إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

الثالث : حديث الثقلين

قد تضافرت بل تواترت الروايات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على لزوم التمسّك بالثقلين وفسرهما بالكتاب والعترة وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا » فجعل كلاً من الثقلين حجّة ، وانّ كلاً يؤيد الآخر.

الرابع : الروايات التعليمية

هناك قسم عظيم من الروايات تحكي عن أنّ الأئمّة كانوا يحتجون بظواهر الكتاب على أصحابهم ، ويعلمون كيفية استفادة الأحكام منها ويفسرونها لا تفسيراً تعبديّاً ، بل تفسيراً تعليمياً ، بمعنى انّ الإمام لا يتكلّم بما هو إمام ، بل بما هو معلِّم يرشد إلى كيفية دلالة الآية على المقصود ، بمعنى انّ الطرفين قد اتّفقا على كون الكتاب حجّة في حدّ ذاته ، ويتحاوران في ما هو المقصود من الآية ، فلولا انّ الكتاب حجّة لما كان لهذا النحو من التمسّك وجه ، وإليك نماذج :

ألف : سأل زرارة أبا جعفر عليه‌السلام وقال : من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فقام الإمام بتفسير الآية على وجه تعليمي إرشادي إلى ما تدل عليه بلفظها ، فقد استدل على كون المسح ببعض الرأس بلفظة « الباء » وعلى لزوم مسح بعض الرجلين دون غسلهما بوصل الرجلين بالرأس وكونه معطوفاً على الرأس. (١)

ب : سأل عبدالأعلى ـ مولى آل سام ـ أبا عبد اللّه عليه‌السلام عمّن عثر فوقع ظفره فجعل على اصبعه مرارة؟ فقال : « إنّ هذا وأشباهه يعرف من كتاب اللّه : ( ما

__________________

١. الوسائل : ١ ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

١٤١

جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) (١) ـ ثمّ قال : امسَح على المرارة » فأحال الإمام حكم المسح على اصبعه المغطّى بالمرارة ، إلى الكتاب. وقد أوضح الشيخ الأعظم كيفيه الاستفادة من الآية فلاحظ. (٢)

ج : سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر ، عن وجوب القصر على المسافر مع أنّه سبحانه يقول : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاة ) (٣) ولم يقل « افعلوا » فأجاب : « إنّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه : ( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاجُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) (٤) مع أنّ الطواف بهما واجب ». (٥) فأرشد الإمام تلميذيه إلى أنّ الآيتين في مقام دفع توهم الحظر ، لا في مقام بيان ما هو الحكم الشرعي فانّه يطلب من السنّة الشريفة.

د. روى عبد اللّه بن بكير ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام انّه شرب رجل الخمر على عهد أبي بكر ، وادّعى انّه حديث العهد بالإسلام ولو علم انّه حرام اجتنبها ـ فانتهى الأمر إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ فقال : « ابعثوا معه من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار ، من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه » ففعلوا ذلك به ، فلم يشهد عليه أحد انّه قرأ عليه آية التحريم فخُلّـي سبيله. (٦)

هـ. سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر عليه‌السلام ، عن رجل صلّى في السفر أربعاً أيعيد أم لا؟ قال : « إن كان قرئت عليه آية التقصير وفسرت أعاد أربعاً ، وإن

__________________

١. الحج : ٧٨.

٢. الوسائل : ١ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥ ؛ ولاحظ الفرائد : ٤٧.

٣. النساء : ١٠١.

٤. البقرة : ١٥٨.

٥. الوسائل : الجزء ٥ ، الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٢.

٦. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٠ من أبواب حدّالمسكر ، الحديث ١.

١٤٢

لم يكن قُرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه » (١) والمراد من التفسير هو انّ قوله سبحانه : ( لا جُناح ) لدفع توهم الحظر وانّ الحكم يؤخذ من السنّة ، أو المراد انّ تقيّد التقصير بالخوف مورديّ وحكم اللّه مطلق ، وتقييد حجّية الآية بهذا النوع من التفسير لا يخل بالمقصود ، لما قلنا عند تحرير محلّ النزاع ، من أنّ المقصود هو التمسك بالقرآن بعد الرجوع إلى السنّة.

إلى غير ذلك من الروايات التي استدل فيها الإمام برهاناً أو جدلاً ، فلاحظ.

الخامس : عرض الروايات المتعارضة على القرآن

قد تضافر عنهم عليهم‌السلام في مورد تعارض الروايات ، لزوم عرضها على القرآن ، فما وافق كتاب اللّه يؤخذ به ، وما خالف يضرب به عرض الجدار ، فقال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه ». (٢) وسيوافيك في محلّه ، انّ موافقة الكتاب ، ليست من المرجحات ، بل من مميّزات الحجّة عن اللاحجّة.

السادس : عرض الشروط على كتاب اللّه

روى الكليني بسند صحيح ، عن عبد اللّه بن سنان الثقة قال : سمعته يقول : « من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب اللّه فلا يجوز له ولا يجوز على الذي اشترط عليه ، والمسلمون عند شروطهم ما وافق كتاب اللّه » وفي رواية أُخرى : « المسلمون عند شروطهم إلا كلّ شرط خالف كتاب اللّه عزّوجلّ فلا يجوز ». (٣)

__________________

١. الوسائل : الجزء ٥ ، الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٤.

٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠ ؛ ولاحظ الحديث ١١ ، ١٢ ، ١٤ إلى غير ذلك.

٣. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الحديث ١ و ٢ ؛ ولاحظ أحاديث الباب.

١٤٣

السابع : القرآن في حديث النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

يعرف الرسول الأعظم بأنّ القرآن هو المرجع لدى التفاف الفتن بالأُمّة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فانّه شافع مشفع ، وماحل مصدق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل ، وبيان تحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ». (١)

وعنه ـ صلوات اللّه عليه وآله ـ في ذلك المضمار روايات نقلها الكليني في كتاب القرآن.

الثامن : القرآن في كلام الوصي عليه‌السلام

قال الإمام علي عليه‌السلام : « كتاب اللّه تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ». (٢)

وفي كلام آخر : « واعلموا انّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ، ولا لأحد قبل القرآن من غنى ، فاستشفوه من أدوائكم ». (٣)

إلى غير ذلك من الروايات التي تدل بوضوح على لزوم الرجوع إليه في فهم العقيدة والشريعة وانّه سبحانه ما أنزله للتلاوة فقط ، بل للتلاوة التي يستعقبها التدبّر والتفكّر ، ثمّ العبرة والاعتبار ، ثمّ العمل والتطبيق على الحياة.

إلى هنا تجلّت الحقيقة بأعلى مظاهرها ولم يبق إلادراسة أدلّة الأخباريين

__________________

١. الكافي : ٢ / ٢٣٨ ، والسند معتبر.

٢. نهج البلاغة : الخطبة ١٣٣.

٣. نهج البلاغة : الخطبة ١٦٧.

١٤٤

الذين نسب إليهم عدم حجّية ظواهر الكتاب إلا بعد تفسير الإمام ، وهي وجوه أشار إليها في الكفاية :

١. اختصاص فهم القرآن بأهله

يظهر من مذاكرة الإمام أبا حنيفة وقتادة أنّ القرآن فوق فهمهما وانّه لا يفهم القرآن إلا من خوطب به.

١. روى شبيب بن أنس ، عن بعض أصحاب أبي عبد اللّه عليه‌السلام ـ في حديث ـ أنّ أبا عبد اللّه عليه‌السلام قال لأبي حنيفة :

« أنت فقيه العراق؟ » قال : نعم ، قال : « فبم تفتيهم؟ » قال : بكتاب اللّه وسنّة نبيّه. قال : « يا أبا حنيفة! تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته ، وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ » قال : نعم ، قال : « يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علماً ما جعل اللّه ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أُنزل عليهم ، ويلك ، ولا هو إلا عند الخاص من ذريّة نبيّنا محمّد ، وما ورثك اللّه عن كتابه حرفاً ». (١)

والسند ضعيف ، لعدم توثيق شبيب بن أنس الوارد فيه ، وللإرسال في آخره ، لكن ربّما يؤيد المضمون قوله سبحانه : ( ثُمَّ أَورَثْنَا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَالْفَضْلُ الْكَبير ) (٢) بناء على أنّ المراد من الكتاب هو القرآن ، ومن المصطفين هو أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ومن الوراثة هو فهمه ، والكلّ قابل للتأمل.

وعلى كلّ تقدير فالرواية تردّ على المستبدين بالقرآن الذين يفسّرونه ويفتون به من دون مراجعة إلى من نزل القرآن في بيوتهم حتى يعرفوا ناسخه ومنسوخه ،

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

٢. فاطر : ٣٢.

١٤٥

عامّه ومخصصه ، مطلقه ومقيده ، وأين هو من عمل أصحابنا؟! فإنّهم يحتجون به بعد الرجوع إليهم ثمّ الأخذ بمجموع ما يدل عليه الثقلان.

٢. روى الكليني بسند يتصل إلى محمد بن سنان ، عن زيد الشحام : دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر فقال : « يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ » فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « بلغني انّك تفسّر القرآن؟ » فقال له قتادة : نعم! فقال له أبو جعفر ـ بعد كلام ـ : « إن كنت إنّما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسرته عن الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة! إنّما يعرف القرآن من خوطب به ». (١)

والسند ضعيف بمحمد بن سنان ، والحديث ناظر إلى الاستبداد بالقرآن من دون الرجوع إلى أئمّة أهل البيت ، في معرفة ناسخه ومقيّده ومخصصه ، والمراد من المعرفة هو المعرفة التامّة التي تكون حجّة على العارف.

٢. احتواء القرآن على مضامين شامخة

القرآن مشتمل على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية لا تكاد تصل إليها أفكار أُولي الأنظار غير الراسخين في العلم.

يلاحظ عليه : أنّ احتواءه على تلك المضامين لا يمنع من الاحتجاج بظواهر الآيات التي هي بصدد بيان تكاليف العباد ، وما أُشير إليه من احتوائه على المضامين العالية يرجع إلى الآيات النازلة حول العقائد والقصص ، أو يرجع إلى بطون الآيات ، روى جابر قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « يا جابر! إنّ للقرآن بطناً ، وللبطن ظهراً ، وليس شيء أبعد عن عقول الرجال منه ». (٢)

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٥.

٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٤.

١٤٦

٣. الظواهر من المتشابهات

يقسم القرآن الكريم الآيات إلى محكم ومتشابه ، يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتاب وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْه ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ ... ). (١)

فالآيات المتشابهة ممنوعة الاتباع ، والظواهر أمّا من المتشابهات قطعاً أو احتمالاً فلا يصحّ التمسّك بها.

يلاحظ عليه : انّ الظواهر من المحكمات ، والمحكمات تنقسم إلى نصّ لا يقبل التأويل ويعدّ التأويل تناقضاً في الكلام ، وظاهر يقبله ويعد التأويل عملاً على خلاف الظاهر ، وأمّا المتشابه فهو ما لم يستقر له الظهور أصلاً ولم يتبين المراد منه ، ولأجل ذلك سمي متشابهاً لمتشابه المراد بغيره.

وقد اختلفت كلماتهم في تفسير المتشابهات ، فالمعروف انّ المتشابهات هي الآيات المشعرة بتجسيمه سبحانه ، أو كونه ذا جهة أو الجبر وسلب الاختيار عن الإنسان وما يشبه ذلك ممّا ورد في المحكمات خلافها ، ففي ظل القسم الثاني تحلّ عقده المتشابهات وترجع إليها ، وذلك بالإمعان في الآية المتشابهة وما قبلها وما بعدها ، والإمعان في سائر الآيات الواردة في ذلك المجال فيتجلّى المراد بالإمعان والدّقّة ، وهذا مثل قوله سبحانه : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (٢) ولا تعلم حقيقته إلا بملاحظة الآيات الواردة حول عرشه واستيلائه عليه ، وأين هذه الآيات من الظواهر التي استقر ظهورها في المعنى ، مثلاً قوله سبحانه : ( وَأُولاتُ الأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ). (٣)

__________________

١. آل عمران : ٧.

٢. طه : ٤.

٣. الطلاق : ٤.

١٤٧

فانّ ظاهر الآية انّ صاحبات الحمل لا يخرجن من العدة إلا بعد وضع أولادهن ، والآية وإن وردت في سورة الطلاق ولكن إطلاقها يعمّ المعتدة بعدّة الوفاة فلو مضى من موت الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام فلا تخرج من العدّة إلا إذا وضعت حملها ، فليست الآية متشابهة غير واضحة المراد وإنّما الكلام في وجود الإطلاق وعدمه ، أي في سعة الآية وضيقها.

على أنّ هناك رأياً آخر في تفسير المتشابه ، وهو : انّ المتشابه عبارة عن الآيات الراجعة إلى حقيقة البرزخ والمعاد والجن والملك ممّا لا يمكن الإحاطة بكنهه إلا بعد الخروج عن دار التكليف ، مثلاً انّ قوله سبحانه : ( إنّها شَجَرةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجَحِيم * طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّياطِين ) (١) من الآيات المتشابهة التي لا يقف الإنسان على حقيقتها مادام في دار المجاز.

فلو كان المتشابه هو هذا فلا صلة له بالآيات الواضحة الدلالة والمداليل كأكثر ما ورد في العبادات والمعاملات.

٤. العلم الإجمالي بالتخصيص والتقييد

انّا نعلم انّ عمومات القرآن ومطلقاته خصّصت وقيدت بمخصصات ومقيّدات ، ومع العلم الإجمالي بطروء التصرف في دلالاتها كيف يمكن التمسّك بظواهرها؟

يلاحظ عليه : أنّ العلم الإجمالي يبعث المجتهد إلى الفحص عن المخصصات والمقيدات الواردة في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة ، فإذا فحص عنها فحصاً كاملاً وعثر على عدّة منها واحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على ما حصّله بالتفصيل ، لم يبق له علم إجمالي بوجود المخصصات والمقيدات

__________________

١. الصافات : ٦٤ ـ ٦٥.

١٤٨

الصادرة من أئمّة أهل البيت ، غاية الأمر يحتمل وجودها في الواقع غير واصلة إليه ، ومن المعلوم عدم جواز رفع اليد عن الدليل باحتمال التخصيص.

والحاصل : انّ المستنبط بعد الفحص إمّا يقطع بأنّ المعلوم بالإجمال هو المعلوم بالتفصيل من المخصِّصات والمقيّدات لا غير ، وإمّا يحتمل انطباقه على ما حصله ، وعلى كلتا الصورتين لا يبقى علم إجمالي بوجود المخصص وراء ما وقف عليه ، غاية الأمر يحتمله.

٥. الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي

إنّ حمل الكلام الظاهر في معنى ، على أنّ المتكلّم أراد هذا ، تفسير له بالرأي.

أقول : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار ». (١)

فالاستدلال بهذا الحديث المتضافر على أنّ حمل الظاهر في معنى ، على أنّه المراد ، من قبيل التفسير بالرأي ، استدلال غير تام ، وذلك لأنّ « التفسير بالرأي » مركبة من لفظين :

١. التفسير.

٢. الرأي.

أمّا الأوّل : فهو مأخوذ من « فسّر » المشتق بالاشتقاق الكبير من « السفر » وهو الكشف والظهور ، يقال : أسفر الصبح : إذا ظهر ، وأسفرت المرأة عن وجهها : إذا كشفته.

__________________

١. راجع الوسائل ١٨ الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٦ ؛ ولاحظ ٦٦ و ٦٧ و ٧٨ وبقية أحاديث الباب ....

١٤٩

وأمّا الثاني : « الرأي » فهو بمعنى الميل إلى أحد الجانبين وترجيحه اعتماداً على الظن الذي لم يدل عليه دليل ، يقول الراغب : الرأي : اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن ، ويؤيده إضافته إلى الشخص أي « برأيه ».

وقد ورد في بعض الروايات مكان الرأي « بغير علم » : « من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ». ويوضحه قول أبي جعفر عليه‌السلام : « من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم ، ومن دان اللّه بما لا يعلم فقد ضاد اللّه حيث أحلّ وحرم فيما لا يعلم ». (١) وفي رواية أُخرى عن علي عليه‌السلام في كلام له : « انّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن آتاه عن ربّه فأخذ به ». (٢)

إذا عرفت معنى التفسير أوّلاً ، ثمّ الرأي ثانياً ، نقول : إنّ حمل الظاهر في معنى ، على أنّه مراد المتكلّم ، ليس من مقولة التفسير ، إذ ليس هنا أمر مستور كشف عنه ، فالاستدلال بإطلاق الظاهر أو عمومه ، ليس تفسيراً ، ورافعاً لإبهامه بل هو من قبيل تطبيق الظاهر على مصاديقه ، والتفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه الآية ، كالغطاء الموجود في الصلاة الوسطى في قوله سبحانه : ( حافِظُوا عَلى الصَّلواتِ والصَّلاة الوُسْطى ) (٣) فتفسيرها بواحدة منها ، تفسير ومثله قوله : ( وَإِذا وَقَعَ الْقَولُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دابّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ أنّ النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُون ) (٤) فانّ الآية قد أحاطها الإبهام من وجوه ، ولعلّها أبهم آية وردت في القرآن الكريم ، ولم يتسنّ لأحد من المفسّرين كشف قناعها وإن حاولوا لأن يقفوا على مغزاها ، إذ فيها إبهامات :

__________________

١ و ٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢ و ١٤ ؛ ولاحظ الحديث ٢١ ، ٢٨ ، ٣٠ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٥٠.

٣. البقرة : ٢٣٨.

٤. النمل : ٨٢.

١٥٠

١. ما هو المراد من وقوع القول عليهم؟ فيفسر باستحقاقهم العذاب ، لما في الآية ٨٥ من هذه السورة من قوله سبحانه : ( وَوَقَعَ الْقَولُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) فهذا تفسير الآية بالآية ، وكشف الغطاء عنها بالاستعانة بالقرآن ، فلو فسره من عند نفسه لا اعتماداً على آية ، ولا سنّة ، ولا من حجّة أُخرى كان تفسيراً بالرأي ، والذي يؤيد ذاك التفسير وانّ المراد هو استحقاقهم العقاب ذيل الآية ، أعني قوله سبحانه : ( انّ النّاس كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُون ) فالمعنى : لأنّ الناس كانوا غير موقنين بآياتنا.

٢. ما هو المراد من قوله : ( أَخْرَجنا لَهُمْ دابّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُم )؟

ما هو المراد من الدابة؟ وما صفتها؟ وكيف تخرج؟ وماذا تتكلم به؟ فالآية يغمرها الإبهام فوق الإبهام ، فكشف القناع عن وجه كلّواحد هو التفسير.

فإذا لم يكن حمل الظاهر في معنى على أنّه المراد تفسيراً للآية ، يكون بالنسبة إلى الجزء الآخر ( برأيه ) أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

٦. دعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف من الكتاب

هذا آخر الوجوه التي اعتمد عليها الأخباري ، وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجوه ـ بعد تسليم التحريف ـ :

١. التحريف لا يمنع عن حجّية ظواهره ، لأنّ الإسقاط لا يلازم حدوث الخلل في آياته.

٢. ولو سلم ، فلا نعلم حدوثه في آيات الأحكام التي هي مورد الابتلاء للفقيه.

٣. ودعوى العلم الإجمالي بوقوع الخلل إمّا في آيات الأحكام ، أو في غيرها ، غير ضائر بحجّية آيات الأحكام ، لعدم منجزية مثل ذاك العلم لعدم إحداثه

١٥١

التكليف على كلّ تقدير ، لأنّ الأثر الشرعي ( الحجّية ) لا يترتّب على سائر الآيات التي لا تحمل حكماً شرعياً ، مع أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير ، فالآيات الواردة في مجال القصص والعقائد والمعارف ليست بحجّة بمعنى ، لا توصف بالتنجّز والتعذير.

أقول : كان المتوخّى من مثل المحقّق الخراساني هو الوقوف في وجه هذه الفرية التي تمسّ بكرامة القرآن والتشيّع ، وقفة لائقة بحالها حتى يكشف الغطاء عن وجه الحقيقة ، ويترك هذه الأجوبة.

ترى أنّه خصّ حجّية القرآن بآيات الأحكام ، مع أنّ جميع آياته من أقوى الحجج وأكبرها ، وتوهم انّ الحجّية بمعنى التنجيز والتعذير من خصائص آيات الأحكام ، غير تام ، فانّها حجّة في باب الأعمال ، كما أنّ ما نزل حول العقائد والمعارف حجّة في مجال الاعتقاد ، فما جاء في الكتاب العزيز هو الحجّة في باب المعاد ، أصله ووصفه ، فمن لم يعتقد به أو بوصفه فقد خالف الحجّة المنجزة.

وبما انّ أعداء الإسلام والتشيع ، اتخذوا فرية التحريف أداة للهجوم على المسلمين أو الشيعة ؛ وقد كفانا في ذلك ، ما حقّقه علماؤنا الأبرار عبر الزمان ، وفيما كتبه الشيخ البلاغي في « آلاء الرحمان » والسيد ال

خوئي في « البيان » والعلاّمة الطباطبائي في « الميزان » في سورة الحجر والمحقّق المعاصر محمد هادي معرفة في كتاب « صيانة القرآن عن التحريف » غنى وكفاية ، وقد أفرد شيخنا في تفنيد هذه التهمة رسالة طبعت في مقدمة موسوعة طبقات الفقهاء (١) ، ولذلك طوينا الكلام من ذلك.

__________________

١. مصادر الفقه الإسلامي : ٣٦ ـ ٧٨.

١٥٢

الحجج الشرعية

٢

قول اللغوي

كان البحث السابق حول حجّية الظواهر ـ بعد ثبوت الظهور ـ وقد تبين انّه من الأُمور المفيدة للقطع بالمراد الاستعمالي ـ على المختار ـ أو من الظنون المعتبرة عند العقلاء.

وحان حين البحث عن حجّية الأدوات التي تثبت الظهور عند الشكّ في أصله.

اعلم أنّ الشكّ في أصل الظهور يتصوّر على وجوه :

١. احتمال وجود قرينة حالية خفيت علينا أو سقطت من الكلام ، فهل المرجع هو أصالة عدم القرينة؟ أو أصالة الظهور؟ يظهر من المحقّق الخراساني انّ المرجع هو الثاني ، لأنّ العقلاء يحملون اللفظ على المعنى الذي كان اللفظ ظاهراً فيه لولا القرينة ، من دون استعانة بشيء لا أنّهم يبنون عليها بعد الاستعانة بأصالة القرينة.

ولا يخفى خفاء المراد من قولهم : « أصالة الظهور » فلو كان المراد هو لزوم الأخذ بالظاهر مالم يدل دليل على خلافه ، فهو صحيح ، لكن لا صلة له بالمقام إذ الكلام في وجود الظهور وعدمه.

٢. احتمال قرينية الأمر الموجود ، كورود الأمر بعد الحظر ، فهل هو للوجوب أو لرفع الحظر؟ والجمل المتعقب بالاستثناء فهل يرجع إلى الأخير وحدها؟ أو إلى الجميع؟ أو فيه تفصيل؟ فإن قلنا انّ المرجع هو أصالة الحقيقة أو عدم القرينة

١٥٣

وانّـهما أصلان تعبديان فيحمل الأمر على الوجوب ، والجمل ـ غير الأخيرة ـ على العموم ، وأمّا لو قلنا بأنّ المرجع هو أصالة الظهور ، أي حمل الكلام على ما هو ظاهر فيه ، فيكون الكلام مجملاً لعدم الظهور العرفي.

٣. وإن كان الشكّ في ظهور هيئات الجمل ، كهيئة الجمل الاسمية والفعلية ، أوهيئة الجمل الشرطية ، أو الوصفية ، وهيئة الأمر والنهي ، فالمرجع هو علم المعاني ، ولكنّ الأُصوليين أدخلوا قسماً من هذه البحوث في علم الأُصول لمدخليتها في الغرض.

٤. وإن كان الشكّ في ظهور المفردات ، فإن كان الشكّ في هيئتها كاسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة واسم المبالغة ، فالمرجع هو علم الصرف حيث يبحث عن وضع أسماء الفاعلين والمفعولين.

٥. ولو تعلّق بمادة المفردات ، فقد تقدّم انّ المرجع هو التبادر ، وعدم صحّة السلب والاطراد.

وهل هنا مرجع آخر وهو قول اللغوي أو لا؟ فلو أفاد قوله « الظن » وقلنا بحجّيته بالخصوص يكون من قبيل الظن الخاص ، ذهب الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني إلى عدم حجّيته ، وإن عدل الأوّل عن كلامه في هامش الفرائد عدولاً نسبيّاً كما سيوافيك.

وعلى فرض كونه حجّة ، فهل هو حجة من باب الشهادة ، أو من باب الخبرويّة؟ فلو قلنا بأنّ تشخيص المعاني الحقيقية من المجازية من الأُمور الحسية ، التي لا يحتاج إلى إعمال النظر والفكر ، فتكون حجّية قوله من باب الشهادة فيعتبر فيه ما هو المعتبر فيها من العدالة والتعدّد.

وإن قلنا بأنّها من الأُمور التي تتوقف على إعمال النظر والرأي والاجتهاد ، فتكون حجّيته من باب حجّية قول أهل الخبرة ، فلا يعتبر فيه واحد من الأمرين ،

١٥٤

نعم يعتبر فيه الوثوق والاطمئنان على قول.

ذهب المحقّق الخوئي إلى القول الأوّل ، وقال : بأنّ تعيين معاني الألفاظ من قبيل الأُمور الحسية التي لا دخل للنظر والرأي فيها ، لأنّ اللغوي ينقلها على ما وجده من الاستعمالات والمحاورات ، وليس له إعمال النظر والرأي ، فيكون داخلاً في باب الشهادة فتعتبر فيه العدالة والتعدّد على قول المشهور. (١)

يلاحظ عليه : أنّه قدس‌سره قصر النظر على أصحاب المعاجم المتأخرين المرتزقين من المعاجم الأُمّ ، فليس لهم شأن إلا ما ذكر فيها ، وأمّا أصحاب المعاجم الأوائل ، كالعين للخليل ، والجمهرة لابن دريد ، والمقاييس لابن فارس ، والصحاح للجوهري ، وأساس اللغة للزمخشري ، واللسان لابن منظور ، فعملهم مزيج بالحدس وإعمال النظر ، ويشهد لذلك ، استشهادهم بالآيات والأحاديث النبوية وأشعار الشعراء حيث يُعيّنون موارد الاستعمال بفضل الإمعان فيها.

إنّ تعيين مواضع استعمال الألفاظ فضلاً عن تعيين معانيها وأوضاعها أمر عسير لا يحصل إلا بالدقة والإمعان ، ومن طالع المقاييس لابن فارس أو أساس اللغة للزمخشري أو اللسان لابن منظور يقف على الجهود التي بذلوها لتبيين مفاهيم الألفاظ وموارد استعمالها ، فالشكّ في أنّ أخبارهم كأخبار أهل الخبرة في غير محله ، وأمّا انّـهم أهل خبرة في تعيين مواضع الاستعمال أو الأوضاع فسيوافيك بيانه.

وبالجملة استخراج المعاني بفضل الآيات والروايات وأشعار الشعراء وكلمات العرب يحتاج إلى لطف في القريحة ودقة في الكلام ، وقد سئل الأصمعي عن معنى الألمعيّ فأنشد الشعر :

الألمعي الذي يظنُّ بــك

الظـنَّ كأن رأى وقد سمعا

__________________

١. مصباح الأُصول : ١ / ١٣١.

١٥٥

فانّ الانتقال إلى معنى الألمعي من هذا البيت ، لا ينفك عن الدقة حيث إنّ الموصول وصلته تفسير للمبتدأ وكثير من الناس ربما يسمعون هذا البيت ولا ينتقلون إلى ما انتقل إليه ذلك الأديب.

أضف إلى ذلك انّ قسماً منهم قد قضى عمره في البادية ليعرف مواضع الاستعمال عن كثب ، وانّ المتبادر هل هو مقرون بالقرينة أو لا؟ كلّ ذلك لا ينفك عن الاجتهاد واعمال النظر ، وليس مثل رؤية الهلال التي لا تتوقف على شيء سوى فتح العين والنظر إلى السماء.

فتعيّن انّه لو قلنا بحجّية قول اللغوي فإنّما نقول به من باب أهل الخبرة.

فنقول : استدل على حجّية قوله ـ بعد كون الأصل عدم حجّية قوله ـ بوجوه :

الوجه الأوّل : إجماع العلماء على الرجوع إليهم في تفسير القرآن والحديث ، فلا تجد فقيهاً أو محدثاً إلا ويستند إلى أقوال أهل اللغة.

يلاحظ عليه : بما أورد عليه المحقّق الخراساني من أنّه ليس كاشفاً عن دليل تعبّدي وصل إليهم لم يصل إلينا ، لاحتمال انّهم استندوا في عملهم على بناء العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة ، وأهل اللغة منهم ، فيكون الإجماع مدركياً.

الوجه الثاني : سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة ، وهذا كما في الأروش والجنايات ، وغيرهما ، وأهل اللغة ، من خبراء تشخيص المعاني الحقيقية والمجازية ، وهذا الدليل هو الدليل المهم.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين :

١. انّ المتيقن من الرجوع إلى رأي أهل الخبرة هو كونه مفيداً للوثوق ، ولا يحصل وثوق بالأوضاع عن قول اللغوي.

٢. انّه ليس من أهل الخبرة ، لأنّ المطلوب هو تشخيص المعاني الحقيقية عن

١٥٦

المجازية ليُحْمل اللفظ ـ عند التجرّد عن القرينة ـ عليه ، ولكنّ همَّ اللغوي ينحصر في بيان موارد الاستعمال لا تعيين الحقيقة والمجاز ، وليس ذكره أوّلاً دليلاً على كونه المعنى الحقيقي.

يلاحظ على الوجه الأوّل : أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة لأجل انسداد الطريق إلى الواقع ، فلا طريق إلى تعيين الأرش في باب المعيب ، ومقدار الغبن في البيع الغبني ، وحدّالجناية ، إلاقول أهل الخبرة ، فقولهم حجّة سواء أفاد الوثوق أو لا ، ونظيره الرجوع إلى قول الرجالي في تمييز الثقات عن غيرهم ، أو الرجوع إلى المجتهد في تعيين الوظائف ، فالكلّ من هذا الباب ، وربما لا يفيد قولهم الظن فضلاً عن الوثوق.

والحاصل : انّ انسداد الطريق جرّ العقلاء إلى إفاضة الحجّية على قول الخبير ، لقطع النزاع وتحصيل المقاصد ، وتقييد الرجوع بإفادته الظن الشخصيّ فاقد للدليل.

ويلاحظ على الثاني بوجهين :

أوّلاً : أنّ معاجم اللغة على قسمين قسم ألّف لبيان المعاني الأوّلية للألفاظ وإراءة كيفية اشتقاق سائر المعاني من المعنى الأصلي ، بحيث تكون أكثر المعاني صوراً مختلفة لمعنى أصلي ، وقد ألّف في هذا المضمار المقاييس لابن فارس ، وأساس اللغة للزمخشري ، فالمراجع إلى الكتابين يقف على المعنى الأصلي والمعاني الفرعية المشتقة من المعاني الأصلية ، ثمّ المعاني المجازية.

وثانياً : أنّ الأُنس بمعاجم اللغة ، يخلق في الإنسان قوّة أدبية ، يميز بها المعنى الحقيقي للّفظ عن المعنى المجازي ، والمراد في المقام عن غيره على وجه يثق بما استخرجه ، ولكنّه رهن الأُنس بكتب اللغة ومطالعتها ، كمطالعة سائر الكتب والرجوع إليها في مشكلات القرآن والحديث والأدب طول سنين.

١٥٧

فنقول : فقول اللغوي ـ على هذا ـ وإن لم يكن حجّة ، لكن الرجوع إلى معاجم معدودة أُلّفت بيد فطاحل اللغة ، يورث الوثوق بمعنى اللفظ عند التجرّد عن القرينة ، فلا محيص عن الرجوع بتلك الغاية ، نعم على هذا لا يكون قول اللغوي حجّة ولكن يكون الرجوع إلى المعاجم ذات أهمية كبيرة.

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ أورد على السيرة بعدم حجّيتها لعدم وجودها في زمن المعصومين عليهم‌السلام ، لأنّ الرجوع إلى كتب اللغويين أمر حادث بعدهم. (١)

يلاحظ عليه بأمرين :

أوّلاً : أنّه إذا أطبق العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة ، وكان الرجوع بمرأى ومسمع من الشارع ، كفى ذلك في تصحيح الرجوع إلى أهل اللغة وإن لم يكن المصداق موجوداً في عصرهم ، وإلا يلزم عدم حجّية رأيهم في المصاديق الجديدة في باب المعاملات والجنايات وهو كما ترى.

ثانياً : أنّ تاريخ الأدب العربي يكشف عن وجود السيرة في صدر الرسالة ، وقد كان ابن عباس مرجعاً في تفسير غريب اللغة وقد سأله نافع بن الأزرق عن لغات القرآن مايربو على مائة وسبعين مورداً ، فأجاب على الجميع مستشهداً بشعر العرب ، وقد نقل الجميع السيوطي في إتقانه ، وكان يقول : إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر ، فانّ الشعر ديوان العرب. (٢)

أضف إليه انّ الأجانب كانوا يتعلمون معاني الألفاظ ومفاهيمها من أهل اللغة ، فحجّية رأي أهل اللسان في بيان معاني الألفاظ ، يوجب حجّية قول اللغوي خصوصاً إذا كان من أهل اللسان.

الوجه الثالث : ما أشار إليه الشيخ الأنصاري من انسداد باب العلم

__________________

١. تهذيب الأُصول : ٢ / ٩٧.

٢. الإتقان : ١ / ٣٨٢ ـ ٤١٦.

١٥٨

بتفاصيل المعاني بحيث يعلم بدخول المشكوك أو خروجه ـ وإن كان المعنى معلوماً في الجملة ـ وإلى ذلك أشار الشيخ الأنصاري بقوله : والإنصاف انّ موارد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها وإن كان المعنى في الجملة معلوماً من دون مراجعة اللغوي كما في مثل ألفاظ الوطن والمفازة ، والتمر ، والفاكهة والكنز والمعدن والغوص وغير ذلك من متعلقات الأحكام ممّا لا تحصى ، وإن لم يكن الكثرة بحيث يوجب التوقف فيها محذوراً. (١)

وقد أورد عليه المحقّق الخراساني ما هذا حاصله : من أنّ الانسداد الصغير لا يثبت حجّية قول اللغوي ، وذلك لأنّ باب العلم والعلمي للأحكام الشرعية ـ التي يهمّ المجتهد ـ إمّا مفتوح أو مسدود ، فعلى الأوّل ، لا وجه لحجّية الظن الحاصل من قول اللغوي ، وإن حصل منه الظن بالحكم الشرعي ، لفرض انفتاح باب العلم بالأحكام ، وعلى الثاني ، يكون الظن على الإطلاق حجّة إذا وقع في طريق الاستنباط ومنه الظن الحاصل من قول اللغوي ، وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد. (٢)

يلاحظ على الشقّ الأوّل : بأنّ فرض انفتاح باب العلم والعلمي في جميع الأحكام الشرعية ، يلازم حجّية قول اللغوي في الموارد التي يتوقف استنباط الأحكام على فهم التفاصيل وإلا فيكون فرض الانفتاح في جميع الأحكام فرضاً باطلاً ، لأنّ قسماً من الأحكام لا يعلم إلا من طريق قول اللغوي ، فكيف يكون باب العلم والعلمي مفتوحاً في عامة الأحكام الشرعية ، مع عدم حجّية قول اللغوي الذي يتوقف عليه استنباط بعض الأحكام؟!

____________

١. الفرائد : ٤٧.

٢. في كلام الشيخ الأنصاري أيضاً إشارة إلى هذا الإشكال فلا تغفل.

١٥٩

الحجج الشرعية

٣

الإجماع المنقول

بخبر الواحد

إنّ الأصل الأوّلي فيما يمكن الاحتجاج به عدم الحجّية إلا إذا قام الدليل القطعي على حجّيته ، وقد عرفت خروج الأمرين عن تحت ذلك الأصل : أ. الظواهر ، ب. قول اللغوي على التفصيل الذي مضى.

وممّا قيل بخروجه عن تحت ذلك الأصل هو إجماع العلماء على حكم شرعي إذا نقل بخبر الواحد ، وطبع البحث يقتضي ثبوت أمرين قبل الخوض في هذه المسألة :

الأوّل : حجية الإجماع المحصل لنفس الناقل حتى يُبحث عن حجّيته للغير إذا نقل إليه.

الثاني : حجّية خبر الواحد في نقل الحجج.

لكن العلمين ـ الأنصاري والخراساني ـ بحثوا عن الإجماع المحصل في خلال البحث عن الإجماع المنقول وأخّروا البحث عن حجّية خبر الواحد ، ونحن نقتفيهما ولكن بتفاوت يسير ، وهو إنّا نعقد لكلّ من الإجماعين بحثاً مستقلاً ، فنقول :

الإجماع لغة هو العزم ففي الحديث « من لم يُجْمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ». (١)

__________________

١. جامع الأُصول : ٧ / ١٨٦.

١٦٠