إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

وفي الذكر الحكيم عند سرده لقصة يوسف : ( فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ في غَيابَتِ الْجُبِّ ) (١) وأمّا الاتفاق فإنّما يفهم من ذكر المتعلّق ، يقال : أجمع القوم على كذا أي اتفقوا ، قال سبحانه : ( فَأَجْمعُوا أَمْرَكُمْ وَشُركاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّة ). (٢)

وأمّا اصطلاحاً فقد عرّف بتعاريف ، وبما انّ ملاك حجّيته عند السنّة غير ملاكها عند الشيعة ، نطرح كلاً بوجه مستقل ، فنقول :

الإجماع المحصّل عند أهل السنّة

عرّفه الغزالي بقوله : إنّه اتفاق أُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي. (٣)

وعلى هذا التعريف لا يكفي اتّفاق أهل الحلّ والعقد ولا المجتهدين بل يجب اتّفاق جميع المسلمين ، وهذا ما لا ينطبق إلا على الضروريات وإن كان أكثر انطباقاً لما أقاموا من الدليل من عصمة الأُمّة ، ومع ذلك أعرض عنه أكثر أهل السنّة ، فعرّفوه بالنحو التالي :

اتّفاق أهل الحلّ والعقد على حكم من الأحكام ، أو اتّفاق المجتهدين من أُمّة محمّد في عصر على أمر ، إلى غير ذلك من التعاريف.

والمهم في المقام هو الوقوف على وجه حجّية الإجماع عند أهل السنة ، وهذا هو الذي نطرحه فيما يلي :

__________________

١. يوسف : ١٥.

٢. يونس : ٧١.

٣. المستصفى : ١ / ١١٠.

١٦١

مكانة الإجماع في الفقه السنّي

قد عرفت أنّ الإجماع بما هو إجماع ليس من أدوات التشريع ومصادره ، وانّ حجّيته تكمن في كشفه عن الحكم الواقعي المكتوب على الناس قبل إجماع المجتهدين وبعده.

وأمّا على القول باختصاص الحكم الواقعي المشترك بما ورد فيه النص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وترك التكليف فيما سواه إلى اجتهاد المجتهد ، فيصير الإجماع من مصادر التشريع ، فيعادل الكتاب والسنّة في إضفاء المشروعية على الحكم المتفق عليه ، ويصير بالاتفاق حكماً واقعياًً إلهياً.

ويوضحه الأُستاذ السوري « وهبة الزحيلي » بقوله : ونوع المستند في رأي الأكثر ، إمّا دليل قطعي من قرآن أو سنّة متواترة ، فيكون الإجماع مؤيّداً ومعاضداً له ؛ وإمّا دليل ظني وهو خبر الواحد والقياس ، فيرتقي الحكم حينئذ من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع واليقين. (١)

ومعنى ذلك انّه لابدّ أن يكون للإجماع من دليل ظني ، فإذا اتّفق المجتهدون على الحكم ولو لأجل ذلك الدليل الظني يصبح الحكم قطعيّاً ، ـ وما ذاك ـ إلا لأجل دوران الحكم مدار الاتفاق وعدمه.

يقول الشيخ عبد الوهاب خلاّف : من حقّق النظر في منشأ فكرة الإجماع في التشريع الإسلامي ، وفي كيفية الإجماع الذي انعقد في أوّل مرحلة تشريعية بعد عهد الرسول ، وفي تقدير المجمعين لمن عقد عليه إجماعهم من الأحكام ، يتحقّق أنّ الإجماع أخصب مصدر تشريعي يكفل تجدّد التشريع وتستطيع به الأُمّة أن تواجه كلّ ما يقع فيها من حوادث ، وما يحدث لها من وقائع ، وأن تساير به الأزمان

__________________

١. الوجيز في أُصول الفقه : ٤٩.

١٦٢

ومختلف المصالح في مختلف البيئات.

ثمّ قاس فكرة الإجماع بالشورى وقال : ومنشأ فكرة الإجماع انّ الإسلام أساسه في تدبير شؤون المسلمين ، الشورى ، وأنْ لايستبد أُولي الأمر منهم بتدبير شؤونهم سواء أكانت تشريعية ، أم سياسية ، أم اقتصادية ، أم إدارية أم غيرها من الشؤون ، قال اللّه تعالى مخاطباً رسوله : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْلَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) (١) ، ولم يخص سبحانه بالمشاورة أمراً دون أمر ... ليشعرهم أنّ الشورى من عمد دينهم كإقامة الصلاة.

وعلى هذا الأساس كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستشير رؤوس صحابته في الأُمور التي لم ينزل وحي من ربِّه ، وممّا كان يستشيرهم فيه التشريع فيما لم ينزل فيه قرآن ـ إلى أن قال : ـ فلمّا توفّي رسول اللّه وواجهت أصحابه وقائع عديدة لم ينزل فيها قرآن ولم تمض فيها من الرسول سنّة سلكوا السبيل الذي أرشدهم إليه القرآن وهو الشورى ، والذي سلكه الرسول فيما لم ينزل فيه قرآن وهو الشورى.

إلى أن استنتج في كلامه المسهب ما هذا نصّه : ومن هنا يتبيّن أنّ إجماع الصحابة ما كان إلا اتّفاق من أمكن اجتماعهم من رؤوسهم وخيارهم على حكم واقعة لم يرد نص بحكمها ، وأنّ الذي دعاهم إلى اتّباع هذا السبيل هو العمل بالشورى التي أوجبها اللّه وسار عليها الرسول ، وتنظيم اجتهاد الأفراد فيما لا نصّ فيه ، فبدلاً من أن يستقل كلّ فرد من خيارهم بالاجتهاد في هذه الوقائع اجتمعوا وتشاوروا وتبادلوا الآراء ، والخليفة ينفذ الحكم الذي اتّفقوا عليه. (٢)

ولا يخفى ما في كلمات الأُستاذ من الخلط.

أمّا أوّلاً : فقد تضافرت الآيات القرآنية على أنّ التشريع حقّ مختص باللّه

__________________

١. آل عمران : ١٥٩.

٢. مصادر التشريع الإسلامي : ١٦٦ ـ ١٦٧.

١٦٣

تبارك وتعالى ، وأنّ كلّ تشريع لم يكن بإذنه فهو افتراء على اللّه وبدعة ، وليس على الناس إلا الحكم بما أنزل اللّه ، ومن حكم بغيره فهو كافر وظالم وفاسق. (١)

قال سبحانه : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاّ للّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفاصِلِين ). (٢)

ومع هذا التصريح فكيف يكون للبشر الخاطئ غير الواقف على المصالح والمفاسد حقّ التشريع على الإنسان على وجه يكون نافذاً ، إلى يوم البعث؟!

نفترض أنّ لفيفاً من الصحابة بذلوا جهوداً فوصلوا إلى أنّ المصلحة تكمن في أن يكون حكم الواقعة هو هذا ، أفهل يكون إجماعهم على ذلك الحكم ـ دون أن يكون مستمداً من كتاب أو سنّة ـ حجّة على البشر إلى يوم القيامة ، لو لم نقل انّ اتّفاقهم على الحكم عندئذ بدعة وافتراء على اللّه؟!

وثانياً : أنّ عطف الإجماع على المشورة من الغرائب ، فإنّ النبي كان يستشير أصحابه في الموضوعات العرفيّة التي ليس للشارع فيها حكم شرعي ، وإنّما ترك حكمها إلى الظروف والملابسات وإلى الناس أنفسهم ، حتى نجد انّ أكثر مشاورات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تتم في كيفية القتال والذبّ عن حياض الإسلام.

فهذا هو رسول اللّه يشاور المسلمين في غزوة بدر قبل اصطدامهم بالمشركين ، وقال : أشيروا عليّ أيّها الناس ، وكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد أن يقف على رأي أصحابه في السير إلى الأمام وقتال المشركين ، أو الرجوع إلى الوراء ، ولم يكن في المقام أيّ حكم مجهول حاول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستكشفه عن طريق المشاورة ، وكم فرق بين المشاورة في الموضوعات العرفية والمشاورة لكشف حكم شرعي منوط بالوحي؟

__________________

١. راجع سورة المائدة : الآيات : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

٢. الأنعام : ٥٧.

١٦٤

وهذه هي مشاورته الثانية في معركة أُحد حيث شاور أصحابه ، ليقف على كيفية مجابهة المشركين وأُسلوب الدفاع عن الإسلام فأدلوا بآرائهم ، فمن طائفة تصرّ على أن لايخرج المسلمون من المدينة ويدافعوا عنها متحصنين بها ، إلى أُخرى ترى ضرورة مجابهة المشركين خارج المدينة. (١)

إلى غير ذلك من مشاوراته المنقولة في كتب التاريخ كمشاورته في معركة الأحزاب وغيرها.

ومن تتبع المشاورات التي أجراها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه في التاريخ يقف على حقيقة ، وهي : انّنا لا نكاد نعثر على وثيقة تاريخية تثبت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاورهم في أُمور الدين والفتيا ، بل كانت تلك المشاورات تتم في أُمور الدنيا ولما فيه صلاح أُمورهم.

أدلّة عدِّ الإجماع من مصادر التشريع

ثمّ إنّك بعد الوقوف على ما ذكرنا ـ من أنّ الإجماع ليس من مصادر التشريع ، وإنّما العبرة فيه قابلية كشفه عن الواقع وإصابته ، وهذا يختلف باختلاف مراتب الإجماع كما سبق ـ في غنى عن البرهنة على حجّية الإجماع ، وإنّما يقوم به من رأى أنّ نفس الإجماع بما هو إجماع من مصادر التشريع ، فاستدلوا بآيات :

الآية الأُولى : قوله سبحانه : ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤْمِنينَ نُولِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ). (٢)

__________________

١. مغازي الواقدي : ١ / ٢١١.

٢. النساء : ١١٥.

١٦٥

وهذه الآية هي التي تمسّك بها الشافعي على حجّية الإجماع في رسالته أُصول الفقه.

ووجه الاستدلال : هو انّ اللّه يعد اتّباع غير سبيل المؤمنين نوعاً من مشاقّة اللّه ورسوله ، وجعلَ جزاءهما واحداً وهو الوعيد حيث قال : ( نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ) فإذا كانت مشاقّة اللّه ورسوله حراماً كان اتباعُ غير سبيل المؤمنين حراماً مثله ، ولو لم يكن حراماً لما اتحدا في الجزاء ، فإذا حرم اتّباع غير سبيلهم فاتباع سبيلهم واجب ، إذ لا واسطة بينهما ، ويلزم من وجوبِ اتباع سبيلهم كونُ الإجماع حجّة ، لأنّ سبيل الشخص ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد. (١)

يلاحظ على الاستدلال بوجوه :

الأوّل : انّ الامعانَ في الآية يُرشدنا إلى أنّ ثمة طائفتين :

الأُولى : من يشاقق الرسول ويعانِدُه ويتّبع سبيل الكافرين فاللّه سبحانه يولّيه ما تولّى ويصله جهنم.

الثانية : من يحبُ الرسول ويتّبع سبيل المؤمنين فيعامل معه على خلاف الطائفة الأُولى.

ثمّ إنّ سبيل الكافرين عبارة عن عدم الإيمان به ومعاندته ومحاربته ، وسبيل المؤمنين على ضدّ سبيلهم ، فهم يؤمنون به ويحبّونه ، وينصرونه في سبيل أهدافه.

فاللّه سبحانه يذمُّ الطائفةَ الأُولى ويمدح الطائفةَ الثانية ، وعندئذ أيُّ صلة للآية بحجّية اتفاق المجتهدين في مسألة من المسائل الفرعية؟

وبعبارة أُخرى : يجب علينا إمعان النظر في قوله سبحانه : ( وَيَتَّبِعْ غير سَبيلِ المُؤْمِنين ) بُغية تبيين سبيل المؤمن والكافر ، فسبيل الأوّل هو الإيمان باللّه

____________

١. أُصول الفقه الإسلامي : ١ / ٥٤٠.

١٦٦

وإطاعة الرسول ومناصرته ، وسبيل الآخر هو الكفر باللّه ومعاداة الرسول ومشاقته.

وهذا هو المستفاد من الآية وأمّا الزائد على ذلك فالآية ساكتة عنه.

الثاني : انّ الموضوع في الآية مركب من أمرين :

أ. معاداة الرسول.

ب. سلوك غير سبيل المؤمنين.

فجعل للأمرين جزاءً واحداً وهو إصلاءه النار ، وبما انّ معاداة الرسول وحدها كاف في الجزاء ، وهذا يكشف عن أنّ المعطوف عبارة أُخرى عن المعطوف عليه ، والمراد من اتباع غير سبيل المؤمنين هو شقاق الرسول ومعاداته وليس أمراً ثانياً ؛ فما ذكره المستدل من أنّ سبيل الشخص ، هو ما يختاره من القول والفعل ، وإن كان في نفسه صحيحاً ، لكنّه أجنبي عن مفاد الآية فانّ المراد منه فيها ، مناصرة الرسول ومعاضدته.

الثالث : انّ اضفاء الحجّية على اقتفاء سبيل المؤمنين في عصر الرسول لأجل انّ سبيلهم هو سبيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يستفاد منه حجّية مطلق سبيل المؤمنين بعد مفارقته عنهم.

الثانية : آية الوسط

قال سبحانه : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ). (١)

وجه الاستدلال : أنّ الوسطَ من كلّ شيء خياره ، فيكون تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأُمّة ، فإذا أقدموا على شيء من المحظورات ، لما وُصِفُوا بالخيرية ،

__________________

١. البقرة : ١٤٣.

١٦٧

فيكون قولهم حجّة. (١)

يلاحظ على الاستدلال : أوّلاً : انّ « الوسط » بمعنى العدل ، فالآية تصف الأُمّة الإسلامية بالوسطيّة ، إمّا لأنّهم أُمّة متوسطة بين اليهود المفرّطين في حقّ الأنبياء حيث قتلوا أنبياءهم ، والنصارى الغلاة في حقّهم حتى اتّخذوا المسيح إلهاً ، أو انّهم أُمّة متوسطة بين اليهود المكبَّة على الدنيا ، والنصارى المعرضة عنها لأجل الرهبانية المبتدعة ، وأيّ صلة لهذا المعنى بحجّية رأي الأُمّة في مسألة فقهية؟

ثانياً : نفترض انّ الأُمّة الإسلامية خيار الأُمم وأفضلها لكنّه لا يدل على أنّـهم عدول لا يعصون ، ولايدل على أنّهم معصومون لا يخطأون ، والمطلوب في المقام هو إثبات عصمة الأُمّة ، كعصمة القرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يكون ما أجمعوا عليه دليلاً قطعيّاً ، مثلَ ما ينطِقُ به الكتابُ والنبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية لا تدل على عصمتهم.

وكون خبر العادل حجّة ، غير كون الإجماع حجّة ، فإنّ الحجّة في الأوّل بمعنى كونه منجِّزاً إنْ أصاب ، ومعذِّراً إنْ أخطأ ، لا كونه مصيباً للواقع على كلّ حال ، وهذا بخلاف كون الإجماع حجّة فإنّ معنـاه ـ بحكم عصمـة الأُمّــة ـ انّه مصيب للواقع بل نفسه والحكم قطعي.

ثالثاً : انّ وصف الأُمّة جميعاً ، بالخيار والعدل ، مجاز قطعاً ، فإنّ بين الأُمّة من بلغ من الصلاح والرشاد إلى درجة يُستدرّ بهم الغمام ، ومن بلغ في الشقاء أعلى درجته فخضّب الأرض بدماء الصالحين والمؤمنين ، ومع ذلك كيف تكون الأُمّة بلا استثناء خياراً وعدلاً ، وتكون بعامّة أفرادها شهداء على سائر الأُمم ، مع أنّ كثيراً منهم لا تقبل شهادتُهم في الدنيا فكيف في الآخرة؟!

__________________

١. أُصول الفقه الإسلامي : ١ / ٥٤٠.

١٦٨

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : « فإن ظننت انّ اللّه عنى بهذه الآية جميعَ أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادتُه في الدنيا على صاع من تمر ، تُطلب شهادتُه يوم القيامة وتقبل منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟! ». (١)

وهذا دليل على أنّ الوسطيّة وصف لعدّة منهم ، ولمّا كان الموصوفون بالوسطيّة جزءاً من الأُمّة الإسلامية صحّت نسبة وصفهم ، إلى الجميع نظير قوله سبحانه : ( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَومِهِ يا قَومِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلوكاً ) (٢) فقد وصف عامّة بني إسرائيل بكونهم ملوكاً ، مع أنّ البعض منهم كان ملكاً.

وإذا كانت الوسطيّة لعدّة منهم دون الجميع ، يكون هم الشهداء يوم القيامة لا جميع الأُمّة وإنّما نسب إلى الجميع مجازاً.

إلى هنا تمّ تحليل أدلّة أهل السنّة على حجّية الإجماع المحصّل.

حجّية الإجماع حسب أُصول الإمامية

أمّا الشيعة فالمعروف عندهم من الطرق هو أمران :

١. استكشاف قول المعصوم بالملازمة العقلية ( قاعدة اللطف ).

٢. استكشاف قوله عليه‌السلام بالملازمة العادية ( قاعدة الحدس ).

هذان الوجهان هما المعروفان ، وأمّا استكشاف قوله عن طريق الدخول فهو يختص بعصر الحضور ، وإليك تحليل الوجهين :

__________________

١. البرهان : ١ / ١٦٠.

٢. المائدة : ٢٠.

١٦٩

١. استكشاف قوله عليه‌السلام بقاعدة اللطف

وحاصل تقريره : أن يستكشف عقلاً رأي الإمام عليه‌السلام من اتّفاق من عداه من العلماء على حكم ، وعدم ردّهم عنه ، نظراً إلى قاعدة اللطف التي لأجلها وجب على اللّه نصب الحجّة المتصف بالعلم والعصمة ، فانّ من أعظم فوائده ، حفظ الحقّ وتمييزه من الباطل كي لا يضيع بخفائه ويرتفع عن أهله أو يشتبه بغيره ، وتلقينهم طريقاً يتمكن العلماء وغيرهم من الوصول به إليه ومنعهم وتثبيطهم عن الباطل أوّلا ، أو ردهم عنه إذا أجمعوا عليه. (١)

وممّن ذهب إلى اعتبار الإجماع من هذه الجهة ، الشيخ الكراجكي قال : كثيراً ما يقول المخالفون : إذا كنتم قد وجدتم السبيل إلى علم تحتاجونه من الفتاوى المحفوظة عن الأئمّة المتقدّمين ، فقد استغنيتم بذلك عن إمام الزمان ، فأجاب إلى فائدة وجوده أيضاً بأنّه يكون من وراء العلماء ، وشاهداً لأحوالهم عالماً بأخبارهم ، إن غلطوا هداهم ، أو نسوا ذكرهم. (٢)

وممّن أيّد هذه القاعدة المحقّق الداماد ، قال : ومن ضروب الانتفاعات أن يكون حافظاً لأحكامهم الدينية على وجه الأرض عند تشعّب آرائهم ، واختلاف أهوائهم ، ومستنداً لحجّية إجماع أهل الحلّ والعقد ، فانّه عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف لا يتفرّد بقول ، بل من الرحمة أن يكون من المجتهدين من يوافق رأيه رأي إمام عصره وصاحب أمره ، يطابق قوله قوله.

وقد نقل عن شريف العلماء انّه قال : فانّ وجود الإمام في زمن الغيبة لطف قطعاً ، ومن ذلك حفظ الشريعة وردّ المجمعين على الباطل وإرشادهم إلى

__________________

١. كشف القناع : ١١٤.

٢. كشف القناع : ١٤٥.

١٧٠

الحقّ. (١)

هذا وقد نقل المحقّق التستري كلمات كثير من العلماء القدامى والمتأخرين واستظهر من عباراتهم أنّها تنطبق على الاعتماد على قاعدة اللطف ، ومع ذلك فهي غير تامّة لوجوه :

الأوّل : انّ هنا أُموراً ثلاثة :

١. انّ وجود الإمام لطف إمّا لأنّه العلّة الغائية للكون ، فانّ العالم خلق للإنسان الكامل ، والإمام من أظهر مصاديقه ، ولولا الغاية لساخت الأرض بأهلها ، وإمّا لأنّ اعتقاد المكلّفين بوجود امام وتجويز إنفاذ حكمه عليهم في كلّ وقت سبب لردعهم عن الفساد وقربهم إلى الصلاح ، وعاملاً لتوحيدحكمتهم واستعدادهم لنصرته لدى الظهور.

٢. تصرّفه لطف آخر لأنّه بتصرفه يحفظ الشرائع ويصونها عن الزيادة والنقصان ، ويبعث الرعية إلى الصلاح ، ويصدّها عن الفساد ، ويخلق اجواء وظروفاً ثقافية ، تكون الرعية فيها أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية إلى غير ذلك من فوائد لتصرفه.

فاللطف الأوّل لازم وجوده لا يعدم ، بخلاف اللطف الثاني فهو رهن استعداد في الرعية ، واستعدادها لنصرته ، وقبول أوامره وامتثال قوله.

٣. حرمان الأُمّة من اللطف الثاني مستند إليهم ، لا إلى اللّه ولا إلى الإمام ، وذلك لأنّهم إذا لم يقوموا بوظيفتهم وأرادت الأكثرية مخالفته أو اغتياله ، يختفي منهم ويكون حرمانهم من ألطافه وتصرفاته مستنداً إلى شقائهم لا إلى اللّه ولا إلى الإمام. (٢)

__________________

١. كشف القناع : ١٤٨.

٢. كشف المراد : قسم الإلهيات : ١٨٣.

١٧١

وبعبارة أُخرى : إذا كانت الرعيّة هي السبب لاختفائه فهي السبب لحرمانها من فيوضه وإرشاداته التي منها ، التعرّف بالأحكام ومعرفة صحيحها عن سقيمها ، فليس خفاء بعض التكاليف ، بأهمّ من سائر ألطافه ، فما هو المجوّز لحرمانهم منها ، هو المسوّغ له أيضاً ، وعلى هذا ، المصالح التي اقتضت غيبة الإمام وأوجبت حرمان الناس من الفيوض المعنوية ، هي التي اقتضت حرمان الناس عن معرفة الحكم الصحيح عن الباطل ، وليس هذا النوع من الحرمان بأعلى من سائر أقسامه.

الثاني : انّ المتمسكين باللطف يرون كفاية إظهار الخلاف ولو بلسان واحد من علماء العصر ، ولكن لسائل أن يسأل ويقول : أيّة فائدة تترتب على هداية واحد من أفراد الأُمّة وترك الجميع في التيه والضلالة ، ولو وجب اللطف لكان عليه هداية الجميع أو الأكثرين ، لا الفرد الشاذ النادر ، نعم لا يتلقى الجيل الآتي ذلك الاتّفاق إجماعاً لوجود المخالف وهذا ليس إلا لطفاً نسبياً ، لا مطلقاً؟

الثالث : انّ حال الغيبة لا يفترق حال الحضور ، فكما يجوز كتمان بعض الحقائق لخوف أو تقيّة أو غير ذلك من المصالح ، فهكذا يجوز حال الغيبة خصوصاً في المسائل التي لا تمسّ الحاجة إليها إلا نادراً.

وقد صرّح المرتضى في كتاب الشافي بذلك وقال : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان منذ قبض اللّه نبيّه في حال تقية ومداراة وانّه لما أفضى الأمر إليه لم تفارقه التقية. (١)

ومن هنا ظهر مدى صحّة كشف قول المعصوم بالإجماع ، ففي الإجماع التشرفي ، المتحقّق هو ذات المكشوف وهو قول المعصوم ، دون الكاشف ، وادعاء الإجماع غطاء عليه ، لئلا يكذب واستكشاف قوله عليه‌السلام عن هذا الطريق يختص بالأوحدي من العلماء.

__________________

١. كشف القناع : ١٤٩ ، نقلاً عن الشافي.

١٧٢

وفي الإجماع الدخولي ، يوجد الكاشف والمكشوف ، لكنّه يختص بزمان الحضور ، ولا يعمّ حال الغيبة.

واستكشاف قوله عليه‌السلام عن طريق قاعدة اللطف غير تامّ من جهة عدم الملازمة العقلية بين الاتفاق وقول الإمام. وإن شئت قلت : بين الكاشف والمنكشف ، إذ لا دليل على لزوم إظهار الحقّ وإيجاد الخلاف بين العلماء إذا كان الناس بأنفسهم هم السبب لخفائه ، فقاعدة اللطف قاعدة تامة في الحدّ الذي أوعزنا إليه ، لا في المقام.

٢. الإجماع الحدسي أو الملازمة العادية

والمراد منه حدس قول المعصوم عن طريق اتفاق المجمعين بادّعاء الملازمة العادية بين اتّفاقهم وقول المعصوم ، فخرج بقولنا : « حدس قول المعصوم » الإجماع التشرّفي والدخوليّ ، لأنّ المدّعي يصل إليه فيهما عن طريق الحس ، كما خرج بقوله : « الملازمة العادية » ، كشف قول المعصوم عن طريق قاعدة اللطف ، فانّها لو تمّت في المقام لدلّت على وجود الملازمة العقلية بين سكوت الإمام وموافقته لما اتّفقوا عليه.

ثمّ إنّه يقرر كشف قول المعصوم بالحدس بوجوه :

١. تراكم الظنون مورث لليقين

إنّ فتوى كلّ فقيه ـ وإن كان يفيد الظن ولو بأدنى مرتبته ـ إلا أنّه يتقوّى بفتوى فقيه ثان ، فثالث ، إلى أن يحصل للإنسان اليقين من إفتاء جماعة بموافقة القطع بالصحة ، إذ من البعيد أن يتطرّق البطلان إلى فتوى جماعة كثيرين.

وهذا الوجه كان موجوداً في كلام القدماء ، حتى أنّ السيّد المرتضى أشكل

١٧٣

عليه بما سنذكره ، وذكر هذا الوجه المحقّق التستري في كشف القناع تحت عنوان الوجه السادس ، ونقله المحقّق النائيني وقال : قيل إنّ حجّيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حدّ يوجب القطع بالحكم كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر. (١)

وأورد عليه المرتضى بما هذا حاصله : نحن إذا جوزنا الخطأ على كلّ واحد فقد جوزنا الخطأ على مجموعهم.

يلاحظ عليه : أنّ حكم المجموع غير حكم الآحاد ، وهو أمر واضح ، فرجل واحد لا يستطيع أن يرفع الجسم الثقيل ، بخلاف المجموع من الرجال.

والأولى أن يجاب عن الاستدلال بالنحو التالي : وهو وجود الفرق بين الخبر المتواتر ، والمقام بوجهين :

الأوّل : انّ كلّ واحد من المخبرين في الخبر المتواتر ، يدعي القطع بالرواية مثلاً ، فتحصل من ادعاء كلّ فرد القطع بالرؤية ، مرتبة في الظن ، ويأتي حديث تراكم الظنون المنتهي إلى القطع ، بخلاف المقام ، فإنّ كلّ فقيه لا يصدر عن القطع ، بل أكثرهم يصدر عن الدليل الظني فكلّ يقول : أظن أنّ الحكم كذلك. ومن المعلوم انّه لا يحصل من ادعاء الظن مهما تراكم ، القطع بالحكم إلا نادراً.

الثاني : وجود الفرق بين الخبر المتواتر ، والإجماع المحصّل ، فإنّ كلّ مخبر في الأوّل يخبر عن حس ، والاشتباه في الحس قليل ، واحتمال تعمّد الكذب مردود بالوثاقة والعدالة ، بخلاف المقام فإنّ كلّ واحد من أصحاب الفتوى يخبر عن حدس ، والاشتباه في المسائل العقلية ليس بقليل.

__________________

١. فوائد الأُصول : ٣ / ١٥٠.

١٧٤

٢. كشفه عن وجود الدليل المعتبر

إنّ اتّفاق العلماء يكشف عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا ، وهذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول وقال : يُستكشف قول المعصوم أو عن دليل معتبر ، باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمّة في الأحكام وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي والاستحسان.

واعتمد عليه المحقّق النائيني وعدّه من أحسن الوجوه.

وأورد عليه السيد المحقّق الخوئي : انّه يحتمل أن يعتمدوا على قاعدة باطلة أو أصل مردود. (١)

يلاحظ عليه : أنّ دراسة تاريخ الفقه إلى عصر الشيخ يعرب عن أنّ الفقهاء كانوا لا يصدرون إلا عن الروايات والنصوص لا على القواعد ، وهذا ظاهر لمن راجعَ الفقه الرضوي ، وهو إمّا نفس كتاب التكليف للشلمغاني ، أو رسالة علي بن بابويه إلى ابنه الصدوق ، أو راجعَ كتابي المقنع والهداية للصدوق ، والمقنعة للشيخ المفيد ، والنهاية للطوسي ، وهذه الكتب كلّها فقه منصوص مقابل الفقه المستنبط ، نعم لا يمكن الاعتماد على انتصار المرتضى وناصرياته ، ولا على كتاب الإيضاح للفضل بن شاذان المتوفّى عام ٢٦٠ هـ لاعتمادهما على الأُصول والقواعد ، ولا على كتاب المبسوط للشيخ الطوسي ، لأنّ أكثرها فقه مستنبط ، استخرجه الشيخ من القواعد.

نعم يرد على هذا الوجه ما ذكره السيد الأُستاذ : من أنّه من البعيد أن يقف الكليني والصدوق والمفيد والشيخ ومن بعدهما على رواية متقنة دالّة على المقصود ، وأفتوا بمضمونه ، ومع ذلك لا يذكرونه في جوامعهم. (٢)

__________________

١. سيوافيك تفصيله عند البحث عن الشهرة الفتوائية فانتظر.

٢. تهذيب الأُصول : : ٢ / ١٠٠.

١٧٥

وما أوردنا عليه في الدورة السابقة من أنّ أصحاب الكتب الأربعة لم يحيطوا بجميع الأخبار ، بشهادة أنّ الشيخ الحرّ العاملي استدرك عليهم بتأليف كتاب وسائل الشيعة ، ليس بتام ، إذ ليس الكلام في الإحاطة وعدمها ، بل الكلام في أنّه من البعيد أن يقف أصحاب الجوامع على خبر ، ويفتوا بمضمونه ، ولا ينقلوه ، وأين هذا من إحاطتهم بجميع الأخبار وعدمها؟

٢. كشفه عن شهرة الحكم عند أصحاب الأئمّة

إنّ اتّفاق المرؤوسين المنقادين على شيء يكشف عن رضا الرئيس ، فإذا رأينا اتّفاق موظفي دائرة على تكريم شخص خاص ، يستكشف ، أنّ هذا بإشارة منه خصوصاً إذا تكرر التكريم. (١)

وهذا أمر جميل إذا كانت الصلة بين الرئيس والمرؤوس موجودة كما في عصر الحضور ، ولذلك كان أصحاب أئمّة أهل البيت يتركون ما سمعوه من الإمام شفهياً ، ويأخذون بقول ما اتّفق عليه أصحابه ، وقد استفتى عبد اللّه بن محرز أبا عبد اللّه عن رجل مات وترك ابنة وقال : إنّ لي عصبة بالشام ، فأفتى الإمام بدفع نصفها إليها والنصف الآخر إلى العصبة ، فلمّـا قدم الكوفة أخبر أصحاب الإمام فلمّا سمعوا قالوا : اتقاك والمال كلّه للابنة. (٢)

وعلى هذا فالشهرة الفتوائية عند قدماء الأصحاب في عصر الغيبة يكشف عن كون الحكم مشهوراً بين الأصحاب في زمان الأئمّة ، ويدل على ذلك أنّ في الفقه الشيعي مسائل كثيرة ليس لها دليل سوى الشهرة ، ولعلّ قسماً من أحكام الفرائض من هذا القبيل ، كان السيد المحقّق البروجردي يقول : إنّ في الفقه مئات

__________________

١. فوائد الأُصول : ٣ / ١٤٩ ؛ درر الأُصول : ٢ / ٣٧٢.

٢. الوسائل : ١٧ ، الباب ٤ من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديث ٣.

١٧٦

من المسائل ليس لها دليل في الكتاب والسنّة ولكنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول ، وهذا يكشف عن ثبوت الحكم في الشريعة المطهرة ومعروفيته لدى الأئمّة.

وهذا هو الذي اعتمد عليه السيد الإمام الخميني ولعلّه الأظهر.

تمّ الكلام عن الإجماع المحصّل ، وحان حين البحث عن الإجماع المنقول.

المقام الثاني : في حجّية الإجماع المنقول

إذا نُقِل الإجماعُ بخبر الثقة فهل هو حجّة للمنقول إليه أو لا؟ فيقع الكلام تارة في الثبوت ، أي مقدار دلالة لفظ الناقل ، وأُخرى في الإثبات أي حجّية نقله. وإليك الكلام فيهما :

الأوّل : في بيان مقدار الدلالة

يختلف تعبير الناقل في مقام النقل وبذلك يختلف مدلوله حسب نقل السبب أو المسبب أو كليهما ، وإليك صوره :

١. أن ينقل السبب والمسبب كليهما عن حس ، كما في الإجماع الدخولي.

٢. أن ينقل السبب عن حس ، والمسبب عن حدس ، مثالهما : إذا قال أجمع جميع الأُمّة من المعصوم وغيره وأمّا كون المسبب منقولاً بالحس أو بالحدس فإنّما يعلم من مسلك ناقل الإجماع ، والغالب هو الثاني.

٣. أن ينقل السبب عن حس مجرّداً عن المسبب ، إمّا تصريحاً كما إذا قال : إجماعاً من غير المعصوم ، أو انصرافاً كما إذا قال : أجمع عليه الأصحاب ، لكن يكون ملازماً مع المسبب عادة على المسالك الثلاثة ( تراكم الظنون ، أو الكشف عن الخبر ، أو عن اشتهار الحكم بين أصحاب الأئمّة ).

٤. إذا نقل السبب عن حس ، لكن لم يكن ملازماً لقول المعصوم ، كما إذا

١٧٧

وقف على أقوال محدودة فزعم اتّفاق الباقين معهم عن حدس.

٥. إذا كان نقل السبب فضلاً عن المسبب عن حدس ، كما إذا استكشف رأيهم من اتّفاقهم على قاعدة ، يكون المورد من مصاديقه ، وسيوافيك مثاله عند دراسة الإجماعات المنقولة في الكتب الفقهية ، هذه هي الصور المتصورة في المقام ، ولا طريق إلى استكشاف واحدة منها إلا لفظ الناقل ، فتارة يكون صريحاً فيها وأُخرى ظاهراً وثالثة مجملاً.

الموضع الثاني : في بيان ما هو الحجّة منه

إذا عرفت اختلاف ألفاظ الناقلين للإجماع في مقام الحكاية ، فقبل بيان أحكام الصور يجب التنبيه على أمر وهو : انّه لا إشكال في حجّية القسم الأوّل ، كما سيأتي إنّما الكلام في حجّية القسم الثاني ، حيث ينقل المسبب عن حدس ، فهل تشمله الأدلّة؟

إنّ الدليل الوحيد على حجّية الخبر الواحد هو بناء العقلاء ، وهو مختص بما إذا كان المخبر به أمراً حسيّاً أو كانت مقدماته القريبة أُموراً حسيّة ، كالاخبار عن العدالة النفسانية إذا شاهد منه التورّع عن المعاصي ، أو الإخبار عن الشجاعة ، إذا شاهد قتاله مع الأبطال في ساحة القتال ، وأمّا إذا كان المخبر به أمراً حدسياً محضاً ولم تكن مقدماته قريبة من الحس ، فليست هناك سيرة عقلائية بلزوم الأخذ بخبره ، إذا عرفت هذا ، فلنرجع إلى بيان أحكامه.

أمّا الصورة الأُولى : أي إذا نقل السبب والمسبب عن حس ، فهو وإن كان يتضمن قول المعصوم ، لكنّه إنّما ينفع في عصر الحضور لا في زمان الغيبة ، فانّ أساس هذا النوع من الادّعاء يرجع إلى الإجماع الدخولي المختص بعصر الحضور.

أمّا الصورة الثانية : إذا كان نقل السبب عن حس ، لكن المسبب عن

١٧٨

حدس معتمداً على القاعدة العقلية أعني قاعدة اللطف ، فلا شكّ أنّه ليس بحجّة للمنقول إليه ، لما عرفت من اختصاص حجّية خبر الواحد بما إذا كان المخبر به أو مقدماته القريبة أمراً حسيّاً ، وليس المقام كذلك ، لأنّ استكشاف قول المعصوم من الاتّفاق مبني على الحدس والاستدلال.

أمّا الصورة الثالثة : إذا كان نقل السبب عن حس ، الملازم لقول المعصوم عند المنقول إليه ملازمة عادية أو إتّفاقية ، فلا شكّ في كونه حجّة ، إذ لا فرق بين نقل قول المعصوم بالدلالة التضمنية ـ كما في الصورتين الأُولتين ـ أو بالالتزامية ، كما في المقام ، إلا أنّ الكلام في وجود الصغرى وانّ الناقل تتبع أقوال العلماء إلى حدّ يلازم قول المعصوم ، حتى يكون ملازماً لقوله عادة ، وسيوافيك تساهل نقلة الإجماع في نقله.

أمّا الصورة الرابعة : إذا نقل السبب عن حس لا يكون ملازماً لقول المعصوم ، كما إذا وقف على أقوال عدّة من العلماء فأذعن باتّفاق الكلّ عن حدس وادّعى الإجماع ، فليس بحجّة لعدم الملازمة. اللّهمّ إلا أن يضيف المنقول إليه ، أقوال الآخرين حتى يحصل عنده السبب التامّ الكاشف عن قول المعصوم.

أمّا الصورة الخامسة : إذا نقل السبب فضلاً عن المسبب عن حدس ، كما إذا حاول استكشاف أقوال العلماء من اتّفاقهم على القاعدة ، فليس بحجّة عند الناقل فضلاً عن المنقول إليه.

فتلخص من هذا البحث ، عدم حجّية الإجماع المنقول إلافي الصورة الأُولى ، واختصاصه بعصر الحضور ، والصورة الثالثة ، لكنّه قليل الوجود ، لأنّ التساهل في نقل الإجماع قد خيّم على أكثر الإجماعات المنقولة في الكتب الفقهية وقلّما يتّفق للفقيه أنْ يتبع كلمات الأوائل والأواخر حتى تجتمع عنده أقوال الفقهاء إلى حدّ يلازم عادة قول المعصوم.

١٧٩

ولأجل إثبات وجود التساهل في نوع الإجماعات المنقولة نذكر بعض ما ذكره الشيخ الأنصاري في المقام ـ وإنْ أهمله المحقّق الخراساني ـ وما يرتبط بتعارض الإجماعات المنقولة وثبوت التواتر بالنقل وذلك في ضمن أُمور.

الأوّل : تقييم الإجماعات الواردة في كتب القدماء

قد عرفت أنّ ما هو المفيد من نقل السبب ما يكون ملازماً عادياً لقول الإمام بأحد الوجوه الثلاثة ، إنّما الكلام في انطباقه على الإجماعات الواردة في كتب الأقطاب الخمسة الذين ملأت كتبهم دعوى الإجماع على المسائل المعنونة فيها كالمفيد ، والمرتضى ، والطوسي ، والحلبي صاحب الغنية ، والحلّي صاحب السرائر ـ قدّس اللّه أسرارهم ـ.

إنّ الامعان في كتبهم يثبت أنّ ادّعاءهم الإجماع لم يكن على أساس تتبع الأقوال في كتب الأصحاب ، بل كانوا يعتمدون في استنباط فتوى الكلّ من اتّفاقهم على العمل بالأُمور التالية :

١. وجود الأصل العملي في المسألة مع افتراض عدم الدليل.

٢. عموم دليل في المسألة مع عدم وجدان المخصص.

٣. وجود خبر معتبر في المسألة عند عدم وجدان المعارض.

٤. اتّفاقهم على مسألة أُصولية ، يستلزم القولُ بها ، الحكمَ في المسألة المفروضة.

وغير ذلك من الأُمور التي صارت سبباً لنسبة الحكم إلى الأصحاب وادّعائهم الإجماع.

والشاهد على ذلك أُمور :

١٨٠