إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

٥. حديث الحل الثاني

هناك حديث حل ثان يفترق عمّا سبق باشتماله على جملة : « فيه حلال وحرام » ، وقد وردت في روايات ثلاث ، ولعلّ الرواية الثالثة نفس الثانية كما نستظهره.

١. ما رواه عبد اللّه بن سنان قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ». (١)

٢. ما رواه عبد اللّه بن سنان ، عن عبد اللّه بن سليمان قال : سألت أبا جعفر عن الجبن فقال لي : « لقد سألتني عن طعام يعجبني ، ثمّ أعطى الغلام درهماً فقال : « يا غلام ابتع لنا جبناً » ، ثمّ دعا بالغذاء فتغذّينا معه ـ إلى أن قال : ـ « سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام ، فهو حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه ». (٢)

والأُولى مروية عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام ، والثانية عن أبي جعفر عليه‌السلام ، فتكونان روايتين ، غير انّ الأُولى مشتملة على لفظة « منه » دون الثانية.

٣. ما رواه معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام ، فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « إنّه لطعام يعجبني ، وسأُخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ شيء فيه الحلال والحرام ، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه ». (٣)

ولعلّ السائل الذي عبر عنه « فسأله رجل » هو « عبد اللّه بن سليمان » الوارد في الحديث الثاني ، كما يحتمل انّه المراد في رواية أُخرى لعبد اللّه بن سنان قال :

__________________

١. الوسائل : ١٢ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

٢ و ٣. الوسائل : الجزء ١٧ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ١ و ٧.

٣٨١

سأل رجل أبا عبد اللّه عن الجبن ، فقال : إنّي آكله ليعجبني ، ثمّ دعا به فأكل. (١) وعلى ذلك فقد سأل عبد اللّه بن سليمان كلاً من الإمامين أبي جعفر وأبي عبداللّه عليهما‌السلام.

والرواية الأُولى صحيحة رواتها كلّهم ثقات ، بخلاف الثانية فانّ عبد اللّه ابن سليمان لم يوثّق ، والثالثة مرسلة لوجود « رجل » في السند ، وعلى كلّ تقدير فالمضمون يلوح عليه علائم الصدق.

الاستدلال بالرواية على الشبهة الحكمية مبني على أمرين :

أ : المراد من الشيء في قوله : « كلّ شيء » ، هو الأمر الكلي ، كشرب التتن أو لحم الأرنب.

ب : المراد من قوله : « فيه حلال وحرام » بمعنى فيه احتمال الحلال والحرام.

وعندئذ يقال : إنّ شرب التتن ولحم الأرنب فيهما احتمال الحلية والحرمة ، فهما حلالان حتى تعرف الحرام منه بعينه.

يلاحظ عليه بأُمور :

١. أنّ الظاهر من قوله : « فيه حلال وحرام » هو فعليتهما لا احتمالهما كما في قوله سبحانه : ( وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُم الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرام ). (٢)

٢. لو أُريد هذا المعنى ، لكان الأنسب أن يقول : حتى تعلم ، بدل « حتى تعرف » ، فانّ العرفان يستعمل في الأُمور الجزئية ، لا الكلية ، يقال : عرفت اللّه لا علمت اللّه ، بخلاف العلم. (٣)

__________________

١. المصدر نفسه ، الحديث ٢ وقد نقل الحديث مبتوراً.

٢. النحل : ١١٦.

٣. نعم هذا هو الغالب ، وإلا فربما يستعمل العلم في الجزئيات ، كما مرّفي مسعدة بن صدقة حيث قال : حتى تعلم انّه ....

٣٨٢

٣. لو أُريد ذلك لزمت لغوية قوله : « بعينه » لأنّ الإنسان إذا وقف على حرمة شرب التتن أو لحم الأرنب وقف على حرمة ذلك الشيء لا حرمة شيء آخر ، حتى يؤكد بقوله بعينه.

وربما يصحّح الاستدلال به على الشبهة الحكمية ، بأنّ المراد من الشيء هو الجنس البعيد كالشرب بالنسبة إلى الماء والخمر ، واللحم بالنسبة إلى الغنم والخنزير ففيه حلال وحرام بالفعل ، ولكن نشك في الجبن والأرنب فهما حلالان حتى تعرف الحرام منه بعينه.

وقد رد عليه الشيخ بوجهين : (١)

١. انّ اللام في قوله : « حتى تعرف الحرام » للعهد الذكري إشارة إلى الحرام المتقدّم ، مع أنّه إذا عرفت حرمة شرب التتن ، فقد عرفت حرمة مستقلة لا الحرمة المتقدمة المحمولة على الخمر ، ولو قلنا بعموم الحديث للشبهة الحكمية يكون معنى الحديث هكذا : انّ من الشرب حلالاً كالماء ، وحراماً كالخمر ، فشرب التتن لك حتى تعرف الحرمة المتقدمة.

٢. ظاهر الرواية انّ التقسيم سبب للشك في حرمة شرب التتن ، مع أنّه ليس كذلك فليس حلية شرب الماء ، وحرمة شرب الخمر سبباً للشكّ في حرمة التتن.

والظاهر انّ المراد من الشيء ، هو الكلي المنتشر في الخارج المتكثر فيه ، بمعنى انّ قسماً منه حلال وقسماً آخر حرام ، وقسماً منه مشتبه كالجبن. فالمشكوك محكوم بالحلية ، حتى تعرف انّه في قسم الحرام الذي جعل فيه الميتة ، فيكون منطبقاً على الشبهة غير المحصورة.

ويؤيد ذلك ، حديث أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ،

__________________

١. الفرائد : ٢٠١.

٣٨٣

فقلت له : أخبرني من رأى انّه يجعل فيه الميتة؟ فقال : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين ، إذا علمت انّه ميتة فلا تأكل ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ». (١)

وهناك احتمال ثالث :

وهو أن يراد من الشيء ، الجزئي الخارجي كالمال المختلط بالربا ، وكالصدقات المشتراة من السلطان وجوائزه المختلط بالحرام ، فقد تضافرت الروايات على حليّتها مالم يعرف الحرام بعينه ، وهذان الموردان ممّا أخذ العلم التفصيلي موضوعاً للحرمة. (٢)

ولكن جعل الضابطة لأجل ذينك الموردين لا يخلو من بعد.

٦. حديث إطلاق الأشياء

روى الصدوق مرسلاً عن الصادق عليه‌السلام قال : وقال الصادق : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ». (٣) والاستدلال يتوقف على تماميته سنداً ودلالة.

أمّا الأوّل ، فهو مرسل وهو لايصلح للاحتجاج به.

لكن المشايخ يفرّقون بين قولي الصدوق ، أعني قوله : « روى عن الصادق عليه‌السلام » وقوله : « وقال الصادق عليه‌السلام » ، حيث إنّ النسبة إليه تحكي عن جزم الصدوق بصدور الرواية عن المعصوم. وقال بحر العلوم : إنّ مراسيل الصدوق في الفقيه كمراسيل ابن أبي عمير في الحجية والاعتبار. وقد ذكرنا كلمات القوم في

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٧ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٥.

٢. وقد ذكرنا رواياته في المحصول فلاحظ ٣ / ٣٨٦.

٣. الوسائل : ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٠.

٣٨٤

كتابنا « كليات في علم الرجال ». (١)

أقول : إنّ ظاهره هو جزمه بصدورها عن الإمام ، ولكنّه كما يكون مستنداً إلى إعتقاده بعدالة رواته يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المفيدة للعلم بالصحة. وعلى كلا الوجهين لا يصحّ الاستناد ، أمّا على الثاني فواضح ، لعدم حجّية علم المجتهد على مجتهد آخر ؛ وأمّا الأوّل ، فلأنّ غايته توثيقه لمن ورد في السند ، وتوثيقه إنّما يكون حجّة إذا لم يكن له معارض ، وهو فرع الوقوف على أسمائهم والمفروض انّه ترك ذكر السند أصلاً ، ومع ذلك لا يمكن ترك هذا النوع من المراسيل.

أمّا الدلالة فهي مبنية على ثبوت أُمور ثلاثة :

١. المراد من الشيء ، هو الموضوع المجهول الحكم لا بمعنى انّه استعمل في المعنى المركّب ، بل القيد مفهوم من الغاية أعني : « حتى يرد ».

٢. المراد من المطلق ، هو الإباحة الظاهرية.

٣. المراد من الورود ، هو الوصول إلى المكلّف.

وقد حمل الشيخ الرواية على هذا المعنى وجعلها من أدلّة البراءة التامة ، وانّها تصلح أن تكون معارضةً لدليل الأخباري على فرض تماميته ، وذلك لأنّ الضمير في قوله : « يرد فيه » يرجع إلى ذات الشيء المجهول الحكم ، وانّه ما لم يرد ذاك النهي الكذائي فالمكلّف من ناحيته في سعة وإطلاق وانّه محكوم بالإباحة ظاهراً ، وعلى ضوء هذا يكون معارضاً لدليل الأخباري الدالّ على كفاية ورود النهي بالعنوان الثانوي.

وقد فسر المحقّق الخراساني الأُمور الثلاثة بغير هذا النحو.

__________________

١. كليات في علم الرجال : ٣٨٣ ـ ٣٨٤.

٣٨٥

ففسر الشيء ، بما هو هو ، من دون وصفه بمجهول الحكم ، والإطلاق بالإباحة الواقعية والورود بالصدور من قلم التشريع لا الوصول إلى يد المكلف.

فعلى نظرية الشيخ ، فالرواية ناظرة إلى بيان حكم مشتبه الحرمة والحلية ، وعلى نظر المحقّق الخراساني ناظرة إلى بيان حكم الأشياء قبل تشريع الشرائع أو الشريعة المحمدية.

وإليك تحليل النظريتين في الموارد الثلاثة :

أمّا الأوّل : فلا يمكن اختيار واحد من القولين إلا بلحاظ الأمرين الأخيرين.

أمّا الثاني : فنظر الشيخ هو الأقرب ، لأنّ الإمام بصدد الإفتاء ورفع حاجة المكلّفين في حياتهم ، ولا يتم ذلك إلا بتفسير الإطلاق بالإباحة الظاهرية ، وذلك لأنّ تفسيره بالإباحة الواقعية للأشياء قبل الشرائع أو قبل مجيئ الرسول الأعظم ، يوجب كون الإمام بصدد بيان مسألة كلامية ، لا مسألة فقهية مفيدة لحال المتكلّم إلا بضمّ الأصل وبقاء الإباحة قبل الشرع ، وهو كما ترى.

وأمّا الثالث : فالقرائن تشهد على أنّ المراد ، هو الوصول إلى المكلّف لا الصدور من قلم التشريع ولو لم يصل. وذلك أوّلاً : أنّه استعمل الورد في القرآن في الوصول قال سبحانه : ( وَلَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ ) (١) أي وصل إلى الموضع الذي فيه ماء باسم « ماء مدين ».

وثانياً : أنّ اللغة يفسره بمعنى الحضور والإشراف حتى أنّ الورود في مصطلح البلاد العربية شيء يقابل الصدور يستعملون الاستيراد مقابلاً للتصدير ؛ فجلب الأمتعة من خارج البلد إلى داخل البلد ، هو الاستيراد ، وعكسه هو التصدير.

__________________

١. القصص : ٢٣.

٣٨٦

وثالثاً : أنّ تفسير الحديث على النحو الآخر يوجب اختصاص الرواية بعصر الرسول ، وانّ الأشياء محكومة بالإباحة والإطلاق حتى يصدر من الشارع نهي ، وتكون الرواية إخباراً عن حكم زمان حياة الرسول ، وهو خلاف ظاهرها ، فانّ ظاهرها إنشاء حكم بلا تقييد بزمان ، وانّ هذا الإطلاق سائر في جميع الأزمنة.

ويؤيد التعبير بلفظ : ( حتّى يرد ) الدال على المعنى الاستقبالي ، ومفاده انّ هذا الحكم سائد في عصر الصادق وبعده إلى أن تتحقق الغاية ، ومن المعلوم ان لو كان المراد من الورد الصدور من قلم التشريع ، فالغاية تمت وتحققت قبيل رحيل الرسول ، ولم يبق أي ترقّب إليها بعد.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني وجّه إلى مختاره إشكالات ثلاثة ، وأجاب عنها غير انّ في جوابه عن الإشكال الثالث إبهاماً ، فليلاحظ.

٧. حديث الجهالة

روى الكليني بسند صحيح عن عبد الرحمان بن الحجّاج عن أبي إبراهيم عليه‌السلام :

١. قال سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدّتها بجهالة ، أهي ممن لا تحل له أبداً؟ فقال :

« لا أمّا إذا كان بجهالة فليزوجها بعد ما تنقضي عدتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك ».

٢. فقلت : بأي الجهالتين يعذر ، بجهالته انّ ذلك محرم عليه أم بجهالته انّها في عدّة؟ فقال : « إحدى الجهالتين أهون من الأُخرى : الجهالة بأنّ اللّه حرّم ذلك عليه ، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها ».

٣. فقلت : وهو من الأُخرى معذور؟ قال : « نعم إذا انقضت عدتها ، فهو معذور في أن يتزوجها ».

٣٨٧

٤. فقلت : فإن كان أحدهما متعمداً والآخر بجهل؟ فقال : « الذي تعمد لا يحل له أن يرجع إلى صاحبه أبداً ». (١)

ومجموع الأسئلة والأجوبة لا تتجاوز عن أربعة ، ومحل الشاهد في الثاني منهما ، حيث عدّ الجاهل بحرمة تزويج المعتدة معذوراً وله أن يتزوج بعدما عرف بطلان عقده ، والرواية محمولة على مجرّد العقد بلا دخول وإلا فتحرم مطلقاً جاهلاً كان أو عالماً.

وأمّا فقه الحديث فهنا سؤال ، فهل السؤال عن الجاهل الملتفت الشاك أو عن غير الملتفت؟

فعلى الأوّل ، فكلا الرجلين متمكنان من الاحتياط بأن لا يعقد حتى يسألا فكيف حكم الإمام على أحدهما بالتمكن منه دون الآخر؟

وعلى الثاني ، فكلاهما غير متمكنين ، وحمل الأوّل على غير الملتفت والثاني على غيره تفكيك بين الجهالتين.

وأمّا الاستدلال فيرد عليه : انّ الظاهر من المعذورية هو المعذورية في الحكم الوضعي وانّه لا يحرم عليه ، ويدل على ذلك انّ الإمام أجاب في الجواب عن السؤال الرابع بعدم جواز رجوعه إلى صاحبه أبداً ، وكلام السائل وجواب الإمام كلّه يدور حول المعذورية وعدمها ، أي يكون الجهل عذراً لئلا تحرم الزوجة عليه أبداً ، لا المعذورية في أمر العقاب اللّهمّ إلا أن تدّعي الملازمة.

وما ذكرنا من الأحاديث السبعة ، هو المهم من السنّة التي استدل بها على البراءة ، وهناك روايات أُخرى يمكن الاحتجاج بها عليها ، وقد ذكر بعضها الشيخ الأعظم ، فليرجع إلى الفرائد وغيرها.

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٤ ، الباب ١٧ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ٤.

٣٨٨

الثالث : الاستدلال بالإجماع

إنّ دعوى الإجماع على البراءة على وجوه :

الأوّل : ادّعاء إجماع العلماء من المجتهدين والأخباريين على أنّ الحكم فيما لم يرد فيه نهي لا بعنوان أوّلي ولا بعنوان ثانوي ، أي كونه مجهول الحكم ، هو البراءة.

وهذا النوع من الادّعاء صحيح كبرى وباطل صغرى ، لأنّ الأخباري يدّعي ورود النهي بعنوان ثانوي.

الثاني : تحصيل الإجماع المحصل على البراءة في مشتبه الحرمة من تتبّع الفتاوى في موارد الفقه من عصر ثقة الإسلام الكليني إلى زماننا هذا ، وقد نقل الشيخ شيئاً من كلماتهم.

الثالث : الإجماعات المنقولة في كلمات الصدوق والحلّي كما نقلها الشيخ.

الرابع : الإجماع العملي وسيرة المسلمين على الارتكاب حتى يدل دليل على الحرمة ، وأمر غير بعيد ويظهر من غير واحد من الآيات (١). انّ شأن النبي هو التنصيص على المحرمات دون المحللات وعلى ذلك درج المسلمون بعد رحيله ، فلا يتوقفون في الارتكاب عند الشكّ إلا بعد العلم بالحرمة إلى أن ظهر الأمين الاسترابادي فطرح هذه المشتبهات.

ويرد على الجميع : انّ الاعتماد على الإجماع في مثل هذه المسألة مشكل ، لاحتمال استناد المجمعين على الأدلة النقلية والعقلية ، فيكون الإجماع مدركياً غير مفيد لشيء ، كما هو في الإجماع المنقول.

__________________

١. ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِم يَطْعَمُهُ إِلاّ أن يكونَ مَيْتَةً أَوْ لَحْمَ خِنْزِير أَوْ دَماً مَسْفُوحاً بِهِ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْر باغ وَلا عاد فَإنَّ رَبّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). ( الأنعام : ١٤٥ ).

٣٨٩

الرابع : الاستدلال بحكم العقل

استدل القائل بالبراءة بالحكم القطعي للعقل من قبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلّف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته من الفحص عن حكم الشبهة واليأس عن الظفر به في مظانّه ، وانّ وجود التكليف مع عدم وصوله إلى المكلّف غير كاف في صحّة التعذيب. وانّ وجوده كعدمه في عدم ترتّب الأثر ، وذلك لأنّ فوت المراد مستند إلى المولى في كلتا الصورتين ، أمّا إذا لم يكن هناك بيان أصلاً ، فمعلوم ، وأمّا إذا كان هناك بيان صادر من المولى لكنّه غير واصل إلى العبد ، فلأنّ الفوت أيضاً مستند إليه إذ في وسعه إيجاب الاحتياط على العبد ، في كلّ ما يحتمل وجود التكليف ومع تركه ، يكون ترك المراد مستنداً إلى المولى حيث اقتصر في بيان المراد ، بالحكم على الموضوع بالعنوان الواقعي ، ولو كان مريداً للتكليف حتى في ظرف الشك وعدم الظفر بعد الفحص ، كان عليه استيفاء مراده بإيجاب التحفظ ، ومع عدمه ، يحكم العقل بالبراءة وانّ العقاب قبيح ويشكّل قياساً بالشكل التالي :

العقاب على محتمل التكليف ـ بعد الفحص التام وعدم العثور عليه في مظانّه لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان الثانوي ـ عقاب بلا بيان.

والعقاب بلا بيان ـ بالنحو المذكور ـ أمر قبيح.

فينتج : العقاب على محتمل التكليف ـ بالنحو المذكور ـ أمر قبيح.

ثمّ إنّ في المقام إشكالين أحدهما متوجه إلى الكبرى والآخر إلى الصغرى.

أمّا الأوّل : فربما يقال : انّ العقاب بلا بيان ليس أمراً قبيحاً إذا كان المكلّف شاكاً فانّ قيمة أغراض المولى ليست بأقلَّ من قيمة أغراض العبد ، فكما أنّه يهتم العبد بأغراضه حتى المحتملات والمشكوكات فيسلك سبيل الاحتياط ، كذلك

٣٩٠

يجب عليه الاحتياط في سبيل تحصل أغراض المولى المحتمل ، ففي صورة الشكّ يحكم العقل بوجوب الاحتياط.

نعم هنا قاعدة عقلائية جرت عليها سيرتهم وهي عدم عقاب العبد العرفي إلا بعد بيان المولى ولولا بناء العقلاء على عدم العقاب بلا بيان وعدم إمضاء الشارع له ، لم يقبح العقاب بلا بيان ، والمؤاخذة بلا بيان ، فوقع الخلط بين الأحكام العقلائية والأحكام العقلية المبنية على الحسن والقبح.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ مرجع إنكار القاعدة ، إلى أنّ احتمال التكليف منجّز للواقع عند العقل ، وإن لم يستوف المولى البيان الممكن ، والاعتماد في التعذيب والمؤاخذة على مثل هذا إنّما يصحّ إذا كان من الأحكام العقلية الواضحة. ومن المعلوم خلافها ، إذ لوكان حكماً واضحاً لما أنكره العلماء من غير فرق بين الأُصولي والأخباري ، وسيوافيك انّ النزاع بين الأخباري والأُصولي إنّما هو في الصغرى أي ورود البيان وعدمه لا في الكبرى.

وثانياً : إنّ اتّفاق العقلاء على قبح العقاب بلا بيان نابع عن حكم العقل بأنّ العبد إذا قام بوظيفته في الوقوف على مقاصد المولى ولم يجد بياناً بأحد العنوانين ، يُعدُّ العقاب بحكم وحي الفطرة أمراً قبيحاً وإلا يعود بناء العقلاء إلى أمر تعبدي وهو كما ترى.

وثالثاً : انّ الظاهر من الذكر الحكيم كون المسألة من الأُمور الفطرية حيث يستدل بها الوحي على الناس ويقول : ( وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١) ، ويذكر في آية أُخرى انّه سبحانه أبطل ببعث الرسل ، حجّة الكفار والعصاة حيث قال : ( وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذاب مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى ). (٢)

__________________

١. الإسراء : ١٥.

٢. طه : ١٣٤.

٣٩١

فتبيّن بذلك انّ الكبرى من الأحكام الواضحة لدى العقل والعقلاء بشرط التقرير على ما ذكرناها :

أمّا الأوّل أي الإشكال على الصغرى ، فهو الإشكال المعروف الذي ذكره الشيخ والمحقّق الخراساني ومن جاء بعدهما من أنّه يكفي في مقام البيان ، حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل الموجود في مورد الشبهة التحريمية الحكمية. ويكون شكل القياس بالنحو التالي : الشبهة البدوية التحريمية فيها ضرر محتمل ، وكلّ ما فيه ضرر محتمل يلزم تركه فينتج : الشبهة التحريمية ما يجب تركها.

يلاحظ عليه : أنّ المراد من الضرر في القاعدة أحد الأُمور الثلاثة :

١. العقاب. ٢. الضرر الدنيوي ( الشخصي ). ٣. المصالح والمفاسد الاجتماعية.

أمّا الأوّل : فهو بين قطعي الإحراز ، كما في مورد العلم الإجمالي بحرمة أحد الأمرين أو وجوبه فينطبق الكبرى على الصغرى ، ولذلك أطبق العلماء على وجوب الموافقة القطعية ، وقطعي الانتفاء كما في المقام ، فانّ الضرر بمعنى العقاب قطعي بحكم قبح العقاب بلا بيان ومع العلم بعدمها ، فلا يصحّ الاحتجاج بالكبرى.

والحاصل انّ لاحتمال الضرر بمعنى العقاب مناشئ كلّها محكومة بالانتفاء ، وهذه عبارة عن الأُمور التالية :

١. تقصير العبد في الفحص عن تكاليفه من مظانّها.

٢. كون المولى غير حكيم أو غير عادل.

٣. وجود البيان بأحد العنوانين.

والمفروض انّ الكلّ منتف ، فليس هنا منشأ لاحتمال العقاب ، بل العقل

٣٩٢

قاطع بعدم الضرر ( العقاب ) ومع انتفائها ، لا يحتج بمجرّد الكبرى ، ما لم تنضمّ إليها الصغرى وهو احتمال العقاب.

وبذلك يعلم أنّه لا تعارض بين الكبريين وانّ لكلّ موضعاً خاصاً ، فمورد قبح العقاب هو الشبهة البدوية كما أنّ موضع وجوب دفع الضرر إنّما هو صورة العلم بالتكليف إجمالاً أو تفصيلاً.

وهذا يعرب عن أنّ ما اشتهر من ورود القاعدة الأُولى على القاعدة الثانية أمر غير صحيح ، فإنّ الورود فرع التعارض ولا معارضة بينهما ، بل كلّ يطلب لنفسه مورداً خاصاً غير ما يطلبه الآخر لنفسه.

فمورد قاعدة القبح ، هو إذا لم يكن من المولى بيان كما أنّ مورد القاعدة الثانية ، هو إذا تم البيان ، وإن كان المتعلّق مجهولاً بين الأمرين.

هذا كلّه إذا أُريد من الضرر العقوبة المقرّرة للعصاة في الآخرة.

فإن قلت : إنّ الآثار الأُخروية القهرية للعمل أي ارتكاب المحرم الواقعي ممّا لا ينفك عنه فلا تدور وجوداً وعدماً على وجود البيان وعدمه ، فيجب الاجتناب دفعاً لهذا النوع من العقاب الأُخروي.

قلت : إنّ ما ذكر من الآثار ، من تبعات الإطاعة والعصيان لا مطلق الارتكاب فإذا مارس العبد الإطاعة والعصيان يكتسب ملكة خاصة ، فإذا فارقت الجسد تخلق الملكة صوراً متناسبة لما اكتسبتها من الملكات ، وليس كلّ فعل مؤثراً في حصول الملكة وإنّما المؤثر الفعل المعنون بعنوان الطاعة والمعصية ، والمفروض عدمهما.

هذا كلّه إذا أُريد منه الضرر الأُخروي بقسميه.

وأما الثاني : أي الضرر الدنيوي فالإجابة عنه واضحة ، لأنّ الأحكام الشرعية

٣٩٣

لا تدور مدار الضرر ، أو النفع الشخصيين حتى يكون احتمال الحرمة ، ملازماً لاحتمال الضرر الشخصي على الجسم والروح ، بل الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد نوعية ، وربما تكمن المصلحة النوعية في الضرر الشخصي كما في ترك الربا ، والظلم على الناس ، نعم ربما يجتمع الضرر الشخصي مع المفسدة الاجتماعية كشرب المسكر ، ولكنّه ليس أمراً كلياً.

ومع التسليم فليس دفع الضرر الدنيوي أمراً واجباً عقلاً إذا كان في ارتكابه غايات ، والغاية في المقام دفع عسر الاحتياط.

وأمّا الثالث : أي الضرر بمعنى المصالح والمفاسد ، فقد أجاب عنه الشيخ عند البحث في الدليل الأوّل على حجّية مطلق الظن وحاصله : انّ حكم الشارع بالبراءة يكشف إمّا عن عدم الأهمية ، أو لوجود المصلحة الغالبة على المفسدة الحاصلة. (١)

__________________

١. الفرائد : ١٠٩.

٣٩٤

أدلّة الأخباري على وجوب الاحتياط

في الشبهات التحريمية

استدلّ الأخباريّ على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية بالأدلّة الثلاثة : الكتاب والسنّة والعقل دون الإجماع لعدم كونه من الحجج عنده ، وإليك دراستها ، أمّا الكتاب فبعدّة من الآيات ، تجمعها العناوين التالية :

الأوّل : الحكم بالبراءة قول بغير علم

إنّ الحكم بجواز الارتكاب قول بغير علم لافتراض أنّ الواقع غير معلوم ، ومعه كيف يُحْكَم على الموضوع بجواز ارتكابه ، مع أنّه سبحانه قال : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ) (١)؟

والإجابة عن الاستدلال واضحة : لأنّ الجهل بالواقع ، يستلزم عدم الحكم عليه بالحلية الواقعية ، ولكنّه لا يلازم عدم الحكم عليه في الظاهر إذا قام الدليل على سعة المكلّف فيه ، كما أنّ الحكم بالضيق في الظاهر ليس قولاً بغير علم استناداً على ما توهمه الأخباري من دلالة الأدلّة عليه.

__________________

١. الإسراء : ٣٦.

٣٩٥

الثاني : الآيات الآمرة بالتقوى

دلّت الآيات على لزوم التقوى بقدر الوسع والطاقة والاستطاعة قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلاتَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون ) (١). وقال تعالى : ( فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ). (٢)

وجه الدلالة : انّ الاجتناب عن محتمل الحرمة من التقوى ، وكلّ ما كان كذلك واجب بحكم الأمر بها فينتج : الاجتناب عن محتمل الحرمة واجب.

يلاحظ عليه : منع كلّية الكبرى ، أي كلّ ما كان من مصاديق التقوى هو واجب ، لأنّ التقوى يستعمل تارة في مقابل الفجور ، وبما انّ الثاني حرام يكون الأوّل واجباً ، قال سبحانه : ( أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقينَ كَالفُجّار ) (٣) ، ( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) (٤). وأُخرى في كلّ مرغوب سواء كان واجباً أم مستحباً ، قال سبحانه : ( وَتَزوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التَّقْوى ) والإتيان بالمستحبات وترك المكروهات كلّها من مراتب التقوى ، مع انّهما غير واجبين. وممّا يدل على انّ التقوى ليس خصوص الإتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرمات بل الأعم منهما قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ) (٥) فقد كانت الهداية الأُولى غير منفكة عن التقوى ومع ذلك ، يقول سبحانه : ( وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ) بعد زيادة الهداية.

__________________

١. آل عمران : ١٠٢.

٢. التغابن : ١٦.

٣. ص : ٢٨.

٤. الشمس : ٨.

٥. محمد : ١٧.

٣٩٦

الثالث : النهي عن الوقوع في التهلكة

نهى سبحانه عن إيقاع النفس في التهلكة قال سبحانه : ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الُْمحْسِنين ) (١) وفي ارتكاب الشبهة مظنة الوقوع في التهلكة وهي واجبة الاجتناب.

يلاحظ عليه : أنّ الآية واقعة في سياق آيات الجهاد :

قال سبحانه : ( وَقاتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ الَّذينَ يُقاتِلُونَكُمْ ). (٢)

قال سبحانه : ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقفْتُمُوهُمْ ). (٣)

قال سبحانه : ( وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتنَة ). (٤)

قال سبحانه : ( وَأَنْفِقُوا في سَبيلِ اللّه وَلا تُلْقُوا ). (٥)

وعلى ذلك يكون المراد من التهلكة هو ما يترتب على ترك الجهاد والإنفاق في سبيله من تسلط الأعداء على الأُمّة الإسلامية ، وأين هو من ارتكاب الشبهة التحريمية؟!

ولو قلنا بأنّ الآية لا صلة لها بالجهاد وانّها ضابطة كلية يعمّ ما فيه الهلاك الأُخروي ، فالإجابة واضحة ، لأنّ الاستدلال بالكبرى فرع إحراز الصغرى أي الهلاك الأُخروي ، وهو في مورد العلم التفصيلي قطعي الوجود ، وفي أحد طرفي الشبهة المحصورة محتملة ، وفي الشبهة البدوية قطعي العدم فكيف يستدل بالكبرى مع القطع بعدم الصغرى.

__________________

١. البقرة : ١٩٥.

٢. البقرة : ١٩٠.

٣. البقرة : ١٩١.

٤. البقرة : ١٩٣.

٥. البقرة : ١٩٥.

٣٩٧

الاستدلال بالسنّة

استدلّ الأخباري من السنّة بطوائف ، وقد قسمها الشيخ إلى أربع طوائف ، وتبعه المحقّق الخراساني ، ويظهر من المحقّق المشكيني انّها خمس. فالطائفتان الأوّلتان ، واضحتا الإجابة ، إنّما المهم الطوائف الثلاث أي :

١. أخبار التوقّف.

٢. أخبار الاحتياط.

٣. أخبار التثليث.

وإليك الكلام في الطائفتين الأُولتين.

الأُولى : حرمة الإفتاء بغير علم

تضافرت الروايات على حرمة القول والإفتاء بغير علم ، مثل صحيحة هشام ابن سالم ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : ما حقّ اللّه على خلقه؟ قال : « أن يقولوا ما يعلمون ، ويكفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد أدّوا إلى اللّه حقّه ». (١)

ويظهر جوابها بما ذكرناه جواباً عن الاستدلال بالآيات الناهية عن الإفتاء بغير العلم فلا نعيد.

الثانية : وجوب الردّ إلى اللّه ورسوله

دلّت الروايات المتضافرة على وجوب الردّ إلى اللّه ورسوله في مشاكل الأُمور ، ففي مقبولة عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام : « أمر بيّن رشده فيتبع وأمر بيّن

__________________

١. الوسائل : ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤ ؛ وبهذا المضمون روايات كثيرة ، نظير : ٥ ، ١٠ ، ١١ ، ٢٧ ، ٣١ ، ٤٤.

٣٩٨

غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى اللّه وإلى رسوله ». (١)

إنّ مرجع هذه الروايات التي جمعها الشيخ الحرّ العاملي في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي ، إلى النهي عن الاستقلال بالفتوى بالمعايير التي ما أنزل اللّه بها من سلطان من القياس والاستحسان والمصالح المرسلة ، دون الرجوع إلى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ويوضحه قول الرضا عليه‌السلام حسب رواية الميثمي في اختلاف الحديث عنهم عليهم‌السلام : « وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم الكفّ والتثبت والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا » (٢).

الثالثة : وجوب التوقف

الروايات الآمرة بالتوقف على قسمين : تارة تأمر بالتوقّف بلا تعليل ، وأُخرى تأمر به معللة بأنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.

أمّا القسم الأوّل فظاهر في الاستحباب نذكر منه ما يلي :

١. ما كتبه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيته لولده الحسن عليهما‌السلام : « لا ورع كالوقوف عند الشبهة ». (٣)

٢. مرفوعة شعيب رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه‌السلام : قال : « أورع الناس من وقف عند الشبهة ». (٤)

٣. ما ورد في رسالة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى عامله في البصرة « عثمان بن حنيف » : « فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ،

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ ، الحديث ٩ من أبواب صفات القاضي. والاستدلال بحيثية الرد إلى اللّه سبحانه ، لا من جهة تثليث الأُمور.

٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣١.

٣ و ٤. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠ و ٢٢.

٣٩٩

وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه ». (١) والقضم كسر الشيء بالأسنان. والمورد شبهة موضوعية يكون النهي فيه للتنزيه.

٤. وما في عهد الإمام عليه‌السلام لمالك الأشتر : « اختر للحكم ... وأوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ». (٢)

والأوّلان ظاهران في الاستحباب ، ومورد الثالث ـ كما عرفت ـ شبهة موضوعية ، والرابع وارد في شرائط القاضي المستحبة. فيدل الجميع على حسن الاجتناب لا على لزومه.

وأمّا القسم الثاني ، أي ما جاء الأمر بالتوقف معلّلاً بأنّه خير من الاقتحام في الهلكة ، فتارة ورد في مورد يكون الاجتناب فيه مستحباً باتّفاق الكلّ ، وأُخرى فيما يكون الاجتناب واجباً كذلك ، ومن النوع الأوّل الحديثان التاليان :

٥. ما رواه أبو سعيد الزهري ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثاً لم تروه ، خير من روايتك حديثاً لم تحصه ». (٣)

٦. ما رواه مسعدة بن زياد ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، عن آبائه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة يقول إذا بلغك انّك قد رضعت من لبنها وانّها لك محرم وما أشبه ذلك ، فانّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ». (٤)

ومن المعلوم أنّ ترك الحديث الذي لم يُرو بطريق صحيح ليس واجباً ، كترك تزويج من اتّهم بالرضاع ، لأنّ الشبهة موضوعية والمراد من الهلكة ، هو التعب

__________________

١ و ٢ و ٣. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٧ ، ١٨ ، ٢.

٤. الوسائل : الجزء ١٤ ، الباب ١٧ من أبواب مقدمات النكاح ، الحديث ٢ ، ولاحظ الحديث ١٥ فقد نقل ملخصاً.

٤٠٠