثل قوله عليه‌السلام : « روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا » ويقرب منه ما دلّ على حجّية قول مثل زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير ويونس بن عبد الرحمان وغيرهم من فضلاء أصحاب الصادق ، والرضا عليهما‌السلام ، وعلى هذا يلزم الأخذ بأخص المضامين ، وهو أن يكون الراوي جامعاً لجميع هذه الصفات ، وهو غير القول بحجّية قول مطلق الثقة.

الجواب : لو وجدنا بين هذه الروايات ما يكون جامعاً لهذه الصفات ، ويكون مفاده حجّية مطلق الثقة يتعدى منه إلى المطلوب وإلى هذا يشير المحقّق الخراساني بقوله : وقضيته وإن كان حجّية خبر دل على حجّية أخصها مضموناً إلا انّه يتعدى منه فيما إذا كان بينهما ما كان بهذه الخصوصية وقد دلّ على حجّية ما كان أعم.

__________________

١ و ٢ و ٣. لاحظ الحديث ٢ ، ٤ ، ٦.

٤ و ٥ و ٦ و ٧. لاحظ الحديث ٣ ، ٧ ، ١١ ، ١٩.

٢٦٧

ولعلّ صحيح أحمد بن إسحاق بين تلك الأخبار جامعة لجميع هذه الخصوصيات من حيث السند ، وقد دلّ مضمونه على حجّية قول الثقة.

روى الكليني بسند عال رواته كلّهم مشايخ ثقات عدول قد زكّاهم جمع من العدول ، فروى : عن محمد بن عبد اللّه الحميري ومحمد بن يحيى العطار القمي ، عن عبد اللّه بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن إسحاق ، أنّه سأل أبا الحسن ( الهادي عليه‌السلام ) وقال له : من أُعامل ، وعمّن آخذ ، وقول من أقبل؟ فقال : « العمري ثقتي ، فما روى إليك عنّي ، فعني يؤدّي ، وما قال لك فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع فانّه الثقة المأمون ».

وسئل أبومحمد عليه‌السلام عن مثل ذلك فقال : « العمري وابنه ثقتان ما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤديان ، ... فإنّهما الثقتان المأمونان ». (١)

وعامة من ورد في السند ، من المشايخ ، فقال النجاشي في حقّ الأوّل ( محمد بن عبد اللّه الحميري ) : ثقة وجه. وفي حقّ الثاني ( محمّد بن يحيى العطار ) : أبو جعفر القمي ثقة. وفي حقّ الثالث ( عبد اللّه بن جعفر الحميري ) : أبو العباس ثقة. وأمّا الرابع ( أحمد بن إسحاق ) : فهو مردّد بين الرازي والأشعري ، وكلاهما ثقة ، ويحتمل اتحادهما. ونظيره رواية الحسن بن علي بن يقطين. (٢)

وأمّا المضمون ، فقد علّل حجّية قول العمري بأنّه الثقة المأمون ، وعليه فرواية كلّ ثقة مأمون ، حجّة ، سواء كان من المشايخ والفقهاء أو لا ، والمراد من الثقة هو العدل ، ونظيره رواية الحسن بن علي بن يقطين.

ومنه يظهر انّه ليس للشارع في باب حجّية الخبر الواحد أي جعل ولا تصرف ، فما اشتهر في ألسن المشايخ من جعل الحجّية أو الطريقية ، أو تتميم

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

٢٦٨

الكشف ، ليس لها أيّ دليل في الروايات والمتبادر منها ، هو إمضاء ما جرى عليه العقلاء في حياتهم العملية من الاعتماد على قول الثقة المأمون فالحجّية إمضائية لا تأسيسية.

الاستدلال على حجّية الخبر الواحد بالإجماع

وقد استدلّوا على حجّية الخبر الواحد بالإجماع القولي تارة ، والإجماع العملي أُخرى.

١. الاحتجاج بالإجماع القولي

إنّ الاحتجاج بالإجماع القولي على حجّية الخبر الواحد يتحقّق بأحد وجهين : إمّا بتتبّع فتاوى الأصحاب على الحجّية من زماننا إلى زمان الشيخ حتى يكون إجماعاً محصَّلاً ـ فيكشف رضاء الإمام بذلك ـ على القول بقاعدة اللطف ؛ أو يقطع من باب الحدس ، أو بتتبع الإجماعات المنقولة على الحجّية.

وأورد المحقّق الخراساني على التقرير الأوّل باختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات ومعه لا يكشف عن رضاه من تتبعها ، وعلى التقرير الثاني ، باختلاف معاقد الإجماعات فيها ، إلا أن يقال : الاختلاف في الخصوصيات لا يضرّ الإجماع على الحجّية إجمالاً.

يلاحظ على الاستدلال أيضاً بأنّ الإجماع حجّة إذا جهل مصدره ومدركه ، وأمّا مع العلم به فيكون المتّبع هو الدليل لا الإجماع.

٢٦٩

٢. الاحتجاج بالإجماع العملي

وقد يحتج بدعوى اتّفاق العلماء عملاً بل كافة المسلمين على العمل بالخبر الواحد في أُمورهم الشرعية ، فبما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.

وأورد عليه المحقّق الخراساني : انّه لم يحرز اتّفاقهم على العمل بما هم مسلمون ، لأنّهم لا يزالون يعملون بها في غير الأُمور العادية به ، فيرجع هذا الاستدلال إلى الاستدلال الآتي ، أعني : الاستدلال بسيرة العقلاء.

٣. الاحتجاج بالسيرة العقلائية

إنّك إذا تصفّحت حال العقلاء في حياتهم الدنيوية ، تقف على أنّهم مطبقون على العمل بقول الثقة في جميع الأزمان والأدوار وفي تمام الأقطار والأمصار ، ويتضح ذلك بملاحظة أمرين :

الأوّل : أنّ تحصيل العلم القطعي عن طريق الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن أمر صعب ، خصوصاً بالنسبة إلى من يسكن البوادي والقرى مع قلة المواصلات والوسائل الإعلامية.

الثاني : انّ القلب يسكن إلى قول الثقة ويطمئن به ويخرج عن التزلزل ، ولأجل ذلك يُعدّ عند العرف علماً لا ظناً ، خصوصاً إذا كان عدلاً ، ذا ملكة رادعة عن الاقتحام في الكذب.

ولو كانت السيرة أمراً غير مرضي للشارع ، كان عليه الردع عن ذلك كما ردع عن العمل بقول الفاسق.

مع أنّك إذا سبرت حياة الأُمم في العصور السابقة ، تقف على أنّ سيرتهم جرت على العمل بخبر الواحد ، خصوصاً بين أهل القرى والبوادي التي لا يتوفر

٢٧٠

فيها الأخبار المتواترة ولا المحفوفة بالقرائن ، وأنّ عمل المسلمين بخبر الثقة لم يكن إلا استلهاماً من السيرة العقلائية التي ارتكزت في نفوسهم.

والحاصل : أنّه لو كان العمل بأخبار الآحاد الثقات أمراً مرفوضاً عند الشرع ، لكان هناك الردع القارع والطرد الصارم حتى ينتبه الغافل ويفهم الجاهل.

ولأجل ذلك نرى أنّه وردت الأخبار المتضافرة حول ردّ القياس ، والرجوع إلى قضاة الجور ، وتقبل الولاية من الجائر لما جرت عليه سيرة العامة من العمل به والرجوع إلى قضاة الجور ، وتقبل الولاية من الجائرين ، وهي أقلّ ابتلاء ـ بمراتب ـ عن العمل بخبر الواحد ، وعلى ضوء هذا ، فهذه السيرة العقلائية حجّة ما لم يردع عنها.

السيرة والآيات الناهية عن الظن

لا شكّ انّ الاحتجاج بالسيرة فرع عدم الردع عنها شأن كلّ سيرة يستدل بها على حكم شرعي وربما يتصور انّ الآيات الماضية والروايات المانعة عن اتّباع غير العلم رادعة عنها وناهيك قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١) ، وقوله تعالى : ( وَإِنّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (٢).

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عنه بوجوه ثلاثة :

١. انّها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظن في أُصول الدين.

٢. المتيقن منها ، ما لم يقم على اعتباره حجّة.

٣. كونها رادعة ، مستلزمة للدور وذلك :

__________________

١. الإسراء : ٣٦.

٢. النجم : ٢٨.

٢٧١

انّ الرادعية تتوقف على عدم كون السيرة مخصصة أو مقيدة للآيات الناهية ، وإلافلا تكون رادعة ، وعدم كونها مخصصة أو غير مقيدة فرع كونها بعمومها أو إطلاقها رادعة للسيرة فيلزم توقف كونها رادعة ، على نفسها.

ثمّ إنّه قدس‌سره أورد على نفسه بورود نفس الدور على اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً.

ولكن الظاهر انّ ما ذكره من الأجوبة الثلاثة تبعيد للمسافة ولا حاجة إليها بل النسبة بين الآيات والسيرة تباين ، فانّ المراد من الظن في الآيات هو الوهم والخيال والخرص والتخمين ، كتسمية الملائكة أُنثى ، وأين هذا من العمل بقول الثقة المخبر عن حس ، المتحرّز عن الكذب؟! فهو وإن كان ظنياً عقلاً ، لكنّه ليس داخلاً في الظن المنهى عنه في الآية ، كما أنّه وإن كان غير علمي في نظر المنطقيين ، لكنّه في نظر العرف اطمئنان وسكون قلب ، فهو لا يقصر عن العلم عندهم.

بقي هنا سؤال وهو انّ المحقّق الخراساني جعل رادعية الآيات للسيرة العملية في مورد خبر الواحد مستلزماً للدور ، مع أنّه صحح رادعية الآيات للسيرة المستمرة بين العقلاء بالعمل بالاستصحاب. قال : يكفي في الردع عن مثله بما دلّ من الكتاب والسنّة على النهي عن اتّباع غير العلم عن مثله من الكتاب والسنّة على النهي عن اتباع غير العلم. (١)

فيتوجه السؤال انّه ما الفرق بين المقامين؟

أضف إلى ذلك أمراً ثالثاً وهو انّه إذا فسر الظن في الآيات بما ذكرناه لا تصلح أن تكون رادعة للسيرة ، لأنّ الظنّ المنهي عنه غير الظن الحاصل من السيرة ، فهو في الأُولى بمعنى الخيال وفي الثانية بعض الاطمئنان.

__________________

١. الكفاية : ٢٨٠ ، مبحث الاستصحاب ، ط المشكيني.

٢٧٢

وأمّا إذا قلنا بوحدة معنى الظن في مورد الآيات والسيرة كما تلقّاه المحقّق الخراساني ، فالجواب الذي ذكره من استلزام الرادعية الدور ليس بصحيح ، بل الآيات الناهية على هذا الفرض رادعة للسيرة من دون دور ، وذلك ببيانين :

الأوّل : انّ العام حجّة قطعية ، والسيرة في مورد خبر الثقة هو حجّية مشكوكة ، فكيف تعارض الحجّة القطعية؟ أمّا انّ الآيات فلحجية ظهور العام في تمام أفراده ما لم يدل دليل قطعي على التخصيص ، وأمّا كون السيرة حجّة مشكوكة لأنّها لا يحتج بها إلا إذا ثبت الإمضاء ولو بالسكوت ، والمفروض عدم إحرازه لاحتمال كون الآيات الناهية رادعة وحجّة في قبالها ، فيكون مرجع الكلام إلى الشكّ في تخصيص الآيات بالسيرة ، ومن المعلوم انّ المرجع عندئذ هو العام حتى يثبت الخلاف.

الثاني : انّ رادعية الآيات وإن شئت قلت : الاحتجاج بالآيات موقوف على عدم ثبوت تخصيصها بالسيرة ، وهو أمر متحقّق بالفعل ، إذ لم يثبت بعد كون السيرة مخصِّصة ، فيكفي بالاحتجاج بعدم الثبوت.

نعم لو قلنا بأنّ الاحتجاج بالآيات متوقف على عدم كون السيرة في الواقع مخصِّصاً ، وهو بعدُ غير حاصل ولا متحقّق ويتوقف عدم كونها مخصصاً على صحّة الاحتجاج لزم الدور.

فمنشأ الخلط توهم توقف صحّة الاحتجاج بالآيات على ثبوت عدم كونها مخصصةً في الواقع ، والحال انّه متوقف على عدم الثبوت وعدم العلم بالتخصيص وهو أمر حاصل.

ما هو الموضوع للحجّية أهو خبر الثقة ، أو الموثوق بصدوره؟

هل عمل العقلاء بخبر الثقة ، بما هو ثقة وإن لم يفد الوثوق بصدور الرواية ،

٢٧٣

أو العمل به لأجل انّه يفيد الوثوق بصدور الرواية عن المعصوم؟ والظاهر هو الثاني ، لأنّ معنى الأوّل كون العمل بخبر الثقة من باب التعبد ، وهو بعيد جداً ، بل العمل به لأجل كونه طريقاً إلى الوثوق بصدور الرواية ، ولأجل ذلك لو لم يُفِدْ ذلك لما عملوا به إلا في صورة الاضطرار.

فإذا كان الأمر كذلك يكون الموضوع للحجّية هو الخبر الموثوق بصدوره فيعم الأقسام الأربعة ، أعني :

١. الصحيح : ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات.

٢. الموثق ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل الثقة ( العدل ) مع دخول غير الإمامي في سنده كالواقفي والفطحي.

٣. الحسن : ما اتصل سنده إلى المعصوم بإمامي ممدوح بلا معارضة ذم مقبول من غير تنصيص على عدالته في جميع مراتبه السند أو بعضه مع كون الباقي بصفة رجال الصحيح بشرط الوثوق بصدوره.

٤. الضعيف ما لا تجتمع فيه أحد الثلاثة وهو على أقسام :

أ. أن يكون مهملاً : أي يكون في السند من هو معنون في الرجال ، ولكن لم يذكر في حقّه شيء من المدح أو الذم ، فأُهمل من جانب التوثيق والتضعيف.

ب. أن يكون مجهولاً ، أي غير معروف بين الرجاليين ، وحكموا عليه بالجهالة.

ج. ما حكم عليه بالضعف في العقيدة أو بالخلط والدس والوضع.

فالقسمان الأوّلان من الضعيف إذا اقترنا بما يورث الوثوق بصدوره يحكم عليه بالحجّية.

فإن قلت : فعلى هذا يكون الدليل هو القرائن لا الخبر.

٢٧٤

قلت : إنّ للخبر دوراً في إفادة الاطمئنان ، ولذلك اعتبرنا من الضعيف ، القسمين الأوّلين.

وهذا هو المختار في باب حجّية الخبر الواحد ، وهو خِيرة الشيخ الأعظم في الفرائد ، قال : والإنصاف انّ الدال منها لم يدل إلا على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والاطمئنان بمؤدّاه ، وهو الذي فسر الصحيح في مصطلح القدماء.

والمعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيداً بحيث لا يعتني به ( الاحتمال ) العقلاء ولا يكون غيرهم موجباً للتحيّـر والتردّد. (١)

الخامس (٢) : الاستدلال على حجّية الخبر الواحد بالعقل

وقد استدل على حجّية الخبر الواحد بتقارير ثلاثة :

الأوّل : إجراء الانسداد الصغير في مورد الأخبار

انّا نعلم إجمالاً بصدور كثير من الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ولا سبيل إلى منع العلم بذلك ، ونحن مكلّفون بما تضمنته هذه الأخبار من الأحكام ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر لا يجب الاحتياط في الأخذ بجميعها الأعم من المظنون والمشكوك والموهوم لعدم إمكانه أو تعسره ، ولا يجوز الرجوع إلى الأُصول العملية لمنافاته للعلم الإجمالي بالتكاليف الموجودة فيها ، فيجب الأخذ بمظنون الصدور فقط ، لأنّ الأخذ بمشكوكه أو موهومه ترجيح للمرجوح على الراجح.

__________________

١. الفرائد : ١٠٦ ، طبعة رحمة اللّه.

٢. وقد عرفت انّ السيرة دليل مستقل وراء الإجماع ، فيكون العقل دليلاً خامساً.

٢٧٥

وأورد الشيخ على هذا التقرير إشكالات ثلاثة ، لم يتعرض المحقّق الخراساني لثانيها ، وردّ الإشكال الأوّل في مقام تقرير الدليل ، وقَبِلَ الإشكال الثالث ، وصار الدليل لأجل الإشكال الثالث ، عقيماً.

تقرير الإشكال : انّ العمل بالخبر المظنون الصدور لأجل كونه موصلاً إلى الظن بصدور الحكم الشرعي ، فيجب العمل بكلّ أمارة لها هذا الوصف ، أي كلّ أمارة تفيد الظن بصدور الحكم ، فعندئذ يكون الخبر والشهرة الفتوائية والإجماع المنقول سواسية.

وهذا الإشكال هو الذي أجاب عنه المحقّق الخراساني في ضمن تقرير الدليل من دون أن يشير إلى الإشكال والجواب.

وحاصل ما دفع به الإشكال في ضمن التقرير : انّ العلم الإجمالي بالتكاليف بين مطلق الأمارات ينحلّ بالعلم بها تفصيلاً عن طريق الاخبار ، وعندئذ ينحل العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلاً والشكّ البدوي في ثبوت التكاليف في مورد سائـر الأمارات غير المعتبرة ـ كالشهرة الفتوائية والإجماع المنقول ـ.

توضيحه : انّ هنا علماً إجمالياً كبيراً ، وهو العلم بالتكاليف في ضمن الأمارات على وجه الإطلاق ; وعلماً إجمالياً صغيراً ، وهو العلم بالتكاليف في ضمن الأخبار التي بأيدينا بأقسامها الثلاثة : المظنونة ، المشكوكة ، أو الموهومة. والشيخ يدّعي انّه لا ينحل العلم الإجمالي الكبير بعزل الأخبار عنه ، بل يبقى العلم الإجمالي بحاله لوجود العلم بالتكليف في ضمن سائر الأمارات فيجب الاحتياط في الجمع ، ولكن المحقّق الخراساني يدّعي انحلال الكبير بعزل الأخبار منها بل بعزل قسم عظيم منه كالتسعين بالمائة من الأخبار فلا يجب الاحتياط في الاخبار.

٢٧٦

وحينئذ يقع الكلام في بيان ما هو الميزان للانحلال وعدمه.

أقول : الميزان في الانحلال وعدمه هو انّه لو كان عدد التكاليف الموجودة في دائرة العلم الإجمالي الكبير مساوياً مع العدد المعلوم في دائرة العلم الإجمالي الصغير ، ينحلُّ قطعاً ، ويكفي في الانحلال احتمال الانطباق ولا يلزم العلم بالانطباق بخلاف ما إذا كان العدد المعلوم في الثانية أقلّ من العدد المعلوم في الأُولى.

مثلاً لو علمنا بأنّ في قطيع الغنم التي فيها البيض والسود ، عشر شياه محرمة ، ثمّ علمنا انّ في خصوص السود منها عشر شياه محرمة واحتملنا أن يكون المحرّمة في الثانية نفس الشياه المحرمة في الأُولى ، فبعزل الشياه السود ينحلّ العلم الإجمالي الأوّل وإن كانت دائرته أوسع ، إذ مع العزل لا يبقى علم إجمالي أبداً ، بخلاف ما إذا كان العدد المعلوم في الثانية أقلّ ، كما إذا علم وراء العلم الإجمالي في القطيع ، بوجود خمسة شياه محرمة في السود منها ، إذ عندئذ لا ينحل وإن عزل عن القطيع.

هذه هي الضابطة ، وأمّا انّ المقام من قبيل أي من القسمين فهو أمر وجداني لا برهاني ، فلو قلنا : إنّ عدد التكاليف المعلومة في دائرة العلم الإجمالي الكبير لا يزيد على العدد المعلوم في دائرة الإجمالي الصغير ، فبعزل الاخبار بل بعزل قسم عظيم منها ، ينحل العلم الإجمالي الكبير ، فلا يجب الاحتياط في سائر الأمارات كالشهرات والإجماعات المنقولة ؛ وأمّا لو كان العدد المعلوم في الدائرة الأُولى أكثر يبقى العلم الإجمالي الكبير بحاله ـ وإن عزلت الأخبار ـ فلا يختص الاحتياط بخصوص الأخبار ، بل يجب فيها وفي سائر الأمارات.

ولعلّ الحقّ مع الشيخ بالنظر إلى ما نقلناه عن سيد مشايخنا البروجردي من أنّ في الفقه الشيعي مسائل كثيرة ليس لها دليل سوى الشهرة الفتوائية ، وهذا

٢٧٧

يؤيد انّ العلم بالتكاليف أوسع بما ورد في الأخبار.

وأمّا الإشكال الثاني (١) فقد تركه المحقّق الخراساني ونحن نقتفيه ، وإنّما المهم هو الإشكال الثالث.

حاصله : انّ المطلوب هو إثبات حجّية الخبر الواحد ، وهذا الدليل يثبت العمل بالأخبار في باب الاحتياط ، وتظهر الثمرة في الأُمور التالية :

١. لو كان الخبر الواحد حجّة تكون أمارة ، والأمارة حجّة في لوازمه العقلية والعادية وبالتالي يترتب عليها أحكامها الشرعية ، بخلاف ما لو كان الأخذ بها من باب الاحتياط فيكون أصلاً ومثبتات الأُصول ليست بحجّة.

٢. لو كان الخبر الواحد حجّة ، يصحّ نسبة مضمونه إلى الشارع لقوله : « ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان » ولا يكون تشريعاً ، بخلاف ما لو كان أصلاً فلا تصحّ نسبة مضمونه إليه.

٣. لو كان الخبر الواحد حجّة يكون مقدماً على الأُصول اللفظية كالعموم والإطلاق فيخصص العموم ويقيد الإطلاق به ، بخلاف ما لو كان الأخذ به من باب الاحتياط فلا يقدّم الأصل العملي على الأصل اللفظي.

٤. لو كان الخبر الواحد حجّة ، يقدم على الأُصول العملية مطلقاً نافية كانت أو مثبتة ، بخلاف ما لو كان أصلاً فيقدم على الأصل النافي للتكليف لكونه على خلاف الاحتياط ولا يقدم على الأصل المثبت للتكليف ، فإذا كان مفاد الأصل مثبتاً للتكليف والخبر نافياً له ، لأنّ الأخذ بالثاني من باب الاحتياط والمفروض كونه على خلاف الاحتياط.

__________________

١. أشار إليه الشيخ بقوله : إنّ اللازم من كون مضمونه حكم اللّه ....

٢٧٨

التقرير الثاني : إجراء دليل الانسداد في خصوص الأجزاء والشرائط

استدل الفاضل التوني على حجّية الخبر الموجود في الكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر ، وقال : إنّا نقطع ببقاء التكليف في العبادات والمعاملات ، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما تثبت بالخبر الواحد بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الأُمور عن كونها هذه الأُمور عند ترك العمل بخبر الواحد.

وأورد عليه الشيخ بوجهين :

الأوّل : ما أورده أيضاً على التقرير الأوّل ـ مع تفاوت يسير ـ وقال : إنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ؛ فاللازم إمّا الاحتياط إن لم يستلزم الحرج ، أو العمل بكلّ ما دلّ على جزئية شيء أو شرطيته.

واستشهد على ذلك بأنّه لو عزلنا أخبار العدول من الكتب الأربعة ثمّ ضممنا الباقي منها إلى سائر الأخبار الواردة في غيرها لبقى العلم الإجمالي بحاله.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بما أورده على التقرير الأوّل وقال : إنّ العلم الإجمالي وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار ، إلا أنّ العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم عليهم‌السلام بقدر الكفاية بين تلك الطائفة (١) أو العلم باعتبار تلك الطائفة كذلك بينها ، يوجب انحلال ذاك العلم وصيرورة غيره خارجاً عن طرف العلم.

وحاصله : انّه إذا ضُمّت الروايات المعلومة الصدور إلى معلومة الاعتبار

__________________

١. المراد من الطائفة ما ورد في كلام صاحب الوافية : الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة من غير فرق بين كونها مفيداً للعلم ، أو علمياً دلّ على اعتبار الدليل الخاص.

٢٧٩

يبلغ إلى حدّ قد ينحل معه العلم الإجمالي بالأجزاء والشرائط بين مطلق الأخبار فليس لازم هذا التقريب الاحتياط المطلق بين جميع الأخبار حتى يترتب عليه ما ترتب ، ثمّ إنّه رحمه اللّه احتمل عدم الانحلال ثمّ أمر بالتأمّل.

الثاني : انّ المطلوب في المقام هو صيرورة الخبر الواحد من باب كونه أمارة ودليلاً اجتهادياً حتى تترتب عليه الآثار الأربعة.

أ : حجّية مثبتاته وإثبات لوازمه ليترتب على اللازم ما له من الآثار الشرعية.

ب : صحّة نسبة مضمونه إلى اللّه سبحانه أخذاً بقوله عليه‌السلام : « ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان ».

ج : كونه وارداً على الأُصول العملية ورافعاً لموضوعها مثلاً لو كان مقتضى سائر الأُصول هو الاحتياط في الجزء والشرط كاستصحاب وجوبهما في حال النسيان والجهل ، وكان مقتضى الخبر النفي ، فلا يقدم الخبر عليه ، لأنّه على خلاف الاحتياط فليس في مثل هذا الخبر ملاك الأخذ به في مقابل الأصل فإذا نسي السورة ، فمقتضى استصحاب وجوبها في حال النسيان هو إعادة الصلاة ولكن مقتضى قوله : « لا تعاد الصلاة إلا من خمس » عدمه لأنّه ليس من الأُمور الخمسة.

د : كونه مقدّماً على الأُصول اللفظية من إطلاق وعموم.

والدليل الذي أقامه صاحب الوافية لا يثبت إلا كونه حجّة من باب الاحتياط فيكون أصلاً من الأُصول لا يترتب عليه تلك الآثار.

التقرير الثالث :

ما ذكره المحقّق الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب الحاشية على المعالم باسم هداية المسترشدين وقد لخّصه الشيخ الأنصاري على وجه لا يخلو عن اختصار مخل ، وكلامه قدس‌سره في هداية المسترشدين أيضاً لا يخلو عن إطناب مخل ،

٢٨٠