إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

الصلاة واقعة في الوقت وأداءً ، أو استصحاب الطهارة لا يثبت كون المصلي متطهراً مع أنّ الإمام اكتفى به وقال : لأنّه كان على يقين من طهارته ولم يقل انّه كان متطهراً.

والحاصل انّ استصحاب الوصف المرتبط بالموصوف نفس كون الموضوع موصوفاً به عرفاً.

وإن شئت قلت : إنّ الواسطة ضعيفة.

عدم الحاجة إلى الاستصحاب

ما ذكرنا من الصورتين هو الصحيح من التمسّك بالاستصحاب في المقام ، ومع ذلك لا حاجة إليه في إثبات صحّة الصلاة ، وذلك لأنّ البراءة تكفي من دون حاجة إلى الاستصحاب ، والبراءة متقدمة عليه إذا كان الأصلان متوافقي المضمون ، وذلك لأنّ صرف الشكّ في كون الشيء قاطعاً كاف في الحكم بعدم كونه قاطعاً ، وعندئذ يستغنى عن الاستصحاب الذي هو مركّب من شيئين صرف الشكّ ولحاظ الحالة السابقة ، ومن المعلوم تقدّم البسيط على المركّب.

فإن قلت : قد تكرّر منّا انّ الاستصحاب مقدّم على أصل البراءة لكونه أصلاً محرزاً ، فكيف تقدّم البراءة عليه في هذا المقام؟

قلت : هذا إذا كانا متخالفي المضمون وكان الاستصحاب على خلاف مضمون البراءة دون المقام الذي كلا الأصلين يتّحدان في النتيجة.

الخامس : حكم الزيادة حسب القواعد الثانوية

هذا كلّه حول القواعد الأوّلية ، وإليك الكلام في القواعد الثانوية ، فقد ورد حول الزيادة روايات بين كونها عامة أو خاصة والذي يهمنا هو القسم الأوّل.

٦٠١

الأوّل : قاعدة من زاد في صلاته

١. ما رواه الكليني بسند صحيح عن زرارة وبكير بن أعين ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها واستقبل صلاته استقبالاً ، إذا كان استيقن يقيناً ». (١)

٢. ما رواه الشيخ بسنده إلى علي بن مهزيار ، عن فضالة بن أيوب الثقة ، عن أبان بن عثمان ( الذي هو ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه ) عن أبي بصير قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « من زاد في صلاته فعليه الإعادة ». (٢)

٣. ما رواه الشيخ عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا تعاد الصلاة إلا من خمسة : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود ، ثمّ قال : القراءة سنّة ، والتشهد سنّة فلا تنقض السنّة الفريضة ». (٣)

وسند الشيخ إلى زرارة في التهذيبين غير صحيح ، لكن رواه الكليني بسند صحيح رواه شيخنا الحرّ العاملي في أبواب القبلة باللفظ التالي : عن زرارة ، سألت أبا جعفر عليه‌السلام في الفرض في الصلاة ، فقال : « الوقت ، والطهور ، والقبلة ، والتوجه ، والركوع والسجود ، والدعاء » قلت : ما سوى ذلك؟ فقال : سنة في فريضة. (٤)

ثمّ إنّ البحث فيما أوردنا من الروايات يتم في ضمن أُمور :

١. شمول الرواية الأُولى لمطلق الزيادة

لا شكّ انّ الرواية تصدق على الموردين :

١. إذا أتى بغير المسانخ بنية الجزئية كالتأمين ، ووضع اليد اليمنى على اليسرى.

__________________

١ و ٢. الوسائل : الجزء ٥ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل ، الحديث ١ و ٢.

٣. الوسائل : الجزء ٤ ، الباب ١ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث ٤.

٤. الوسائل : الجزء ٣ ، الباب ١ من أبواب القبلة ، الحديث ١.

٦٠٢

٢. إذا كان الزائد على وجه بحيث يطلق عليه الصلاة ، كالركعة.

إنّما الكلام في صدقه على أجزاء الصلاة وإن لم تصدق انّه صلاة بالحمل الشائع ، كالسورة والتشهد ، نظير ما إذا أمر المولى بصنع معجون مركب من أجزاء معينة كماً وكيفاً فخالف العبد أمر المولى في كمية بعض الأجزاء فزاد في المعجون ، وعلى ذلك يكون معنى قوله : « من زاد في صلاته شيئاً فعليه الإعادة ».

لكن شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري خصّ مفاد الحديث بما إذا كان الزائد مصداقاً للصلاة كالركعة والركعتين ، فاستدل على ذلك بما هذا حاصله :

إنّ الظاهر أنّ متعلّق الزيادة في المقام من قبيل الزيادة في العمر في قولك : زاد اللّه عمرك ، فيكون القدر الذي جعلت الصلاة ظرفاً له ، هو الصلاة ، فينحصر المورد بما إذا كان الزائد مقداراً يطلق عليه الصلاة مستقلاً كالركعة والركعتين ، مضافاً إلى أنّه القدر المتيقن في بطلان الصلاة بالزيادة أضف إليه أنّ رواية زرارة وبكير تشمل على لفظ الركعة. (١)

يلاحظ عليه : أنّ العمر أمر بسيط لا تتصور فيه الزيادة إلا من جنسه ، فلو زيد عليه يكون الزائد شيئاً يصدق عليه أنّه عمر ، وهذا بخلاف الصلاة المركبة من أُمور شتى مختلفة وجوداً وماهية فيكفي في صدقها كون الزائد مسانخاً لجزء من أجزائها أو غير مسانخ لكنّه أتى به بنيّة كونه جزءاً لها ، وأمّا حديث زرارة فسيوافيك الكلام فيه.

الثاني : في قاعدة لا تعاد

القاعدة الثانية : هي قاعدة لا تعاد الصلاة إلا من خمسة كما عرفت.

ويقع الكلام فيها من جهات :

__________________

١. الصلاة : المقصد الثالث : ٢١٠ ط ١٣٥٣ هـ ق.

٦٠٣

الجهة الأُولى : في سند القاعدة

روى الصدوق في الفقيه ، والشيخ باسنادهما عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال :

« لا تعاد الصلاة إلا من خمسة : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود » ، ثمّ قال : « القراءة سنّة ، والتشهد سنّة ، فلا تنقض السنّة الفريضة ». (١)

وسند الصدوق في مشيخة الفقيه إلى زرارة صحيح ، بخلاف سند الشيخ في مشيخة التهذيب إليه فليس بصحيح ، وهذا المقدار يكفي في الاعتماد عليها ، مضافاً إلى اشتهارها بين الأصحاب ، وإلى رواية الصدوق لها في الخصال بالسند التالي الذي هو في غاية الصحة ، قال : حدثنا أبي ( رض ) قال : حدثنا سعد بن عبد اللّه ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام والسند صحيح ورواته ثقات عدول.

الجهة الثانية : في سعة موضوعها وضيقه

ينقسم المكلف حسب الحالات إلى « عامد » و « شاك » و « جاهل مركب » و « ناس » فهل القاعدة تشمل الجميع أو لا؟ فلنتناول الأقسام الأربعة بالدراسة.

أمّا العامد : فلا ريب في خروجه عن حريم القاعدة ، إذ معنى شمولها له جعل الترخيص للعامد أن يتلاعب بالصلاة بالزيادة والنقيصة في غير الخمسة ، وهذا باطل بالضرورة ، وقد مرّ أنّ مفاد الجزئية هو البطلان بترك الجزء عامداً.

وأمّا الشاك ، الذي يعبّر عنه بالجاهل الملتفت : فتارة يشك في جزئية شيء أو مانعية الزيادة وقاطعيته قبل الشروع في الصلاة ، وأُخرى بعدها. أمّا الأوّل : فالرواية

__________________

١. الفقيه : ١ / ٢٥٥ ؛ التهذيب : ٢ / ١٥٢.

٦٠٤

منصرفة عنه ، لأنّ موضوعها من دخل في العبادة عن يقين وقطع بالصحة ثمّ عرض له الشك بعد الفراغ عن العمل من جهة احتمال الإخلال بالصلاة من جانب النقيصة والزيادة ، فيقال له أعد ، أو لا تعيد ، فلا يصدق على الشاك قبل الإتيان بالعمل.

وأمّا الشاك بعد الصلاة ، فوظيفته التعلّم ورفع الشكّ ، وإلا فيرجع إلى القواعد المقررة للشاك لا التحفظ بالشك مطلقاً والعمل بالقاعدة.

والحاصل أنّ الشاك ـ أعني : الجاهل الملتفت ـ خارج عن مصب الرواية ، أمّا قبل الدخول في العمل فلاختصاص القاعدة بنحو لا يمكن معه تدارك المتروك ، كمن نسي القراءة ولم يذكر حتى ركع ، فلا تكون القاعدة مستندة لجواز الدخول في الصلاة مع الشكّ ، بل هي مستندة لمن دخل في الصلاة وقصد امتثال الأمر الواقعي ثمّ تبين الخلل في شيء من الأجزاء أو الشرائط.

وأمّا بعد الدخول فلا تهدف القاعدة إلى تثبيت الجاهل على جهله والاكتفاء بالقاعدة ، بل وظيفته التعلّم ورفع الجهل وإلا فالرجوع إلى الأُصول العملية.

فعلى كلّ تقدير فالجاهل الملتفت خارج عن مصب الرواية قبل الدخول أو بعده.

بقي الكلام في الجاهل بالموضوع أو الحكم ، وكذا الناسي.

فالظاهر أنّ القاعدة تشملهما بكلا قسميهما دون فرق بين تعلّقهما بالموضوع أو بالحكم ، فالأوّل كما لو جهل أنّ ثوبه نجس ، والثاني كما لو جهل بحكم عدم جواز الصلاة فيها ، ومثله النسيان بكلا قسميه ، فالظاهر أنّ القاعدة تشمل كلا القسمين سواء كان المتعلّق موضوعاً أو حكماً. غير أنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري منع عن شمول القاعدة في الجهل بالحكم ونسيانه. وبنى مختاره على أمرين :

٦٠٥

أ : انّ ظاهر قوله : « لا تعاد » هو الصحّة الواقعية ، وكون الناقص مصداقاً واقعياً لامتثال أمر الصلاة.

ب : انّ القول بشمول القاعدة لما إذا اعتقد عدم وجوب شيء أو عدم شرطية شيء ، أو كان ناسياً لحكم شيء من الجزئية والشرطية يستلزم التصويب الممتنع لما ظهر من المقدمة الأُولى أنّ ظاهر الصحيح الحكم بصحة العمل واقعاً ، ومقتضاه عدم كون المتروك جزءاً أو شرطاً ، ولا يعقل أن يقيد الجزئية والشرطية بالعلم بهما ، بحيث لو صار عالماً بعدمهما بالجهل المركب لما كان الجزء جزءاً ولا الشرط شرطاً.

نعم يمكن على نحو التصويب الذي ادّعى الإجماع على خلافه. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ظاهر الحديث هو الاكتفاء بالفرائض عند ترك السنن عن عذر ، لا الصحة الواقعية ، بشهادة قوله في ذيل الحديث : « ولا تنقض السنّة الفريضة » أي لا يجعل الفريضة كأن لم تكن فيكون معذوراً في ترك السنن.

ثانياً : لا يلزم من سعة الحديث للجاهل بالحكم وناسيه ، التصويب الممتنع ولا التصويب الذي ادّعي الإجماع على خلافه ، وذلك لأنّ التصويب الممتنع عبارة عن خلو الواقعة عن الحكم المشترك بين العالم والجاهل ، والذاكر والناسي ، وهو غير لازم إذا قلنا بعموم عدم الإعادة في الجهل بالحكم ونسيانه ، لأنّ الحكم الإنشائي مشترك بينهما ، وإنّما يختص الفعلي بالعالم والذاكر ، وعلى ما قلنا من أنّ الحكم الفعلي عبارة عن إعلان الحكم وإبلاغه وإن لم يصل إلى المكلّف فهما مشتركان في الإنشائي والفعلي ، وإنّما يفترقان في التنجّز ، فالحكم منجّز في حقّهما

__________________

١. المحقّق الحائري ، الصلاة : ٣١٦ ، باب الخلل ، الطبعة الثانية. ومراده من التصويب الممتنع هو التصويب الأشعري ، كما أنّ مراده من التصويب المجمع على بطلانه هو التصويب المعتزليّ وقد تعرّضنا لهما في مبحث إمكان التعبد بالظن ، فلاحظ.

٦٠٦

دون الجاهل والناسي.

فخرجنا بالنتيجة التالية : انّ القاعدة تعم الجاهل والناسي بكلا قسميه ، وانّه إذا انكشف الخلاف برفع الجهل وعود الذكر ، يحكم على الصلاة بالقبول من دون إعادة إلا في الأُمور الخمسة.

الجهة الثالثة : في سعة دلالتها من حيث المتعلّق

الظاهر انّ الرواية بصدد ضرب القاعدة لمن وقف بعد الصلاة على خلل في صلاته بعد ما دخل فيها عن مجوز شرعي ، فعلم أنّه نقص جزءاً أو زاد شيئاً.

فعلى ضوء هذا تكون القاعدة صدرها وذيلها عامةً لكلا القسمين ، فلا يعاد في غير الخمسة لأجل طروء أيّ خلل عليها سواء كان الخلل مستنداً إلى الزيادة أو النقيصة ، كما أنّه يعاد في مورد الخمسة لأي خلل فيها من النقيصة والزيادة.

نعم ربما يخصّص ذيل القاعدة بالنقيصة وذلك بوجهين.

إنّ المستثنى لا يشمل سوى النقيصة أي ترك الأركان الخمسة وأمّا زيادتها فليست داخلة في المستثنى.

وجه ذلك : أنّه لو قلنا إنّ زيادة الركوع مبطلة ، فهذا لأجل أخذ عدمها في جزئية الجزء أو في ضمن المركب ، فلو زاد ركوعاً أو سجوداً فهو زيادة في الظاهر ، لكن مرجعها إلى النقيصة أي الإخلال بوصف الركوع والسجود ، أعني ( كونها بشرط لا ). فظهر من هذا البيان أنّ القول ببطلان الصلاة لأجل زيادة الأركان يرجع في الواقع إلى الإخلال بالنقيصة أي إخلال وصف الجزء. هذا من جانب ومن جانب آخر انّ الإخلال بالنقيصة منحصر في موارد خمسة ، أعني ترك نفس الأركان من رأس كترك الطهور وعدم إقامة الصلاة في الوقت ....

فلو قلنا بأنّ زيادة الركوع موجبة للإعادة ـ وقد عرفت أنّ مرجع الزيادة إلى

٦٠٧

النقيصة ـ يكون الإخلال بالنقيصة غير منحصر بالخمسة بل يتجاوز عنها إلى سادس وهو الإخلال بوصف الركوع ( بشرط لا ) وسابع وهو الإخلال بوصف السجود ( بشرط لا ) مع أنّ الرواية تنص على أنّ الإخلال بالنقيصة منحصر في خمسة.

يلاحظ عليه : أنّ مرجع زيادة الجزء المأخوذ بشرط لا ، وإن كان إلى النقيصة وفقدان الوصف أي ( بشرط لا ) ، لكنّه خلط بين حكم العرف والعقل ، والعرف يعدّ الركوع المكرّر زيادة في الجزء لا نقيصة في الوصف وإن كان الأمر في نظر العقل كذلك.

وعلى ضوء ذلك فلو قلنا بعمومية المستثنى للزيادة والنقيصة ، يدخل الركوع المكرّر في المستثنى لأجل كونه زيادة لا نقيصة حتى يتجاوز عدد الموجب للإعادة في النقيصة عن الخمسة ، ونكون عندئذ في غنى من إضافة أمر سادس في جانب النقيصة.

واستدل المحقّق النائيني باختصاص الذيل بالنقيصة بأنّ بعض ما جاء فيه مختص بها ولا يتصوّر فيه الزيادة كالوقت والقبلة والطهور.

يلاحظ عليه : أنّ عدم تحقّق الزيادة في البعض لا يوجب اختصاص الحديث بالنقيصة بعد قابلية الركوع والسجود للزيادة والنقيصة.

الجهة الرابعة : في نسبة صدر القاعدة مع الحديث

إنّ صدر القاعدة يتضمّن حكماً سلبياً ، وذيلها حكماً إيجابياً.

أمّا السلبي ، فهو عبارة عن الحكم بعدم الإعادة في غير الأركان الخمسة فقوله : « لا تعاد الصلاة » بمنزلة القول : لاتعاد الصلاة عند ورود الإخلال بغير الأركان بالنقص والزيادة.

٦٠٨

وأمّا الإيجابي فهو عبارة عن الاستثناء عن الحكم السلبي الذي يكون إيجابياً فقوله : « إلا الخمسة » بمنزلة القول : تعاد الصلاة عند ورود الإخلال بأركانها بالنقص والزيادة.

والغرض في المقام بيان النسبة بين مفاد الصدر ، وحديث أبي بصير ، أعني قوله : « من زاد في صلاته فعليه الإعادة » لا بين ذيل القاعدة والحديث.

وبعبارة أُخرى : بيان النسبة بين الحكم السلبي الوارد في صدر القاعدة ، والحكم الإيجابي في الحديث ، فذكر مفاد الذيل عند بيان النسبة خروج عن محط البحث ، فنقول : بما انّ المشهور لما فهموا من القاعدة عمومها للزيادة كشمولها للنقيصة ، صارت النسبة بينهما عندهم عموماً وخصوصاً من وجه ، ثمّ إنّه اختلفت كلمتهم في بيان وجه أخصية القاعدة فذكروا وجهين :

الوجه الأوّل : اختصاص القاعدة بغير الأركان

ذهب شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري قدس‌سره إلى أنّ وجه الأخصية هو اختصاص القاعدة للزيادة غير الركنية قال قدس‌سره : فالنسبة بينها وبين ما دلّ على أنّ من تيقن أنّه زاد في صلاته فعليه الإعادة عموم من وجه ، لافتراق الدليلين في النقيصة ، والزيادة الركنية ، واجتماعهما في الزيادة غير الركنية. (١)

توضيحه : أنّا نعبر عن مفاد القاعدة بالصحة ، وعن مفاد الحديث بالبطلان ، فنقول : القاعدة عامة لأنّها تحكم بصحّة الصلاة في صورتي الزيادة والنقيصة ، وخاصة لأنّها تحكم بالصحة في صورة الإخلال بغير الأركان.

والحديث عام لأنّه يحكم بالبطلان بالزيادة في الركن وغيره ، وخاص لأنّه يحكم بالبطلان في صورة الزيادة فقط.

__________________

١. كتاب الصلاة : ٣١٢.

٦٠٩

وبما أنّ مصبّ النسبة بين القاعدة والحديث ، هو صدر القاعدة أعني : « لا تعاد » الذي عبّرنا عنه بالصحّة لا ذيل القاعدة ، أعني : « إلا في خمسة » الذي مفاده بطلانها في الإخلال بتلك الأُمور.

ومنها يظهر وجه أخصية القاعدة وهو : انّ الصحّة فيها مختصة بغير الأركان ، نعم هي عامة من جهة شمولها للإخلال بالنقيصة والزيادة.

وبذلك يظهر التسامح في تقرير وجه الأخصية في كلام المحقّق الخوئي حيث جعل وجهها اختصاص الحكم بالبطلان بالأركان وقال : إنّ حديث « لا تعاد » وإن كان خاصاً من جهة انّ الحكم بالبطلان فيه مختص بالأركان إلا أنّه عام من حيث الزيادة والنقصان. (١)

وأنت خبير انّ مصب لحاظ النسبة هو الحكمان المختلفان ، أعني : « لا تعاد » في القاعدة و « عليه الإعادة » في الحديث ، ومخالفة الثاني للأوّل إنّما هو في المستثنى منه ، أعني : غير الأركان ، حيث تحكم القاعدة بالصحة والثاني بالفساد ، لا في المستثنى ، أعني : الأركان ، فإنّهما متوافقان في الحكم بالفساد والبطلان فيها والصحيح في وجه الأخصية ما قرّرناه من اختصاص الصحّة بغير الأركان.

الوجه الثاني : اختصاص القاعدة بصورة السهو

يستفاد من كلام الشيخ الأنصاري انّ وجه الأخصية اختصاص القاعدة ، بصورة السهو (٢) وعمومية الحديث للعمد والسهو ، قال : « مقتضى لا تعاد الصلاة إلا من خمسة » هو عدم قدح النقص سهواً والزيادة سهواً ، ومقتضى عموم أخبار الزيادة المتقدمة ، قدح الزيادة عمداً وسهواً وبينهما تعارض العموم من وجه في

__________________

١. مصباح الأُصول : ٢ / ٢٦٩.

٢. ولعلّ مراده من السهو ، هو عدم العمد ، فيدخل فيه الجاهل المركب والناسي معاً.

٦١٠

الزيادة السهوية [ غير الركنية ] بناء على اختصاص لا تعاد بالسهو. (١)

وحاصله : انّ القاعدة أخصّ لاختصاصها بالسهو ، وأعم لعمومها للزيادة والنقيصة ، والحديث أخص لاختصاصه بالزيادة وأعمّ لعمومه العمد والسهو ، فيقع التعارض في الزيادة السهوية غير الركنية ، فلا تعاد على القاعدة ، وتعاد على الحديث.

وجه تقديم القاعدة على الحديث

ثمّ إنّ الظاهر هو اتّفاقهم على تقديم القاعدة على الحديث ، وذكر الشيخ انّ وجه التقديم هو حكومة القاعدة على الحديث قال : « والظاهر حكومة قوله : « لا تعاد » على أخبار الزيادة ، لأنّها كأدلّة سائر ما يُخلُّ فعله وتركه بالصلاة ، كالحدث والتكلّم وترك الفاتحة ، وقوله : « لا تعاد » يفيد انّ الإخلال بما دلّ الدليل على عدم جواز الإخلال به ، إذا وقع سهواً لا يوجب الإعادة وإن كان من حقّه أن يوجبها ». (٢)

ثمّ إنّ المحقّق النائيني وتلميذه الجليل تبعا الشيخ في وجه التقديم.

قال المحقّق الخوئي في توضيحه : إنّ حديث « لا تعاد » حاكم على أدلّة الزيادة بل على جميع أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع كلّها ، لكونه ناظراً إليها وشارحاً لها ، إذ ليس مفاده انحصار الجزئية والشرطية في هذه الخمسة ، بل مفاده انّ الاخلال سهواً بالأجزاء والشرائط التي ثبت جزئيتها أو شرطيتها لا يوجب البطلان إلا الإخلال بهذه (٣) فلسانه لسان الشرح والحكومة فيقدّم على أدلّة

__________________

١. الفرائد : ٢٩٣.

٢. الفرائد : ٢٩٤ ، طبعة رحمة اللّه.

٣. مصباح الأُصول : ٢ / ٤٧٠. ولاحظ الفوائد : ٤ / ٢٣٩.

٦١١

الأجزاء والشرائط بلا لحاظ النسبة بينه وبينها.

أقول : إنّ ما ذكره من حكومة القاعدة على أدلّة الأجزاء والشرائط أمر لا غبار عليه إنّما الكلام في حكومتها على قوله : « من زاد في صلاته فعليه الإعادة » وذلك لأنّه ليس في عداد أدلّة الأجزاء والشرائط بل هو والقاعدة على مستوى واحد ناظران إلى أدلّتهما. وليس مفاد الحديث « الزيادة مبطلة » حتى يكون في عدادهما وتكون القاعدة حاكمة عليه ، بل الكلّ شارح لأحوال الأجزاء والشرائط في الإبطال وعدمه.

والحاصل أنّ في مورد الاجتماع دليلين :

أحدهما : مع الزيادة السهوية غير الركنية لا تعاد الصلاة.

ثانيهما : مع الزيادة السهوية غير الركنية تعاد الصلاة.

فلا وجه لحكومة أحدهما على الآخر.

ومع ذلك فالقاعدة مقدمة على الحديث بوجوه :

الأوّل : قوّة الدلالة ، لاعتمادها على العدد ، وهذا كاشف عن كون المتكلّم بصدد بيان ما هو الموضوع للإعادة وعدمها لوجه دقيق غني عن التخصيص والتقييد.

الثاني : وجود التعليل في القاعدة دون الحديث حيث تعلّل عدمها بأنّ السنّة لا تنقض الفريضة ، ومقتضاه عدم لزوم الإعادة فيما إذا زاد شيئاً مع عدم الإخلال بالأركان.

الثالث : لسان الامتنان في القاعدة دون الحديث الموجب ، لتقديم ما هو ظاهر في المرونة والسهولة على غيره.

فإن قلت : لو كان الحاكم في مورد الاجتماع هو القاعدة ، يلزم تخصيص مورد

٦١٢

الحديث بالأركان مع أنّ طروء الخلل فيها قليل ، لأنّ الوقت والقبلة لا تتصوّر فيها الزيادة ، والزيادة في الطهور بمعنى الطهارة النفسانية لا تقبل الزيادة وبمعنى تجديد أسبابها غير مخل قطعاً ، فتأسيس قاعدتين لموردين غريب جداً.

قلت : إنّ مورد الحديث أوسع من ذلك ، لأنّه يعم الزيادة العمدية والسهوية ركناً كان أو غير ركن.

فإن قلت : إنّ الزيادة العمدية قليلة جداً ، إذ من البعيد أن يقوم المصلّي المريد لإفراغ ذمّته بالزيادة العمدية ، منه فينحصر مصداقه في زيادة الركنين السهوية ، وهي أيضاً قليلة ، فيلزم تخصيص الأكثر وتأسيس قاعدة كلية لأجل زيادة الركوع والسجود.

قلت : هنا طريقان للتخلّص من هذا المأزق :

أحدهما : القول بعدم شمول القاعدة لصورة الزيادة مطلقاً واختصاصها بصورة النقيصة.

ثانيهما : اختصاص الحديث بزيادة الركن والأركان.

أمّا الأوّل فهو مخالف لفهم الأصحاب أولا ، لأنّهم تلقّوها ضابطة لمعالجة أي خلل طرأ على الصلاة من غير فرق بين النقيصة والزيادة ، فلا محيص ، عن اختيار الثاني وانّ المراد من قوله : « من زاد » هو زيادة الركن أو الركعة كما لا يخفى.

الجهة الخامسة : في بيان نسبة القاعدة مع حديث زرارة

روى الكليني في « باب من سها في الأربع والخمس ولم يدر زاد أو نقص » عن زرارة ، عن أبي جعفر أنّه قال : « إذا استيقن أنّه قد زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها واستقبل صلاته استقبالاً إذا كان استيقن يقيناً ». (١)

__________________

١. الكافي : ٤ / ٣٥٤.

٦١٣

وروى أيضاً في باب « السهو عن الركوع » بإضافة قوله : « ركعة » بعد قوله : « المكتوبة » (١) وعنوان الباب حاك عن وجود لفظ « ركعة » ، وانّه فهم من قوله : « ركعة » ، الركوع. بخلاف الباب السابق فلم يرد فيه لفظ « ركعة ».

وأخرجه صاحب الوسائل عن الكليني في موضعين ، مع الزيادة ولم يشر إلى عدم لفظة « ركعة » : في موضع من الكافي ، ولعلّ نسخته في كلا البابين كانت مشتملة عليها ، أو أنّه رجع إلى باب « السهو عن الركوع » دون الآخر. (٢)

وأمّا الشيخ فقد أخرجه في التهذيب في باب « أحكام السهو في الصلاة » عن الكليني بلا هذه الزيادة. (٣)

وأمّا المجلسي فقد تبع الكليني في كلّ مورد فنقله في باب « من سها في الأربع والخمس » بلا زيادة ، وفي باب السهو عن الركوع معها.

هذا حال المتن ، وأمّا وجه الجمع بين القاعدة والحديث فملخّص الكلام : انّه لو قلنا بوجود لفظ : « الركعة » في الحديث كما هو الموافق للقاعدة ، لأنّ الأمر إذا دار بين النقص السهوي والزيادة السهوية فالأوّل هو المتعيّن ، لأنّه أمر عادي دون الزيادة وعندئذ تصبح النسبة بينهما هو العموم والخصوص المطلق ويكون الإخلال بالركعة ملازماً للإخلال بالركوع الوارد في المستثنى.

وأمّا لو قلنا بعدم ثبوت الزيادة فيكون حالها حال حديث أبي بصير في النقض والإبرام والنتيجة فلا نطيل الكلام.

__________________

١. الكافي : ٣ / ٣٤٨.

٢. الوسائل : الجزء ٤ ، الباب ١٤ من أبواب الركوع ، الحديث ١ ؛ والجزء ٥ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل ، الحديث ١.

٣. التهذيب : ٢ / ٢٠٦ ح٦٤ ، طبعة الغفاري ; و ص ١٩٤ ، طبعة النجف.

٦١٤

التنبيه الثالث : في الاضطرار إلى ترك الجزء والشرط

لو تعذر أحد قيود المأمور به ، ففي سقوط التكليف عن المركب قولان مبنيّان على ثبوت التقييد مطلقاً فيسقط التكليف عن الباقي ، أو في حال التمكّن فيبقى الأمر على المركب.

وأمّا صور المسألة فهي أربع كالجزء المنسي ، غير أنّ الشكّ هناك يتعلّق بوجوب الإعادة بعد الذكر وعدمه ، وفي المقام بلزوم الإتيان بالباقي عند تعذّر بعض القيود وأمّا الصور فهي :

١. ما يكون لكلّ من دليل المركب والجزء إطلاق.

٢. ما يكون لدليل الجزء إطلاق دون دليل المركب.

٣. ما يكون على العكس ، بأن يكون لدليل المركّب إطلاق دون دليل الجزء.

٤. ما لا يكون لواحد منهما إطلاق.

ومعنى الإطلاق في المقام هو المطلوبية في حالتي التعذر وعدمه ، وتكون نتيجة الإطلاق في جانب الجزء هو سقوط الأمر بالمركب ، وفي جانب المركّب ، هو لزوم الإتيان بالباقي عند التعذر.

والمناسب للمقام هو الصورة الرابعة ، أعني ما إذا لم يكن في المقام إطلاق من الجانبين حتى يكون البحث ممحّضاً للأُصول العملية ، وأمّا إذا كان في البين إطلاق فهو خارج عن محطِّ البحث لوجود الدليل الاجتهادي الذي لا تصل معه النوبة إلى الأصل ، ولأجل ذلك نبحث في المقامين.

١. مقتضى الدليل الاجتهادي

الكلام في مقتضى الدليل الاجتهادي في المقام هو نفس الكلام في الجزء

٦١٥

المنسي ، غير أنّ الشكّ في الثاني بعد العمل ، وفي المقام قبله كما تقدم ، وقد عرفت أنّه لو كان لكلا الدليلين إطلاق ، أو كان لدليل الجزء إطلاق ، يحكم بتقديم إطلاق الجزء ، إمّا لأخصيته كما في الصورة الأُولى ، أو لعدم الإطلاق في دليل المركب كما في الصورة الثانية ، فيحكم بسقوط وجوب المركّب أخذاً بإطلاق الجزء الذي هو بمعنى عدم رفع اليد عنه في تلك الحالة.

ومع ذلك كلّه يمكن تقييد إطلاق دليل الجزء بحديث الرفع ، لما عرفت من أنّ تعلّق الرفع بما لا يعلمون تعلّق ظاهري ، وبما اضطروا واستكرهوا ، تعلّق واقعي ، فيكفي في رفع وجوب الجزء ، تعلّق الاضطرار بتركه.

نعم إنّما يثبت وجوب الباقي ، إذا كان لدليل المركّب إطلاق دون الصورة الثانية. بل يكون حكمها حكم الصورة الرابعة كما ستوافيك.

وأمّا الصورة الثالثة ، أعني : ما إذا كان لدليل المركب إطلاق دون دليل الجزء ، فيحكم بوجوب الباقي ، وقد مرّت الأمثلة عند البحث في حكم الجزء المنسي.

إلى هنا تمّ بيان حكم الدليل الاجتهادي.

٢. مقتضى الأُصول العملية

إذا لم يكن لواحد من الدليلين إطلاق ، تصل النوبة إلى الأُصول العملية ، فيقع الكلام في مقتضى القاعدة الأوّلية أوّلاً ، ثمّ في مقتضى الأدلّة الثانوية الواردة في خصوص المورد ثانياً.

لا شكّ انّوجوب الجزء المضطر إليه سقط بالاضطرار ، وإنّما الكلام في تعلّق الوجوب بالباقي والأصل البراءة ، وصدق العنوان على الباقي لا يلازم تعلّق الأمر به بعد كون المقيد مغائراً للمجرّد عنه ، هذا من غير فرق بين طروء التعذّر

٦١٦

قبل تعلّق الوجوب كما إذا بلغ غير عارف بالقراءة ، أو بعده ، كما إذا عجز عن القراءة بعد دخول الوقت.

نعم لو كان لدليل المركب إطلاق ، لما كان للبراءة مجال.

لا يقال : إنّ مقتضى حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية إلا في حال التمكّن منه ، وعندئذ يبقى الحكم على الأجزاء الباقية.

لأنّا نقول : الحكم بعدم وجوب الباقي ليس مستنداً إلى حديث الرفع حتى يقال : إنّ مقتضاه عدم الجزئية والشرطية إلا في حال التمكّن ، بل إلى فقد المقتضي ، وهو عدم وجود الإطلاق في دليل المركب.

وبذلك تقف على أنّه لاحاجة للجواب عن الإشكال المزبور بما في الكفاية من أنّ حديث الرفع ورد في مقام الامتنان فيختص بما يوجب نفي التكليف لا إثباته (١) وذلك لأنّ عدم الوجوب مستند إلى فقد الدليل على الوجوب ، لا إلى حديث الرفع حتى يقال : بأنّه رافع للتكليف لا مثبت ، فلاحظ.

ثمّ إنّه ربما يستظهر وجوب الباقي بالاستصحاب الحاكم على أصل البراءة ويقرّر بوجوه :

١. استصحاب الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي

لا شكّ انّ هنا وجوبين : أحدهما : الوجوب الاستقلالي بالكل وقد ارتفع ، والآخر : الوجوب الضمني لكلّ جزء وهو أيضاً قد ارتفع بارتفاع الأوّل ، ومع ذلك كلّه فنحن نحتمل أن يتعلّق وجوب استقلالي ثان بالأجزاء الباقية ، فنفس هذا الاحتمال يكفي في احتمال بقاء الوجوب الجامع بين الوجوبين : الاستقلالي والضمني ، فإنّهما وإن ارتفعا قطعاً ، لكن الجامع بينهما محتمل البقاء ، لاحتمال

__________________

١. كفاية الأُصول : ٢ / ٢٤٠.

٦١٧

حدوث وجوب استقلالي ثان متعلّق بالأجزاء الباقية فيُستصحب.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ خطاب لا تنقض متوجه إلى العرف العام الدقيق ولا يشمل إلا الأفراد التي يلتفت إليها ذلك المخاطب بما انّه عرف عام ، ومن المعلوم أنّ هذا الفرد من المستصحب فرد عقلي لا يتوجه إليه إلا الأوحدي ، فشمول أدلّة الاستصحاب لهذا النوع من المصداق مورد تأمّل.

وثانياً : أنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، والجامع بين الوجوبين ليس مجعولاً شرعياً وإنّما هو حكم منتزع عن الحكمين ، والمنتزع فعل العقل وليس مجعولاً للشرع.

٢. استصحاب الوجوب الاستقلالي بنحو مفاد كان التامة

بيانه أن يقال قبل تعذر الأجزاء كان هناك وجوب استقلالي ونشك في بقائه فيستصحب البقاء.

يلاحظ عليه : أنّ المطلوب هو وجوب الأجزاء الباقية لا بقاء أصل الوجوب واستصحاب الأخير لإثبات وجوب الأجزاء الباقية ، من الأُصول المثبتة ، وذلك لأنّ العقل يحكم بأنّ الوجوب الباقي عرض ، والعرض لا يقوم إلا بالموضوع ، وليس هو إلا الأجزاء الباقية ، فهو الموضوع للوجوب.

٣. استصحاب الوجوب الاستقلالي بنحو مفادكان الناقصة

بيانه : انّ الأجزاء الباقية كانت واجبة بالوجوب النفسي غاية الأمر مقيّداً بالجزء المتعذر ، فإذا كان الجزء المتعذر مقوّماً للموضوع ، وموجباً لانعدامه فلا يجري الاستصحاب ، وأمّا إذا كان معدوداً من حالات الموضوع وعوارضه عند العرف ، فيجري الاستصحاب بحكم بقاء الموضوع عرفاً.

٦١٨

وبعبارة أُخرى : نشك في أنّ هذا الجزء المتعذّر لو كان دخيلاً في الحكم حدوثاً وبقاءً لا يجري الاستصحاب ولو كان دخيلاً حدوثاً لا بقاءً يجري الاستصحاب ، ونفس هذا الشكّ مصحّح لجريان الاستصحاب بعد بقاء الموضوع ونسبة الواجد للجزء المتعذر ، بالنسبة إلى الفاقد له كنسبة موضوع طرأ عليه التغيير في بعض أحواله.

يلاحظ عليه : أنّ الوجوب السابق كان على عشرة أجزاء ، والمقصود الآن إبقاء ذلك الوجوب على التسعة ، ومن المعلوم انّ إسراء حكم من عنوان إلى عنوان آخر هو نفس القياس المنكر في مذهبنا ، وأيّ عرف يتسامح ويقول إنّ العشرة هو نفس التسعة.

وإن شئت قلت : إنّ عالم المفاهيم مثار الكثرة ، فكلّ عنوان في عالم المفاهيم يضاد العنوان الآخر ، وعلى ذلك لو ثبت الحكم على عنوان لا يمكن إسراؤه إلى عنوان آخر ، وذلك لأنّه نفس القول بالقياس.

فإذن الحكم المتعلّق بالعشرة كيف يستصحب ويتعلّق بالتسعة؟!

فإن قلت : على هذا ينسد باب جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية ويختص بالموضوعات الخارجية ، مثلاً الماء المتغيّـر إذا زال تغيّـره بنفسه يحكم عليه ببقاء النجاسة مع أنّه من قبيل إسراء حكم من موضوع ( الماء المتغير ) إلى موضوع آخر ( الماء الذي زال تغيره ).

ومثله استصحاب الحرمة لعصير الزبيب ، فإنّ الحكم ثبت على العصير العنبي إذا غلى ، فإسراء ذلك الحكم إلى العصير الزبيبي عند الغليان أشبه بالقياس ، فلو ثبت ما ذكرنا من الإشكال لانسدَّ باب الاستصحاب في الأحكام الكلية.

٦١٩

قلت : ليس الهدف من الاستصحاب في المثالين المذكورين إسراء حكم من عنوان ( الماء المتغيّر ) إلى عنوان آخر ( الماء غير المتغيّر ) حتى يكون من باب القياس ، كما أنّه ليس الهدف إسراء حكم الحرمة من العصير العنبي إلى العصير الزبيبي ، فانّ ذلك أشبه بالقياس ولا نقول به.

بل الهدف تسرية الحكم بعد انطباقه على الخارج من موضوع واجد لبعض الخصوصيات إلى موضوع فاقد لها ، بشرط أن تكون الخصوصية عند العرف بالنسبة إلى الموضوع الخارجي معدودة من الحالات لا من المقوّمات ، وذلك بالبيان التالي :

إنّ الحكم الشرعي ، أعني : الماء المتغير نجس ، غير قابل للاستصحاب إلى موضوع آخر ، أعني : الماء إذا زال تغيره ، لأنّ الموضوعين متغايران والمفاهيم مثار الكثرة ، ولكن بعدما انطبق الدليل الكلي على ماء خارجي يكون الموضوع للاستصحاب هو المصداق الخارجي وهو هذا الماء لا العنوان الكلي ، وعندئذ يتخذ الفقيه المصداق الخارجي موضوعاً للحكم ، فلو كان التبدّل معدوداً من عوارض الموضوع وحالاته يشير إلى ذلك الموضوع ( لا إلى العنوان الكلي ) ويقول : كان هذا محكوماً بالنجاسة والأصل بقاؤه.

وبذلك يظهر صحّة الاستصحاب في العصير العنبي ، فليس الهدف إسراء حكم العنب إلى الزبيب ، فإنّه قياس واضح.

نعم لمّا انطبق الدليل الأوّل على مصداق خارجي وعنب معين ، يتخذه الفقيه موضوعاً ويشير إليه بهذا ويقول : كان هذا في بعض الحالات ( عندما كان رطباً ) إذا غلى يحرم ، والأصل بقاء حكمه عند ارتفاع تلك الحالات ، والمستشكل خلط بين الأمرين إسراء حكم من عنوان إلى عنوان آخر ، وبين إسراء حكم موضوع خارجي انطبق عليه الدليل في بعض الحالات ، إلى الحالة التي فقدها ولم تكن الحالة من مقوّماته فالأوّل قياس والثاني ليس من قبيله بل يعد استصحاباً.

٦٢٠