إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

والأولى أن يجاب عن أصل الإشكال بوجهين آخرين :

الأوّل : انّ الهدف من الاستدلال بالآية ليس إثبات عدم الاستحقاق ليكون موافقاً لما يحكم به العقل من قبح العقاب بلا بيان ، بل الهدف تحصيل المؤمِّن لمرتكب الشبهة سواء أكان مستحقاً للعقاب لكنّه صار معفوّاً أو لم يكن ، وظاهر الآية كفيل بإثبات مثل هذا.

والحاصل : انّ البحث في المقام ليس كلامياً دائراً مدار الاستحقاق وعدمه ، بل أُصولي يدور حول المؤمّن للعذاب والمسوّغ للارتكاب وعدمهما ، والآية وافية بإثباتهما.

وبذلك يعلم ضعف ما أفاده المحقّق النائيني من أنّ الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأنّ مفادها نفي فعلية التعذيب لا استحقاقه ، لأنّ النزاع في البراءة إنّما هو في استحقاق العقاب على ارتكاب الشبهة وعدم استحقاقه لا في فعلية العقاب. (١)

أقول : إنّ ما يهمّ الفقيه هو تحصيل المسوّغ لارتكاب مشتبه الحرمة ، وتحصيل المؤمّن من العذاب ، ويصلح لإثباته ، ما دلّ على نفي الفعليّة وإن لم يدل على نفي الاستحقاق.

الثاني : انّ الآية ظاهرة في نفي الاستحقاق خصوصاً إذا فسر قوله : ( وما كُنّا ) بمعنى نفي الإمكان ، وما هذا إلا لأجل عدم استحقاقه العذاب مالم يصل إليه البيان.

٤. النقض بالمستقلات العقلية كقبح الظلم نظير النفس والخيانة بالأمانة حيث يصحّ العذاب وإن لم يكن هناك بلاغ سماوي.

__________________

١. فوائد الأُصول : ٣ / ٣٣٤.

٣٤١

والإجابة عنه واضحة ، لأنّ الآية ناظرة فيما يحتاج إلى البيان ، على وجه لولاه لما وقف عليه الإنسان ولما كان واضحاً له. وأين هذا من المستقلات العقلية؟! أضف إليه انّه مبيّن بالرسول الباطني وإن لم يكن مبيّناً بالرسول الظاهري.

وربما ذكرنا علم انّ الآية وافية لما يرومه الأُصولي في المقام ، نعم إنّما يتم الاعتماد عليها إذا لم يرد بيان على لزوم الاجتناب ، ولو بالعنوان الثانوي كإيجاب الاحتياط والتوقف.

الآية الثانية : التكليف فرع الإيتاء

قال سبحانه : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَة مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفساً إِلاّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعَدَ عُسْر يُسْراً ). (١)

والاستدلال مبني على كون المراد من الموصول : التكليف ، ومن الإيتاء هو الإعلام والتعريف ، فيكون معنى الآية لا يكلّف اللّه نفساً إلا تكليفاً أعلمها إيّاه.

أقول : إنّ الموصول في قوله : ( إلا ما آتاها ) يحتمل أحد الأُمور الثلاثة :

١. المال.

٢. العمل ، أي موضوع التكليف.

٣. التكليف.

فعلى الأوّل يكون المراد من الإيتاء هو الإعطاء ، وكأنّه قال : « لا يكلّف اللّه نفساً إلا بقدر المال الذي أعطاها ».

وعلى الثاني يكون المراد من الإيتاء هو الإقدار والتمكين ، فيكون المراد لا يكلّف اللّه نفساً إلا الفعل الذي أقدرها عليه.

وعلى الثالث يكون المراد من الإيتاء هو الإعلام والتعريف.

__________________

١. الطلاق : ٧.

٣٤٢

ولكن سياق الآية يؤيد الوجهين الأوّلين لأنّها وردت في سورة الطلاق التي تعرضت لحقوق النساء ، ففي الآية المتقدمة عليها أمر الأزواج بالقيام بالوظائف التالية :

١. ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ).

٢. ( وَلا تُضارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ).

٣. ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْل فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ).

٤. ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ).

٥. ( وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوف ). (١)

فهذه الجمل التي تحكي عن الحقوق المالية للزوجة على الزوج تكون قرينة على أنّ المراد أحد المعنيين الأوّلين وإن كان الثاني أظهر لكونه عاماً شاملاً للأوّل وغيره.

وحاصل الآية : انّ ما سبق من الأحكام والحقوق يقوم به كلّ إنسان حسب وسعه ، لأنّ اللّه سبحانه لا يكلّف نفساً إلا ما أتاها من المقدرة والإمكان ، ولا يكلّف فوقه ، وعلى ذلك لا صلة للآية بباب انّ التكليف فرع البيان.

فإن قلت : إنّ الإمام استشهد بالآية في باب المعرفة ، ففي رواية عبد الأعلى ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : قلت له : هل كلّفوا ( الناس ) المعرفة؟ قال : « لا ، على اللّه البيان ، ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ) (٢) و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما أَتاها ) (٣) ». (٤)

__________________

١. الطلاق : ٦.

٢. البقرة : ٢٨٦.

٣. الطلاق : ٧.

٤. الكافي : ١ / ١٦٣ ، كتاب الحجّة ، باب البيان والتعريف ، الحديث ٥.

٣٤٣

قلت : إذا كان المراد من المعرفة الأُمور الغيبية الخارجة عن حدود علم الإنسان العادي ، فالتكليف به مع عدم البيان داخل في التكليف بغير المقدور ، وعلى ذلك فيكون الإيتاء أيضاً بمعنى الإقدار والتمكين ، لا الإعلام ، فتكون الآية ردّاً لمن يجوز التكليف بما لا يطاق.

حتى لو قلنا أيضاً بأنّ إيتاء كلّ شيء بحسبه وانّ إيتاء المال إنّما يتحقّق بالإعطاء وإيتاء الشيء فعلاً أو تركاً إنّما يكون بإقدار اللّه تعالى عليه ، وإيتاءالتكليف ، بالوصول والإعلام ، فلا يصلح للاستدلال إلا في التكاليف التي يكون التكليف بها ـ بلا إعلام ـ تكليفاً بغير المقدور كأحوال الحشر والنشر ومعرفة الأنبياء والمعارف الغيبيّة التي لولا لحوق البيان بها يلزم التكليف بغير المقدور ، إذ لا طريق لمعرفتها ، وأين هذا من ترك مشتبه الحرام الذي أمر مقدور بالنسبة إلى المكلّف الملتفِت ، المحتمِل للحرمة.

الآية الثالثة : الإضلال فرع البيان

قال سبحانه : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذ هَدَاهُم حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم ). (١)

وجه الاستدلال : أنّ التعذيب من آثار الضلالة ، والضلالة معلّقة على البيان في الآية ، فيكون التعذيب معلّقاً عليه ، فيُنتج أنّه سبحانه لا يُعاقب إلا بعد بيان ما يجب العمل أو الاعتقاد به.

فإن قلت : ما هو المراد من إضلاله سبحانه ، فإنّ الإضلال أمر قبيح فكيف نسب إلى اللّه سبحانه؟!

قلت : إنّ الإضلال يقابل الهداية وهي على قسمين ، فيكون الإضلال أيضاً

__________________

١. التوبة : ١١٥.

٣٤٤

مثلها.

توضيحه : انّ للّه سبحانه هدايتين : هداية عامة تعمُّ جميع الناس من غير فرق بين إنسان دون إنسان حتى الجبابرة والفراعنة ، وهي تتحقق ببعث الرسل وإنزال الكتب ودعوة العلماء إلى بيان الحقائق مضافاً إلى العقل الذي هو رسول باطني ، وإلى الفطرة التي تسوق الإنسان إلى فعل الخير.

وأمّا الهداية الخاصة ، فهي تختصُّ بمن استفاد من الهداية الأُولى ، فعندئذ تشمله الألطاف الإلهية الخفيّة التي نعبّر عنها بالهداية الثانوية أو الإيصال إلى المطلوب.

قال سبحانه : ( وَالّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُم ). (١)

وقال تعالى : ( وَالّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ). (٢)

وأمّا إذا لم يستفد من الهداية الأُولى ، فلا يكون مستحقّاً للاستفادة من الهداية الثانية ، فيضل بسبب سوء عمله ، فإضلاله سبحانه ، كناية عن الضلال الذي اكتسبه بعمله بالإعراض عن الاستضاءة بالهداية الأُولى.

قال سبحانه : ( فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الفَاسِقِين ). (٣)

فإضلاله سبحانه كإزاغته نتيجة زيغه وانحرافه وكبره وتولّيه عن الحق.

وبذلك يظهر مفاد كثير من الآيات التي تنسب الضلالة إلى اللّه سبحانه ، فالمراد هو انقباض الفيض لأجل تقصيره ، فيصدق انّه أضله سبحانه وإن كان

__________________

١. محمد : ١٧.

٢. العنكبوت : ٦٩.

٣. الصف : ٥.

٣٤٥

عن تقصير ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّاب ) (١) أي يضلّه لأنّه مسرف كذّاب ، وفي آية أُخرى : ( كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرتَاب ) (٢) فإضلاله نفس عدم هدايته وقبض فيضه لعدم قابليته للهداية الثانوية لأجل إسرافه وكذبه وارتيابه.

الآية الرابعة : الهلاك والحياة بعد إقامة البيّنة

قال سبحانه : ( إِذْ أَنْتُمْ بِالعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالعُدْوَة القُصوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَو تَواعَدْتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعادِ وَلكِنْ لِيَقضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيم ). (٣)

والاستدلال بالآية فرع توضيح مفرداتها ومقاطعها :

١. ( العدوة ) بمعنى الناحية من كلّ شيء ، والمراد منها في الآية ناحية الوادي ، فكان النبي والمسلمون في الناحية المنخفضة من الوادي ، ولذلك وصفها سبحانه بقوله : ( بِالعُدْوَة الدُّنيا ) وهي الأدنى ، كما كانت قريش في الناحية العليا منه ، لأنّ الوافد من مكة إلى المدينة إذا وصل إلى قريب من وادي بدر تنخفض الأرض لأجل قربها من ساحل البحر.

٢. ( الركب ) جمع الراكب ، والمراد منه العير ، وهي قافلة قريش التجارية التي كان يسوقها أبو سفيان فكانت على ساحل البحر الذي هو أسفل من مقام الطائفتين الأُولتين.

٣. ( وَلَو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ) ، فهو يشير إلى أنّ اجتماع

____________

١. غافر : ٢٨.

٢. غافر : ٣٤.

٣. الأنفال : ٤٢.

٣٤٦

الطائفتين في تلك المنطقة كان بتقدير من اللّه لا بإرادة من الجماعة ولو تواعدوا على اللقاء لاختلفوا ، إذ كان بين صفوف المسلمين من يخوِّفهم من سطوة قريش وكثرة عدّتهم.

٤. ( ليقضي اللّه أمراً كان مفعولاً ) أي جمع سبحانه الطائفتين في ذلك المكان لأمر قضاه وأوجبه ، وهو ظهور معاجز الإسلام على المشركين التي منها غلبة الفئة القليلة التي لم يكن لهم عدَّة وعُدّة أمام المشركين ، ولكنّهم غلبوا الفئة الكثيرة وقتلوا عدّة منهم وأسروا آخرين.

٥. فَعلَ ذلك ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة ) فلو كان المراد من الهلاك والحياة الهلاك والحياة الأُخرويين ، فيدل انّ العذاب فرع إتمام الحجّة وإقامة الدليل على صدق دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

نعم لو كان المراد من الهلاك والحياة ، هو الموت والبقاء ، فيدل على أنّه تعلّقت مشيئته سبحانه بأنّ الكافر سواء قتل أو بقى ، أن يكون على بصيرة من الأمر وهو غير المطلوب. وليست الآية ظاهرة في المعنى الأوّل لو لم نقل بظهورها في المعنى الثاني.

إلى هنا تمّ الاستدلال بالآيات ، وإليك الاستدلال بالسنّة.

الاستدلال بالسنّة

١. حديث الرفع

روى الصدوق في التوحيد والخصال عن أحمد بن محمد بن يحيى ، عن سعد ابن عبد اللّه ، عن يعقوب بن يزيد ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز بن عبد اللّه ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن أُمّتي تسعة أشياء : الخطأ ،

٣٤٧

والنسيان ، وما أُكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة ». (١)

ورواه محمد بن أحمد النهدي مرفوعاً عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام : « وضع عن أُمّتي تسع خصال : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، وما استكرهوا عليه ، والطيرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ، والحسد مالم يظهر بلسان أو يد ». (٢)

ورواة الحديث الأوّل كلّهم ثقات ، والرواية صحيحة.

وأمّا أحمد بن محمد بن يحيى ، فهو وإن لم يوثّق ظاهراً ، ولكن المشايخ أرفع من التوثيق ، فهو من مشايخ الصدوق ، فهو ثقة قطعاً.

نعم الرواية الثانية مرفوعة ، مضافاً إلى أنّ محمد بن أحمد النهدي مضطرب فيه ، كما ذكر النجاشي في حاله.

وتوضيح الاستدلال بالحديث يتوقف على بيان أُمور :

الأوّل : الفرق بين الرفع والدفع

الرفع : عبارة عن إزالة الشيء بعد وجوده وتحقّقه ، ولكن الدفع هو المنع عن تقرر الشيء وتحقّقه عند وجود مقتضيه ، هذا هو المعروف ، ويؤيده اللغة وموارد الاستعمال.

قال في القاموس : رفعه ضد وضعه ، فإذا كان الوضع هو وجود الشيء في مكان ، فيكون الرفع إزالة وجوده ، بعد وضعه.

قال سبحانه : ( وَرَفَعَ أَبَويْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ). (٣)

__________________

١ و ٢. الوسائل : ١١ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١.

٣. يوسف : ١٠٠.

٣٤٨

وقال : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماوات بِغَيْر عَمَد تَرَوْنَها ). (١)

فكانت السماء والأرض ملتصقتين ، ففصل السماء عن الأرض ، فأزالها عن مكانها.

وأمّا الدفع ، فقال في المصباح المنير : دفعته دفعاً أي نحيته فاندفع ، يقول سبحانه : ( انَّ اللّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) (٢) أي يحفظهم أن يصل إليهم شرّالأعداء ، وقال سبحانه : ( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ * ما لَهُ مِنْ دَافِع ) (٣) أي ماله من شيء يمنع عن وقوعه وتحقّقه بعد تعلّق إرادته على الوقوع.

فإن قلت : إذا كان الرفع ممّا لا يتعلّق إلابالأمر الموجود ، فما هو الأمر الموجود الذي تعلّق هو به؟

قلت : الأمر الموجود عبارة عن نفس هذه الأُمور التسعة ، فلا شكّ أنّها أُمور متحقّقة في صفحة الوجود ، فالرفع تعلّق بها باعتبار كونها أُمور وجودية. وبالجملة المصحح لاستعمال الرفع في الحديث هو تعلّقه بالأُمور التسعة الوجودية من دون حاجة إلى تقدير مقدَّر في هذا الباب.

وعلى ضوء ما ذكرنا ، فالرفع استعمل في معناه الحقيقي ، أي رفع التسعة بعد وجودها ، نعم رفعها ليس بالحقيقة بل بالادّعاء كما سيوافيك.

هذا كلّه حسب الإرادة الاستعمالية ، وأمّا حسب الإرادة الجدية فلا شكّ من لزوم تقدير مقدّر ليصحّ رفعه حقيقة لا ادّعاء مصححاً لنسبة الرفع إلى الأُمور التسعة ، وهذا ما سيأتي في الأمر الثالث.

__________________

١. الرعد : ٢.

٢. الحج : ٣٨.

٣. الطور : ٧ ـ ٨.

٣٤٩

ثمّ إنّ الرفع إن استعمل مجرّداً عن حرف الجرّ ، فالمراد رفعه مع الاعتداد به دون فرق بين كونه حسيّاً أو معنوياً ، قال سبحانه : ( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ وَرَفََعَ بَعضَهُمْ دَرَجات ). (١)

وأمّا إذا استعمل معها كما في المقام ، فيراد منه عدم الاعتداد بالمرفوع كما يقال : رفعت عنه الضريبة.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام فيما هو المصحح لنسبة الرفع إلى المكرَه والمضطرّ والخاطئ ، والناسي والجاهل مع وجودها في الحياة ، وهذا هو الذي نطرحه في الأمر الثاني.

الثاني : في تصحيح نسبة الرفع إلى التسعة مع وجودها

إذا كان الرفع بمعنى إزالة وجود الشيء ، فكيف نسب إلى هذه الأُمور مع أنّها متوفرة في صفحة الوجود؟

والجواب : انّ الرفع وإن تعلّق برفع نفس الأُمور ، لكن الكذب إنّما يلزم إذا كان اخباراً عن عالم التكوين ، وأمّا إذا كان إخباراً عن عالم التشريع بمعنى رفع هذه الأُمور بلحاظ عدم آثارها فلا يلزم الكذب نظير قوله : لا ضرر ولا ضرار ، ولا بيع إلا في ملك ، ولا طلاق إلا على طهر ، ولا يمين للولد مع والده ، ولا يمين للمملوك مع مولاه ، وللمرأة مع زوجها ، ولا رضاع بعد فطام ، ولا نذر في معصية اللّه ، ولا يمين للمكره ، ولا رهبانية في الإسلام.

فهذه الأُمور المرفوعة موجودة في الحياة ولكن لما كان إخباراً عن صفحة التشريع ، وكانت هذه الأُمور مسلوبة الأثر فيها ، يصحّ الإخبار عن عدمها ، باعتبار عدم آثارها.

__________________

١. البقرة : ٢٥٣.

٣٥٠

ثمّ إنّ المحقّق النائيني صحح نسبة الرفع إلى الأُمور التسعة بأنّ الرفع تشريعي لا بالملاك الذي ذكرناه ـ من أنّ رفعها بملاك رفع آثارها ـ بل بملاك آخر وهو انّه ليس إخباراً عن أمر واقع ، بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع والنفي ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » ، وكقوله : « لا شكّ لكثير الشكّ » ونحو ذلك ممّا يكون متلوُّ النفي أمراً ثابتاً في الخارج. (١)

يلاحظ عليه مضافاً إلى ما ذكره السيد الأُستاذ ـ من أنّ النبي ليس بمشرع ، فلو استعمل النفي لغاية التشريع يلزم كونه مشرعاً (٢) ـ : أنّ ما ذكره خلاف المتبادر من أمثالها ، بل ربما يكون الحكم المنشأ غير واضح لدى العرف في مثل « لا رضاع بعد فطام » أو لا يمين للزوجة مع زوجها ، فالحقّ انّ الجملة خبرية والمصحح لنسبة الرفع كونها ناظرة إلى عالم التشريع والغاية من رفعها ، هو الإخبار عن رفع آثارها.

الثالث : ما هو المرفوع ثبوتاً

قد عرفت أنّ الرفع يتعلّق بالشيء الموجود المتحقّق ، وليس هو إلا نفس هذه الأُمور الوجودية فهي مرفوعة ادّعاء ، لكن الرفع الادّعائي رهنُ وجود رفع أمر حقيقة ليكون مسوِّغاً للرفع الادّعائي المجازي ، وهذا ما نعبر عنه بما هو المرفوع ثبوتاً.

وبالجملة تارة يقع الكلام في تعيين ما هو المرفوع إثباتاً ، وأُخرى ما هو المرفوع ثبوتاً الذي هو المصحح للرفع الإثباتي؟ فنقول :

أمّا إثباتاً ، فلا شكّ انّ مقتضى البلاغة ، هو تعلّق الرفع بنفس هذه الأُمور

__________________

١. فوائد الأُصول : ٣ / ٣٤٣.

٢. تهذيب الأُصول : ٢ / ١٤٨.

٣٥١

الوجودية المتحقّقة ، وتقدير أيّة كلمة بعد الرفع ، يوجب سقوط الكلام عن ذروة البلاغة كتقدير لفظ « الأهل » قبل القرية في قوله سبحانه : ( واسْأَلِ الْقَريةَ الّتي كُنّا فِيها ) (١) ، أو قبل « البطحاء » في شعر الفرزدق ، أعني قوله :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيـتُ يعـرفـه والحـلّ والحـرم

فانّ القائل يدّعي أنّ الأمر بلغ من الوضوح إلى درجة حتى أنّ القرية واقفة بما نقول ، أو أنّ سيد الساجدين بلغ من المعروفية إلى درجة حتى أنّ البطحاء تعرفه ، فتقدير أيّة كلمة في تلك المواضع يوجب سقوط الكلام. وقد عرفت انّ المصحح لاستعمال كلمة الرفع هو كون هذه الأُمور التسعة أُموراً وجودية.

ومع الاعتراف بذلك وانّ متعلّق الرفع هو نفس هذه الأُمور ، لكن لما كان نسبة الرفع إلى هذه الأُمور مجازيّاً وادّعائياً تتوقف نسبة الرفع إلى هذه الأُمور ، إلى مسوِّغ بمعنى رفع أمر حقيقة لا ادّعاء ليكون مصححاً لنسبته إلى هذه الأُمور التسعة ادّعاءً ، وما هو إلاكون هذه الأُمور مسلوبة الأثر في عالم التشريع ، وعندئذ يقع الكلام في تعيين ما هو الأثر الذي صار سلبه ، مسوِّغاً لنسبة الرفع إلى هذه الأُمور مجازاً وادّعاء؟ فقد اختلفت كلمتهم في تعيينه.

فمن قائل بأنّ المرفوع ثبوتاً هو المؤاخذة ؛ إلى آخر ، بأنّ المرفوع هو الأثر المناسب كالضرر في الطيرة والكفر في الوسوسة ، والمؤاخذة في الباقي; إلى ثالث ، بأنّ المرفوع جميع الآثار. وإليك دراسة الاحتمالات :

١. المرفوع المؤاخذة

إنّ رفع هذه الأُمور كناية عن رفع المؤاخذة ، فمن ترك الواجب أو ارتكب الحرام عن جهل ونسيان لم يؤاخذ ، وأورد عليه بوجوه :

__________________

١. يوسف : ٨٢.

٣٥٢

١. المؤاخذة أمر تكويني ، لا يناسب وضعُها ولا رفعُها ، مقام التشريع ، فانّ ما يعود إلى الشارع في ذلك المقام رفع الحكم الشرعي ووضعه ، لا رفع الأمر التكويني أو وضعه.

يلاحظ عليه : أنّ المؤاخذة لما كانت من توابع الحكم استحقاقاً ، أو جعلاً صحّ للشارع حتى في مقام التشريع وضعها ورفعها.

وبعبارة أُخرى : كان للشارع حفظ إطلاق الحكم ، وفعليته في حقّ الجاهل الشاك بإيجاب الاحتياط عليه ، المستلزم للعقوبة لدى المخالفة ، فالدليل على رفع الحكم الواقعي بمعنى عدم فعليته ، دليل على عدم إيجاب الاحتياط المستلزم لعدم العقوبة ، فالعقوبة وعدمها ممّا يترتبان على الحكم الواقعي بتوسط إيجاب الاحتياط وعدمه ، وهذا المقدار من الترتب يصحح رفعها ووضعها من جانب الشارع.

وإلى ما ذكرنا يشير المحقّق الخراساني « انّها وإن لم تكن بنفسها أثراً شرعياً إلا أنّها ممّا يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره ـ إيجاب الاحتياط ـ فالدليل على رفع الحكم ، دليل على رفع إيجاب الاحتياط المستتبع عدم استحقاق العقوبة لدى المخالفة.

٢. انّ المؤاخذة من آثار الحكم المنجّز ، والمفروض عدم تنجّزه فكيف يصح الإخبار عن رفعها؟

يلاحظ عليه : أنّه يكفي في استحقاق العقاب قابلية المورد لجعل الحكم الفعليّ منجزاً وإن لم يكن منجّزاً ، وذلك لصحّة تكليف الجاهل بالحكم ، الملتفت إليه ، بالاحتياط ، والمكره ، بتحمل الضرر ، والمضطرّ بقبول المشقة ، فقابلية الحكم الفعلي للتنجّز ، كاشف عن وجود المقتضي للعقاب ، وهو كاف في صدق الرفع.

٣. انّه على خلاف إطلاق الحديث ، ولعلّه أتقن الإشكالات المتوجهة إلى هذا الوجه ، وسيوافيك دعمه.

٣٥٣

٢. المرفوع هو الأثر المناسب

إنّ المتبادر من الوضع والرفع في محيط التشريع هو ما يعدُّ أثراً مناسباً للشيء فمع وجود الخصيصة الظاهرة للشيء يُحسن الاخبار عن وضعها ، ومع عدمها يحسن الاخبار عن عدمها ، ولأجل ذلك صحّ للشاعر أن يقول :

« أسد عليّ وفي الحروب نعامة ».

كما صحّ للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يصف المتقاعدين عن الجهاد بقوله :

« يا أشباه الرجال ولا رجال ». (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يصحّ إذا كان الأثر المناسب للشيء ، أمراً واحداً يدور عليه رحى الوضع والرفع ، كما هو الحال في الأسد ، وأمّا إذا كانت للشيء آثار متعددة وكلّها بالنسبة إلى الشيء على حدّ سواء فلا معنى لجعل واحد منها ملاكاً للرفع ، دون بعض كما في المقام.

٣. المرفوع هو عموم الآثار

إنّ وصف الشيء بكونه مرفوعاً في صفحة التشريع ، إنّما يصحّ إذا كان الشيء فاقداً للأثر مطلقاً فيصحّ للقائل بأنّه مرفوع ، وإلا فلو كان البعض مرفوعاً دون بعض لا يصحّ ادّعاء كونه مرفوعاً ، من غير فرق بين الآثار التكليفية كحرمة شرب الخمر ووجوب جلده ، أو الوضعية كالجزئية والشرطية عند الجهل بحكم الجزء والشرط أو نسيانهما وكالصحّة في العقد المكره.

ويؤيّد ذلك ، إطلاق الحديث أوّلاً ، وكونه حديث المنّة ، ومقتضاها رفع تمام الآثار ثانياً ، ومقتضى صحيحة البزنطي ثالثاً.

__________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ٢٧.

٣٥٤

روى البرقي ، عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي جميعاً ، عن أبي الحسن عليه‌السلام في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال : « لا ، قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وضع عن أُمّتي : ما أكرهوا عليه ، وما لم يطيقوا ، وما أخطأوا ». (١)

وقد تمسك الإمام بالحديث على بطلان الطلاق وعدم ترتّب الصحّة التي هي حكم وضعي ، فيكشف عن أنّ المرفوع أعمّ من المؤاخذة والحكم التكليفي والوضعي.

فإن قلت : إنّ الحلف بالطلاق وقرينيه باطل اختياراً فضلاً عن الاضطرار ، لأنّه قد تقرر في محلّه ، انّ الطلاق وأضرابه لا يتحقق إلا بصيغة خاصة ، ولا يقع بقولنا : أنت خلية أو برية أو بالحلف به ، وعلى ذلك فلا حاجة في الحكم بالبطلان إلى حديث الرفع ، وهذا يكشف عن أنّ التمسك به كان من باب الجدل وإقناع الخصم بما هو معتقد به ، ولا يستفاد منه ، أنّ أصل التمسك به صحيح على مذهب الحقّ.

قلت : المتبادر من الرواية هو كون حديث الرفع صالحاً لرفع كلّ أثر تكليفي أو وضعي وكان هذا أمراً مسلّماً بين الإمام والمخاطب ، نعم كان تطبيق الكبرى على الصغرى من باب الجدل. والدليل على ذلك انّ الاعتقاد بعمومية المرفوع لم يكن أمراً معنوناً في فقه العامة في ذاك الأعصار حتى يكون ذاك من مذهبهم ومعتقدهم ، بل كان التمسك به من باب كونه هو المتبادر عند الافهام ، لا من باب كونه مقبولاً عندهم.

__________________

١. الوسائل : ١٦ ، كتاب الأيمان ، الباب ١٢ ، الحديث ١٢ ، نقلاًعن المحاسن : ١٣٦.

٣٥٥

الرابع : عموم الموصول للحكم والموضوع المجهولين

قد عرفت أنّ المجوّز لنسبة الرفع إلى الأُمور التسعة ادّعاءً ، هو رفع جميع الآثار الشرعية حقيقة بلا ادّعاء ، من غير فرق بين كون الحكم الشرعي كلياً ، كما في الشبهات الحكمية ؛ أو جزئياً ، كما في الشبهات الموضوعية ، ولكن ربما يتصور اختصاصه بالأمر الثاني وعدم عمومه بالأوّل ، وهذا ما ندرسه في هذا الأمر ، وعلى ثبوت هذا الأمر تدور دلالة الصحيحة على البراءة في الشبهة الحكمية وعدمها.

وقد استدل الشيخ الأعظم (١) بها على المقام بالنحو التالي : إنّ حرمة شرب التتن مثلاً ممّا لا يعلمون ، فهي مرفوعة عنهم ، ومعنى رفعها كرفع الخطأ والنسيان ، رفع آثاره أو خصوص المؤاخذة فهو كقوله عليه‌السلام : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ». وقال المحقّق الخراساني : الإلزام المجهول ممّا لا يعلمون ، فهو مرفوع فعلاً وإن كان ثابتاً واقعاً.

ثمّ إنّ هنا محاولات لتخصيص الحديث بالموضوع وإخراج الجهل بالحكم عنها ، وإليك بيانها واحدةً تلو الأُخرى.

١. وحدة السياق

إنّ وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من الموصول « فيما لا يعلمون » هو الموضوع المجهول كالمائع المردّد بين الخمر والخل ، بشهادة أنّه المراد من الموصول في الفقرات المعطوفة ، أعني : « وما لا يطيقون » و « ما اضطروا إليه » ، فانّ ما لا يطاق ، أو ما يضطرّ إليه الإنسان ، عبارة عن الفعل كالصوم للشيخ والشيخة

__________________

١. الفرائد : ١٩٥ بتوضيح.

٣٥٦

وشرب الخمر للتداوي.

وقد أجاب المحقّق النائيني عن الإشكال بقوله : إنّ المرفوع في جميع الأشياء التسعة إنّما هو الحكم الشرعي ، وإضافة الرفع في « غير ما لا يعلمون » إلى الأفعال الخارجية ، إنّما هو لأجل انّ الإكراه والاضطرار ونحو ذلك إنّما يعرض الأفعال لا الأحكام وإلا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي ، كما أنّ المرفوع في « مالا يعلمون » أيضاً هو الحكم الشرعي وهو المراد من « الموصول » والجامع بين الشبهات الحكمية والموضوعية. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّ المرفوع هو الأحكام مطلقاً حكمية كانت أو موضوعية صحيح حسب الإرادة الجدية ، ولكن مصبَّ الإشكال هو الإرادة الاستعمالية بأنّ الرفع حسب هذه الإرادة اسند إلى الموضوع في سائر الفقرات ، فليكن كذلك في الفقرة الأُولى ، أعني : « فيما لا يعلمون » ، والقول بأنّ المرفوع جداً هو الحكم الشرعي في الجميع ، لا يدفع الإشكال. (٢)

والأولى أن يجاب بما أجاب به شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري قدس‌سره ، وحاصل ما أفاد بتوضيح منّا : أنّ الإشكال مبنيّ على استعمال الموصول في المصاديق الخارجية ، فبما انّ المستعمل فيه في الفقرتين ، منحصرة في الموضوعات ، فليكن قرينة على اختصاصها في الأوّل بها ، ولكنّه أمر غير تام ، بل المبهمات مستعملة في المفاهيم المبهمة وإنّما تعلم سعته أو ضيقه من صلته ، وبما انّ العلم والجهل يعرضان الحكم والموضوع ، فتكون الفقرة الأُولى شاملة لهما ، ولكن الاضطرار والإكراه لا يعرضان إلا الموضوعات الخارجية فتختصان بهما فاختصاص مصاديق الصلة بالموضوعات ، لا يكون دليلاً على تخصص صلة الأوّل بها. (٣)

__________________

١. فوائد الأُصول : ٣ / ٣٤٥.

٢. لاحظ تهذيب الأُصول : ٢ / ١٤٩.

٣. درر الفوائد : ٢.

٣٥٧

٢. عدم صحّة نسبة المؤاخذة إلى الحكم

إذا اخترنا في الأمر السابق بأنّ المرفوع جداً هو المؤاخذة ، فالظاهر انّ المراد المؤاخذة على نفس هذه المذكورات ، وعلى هذا لو أُريد من الموصول في قوله : « ما لا يعلمون » الفعل المجهول الحقيقة تصح نسبة المؤاخذة إليه ، وإن أُريد الحكم المجهول ، لا تصح نسبتها إليه ، إذ لا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة.

يلاحظ عليه أوّلاً : عدم صحّة المبنى ، وإنّ المقدّر ليس المؤاخذة بل عموم الآثار.

وثانياً : لو سلمنا تقدير المؤاخذة ، فإن أُريد من صحّة النسبة ، هي الصحّة بالدقة العقلية ، فالحقّ انّه لا تصح نسبة المؤاخذة لا على الحكم ولا على الموضوع.

أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فانّه لا معنى للمؤاخذة على الخمر وإنّما تصحّ المؤاخذة على شربها واستعمالها ، وإن أُريد منها ، الصحّة بالمسامحة العرفية ، فتصح النسبة إليهما عرفاً.

٣. المرفوع هو الأمر الثقيل

إنّ الرفع يقتضي أن يكون متعلّقه أمراً ثقيلاً ليصح تعلّق الرفع ، والأمر الثقيل هو فعل الواجب أو ترك الحرام ، وأمّا الحكم فهو أمر صادر من المولى فلا ثقل فيه.

يلاحظ عليه : الأحكام من مصاديق التكليف ، وهو من الكلفة ، فلو لم يكن فيها ثقل فكيف يطلق عليها التكليف؟ والشاهد على ذلك وصف الأحكام بالحرج قال سبحانه : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) (١) ، أي لم يجعل حكماً حرجياً.

__________________

١. الحج : ٧٨.

٣٥٨

٤. ما هو الموضوع هو المرفوع

وهناك محاولة رابعة لتخصيص الحديث بالشبهة الموضوعية ، وحاصله : انّ المرفوع في الحديث عبارة عمّا هو الموضوع في سائر الأدلّة ، وبما انّه فيها عبارة عن نفس الفعل ـ لا الحكم ـ فيكون المرفوع أيضاً هو نفسه. والدليل على أنّ الموضوع هو الفعل قوله سبحانه : ( وَعَلَى المَوْلُود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف ) (١) ، فالموضوع هو فعل الرزق وفعل الكسوة ، وقوله سبحانه : ( وَعَلى الَّذِينَ يُطيقُونَهُ فِديَةٌ طعامُ مِسْكِين ) (٢) ، فالموضوع هو الفدية ، وقوله : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيام ) (٣) ، أو قوله : ( وَللّهِ عَلَى النّاس حِجُّ البَيْت ) (٤) ، فالموضوع هو الصيام والحجّ.

يلاحظ عليه أولاً : أنّ الرفع كما يتعلّق بالفعل كذلك يتعلّق بالتكليف أيضاً ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة » (٥) ، فانّ المراد رفع قلم التكليف ، والمراد انّه لم يكتب عليه شيء من التكاليف ، ولذلك عدّ الفقهاء العقل والبلوغ من شرائط التكليف.

وثانياً : أنّ ما ذكره إنّما يصحّ في غير النسيان ، لأنّه يرتكب في غيره عملاً ، له حكم خاص فيكون نفس الفعل مرفوعاً ، وأمّا فيه فانّه ربما يكون مبدأ لترك الفعل ، كنسيان الصلاة في الوقت ، أو نسيان أجزاء الواجب فلم يصدر من المكلّف أمر

__________________

١. البقرة : ٢٣٣.

٢. البقرة : ١٨٤.

٣. البقرة : ١٨٣.

٤. آل عمران : ٩٧.

٥. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٨ من أبواب مقدمات الحدود ، الحديث ٢ ومرّ الحديث عن صحيح البخاري.

٣٥٩

ثقيل حتى يكون هو المرفوع بل لم يصدر منه شيء.

وثالثاً : أنّ الظهور المتبع عبارة عن الظهور العرفي الذي يستظهره غالب أهل اللسان ، لا الظهور المبني على هذا النوع من الدقائق ، وعلى هذا فإنكار إطلاق الحديث بالنسبة إلى الجهل بالحكم أو نسيانه ، أمر لا يقبله الذوق السليم.

الخامس : اختصاص الحديث بالرفع الامتناني

قد عرفت في الأمر الثالث انّ المسوغ لنسبة الرفع إلى الأُمور التسعة ، إنّما هو رفع آثارها ، لكن لما كان الحديثُ حديثَ امتنان بقرينة قوله : « عن أُمّتي » يختص الرفع بما يكون في رفعه منَّة عليهم ، لا ضرراً وحرجاً وضيقاً ، وإلا فلا يعمه. وعلى هذا ، يجوز إكراه القاضي المدينَ المتمكن من أداء الدين ، ولا يحرم ، وبالتالي يتملّك الدائن ما أخذه ، كما يجوز إكراه المحتكر في عام المجاعة على البيع فيجوز تكليفاً ويصحّ بيعه الطعام ثانياً ، كما لا يرتفع بالإكراه ضمان العين التالفة عن جهل ونسيان ، إذ ليس في رفعه امتنان عليهم ، ولا يرتفع صحّة بيع المضطر إذ ليس في رفعه أيّ امتنان على الأُمّة ، بل الامتنان في صحّة المعاملة.

ولكن القدر المتيقن من الحديث هو إذا كان ترتيب الأثر على خلاف الامتنان ، وعدمه على وفاقه. وعلى ضوء هذا ففيما إذا اضطر إلى أكل الميتة لأجل حفظ الحياة ، فالوضع أي كونه محرّماً وموجباً للعقاب على خلاف الامتنان ورفعه ، وعدم كونه كذلك على وفاقه ، وأمّا إذا اضطر لمعالجة ولده إلى بيع داره ، فالوضع أي ترتيب الأثر على بيعه يكون على وفاق الامتنان ورفعه على خلافه ، إذ على الرفع يكون بيع الدار باطلاً والتصرّف في الثمن حراماً فلا يتمكن من الوصول إلى مقصوده وهو معالجة ولده.

ومثله « ما أكره عليه » لو أكره على بيع داره ، فالوضع أي الحكم بصحة البيع

٣٦٠