إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

٥. في وجود الجاهل القاصر وعدمه

لا شكّ في وجود الجاهل القاصر ، إمّا لقلة الاستعداد وغموض المطلب أو وجود الغفلة وعدم احتمال خلل في معتقده ، كما هو المشاهد في كثير من النساء والرجال ، وعلى ذلك فالجاهل القاصر معذور لقصوره أو غفلته.

نعم إنّما يكون معذوراً وغير معاقب على عدم معرفة الحقّ إذا لم يكن يعانده بل كان ينقاد له لو عرفه.

وربما يتصور عدم وجود الجاهل القاصر في العقائد لوجوه قاصرة :

١. الإجماع على أنّ المخطئ في العقائد غير معذور ، وصحّة الإطلاق يتوقف على عدم وجود القاصر ، وإلا لبطل مع كون القاصر معذوراً.

يلاحظ عليه : أنّ مصبَّ الإجماع هو الجاهل المتمكن ، فلا يدل إطلاقه على عدم وجود القاصر.

٢. انّ المعرفة غاية الخلقة ، فلو قلنا بوجود الجاهل القاصر يلزم نفي الغاية مع أنّها لا تنفك عن فعل الحقّ سبحانه.

قال تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْس إِلاّليَعْبُدُون ). (١)

يلاحظ عليه : أنّ الغاية غاية للنوع لا لكلّ فرد لبداهة وجود المجانين والأطفال الذين يتوفون في صباهم.

٣. قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللّهَ لَمَعَ الُْمحْسِنِين ) (٢) حيث جعل الملازمة بين المجاهدة والهداية التي هي المعرفة ، فلو لم يكن الطرفان ممكنين لم تصح الملازمة فعدم هداية الجاهل القاصر لعدم جهاده.

__________________

١. الذاريات : ٥٦.

٢. العنكبوت : ٦٩.

٣٢١

يلاحظ عليه : أنّ الآية بصدد بيان الملازمة بين المتمكن من الجهاد والهداية والملازمة بينهما مسلمة ، وأمّا غير المتمكن كالقاصر فهو خارج عن الآية كخروج المجانين والأطفال الذين يتوفون في صباهم.

وربما يجاب عن الاستدلال بالآية بأنّ المراد هو مجاهدة النفس ، والمراد هو الجهاد النفسي لا الجهاد في سبيل معرفة الرب وشتان ما بينهما ، ولكنّه غير خال عن التأمل ، لأنّ هذه الآية وما قبلها تقسم الناس إلى أصناف ثلاثة :

الصنف الأوّل : المفتري على اللّه.

الصنف الثاني : المجاهد في سبيله.

الصنف الثالث : المحسن.

أمّا الأوّل : فوصفهم سبحانه بقوله : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالحَقِّ لَمّا جاءَهُ أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرين ) (١) وهذه الطائفة خارجة عن طريق الحقّ لا تُرجى هدايتهم ووصولهم إلى الحقّ ، بل كلّما ازدادوا سيراً ازدادوا بعداً وجهلاً.

والثاني : يهديهم ربّهم إلى سبله لقوله سبحانه : ( لنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلنا ) فمن أخطأ فلتقصير منه ، إمّا لعدم إخلاصه في السعي ، أو لتقصيره فيه.

والثالث : وصلوا إلى قمّة الكمال في حقلي الإيمان والعمل وصاروا مع اللّه سبحانه لقوله : ( وانّ اللّه لَمَعَ الُْمحْسِنين ).

ومع ذلك فكيف قُصِّر مفاد الآية بالجهاد مع النفس مع ظهور إطلاقها؟!

٤. قوله سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّه الَّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاس لا يَعْلَمُون ) (٢) فانّ

__________________

١. العنكبوت : ٦٨.

٢. الروم : ٣٠.

٣٢٢

قوله ( فِطَرت اللّه ) عطف بيان أو بدل من الدين ، نصب بفعل مقدر ، مثل أعني أو أخص ، وإلا لكان الواجب أن يكون مجروراً بحكم البدلية ، ولازم ذلك أن تكون معرفته سبحانه أمراً فطرياً وخلقياً ، لا يقبل القصور كسائر الأُمور الوجدانية.

والظاهر انّ الآية أوضح ما في الباب ، وهي تدل على عدم وجود القاصر في معرفة الرب ، وانّ للعالم خالقاً وصانعاً ، وانّه واحد لا شريك له في ذاته ، وهو أمر لا يقبل القصور إلا إذا عاند الإنسان فطرته وأنكر وجدانه لغاية مادية كالانحلال من القيود الشرعية ، ولأجل ذلك لا يبعد ادّعاء عدم وجود القاصر في باب التوحيد.

إنّما الكلام في غيره كباب النبوة والإمامة والمعاد ، والآية لا تدل على عدم وجود القصور فيها بشهادة انّ قوله : ( حَنيفاً ) تدل على أنّ التوحيد هو الموافق للفطرة لا الشرك.

نعم ، أكثر الكبريات الواردة في مجال الفروع أُمور فطرية كالدعوة إلى الزواج وإكرام الوالدين ورد الأمانة وحرمة الخيانة لكن الكلام في الأُصول لا الفروع.

٥. دلّت العمومات على حصر الناس في المؤمن والكافر.

ودلّت الآيات على خلود الكافرين بأجمعهم في النار.

ودلّ الدليل العقلي بقبح عقاب الجاهل القاصر.

فإذا ضم الدليل العقلي إلى العمومات المتقدمة ينتج عدم وجود القاصر في المجتمع الإنساني ، لأنّ ما في المجتمع بين مؤمن وكافر وكلّ كافر محكوم بالعذاب ولا تصدق الكبرى إلا مع عدم وجود الكافر الجاهل القاصر فيهم ، وإلا لخص بغير القاصر وهو خلاف الظاهر.

يلاحظ عليه : أنّ حصر الخلق في المؤمن والكافر غير حاصر لوجود الواسطة

٣٢٣

بينهم ، أعني : القُصّر ، كالسفيه والصغير والمجنون.

وأمّا الكبرى الثانية فناظرة إلى المتمكن من المعرفة ، لأنّ عقاب العاجز القاصر قبيح فضلاً عن خلوده في النار ، فالكبرى كلية غير مخصصة لكنّها واردة في حقّ المتمكن ، لا كلّ إنسان وإلا تمنع كليّتها.

٦. هل الجاهل القاصر كافر؟

لا شكّ انّ الجاهل القاصر ليس بمؤمن ولا مسلم ، إنّما الكلام في أنّه هو كافر ، والمعروف بين المتكلّمين انّه لا واسطة بين الإيمان والكفر إلا المعتزلة حيث ذهبوا إلى وجود الواسطة بينهما وجعلوا مرتكب الكبيرة واسطة بين المؤمن والكافر والكتاب العزيز يوافق الحصر قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِير ) (١) ولكن قولهم كالآية ناظر إلى عالم الثبوت ، فالناس بالنظر إليه غير خارجين عن الصنفين إنّما الكلام في الإطلاق والتسمية ، فهل يصحّ إطلاقه على القاصر لفقدان الاستعداد ، أو لوجود الغفلة أو المانع أو لا؟ يظهر من بعض الروايات كونهم متوسطين بين الكفر والإيمان قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً * إِلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبيلاً * فَأُولئِكَ عَسَى اللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ). (٢)

فقد استثنى سبحانه المستضعفين الذين ليس لهم قدرة الخروج ولا عرفان

__________________

١. التغابن : ٢.

٢. النساء : ٩٧ ـ ٩٩.

٣٢٤

الطريق فما آيسهم سبحانه من عفوه ، ويظهر من غير واحد من الروايات انّهم غير محكومين لا بالكفر ولا بالإيمان.

روى العياشي عن زرارة قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : أتزوج المرجئة أو الحرورية أو القدرية؟ قال : لا عليك بالبله من النساء قال زرارة : ما هو إلا مؤمنة أو كافرة ، فقال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « أين استثناء اللّه. قول اللّه أصد ق من قولك : ( إِلاّ المُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجال وَالنِساء ) ». (١)

روى حمران بن أعين في تفسير قوله سبحانه : ( وَآخَرُونَ مُرجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيهِمْ واللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم ). (٢) عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « إنّهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكافرين ، وهم المرجون لأمر اللّه ». (٣) والمرجون ، جمع المُرجى من أرجى ، يرجي ، يقال : أرجى الأمر : أخّره ، واسم المفعول منه : مرجى ، والجمع : مرجون ، وهم المشركون ، لكن يؤخّر أُمورهم رجاء شمول رحمته سبحانه لهم.

إلى غير ذلك من الروايات التي جمعها العلاّمة المجلسي في بحاره ، فلاحظ.

٧. الجاهل القاصر والحكم الوضعي

هل الجاهل القاصر ، محكوم بالأحكام الوضعية الثابتة للكافر ، كنجاسته ، وحرمة ذبيحته وتزويجه أو لا؟ التصديق الفقهي يتوقف على معرفة لسان الأدلة في هذه الروايات ، فهل الموضوع ، هو الكافر ، أو غير المسلم أو غير المؤمن باللّه ورسوله؟ فعلى الأوّل لا يحكم بشيء من هذه الأحكام ، بخلاف الثاني ، والحكم القطعي يتوقف على دراسة المسألة في الفقه.

__________________

١. البحار : ٦٩ / ١٦٤ ، باب المستضعفين ، الحديث ٢٤ ؛ وفي الباب روايات بهذا المضمون.

٢. التوبة : ١٠٦.

٣. البحار : ٦٩ / ١٦٥ ، باب المستضعفين ، الحديث ٢٩.

٣٢٥

٨. هل الجاهل القاصر معاقب؟

قد تبيّن ممّا ذكرنا حكم العقاب وانّه فرع التمكن والقدرة والمفروض عدمهما ، وما يظهر من المحقّق الخراساني في هامش كفايته من صحّة العقوبة ، فهو مرفوض بالعقل والنقل ، واحتمال انّه من لوازم الأعمال ، أمر غير ثابت ، لاحتمال كون العقاب من لوازم اعمال المتمكن لا القاصر.

هذا كلّه ، حول الجاهل القاصر المعبّر عنه بالمستضعف الديني ، وأمّا الكلام في المستضعف السياسي أو الاقتصادي فخارج عن هدف الكتاب.

الأمر الثاني : في كون الظن جابراً وموهناً ومرجحاً

هل الظن غير المعتبر ، يكون جابراً ، أو موهناً ، أو مرجّحاً ، أو لا من غير فرق بين تعلّق النهي بالعمل به ، وعدمه؟ والأقسام المتصورة تناهز اثني عشر قسماً ، لأنّ كلاً من الجبر والوهن والترجيح تارة يتعلق بالسند وأُخرى بالدلالة ، فيضرب الاثنان في الثلاثة المذكورة ، ثمّ تضرب النتيجة في الاثنين ، لأنّ الظن تارة يكون منهياً عنه وأُخرى لا يكون كذلك ، فيناهز اثني عشر.

أمّا الستة الأُولى من أقسام الظن المنهي عنه فلا تصلح لا للجبر ، ولا للوهن ، ولا الترجيح ، لا في السند ولا في الدلالة ، لأنّ فرض كونه جابراً أو موهناً أو مرجحاً نحو إعمال له والمفروض النهي عنه على وجه الإطلاق ، فبذلك تخرج الأقسام الستة عن صلاحية الدراسة.

وأمّا الظن غير المعتبر وغير المنهى عنه فافتراض كونه مرجحاً لتقديم سند إحدى الروايتين على الأُخرى أو دلالتها كذلك ، مبني على ما يأتي في مبحث التعادل والترجيح من لزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة أو جواز التعدي

٣٢٦

عنها إلى غير المنصوص منها ، ذهب الشيخ إلى الأوّل وغيره إلى الثاني ، وهو المختار عندنا ، لأنّ المحكم في باب تعارض الدليلين ، هو روايات التخيير ، فالخروج عنه يتوقف على الدليل وهو منفي في غير المنصوص كما سيوافيك.

فيبقى الكلام في الأقسام الأربعة : الجبر والوهن بقسميهما :

١. كون الظن جابراً للسند

هل الظن غير المعتبر يكون جابراً لضعف السند ، كالشهرة على القول بكونها غير حجّة بأن يكون عمل الأصحاب جابراً لضعف السند ، كما إذا ورد في السند من لم يوثق لكن عمل الأصحاب بها؟ فلو قلنا بأنّ الحجّة هو خبر الثقة ، فلا يكون جابراً ، لأنّ عملهم بالخبر ليس دليلاً على كونه ثقة ، ولو قلنا بأنّ الحجّة هو الخبر الموثوق بصدوره سواء كان الراوي ثقة أو لا ، أو الموثوق بصحّة مضمونه فيصلح لأن يكون جابراً ، لأنّ عمل الأصحاب يورث الوثوقَ بصدور الرواية أو الوثوق بصحّة المضمون.

٢. كون الظن جابراً لضعف الدلالة

إذا كانت دلالة الرواية على الحكم المطلوب غير واضحة ولا محكمة ولكن حملها المشهور على معنى خاص ، كالكراهة المشتركة بين الحرمة والكراهة المصطلحة ، فهل يكون الظن جابراً لضعفها؟ الظاهر لا ، لأنّ الأمارة الخارجية لاتثبت ظهورَ اللفظ ، والمفروض انّ الحجّة هو ظاهر اللفظ وما هو المتبادر منه عرفاً بما هو هو لا بمعونة قرينة خارجيّة لم تثبت حجّيته ، اللّهمّ إلا إذا حصل الاطمئنان باحتفاف الكلام ببعض القرائن الحالية المورثة في ظهور اللفظ في المطلوب ، وإن كان اللفظ خالياً عنها.

٣٢٧

٣ ، ٤. كون الظن موهناً للسند أو الدلالة

إذا كانت الرواية تامة من حيث السند والدلالة ، لكن تعلّق الظن الخارجي بعدم صدورها أو عدم دلالتها ، فالظاهر عدم نهوضه بذلك إلا إذا حصل الاطمئنان بأحدهما ، لإطلاق حجّية الخبر سنداً ودلالة وشموله لما كان الظن على خلافه.

هذا كلّه حسب تقرير القوم ، لكن للشهرة عندنا حساباً آخر ، وقد عرفت أنّها حجّة بنفسها عند عدم التعارض ، ومميّزة للحجّة عن غيره عنده ، ولأجل ذلك تكون الشهرة جابرةً لضعف السند وضعف دلالة الرواية ، وموهنة لهما إذا كانت على خلاف الرواية ، نعم ما ذكروه صحيح في غيرها.

٣٢٨

المقصد السابع : في الأُصول العملية

الأصل الأوّل :

أصل البراءة

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً.

الأوّل : قد مرّ في تعريف أُصول الفقه : انّها عبارة عن القواعد التي تستنبط بها الأحكام الشرعية ، أو ما ينتهي إليه المجتهد عند اليأس عن الدليل. وقد كان البحث في المقاصد الستة الماضية مركّزاً على تبيين الأدلة التي يستنبط منها الحكم الشرعي ، كما أنّ البحث في هذا المقصد ، مركّز على بيان ما ينتهي إليه المجتهد عند اليأس عن الدليل ، ويعبّر عنه بالمباحث العقلية أو الأُصول العملية.

ثمّ إنّه يُسمّى الحكمُ المستنبط بالدليل حكماً واقعيّاً ، لأنّ الدليل يكشف عنه إمّا كشفاً تاماً كما في صورة العلم أو كشفاً غير تام ولكن جعله الشارع حجّة على الواقع ، كما في الأمارات المعتبرة من خبر الثقة وغيره ؛ كما يسمى الحكم المستفاد ، ممّا ينتهي إليه المجتهد عند الشك ، حكماً ظاهرياً ، لعدم كشفه عن الواقع ، بل عن الوظيفة الفعلية فهو محكوم بمفاده ظاهراً إلى أن يرتفع العذر ، وما في بعض كلمات الشيخ وغيره من تسمية الأحكام المستنبطة بالأمارات المعتبرة ، حكماً ظاهرياً مبني على التسامح ، كما يسمّى الدليل الدال على الحكم الواقعي دليلاً اجتهادياً ، والثاني دليلاً فقاهياً ، وأمّا وجه التسمية ، فقد ذكره المحقّق البهبهاني في تعريف الفقه والاجتهاد ، فلاحظ.

الثاني : قد ظهر ممّا ذكرنا انّ الموضوع للأُصول العملية ، هو الشكّ في

٣٢٩

الحكم الواقعي ، الكلي والجزئي لا مطلق الشكّ ، فخرج الشكّ في عدد الركعات الذي هو موضوع للبناء على الأكثر ، فالحكم المبني عليه ليس حكماً ظاهرياً ، بل هو حكم واقعي.

ثمّ الشكّ في الحكم تارة يتعلق بالكلي كالشكّ في حرمة التدخين ، وأُخرى بالجزئي كالشكّ في كون مائع خاص حراماً لاحتمال انّه خمر ، أو حلالاً لاحتمال كونه خلاً ، فيسمى الأوّل بالشبهات الحكمية ، والثاني بالشبهات الموضوعية ، وبما انّ الفرض بيان ما هو الوظيفة عند الشكّ في الحكم الكلي ، يكون البحث عن بيان حكم الشكّ في الأمر الجزمي استطرادياً.

الثالث : الأُصول المقررة لوظيفة الجاهل على قسمين :

قسم يختص لبيان وظيفة الجاهل بالموضوعات الخارجية ، كما هو الحال في الأُصول التالية :

١. أصالة الصحّة في فعل الغير ، ٢. أصالة الصحّة في فعل النفس المعبّر عنها بقاعدة الفراغ والتجاوز ، ٣. الإقراع عند التخاصم.

وأُخرى ما يعمّ الشبهات الحكمية ، وعمدتها الأُصول الأربعة : الاستصحاب ، والتخيير ، والبراءة ، والاشتغال ؛ وأمّا ما عدا تلك الأُصول ، كأصالة الطهارة فهي وإن كانت جارية في مورد الشبهتين لكن علل المحقّق الخراساني خروجها عن المسائل الأُصولية باختصاصها بباب الشكّ في الطهارة ولا تعم سائر الأبواب ، ولذلك لم تعد من الأُصول العملية العامة السيالة في جميع أبواب الفقه.

يلاحظ عليه : أنّه لو كان سبب الخروج عن الأُصول العملية هو عدم كونها سيالة يلزم خروجُ قسم من المسائل عن علم الأُصول كالبحث عن دلالة النهي على الفساد في العبادات والمعاملات.

٣٣٠

والظاهر انّ وجه الخروج كونها قاعدة فقهية كقاعدة كلّ شيء حلال ، لما ذكرنا في الأمر الأوّل من مقدمة الكتاب من الميزان لكون المسألة فقهية أو أُصولية ، فلاحظ.

الرابع : بيان مجاري الأُصول

إنّ للشيخ الأنصاري في بيان مجاري الأُصول تعابير مختلفة ذكرناها في مبحث القطع ، وقد سبق هناك انّ ما ذكره في مبحث البراءة أتقن ، قال ما هذا توضيحه :

ثمّ إنّ انحصار موارد الاشتباه في الأُصول الأربعة عقلي ، لأنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه ، وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أو كان ولم يلحظ.

والأوّل مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الاحتياط ( خصوص الموافقة القطعية ) فيه ممكناً أو لا ، والثاني مورد التخيير ، والأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإمّا أن لا يدل ، والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة. (١)

يظهر حال التقسيم بذكر أُمور :

١. بما انّ الشيخ يشترط في الاستصحاب أن يكون من قبيل الشكّ في الرافع دون المقتضي لم يقتصر في بيان مجرى الاستصحاب على وجود الحالة السابقة بل أضاف لحاظها أيضاً حتى لا يتداخل الأُصول في الشكّ في المقتضي ، إذا اقتصر على مجرّد الحالة السابقة ، إذ عندئذ يكون مجرى للاستصحاب لوجود الحالة

__________________

١. فرائد الأُصول : ١٩٢ ، طبعة رحمة اللّه. وما بيّنه في هذا المقام من جلائل أفكاره ، تعلم قيمته بقياسه على البيانين الّذين ذكرهما في أوّل رسالة القطع.

٣٣١

السابقة ولغيره لعدم اعتبارها.

٢. انّ مجرى التخيير عبارة عمّـا إذا لم يمكن الاحتياط ، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء واحد ، فهو على هذا التقسيم ليس من أقسام الشكّ في التكليف ولا الشكّ في المكلّف به ، بل له مجرى خاص وله أصل خاص.

٣. اشترط في مورد الاشتغال وجود دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول ولم يقل أن يكون الشكّ في المكلّف به ، وذلك لأنّ مجرى الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به ، كما في الشكّ في التكليف قبل الفحص حيث يجب الاحتياط وإن لم يكن من قبيل الشكّ في المكلّف به ، فيكفي في الاحتياط وجود دليل عقلي أو نقلي ، وهذا يشمل الأقسام الثلاثة :

أ : الشكّ في التكليف قبل الفحص.

ب : العلم بنوع التكليف مع تردّد المكلّف به ، كالعلم بوجوب إحدى الصلاتين.

ج : العلم بجنس التكليف مع إمكان الاحتياط ، كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر ، فالعلم بالإلزام أي الجنس الجامع بين الوجوب والحرمة متحقّق فيلزم التكليف لإمكان الاحتياط.

وبذلك علم أمران :

١. انّ دوران الأمر بين المحذورين الذي هو مجرى التخيير ، أمر مستقل ليس بداخل في الشكّ في التكليف ولا في الشكّ في المكلّف به ، لاختصاصهما بما إذا أمكن الاحتياط دون مالا يمكن.

٢. انّ الشكّ في المكلّف به لا يختص بما إذا علم النوع (١) ، كما إذا تردّد

__________________

١. كما يظهر من الشيخ حيث قال : لأنّ الشكّ في نفس التكليف وهو النوع الخاص من الإلزام.لاحظ طبعة رحمة اللّه ص ١٩٢.

٣٣٢

الواجب بين الظهر والجمعة ، بل يعمّ ما إذا علم الجنس ودار الأمر بين الوجوب والحرمة لكن على وجه يمكن الاحتياط كما مثلنا ، أعني : إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، فانّ المعلوم في المقام هو الجنس ، أي مطلق الإلزام لا النوع ، أعني : الوجوب أو الحرمة ، ومع ذلك يجب فيه الاحتياط : الإتيان بمحتمل الوجوب ، وترك محتمل الحرمة.

نعم ليس كلّ مورد علم فيه جنس التكليف داخلاً في الشكّ في المكلّف به كما إذا أمر الشيء بين الوجوب والحرمة وذلك لعدم إمكان الاحتياط فيه ، ولذلك قلنا بكفاية العلم بالجنس إذا أمكن الاحتياط ، فلاحظ.

والحاصل : انّه إذا دار أمر شيء واحد بين الوجوب والحرمة ، فهو المسمّى بدوران الأمر بين المحذورين ، وبما انّه لا يمكن الاحتياط تكون الوظيفة هي التخيير ، وأمّا إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، فلا يعدّ من دوران الأمر بين المحذورين ، ويكون العلم بالإلزام لأجل إمكان الاحتياط ملزماً للاحتياط ، فالعلم بالجنس إذا لم يمكن الاحتياط داخل في مجرى التخيير ، كما أنّ العلم به إذا أمكن داخل في مجرى الاحتياط.

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني في تقرير مجاري الأُصول بياناً آخر ، قال : إمّا أن تلاحظ الحالة السابقة للشكّ أو لا ; وعلى الثاني إمّا أن يكون التكليف معلوماً بفصله ، أو نوعه ، أو جنسه ، أو لا ؛ وعلى الأوّل إمّا أن يمكن فيه الاحتياط ، أو لا ؛ والأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى الاحتياط ، والثالث مجرى التخيير ، والرابع مجرى البراءة. (١)

والفرق بين التعبيرين هو انّه جعل مجرى التخيير من أقسام الشكّ في المكلّف به ، غاية الأمر انّ الشكّ في المكلّف به على قسمين : قسم يمكن فيه

__________________

١. فوائد الأُصول : ٣ / ٣٢٥.

٣٣٣

الاحتياط ، كما إذا دار الواجب بين الظهر والجمعة ، أو دار المكلّف به بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ؛ وآخر لا يمكن فيه الاحتياط ، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته ولكن الشيخ جعله أمراً مستقلاً في مقابل الشكّ في المكلّف به.

يلاحظ عليه : أنّ مجرى الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به كما في الشكّ قبل الفحص ، ولأجل ذلك قلنا : إنّ تقسيم الشيخ أوفق بالأقسام.

الخامس : جعل الشيخ الأعظم الشكَّ في التكليف الذي هو مجرى للبراءة اثنتي عشرة مسألة باعتبار أنّ الشبهة تكون إمّا تحريمية أو وجوبية أومشتبهة بينهما ، فهذه مطالب ثلاثة ، وكلّ مطلب يشتمل على أربع مسائل ، وذلك لأنّ منشأ الشك في الجميع ، إمّا فقدان النص ، أو إجماله ، أو تعارض النص ، أو خلط الأُمور الخارجية (١) ، وعلى ذلك فما أفاده صاحب مصباح الأُصول من أنّ الشيخ قسّم الشكّ في التكليف الذي هو مجرى للبراءة على أقسام ثمانية (٢) مخالف لتصريح الشيخ ، فلاحظ.

وأمّا على ما سلكناه تبعاً له في تقسيمه أوّل البراءة فمسائله لا تتجاوز عن ثمان ، ذلك لما عرفت من أنّ مورد دوران الأمر بين المحذورين خارج عن مجرى البراءة وداخل تحت أصل التخيير ، وكان على الشيخ أن يجعلها ثمانية حيث إنّه عند تحرير مجاري الأُصول جعل صورة الدوران خارجة عن مجرى البراءة والاشتغال حيث قال : إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه ، وإمّا أن لا يكون ، والأوّل مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً أو لا ، والثاني مورد التخيير ؛ والأوّل إمّا أن يكون دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول ، أو لا يدلّ ؛ والأوّل مورد الاحتياط والثاني مورد

__________________

١. الفرائد : ١٩٢ ، طبعة رحمة اللّه.

٢. مصباح الأُصول : ٢ / ٢٤٨.

٣٣٤

البراءة. (١)

ثمّ إنّ الوجه لعنوان كلّ مطلب على حدة أمران :

١. اختصاص النزاع بين الأُصولي والأخباري بالشبهة الحكمية التحريمية دون الوجوبية ودون الموضوعية منها ، ودون دوران الأمر بين الأمرين.

٢. اختصاص بعض أدلّة البراءة بالشبهة التحريمية ولا تعم الوجوبية والموضوعية ، مثل قوله : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ».

نعم أدخل المحقّق الخراساني جميع المسائل تحت عنوان واحد وبحث عن الجميع بصفقة واحدة « وهو من لم يقم عنده حجّة على واحد من الوجوب والحرمة وكان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه أو خلط الأُمور الخارجية » ولكلّ من السلوكين وجه.

السادس : أخرج المحقّق الخراساني صورة تعارض النص عن مجرى البراءة ، وذلك لقيام الحجّة على لزوم تقديم ذات الترجيح على غيره ، والتخيير عند عدمه فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها لمكان النصّين فيهما.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان التعارض بين الدليلين الظنيّين ، أمّا إذا كان بين القطعيين ، أو بين الظنيين ولكن كانت النسبة بينهما عموماً وخصوصاً من وجه ، فلا يرجع فيه إلى المرجحات.

أمّا الأوّل كقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيّةً لأَزواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْراج ) (٢). وقوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوفَّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَعَشْراً ) (٣) ، حيث دلّت الآية

____________

١. الفرائد : ١٩٢.

٢. البقرة : ٢٤٠.

٣. البقرة : ٢٣٤.

٣٣٥

الأُولى على مقدار التربّص وهو تربّص الحول ، والأُخرى على أربعة أشهر وعشراً ، وبما أنّه لا موضوع للترجيح ، فيدخل الزائد على المقدار المتيقن فيما لا حجّة فيه ، فيرجع إلى أصل البراءة.

أمّا الثاني : ففيما إذا كانت النسبة بين الخبرين عموماً وخصوصاً من وجه ، كما في قوله : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، حيث يتعارضان في مجمع العنوانين ، فلا يرجع في مثله إلى الأخبار العلاجية ولا إلى أخبار التخيير ، بل يدخل فيما ليس فيه حجّة ، فإن كان هناك عام فوقهما يرجع إليه وإلا فإلى الأصل.

السابع : الظاهر انّ النزاع بين الأُصولي والأخباري في المقام صغروي ، فهما متّفقان على أنّ العقاب فرع البيان ، لكن الأخباري يدّعي ورود البيان عن طريق أخبار الاحتياط والأُصولي ينكره ، وبذلك يعلم انّ الكبرى غنية عن البحث والإطناب.

الثامن : انّ في الكتب الأُصولية للقدماء مسألة باسم هل الأصل في الأشياء ، الحظر أو الإباحة؟ (١) وقد حلّ محلها في كتب المتأخرين مسألة البراءة والاشتغال فهل هما مسألتان أو مسألة واحدة؟

والجواب : انّهما مسألتان لاختلاف موضوعهما مثل اختلاف جهة البحث فيهما ، فالموضوع في المسألة الأُولى ، هو الأشياء بما هي هي ، هل الأصل فيه الحرمة والتصرف يحتاج إلى الإذن أو بالعكس بشهادة انّهم يقسمون الأفعال إلى ما يستقل العقل بقبحه ، أو بحسنه ، وإلى ما يتوقف العقل في تحسينها أو تقبيحها ، فيختلفون في القسم الثالث إلى أقوال ثلاثة : الحظر ، والإباحة ، والوقف.

فعلى الأوّل تنحصر وظيفة الأنبياء في بيان المحلّلات ، وعلى الثاني على بيان المحرّمات ، فعند عدم النص على واحد من الطرفين يحكم عليه بالحرمة الواقعية

__________________

١. لاحظ التذكرة بأُصول الفقه للشيخ المفيد : ٤٣ ؛ والذريعة : ٢ / ٨٠٨ ؛ والعدة : ٢ / ٧٤١.

٣٣٦

على الأوّل وبالحلية الواقعية على الثاني ، ويتوقف عن الحكم على الثالث.

والشاهد على ما ذكرنا من أنّ مصبّ البحث هو حكم الأشياء بعناوينها الأوّلية استدلال القائل بالحظر بقوله : « إنّ هذه الأشياء لها مالك ولا يجوز لنا التصرف في ملك الغير إلا بإذنه ». (١)

وأمّا المسألة الثانية ، فالبحث فيها عن حكم الأشياء عند الشكّ في الأحكام الواقعية

المترتبة عليها بما هي هي ، فللقائل بالحظر في المسألة الأُولى أن يقول بالبراءة في المسألة الثانية ، كما أنّ للقائل بالإباحة فيها أن يقول بالاحتياط فيها لاختلاف موضوعهما ، إذ لكل دليلهما.

ثمّ إنّ البحث عن نسبة الأمارات إلى الأُصول ، وهل هي الورود ، أو الحكومة موكول إلى باب التعادل والترجيح ، وإن طرحه المحقّق الأنصاري وتبعه النائيني وسيّدنا الأُستاذ قدس‌سره في المقام. لكن نرجئ البحث عنها إلى المقصد الثامن بإذن اللّه.

إذا علمت ذلك ، فلنقدّم أدلّة القائلين بالبراءة عند عدم قيام الحجّة على التكليف ، فنقول : استدلوا بآيات أربع.

الأُية الأُولى : التعذيب فرع البيان

إنّ هنا آيات تدل على أنّ التعذيب فرع تقدّم البيان نذكر منها آيتين :

قال سبحانه : ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلاتَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ). (٢)

وقال تعالى : ( وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا

__________________

١. العدة : ٢ / ٧٤٤.

٢. الاسراء : ١٥.

٣٣٧

عَلَيْهِمْ آياتنا وَما كُنّا مِهْلِكي القُرى إِلاّ وَأَهْلُها ظالِمُون ). (١) ويدل على المقصود آيات أُخرى بهذا المضمون ، لاحظها. (٢)

وأمّا الاستدلال بهما على البراءة فمبني على أمرين :

الأوّل : انّ صيغة ( وَما كُنّا ) أو ( ما كان ) تستعمل في إحدى معنيين إمّا نفي الشأن والصلاحية لقوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤوفٌ رَحِيم ). (٣) أو نفي الإمكان كقوله تعالى : ( وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ كِتاباً مُؤجَّلاً ). (٤)

الثاني : انّ بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كناية عن إتمام الحجّة على الناس ، وبما انّ الرسول أفضل واسطة للبيان والإبلاغ أُنيط التعذيب بالرسول ، وإلا يصحّ العقاب ببعث غيره أيضاً لوحدة المناط وحصول الغاية المنشودة ؛ وعلى ضوء ذلك ، فلو لم يبعث الرسول بتاتاً ، أو بعث ولم يتوفق لبيان الأحكام أبداً ، أو توفق لبيان البعض دون البعض الآخر ، أو توفق للجميع لكن حالت الحواجز بينه وبين بعض الناس ، لقبح التكليف ، وذلك لاشتراك جميع الصور في عدم تمامية الحجّة.

والمكلّف الشاك في الشبهات التحريمية من مصاديق القسم الأخير ، فإذا لم يصل إليه البيان لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان الثانوي كإيجاب التوقف ينطبق عليه قوله سبحانه ( وَما كُنّا مُعذّبين حتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) أي نبيّن الحكم والوظيفة.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعلّق إهلاك القرية على وجود المنذر ويقول :

__________________

١. القصص : ٥٩.

٢. الشعراء : ٢٠٨ ، طه : ١٣٤.

٣. البقرة : ١٤٣.

٤. آل عمران : ١٤٥.

٣٣٨

( وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرَية إِلاّ لَها مُنذِرُون ). (١)

نعم دلالة الآية على البراءة فرع عدم ورود الحذر بالنسبة إلى مشتبه الحكم لا بالعنوان الأوّلي هو مسلم بيننا وبين الخصم ، ولا بالعنوان الثانوي الذي لا يسلِّمه الخصم ويقول : بورود الحذر عن المشتبه بعنوان إيجاب الاحتياط والتوقف ، فدلالة الآية معلّقة على إبطال دليل الأخبار.

وبما انّ المشايخ كالشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني والميرزا النائيني لم يدرسوا تفسير الآية على وجه يليق بشأنها ، أوردوا على الاستدلال بها بأُمور غير تامة ، وإليك بيانها :

١. انّ ظاهرها الأخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث ، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأُمم السابقة. (٢)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الآية بصدد بيان سنن اللّه سبحانه في تعذيب الأُمم العصاة ومثلها آبية عن الاختصاص بالأُمم السابقة ولذلك تكون الأفعال في مثل ذلك منسلخة عن الزمان.

ثانياً : انّ العذاب الدنيوي إذا كان متوقفاً على البيان والحجة ، فالعذاب الأُخروي الذي سجّره الجبار أولى بذلك. (٣)

٢. انّ مفادها الإخبار بنفي التعذيب قبل إتمام الحجّة كما هو الحال في الأُمم السابقة ، فلا دلالة لها على حكم مشتبه الحكم حيث هو مشتبه الحكم ، فهي أجنبية عمّا نحن فيه. (٤)

__________________

١. الشعراء : ٢٠٨.

٢. الفرائد : ١٩٢ ، ط قديم.

٣. اقتباس عن قول الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في كلامه مع أخيه عقيل. لاحظ نهج البلاغة : الخطبة ٢٢٤. قال عليه‌السلام : « سجرها جبّارها لغضبه ».

٤. فوائد الأُصول : ٣ / ٣٣٣.

٣٣٩

يلاحظ عليه : أنّ الآية بصدد بيان تعليق أي عذاب بالبيان ، فإذا كان هذا مفادها ، فلا يفرق بين حكم الشيء بما هو هو أو حكمه بما هو مشتبه الحكم ، فكما أنّ التعذيب على الخمر فرع البيان فهكذا التعذيب على مشتبه الحكم مثله كشرب الدخان.

٣. انّ مفاد الآيتين نفي الفعلية وعدم الوقوع في الخارج لا نفي الاستحقاق ، والمطلوب للأُصولي هو نفي الاستحقاق ليطابق حكم الفعل.

وأجاب عنه الشيخ الأنصاري قدس‌سره بأنّه يكفي عدم الفعلية في هذا المقام ، لأنّ الخصم يعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية ، فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعلية في منهج الخصم.

وأرد عليه المحقّق الخراساني بوجهين :

الأوّل : انّ الاستدلال عندئذ يُصبح جدلاً ، وهو عبارة عن الأخذ بمسلمات الخصم والرد بها عليه مع أنّنا في مقام البرهنة على عدم الاستحقاق والمفروض انّ الآية قاصرة الدلالة.

الثاني : منعُ اعتراف الخصم بالملازمة بين نفي الفعلية والاستحقاق ، بشهادة انّه ليس في معلوم الحرمة إلا استحقاق العقاب لا فعليّته ، لاحتمال شمول غفرانه سبحانه لمرتكبي الحرام ـ مع عدم التوبة أيضاً ـ قال سبحانه : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرة لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقاب ). (١) ففي مثله ، الاستحقاق دون الفعلية فإذا كان معلوم الحرمة محكوماً باستحقاق العقاب لا بالفعلية ، فليكن مشتبه الحرام كذلك فيكون محكوماً باستحقاقه دون فعليته ، فلا يكون عدمها ، دليلاً على عدم الاستحقاق.

__________________

١. الرعد : ٦.

٣٤٠