إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

أ : وجود الإجماعات المتعارضة من شخص واحد ، أو من معاصرين أو متقاربي العصر ، أو الرجوع عن الفتوى الذي ادّعى عليه الإجماع.

ب : دعوى الإجماع في المسائل غير المعنونة في كلام من تقدّم على المدّعي.

ج : دعوى الإجماع في المسائل التي اشتهر خلافها في زمان المدّعي وبعده.

كلّ ذلك يشهد على أنّ الأساس لدعوى الإجماع هو أحد الأُمور الآنفة الذكر.

وقد نبه بما ذكرنا جمع من الأصحاب.

١. الشهيد الأوّل ، فانّه أوّل من أوّل الإجماعات الواردة في كلمات الأصحاب بوجوه مذكورة في المعالم ، منها إرادة الإجماع على نقل الرواية وتدوينها في كتب الحديث.

٢. العلاّمة المجلسي في كتاب الصلاة من البحار ، فانّه بعد ما ذكر معنى الإجماع ووجه حجّيته عند الأصحاب ورأى انّه لا ينطبق على المسائل ، التي ادّي عليها الإجماع قال : إنّ الأصحاب لما رجعوا إلى الفقه نسوا ما ذكروه في الأُصول ، فمصطلحهم في الفروع غير ما جروا عليه في الأُصول. (١)

٣. الشيخ الأعظم الأنصاري ، فقد أثبت أنّ الإجماعات الواردة في كتب الأقطاب الخمسة ، ليس على أساس التتبع في كلمات الأصحاب ، بل على أساس الاتّفاق على دليل المسألة ، ولما وقف أنّ ذلك منهم يوهم التدليس اعتذر بأنّه يندفع بأدنى تتبع في الفقه.

ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من هذا النوع من ادّعاء الإجماع نأتي بما استشهد به الشيخ الأعظم حسب تسلسل التاريخ.

__________________

١. نقله الشيخ في الفرائد : ٥٧ ، ط رحمة اللّه.

١٨١

١. المفيد ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ هـ )

سئل المفيد عن الدليل على أنّ المطلقة ثلاثاً في مجلس واحد يقع منها واحدة؟ فقال : الدلالة على ذلك كتاب اللّه عزّوجلّ ، وسنّة نبيّه ، واستدل من الكتاب بقوله : ( الطلاق مرّتان ) أي الطلاق الذي يجوز للزوج الرجوع مرّتان ، والمرتان لا تكون مرّة واحدة ، وفي السنّة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما لم يوافقه فاطرحوه » وأمّا إجماع الأُمّة فهم منطبقون على أنّ ما خالف الكتاب والسنّة فهو باطل. (١)

٢. السيد المرتضى ( ٣٥٥ ـ ٤٣٦ هـ )

قال المرتضى من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات ، ونقل المحقق أنّه نسب ذلك إلى مذهبنا ، لأنّ من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المائعات (٢) ، فقد تمسك بأصل البراءة وادّعى الإجماع ، مع أنّ المورد من موارد التمسّك باستصحاب النجاسة بعد الغسل بالخلّ مثلاً.

٣. الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ )

ذكر الشيخ الطوسي انّه إذا بان فسق الشاهدين بما يوجب القتل ـ بعد القتل ـ أنّه يسقط القود ، وتكون الدية في بيت المال ، قال : دليلنا ، إجماع الفرقة ، فإنّهم رووا أنّ ما أخطأت القضاة ففي بيت مال المسلمين ، فعلّل انعقاد الإجماع بوجود الرواية عند الأصحاب. (٣)

__________________

١. العيون والمناظرات : ١٧٦ طبع مؤتمر الشيخ المفيد.

٢. المعتبر : ١ / ٨٢ ـ ٨٣.

٣. الخلاف : ج٦ ، كتاب الشهادات : ٢٨٩ برقم ٣٦.

١٨٢

٤. ابن زهرة ( ٥١١ ـ ٥٨٥ هـ )

قد أكثر ابن زهرة من الاستدلال بالإجماع في المسائل التي لا يساعد دعوى الإجماع ، وقد ذكر في أُصول الغنية ما يكون مبـرِّراً لهذا النوع من دعوى الإجماع (١).

٥. ابن إدريس الحلي ( ٥٤٣ ـ ٥٩٨ هـ )

قال ابن إدريس في السرائر : كلّ صلاة فريضة فاتت إمّا لنسيان أو غيره من الأسباب فيجب قضاؤها في حال الذكر من غير توان في سائر الأوقات ـ ثمّ قال : ـ ولنا في المضايقة كتاب خلاصة الاستدلال على من منع من صحة المضايقة بالاعتلال ، بلغنا فيه إلى أبعد الغايات وأقصى النهايات (٢). وقد نقل انّه استدل على القول بالمضايقة بالإجماع ، بحجّة أنّ الأصحاب ـ إلا نفراً يسيراً من الخراسانيين ـ ذكروا أخبارها في كتبهم ، كابن بابويه والأشعريين ، والقميين ....

قال الحلي : تجب إخراج الفطرة سواء كنّ نواشز أو لم يكنّ ... للإجماع ، والعموم ، من غير تفصيل من أحد من أصحابنا. (٣)

ورده المحقّق بأنّ أحداً من علماء الإسلام لم يذهب إلى ذلك قال : فانّ الظاهر أنّ الحلي إنّما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالّة على وجوب فطرة الزوجة ، متخيّلاً أنّ الحكم معلّق على الزوجية من حيث هي زوجته ، ولم يتفطن أنّ الحكم من حيث العيلولة ووجوب الإنفاق. (٤)

هذه نماذج تثبت انّ ادّعاءهم الإجماع كان على أساس الاتّفاق على الأصل أو القاعدة أو نقل الخبر ، ومع ذلك لا يمكن الاعتماد على الإجماعات الواردة في كلامهم.

__________________

١. الغنية : ١ / ٣٧١ قسم أُصول الفقه.

٢. السرائر : ١ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٣. السرائر : ١ / ٤٦٦.

٤. المعتبر : ٦٠١ ـ ٦٠٢ بتلخيص.

١٨٣

الثاني : تقييم الإجماعات الواردة في سائر الكتب

هناك من يدعي الإجماع على أساس التتبع في كلمات الفقهاء ومن هذه الطبقة :

١. المحقّق ( ٦٠٢ ـ ٦٧٦ هـ ) ، والعلاّمة الحلّي ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ هـ ) ، والشهيد الأوّل ( ٧٣٣ ـ ٧٨٦ هـ ) ، وابن فهد الحلي ( ٧٥٧ ـ ٨٤٢ هـ ) ، والشهيد الثاني ( ٩١١ ـ ٩٦٦ هـ ) ، والأردبيلي ( المتوفّى ٩٩٣ هـ ).

وصاحب الحدائق ( المتوفّى ١١٨٦ هـ ) وصاحب مفتاح الكرامة ( المتوفّـى ١٢٢٨ هـ ) وصــاحـب الريـاض ( ١١٥٩ ـ ١٢٣١ هـ ) وصـاحب الجـواهـر ( ١٢٠٠ ـ ١٢٦٦ هـ ) فانّ كتبهم تدل بوضوح على استنادهم إلى التتبع والوجدان في الكتب ، ومع ذلك ليس الجميع على درجة واحدة في التتبع والدّقة ، فلا يمكن الاعتماد على نقولهم إلابعد تبيين الأُمور التالية :

أ : ملاحظة المصادر التي رجع إليها في زمان التأليف.

ب : ملاحظة الكتاب المنقول فيه الإجماع.

ج : ملاحظة لفظ الناقل.

د : ملاحظة نفس المسألة.

هـ : ملاحظة حال الناقل في زمان التأليف.

أمّا الأوّل : فانّ نَقَلة الإجماع مختلفة ، فربّ ناقل يكتفي بالكتب الموجودة عند التأليف ، ومنهم من يتوسع في المصادر.

أمّا الثاني : فربّ كتاب وضع على التتبع ، ككتاب مفتاح الكرامة ، وربّ كتاب لم يوضع على ذلك.

١٨٤

وأمّا الثالث : فربّما يدعي الإجماع والاتّفاق ، وأُخرى يدّعي عدم وجدان الخلاف.

وأمّا الرابع : فربّما يدّعي الإجماع في المسائل المعنونة بين القدماء ، وأُخرى يدّعي الإجماع في الفروع التفريعية بين المتأخرين.

وأمّا الخامس : فانّ حال الناقل في زمان تأليف الكتاب مختلفة ، فربّ كتاب ألّفه الفقيه في أوان شبابه أو أواسط اشتغاله بالفقه ، وربّ كتاب ألّفه في أُخريات عمره بعد ما غامر في بحار الفقه.

فلو كان المحصّل بعد رعاية هذه الأُمور ملازماً لقول المعصوم ملازمة عادية فهو ، وإلا فعليه تحصيل أمارات أُخرى ليحصل بالمجموع القطع بقول الإمام.

بقيت أُمور ثلاثة

الثالث : حكم الإجماعات المنقولة المتعارضة

إذا تعارضت الإجماعات المنقولة ، فهل التعارض يرجع إلى السبب أي اتّفاق العلماء ، أو يرجع إلى المسبب؟!

الصحيح انّه يرجع إلى المسبب ، إذ لا مانع من صدق كلا الادّعاءين بعد عدم ابتناء الإجماع على اتّفاق الجلّ فضلاً عن الكلّ ، ولذلك لا يثبت المسبب.

وأمّا ثبوت السبب ، أي الاتّفاق الملازم لقول المعصوم فلا يثبت بواحد منهما ، إلا إذا كان في أحد النقلين خصوصية موجبة للقطع بالموافقة كأن ينقل أحدهما من القدماء الخبراء بفتوى الأئمّة ، ولا يمكن الوقوف على الخصوصية إذا نقل بوجه الإجمال كما هو المفروض إلا إذا نقل أسماء المفتين على وجه التفصيل.

١٨٥

فخرجنا بهذه النتيجة : أنّ الإجماعات المنقولة المتعارضة غير مفيدة بالنسبة إلى المسبب ، للتعارض ، وأمّا بالنسبة إلى السبب ، فهو وإن كان مفيداً في إثبات السبب ، أي فتوى جماعة ، لكنّها غير مؤثرة في اقتناص قول الإمام لعدم الملازمة بين فتوى جماعة وقول المعصوم ، إلا إذا كان في أحد النقلين خصوصية فهو لا يعلم إلا ذكر أسماء المفتين تفصيلاً.

الرابع : نقل التواتر بخبر الواحد

الخبر المتواتر : عبارة عن إخبار جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب ، ويؤمن من خطئهم.

فإذا نقل الشيخ الطوسي وقال : ثبت بالتواتر « انّ المرأة لا ترث من العقار ». فيقع الكلام تارة في ثبوت المسبب ، أي قول المعصوم ; وأُخرى في ثبوت صفة التواتر إذا ترتب عليه الأثر ، كما إذا نذر أن يحفظ كلّ خبر متواتر أو يكتبه ، والثاني هو الذي أسماه المحقّق الخراساني بالسبب فإليك البيان :

أمّا المسبب ، أي قول المعصوم ، فلا ، إذ غاية ما ثبت بخبر الواحد أنّ جماعة أخبروا بكذا ، وليس قول المعصوم من لوازم إخبار الجماعة الثابتة بخبر الواحد.

وإن شئت قلت : إنّ المخبر به من لوازم التواتر الواقعي لا التواتر الثابت عند الناقل ، والثابت بالخبر الواحد هو الثاني لا الأوّل.

نعم لو أخبر بالعدد ، على وجه يكون ملازماً للمخبر به لو سمع منهم بلا واسطة كأن يقول : أخبر مائة شخص أنّ الإمام قال : « لا ترث المرأة من العقار » كان اللازم من قبوله ، الحكمَ بوجود إخبار الجماعة ، فيثبت المسبب وهو قول الإمام ، وهذا هو المستفاد من كلام الشيخ ، وإليه يشير المحقّق الخراساني بقوله : وانّه من حيث المسبب لابدّ في اعتباره من كون الإخبار به إخباراً على الإجمال

١٨٦

بمقدار ( مائة شخص ) يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر لو علم به.

هذا كلّه حول المسبب.

وأمّا من حيث السبب ، أي ثبوت صفة التواتر ، وترتيب أثره عليه كما إذا نذر حفظ كلّ خبر متواتر أو تدوينه ، فيختلف حسب اختلاف الموضوع.

فلو كان الموضوع ما ثبت بالتواتر إجمالاً ، ولو عند الناقل ، فيترتب عليه الأثر ، وإلا فلو كان الموضوع ما تواتر عند المنقول إليه فلا يترتب عليه الأثر.

نعم أخبرنا بأسماء المخبرين على التفصيل ، وكان دون التواتر فلو ضَمَّ ما توصل المنقول إليه بالتتبّع وبلغ حدّ التواتر ، كان عليه ترتّب أثر التواتر حتى ولو كان الموضوع هو التواتر عند المنقول إليه.

الخامس : صحّة القراءة في الصلاة بالقراءات السبع

قد استفاض الحديث عن أئمّة أهل البيت بأنّ القرآن واحد نزل من عند واحد (١) ، ولم يكن للنبي إلاقراءة واحدة وهي القراءة الدارجة ، التي رواها حفص عن عاصم عن علي عليه‌السلام ، لكن العلاّمة والشهيد ادعيا تواتر القراءات السبع ، بل القراءات الثلاث الشاذّة ، وعلى هذا فهل يجوز القراءة في الصلاة بغير القراءة المعروفة أو لا؟ يختلف الحكم جوازاً ومنعاً حسب اختلاف الموضوع.

فلو كان الحكم منوطاً بالقرآن المتواتر في الجملة ولو عند الناقل كالعلاّمة والشهيد ، يجوز القراءة بكلّ من القراءات ، وإن كان الموضوع هو القرآن المتواتر والثابت لدى المصلي أو عند مجتهده فلا يُـجـدي إخبار العلامة والشهيد بتواتر تلك القراءات إلا إذا ثبت تواتره عند المنقول إليه أو مقلّده.

__________________

١. الكافي : ٢ / ٦٣٠ ، كتاب فضل القرآن ، برقم ١٢ ـ ١٣.

١٨٧

الحجج الشرعيّة

٤

الشهرة الفتوائية

تنقسم الشهرة إلى روائية ، وعمليّة ، وفتوائية.

الشهرة الروائية عبارة عن : اشتهار نقل الرواية بين الرواة وأرباب الحديث ونقلها في الكتب ، سواء عمل بها الفقهاء أم لم يعملوا.

والشهرة العملية عبارة عن : اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الفتوى ، كاستناد الفقهاء على النبوي : « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » أو قوله اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الناس مسلّطون على أموالهم » وإن لم يكونا منقولين في جوامعنا الحديثية ، فكيف برواية نقلها الرواة وأرباب الحديث واستند إليها الفقهاء في مقام الفتوى ، وسيوافيك أنّ الشهرة العمليّة جابرة لضعف الرواية ، كما أنّ الإعراض عنها كاسر لصحّتها ، والنسبة بين الشهرتين عموم وخصوص من وجه كما هو واضح.

والشهرة الفتوائية عبارة عن : مجرّد اشتهار الفتوى في مسألة ، سواء لم تكن في المسألة رواية ، أو كانت على خلاف الفتوى ، أو على وفقها ولكن لم يكن الإفتاء مستنداً إليها ، ولا تكون مثلها جابرة لضعف سند الرواية إلا إذا علم الاستناد ، ولا كاسرة إلا إذا علم الإعراض.

فيقع الكلام في حجّية نفس الشهرة الفتوائية من غير فرق بين الشهرة الفتوائية بين القدماء أو بين المتأخرين.

واستدل على الحجّية بوجوه ضعيفة ذكرها الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني.

١٨٨

الأوّل : الاستدلال بالأَولوية القطعية

إنّ المناط في حجّية خبر الواحد ، كونه مفيداً للظن بالحكم ، وهو موجود في الشهرة الفتوائية بوجه أقوى. وأجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين :

١. القطع بكون المناط هو إفادته الظن غير حاصل ، غاية الأمر الظن بكون المناط هو إفادته الظن فتكون الأَولوية ظنية لا قطعية.

٢. القطع بأنّه ليس بمناط ، لكونه حجّة سواء أفاد الظن أم لا ، والشاهد عليه حجّيته وإن لم يفد الظن الشخصي.

فإن قلت : الخبر الواحد حجّة لإفادته الظن النوعي والملاك هو هذا.

قلت : لو كان هذا هو المناط يهدم الاستدلال ، لأنّ الشهرة الفتوائية لو كانت حجّة فإنّما هي حجّة من باب الظن الشخصي فيكون المناطان متغايرين.

الثاني : تعليل آية النبأ

علل سبحانه المنع عن العمل بخبر الفاسق أنّ الاعتماد على قوله : يعد جهالة بمعنى السفاهة ، والاعتماد على الشهرة ليست كذلك.

يلاحظ عليه : أنّ منطوق الآية هو عدم جواز العمل بكلّ ما يعد سفاهة ، لا جواز العمل بكلّ ما لا يعد كما هو واضح ، وإلا يكون التعليل حجّة لكلّ ظنّ لم يكن العمل به سفاهة.

الثالث : دلالة المقبولة

سأل عمر بن حنظلة أبا عبد اللّه عليه‌السلام عن اختلاف القضاة؟ فقال : « الحكم ما حكم به أعدلهما ، وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما

١٨٩

يحكم به الآخر ».

قال : فقلت : فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه ، قال : فقال : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمعَ عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه. إنّما الأُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيُتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى اللّه وإلى رسوله ». (١)

هذه هي المقبولة التي تلقّاها الأصحاب بالقبول ، ولكن المشايخ العظام لم يعطوا للرواية حقّها ، مثلاً انّ المحقّق الخراساني ضعّف الاستدلال بالرواية بأنّ المراد من الموصول في قوله : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا » هو الرواية فلا صلة لها بالشهرة الفتوائية ، والمحقّق النائيني ، وإنْ ذكر وجه الاستدلال بوجه مطلوب ، لكن أورد عليه بما لا يرد عليه.

وبما انّ المورد من المباحث الهامّة في الفقه ، نوضح مفاد الرواية ، وسيوافيك انّه يستفاد منها أُمور أربعة :

١. انّ الشهرة العملية ليست من المرجّحات ، بل من مميّزات الحجّة عن اللاحجّة.

٢. انّ الشهرة العملية جابرة لضعف الرواية إذا علم الاستناد إليها في الفتوى.

٣. انّ الشهرة العملية على خلاف الرواية كاسرة لصحّتها إذا أُحرز الإعراض.

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ ؛ ثمّ قال : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال عليه‌السلام : « ينظر إلى ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامة فيؤخذ به ». وليكن الذيل ببالك يفيد في المستقبل.

١٩٠

٤. انّ الشهرة الفتوائية في الفقه المنصوص بين القدماء حجّة في الفقه ، نعم ليس للشهرة الفتوائية قيمة في المسائل التفريعية بين المتأخرين ، وإليك بيان الأُمور الأربعة.

إنّ استفادة الأُمور المذكورة تتوقف على بيان أُمور ثلاثة :

١. انّ المراد من « المجمع عليه » ليس ما اتّفق الكلّ على روايته ، بل المراد ما اشتهرتْ روايتُه بين الأصحاب ، في مقابل الشاذّ الذي ليس كذلك ، ويدل على ذلك قول الإمام عليه‌السلام : « يُترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ».

٢. المراد من اشتهار الرواية بين الأصحاب ، هو اشتهارها مع العمل بها والإفتاء بمضمونها ، إذ هو الذي يصلح لأن يكون ممّا لا ريب فيه ، وإلا فلو رووها ولم يعملوا بمضمونها ، بل أفتوا على خلافه ، ففي مثلها كلّ الريب.

وأمّا إفادة المحقّق الخراساني من أنّ المراد من « ما » الموصولة هو الرواية ولا يعم الإفتاء وإن كان صحيحاً ، لكن المراد الرواية التي عملوا بها وأفتوا بمضمونها ، وأمّا حجّية مجرّد الإفتاء فسيوافيك.

٣. المراد كون المجمع عليه « ممّا لا ريب » هو نفي الريب على وجه الإطلاق كقوله سبحانه : ( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ ) (١) ، بشهادة أنّ النكرة وقعت في سياق النفي وهو يفيد العموم ، وإذا كانت الرواية المشهورة المعمول بها ممّا لا ريب فيه ، تكون الرواية الشاذة المعرض عنها ، ممّا لا ريب في بطلانها ، وذلك بحكم العقل لا بالدلالة اللفظية ، فانّه إذا كان أحد طرفي القضية ممّا لا ريب في صحّته وقطعَ الإنسان بصحّته يكون الطرف الآخر مقطوع البطلان ، وإلا يلزم اجتماع اليقين بالصحّة ، مع الشكّ فيها ، مثلاً إذا كانت عدالة زيد ممّا لا ريب فيها ، يكون مخالفها ـ فسقه ـ ممّا لا ريب في بطلانه.

__________________

١. البقرة : ٢.

١٩١

ومن ذلك يعلم أنّ المشهور داخل في القسم الأوّل من التثليث الوارد في الحديث أيْ بيّن الرشد ، والخبر الشاذ داخلاً في القسم الثاني أيْ بيّن الغي ، لا في القسم الثالث أيْ مشكل يرد حكمه إلى اللّه ورسوله.

إذا عرفت هذه المقدمات الثلاث فاعلم أنّه يترتّب عليه أُمور أربعة :

١. الشهرة العملية من مميزات الحجّة عن اللاحجّة

إنّ الأُصوليين يذكرون الشهرة العمليّة من المرجّحات ، ومعنى ذلك أنّ المشهور المفتى به ، والشاذ المعرض عنه ، حجّتان لكن تُرجّح إحداهما على الأُخرى بالشهرة ، غير أنّ كونها مرجّحة مبنيّة على افتراض حجّية كلا الخبرين في حدّ نفسهما ، لولا التعارض ، ولكن المقام ليس كذلك ، لأنّ الشاذ إذا كان ممّا لا ريب في بطلانه ، وكان داخلاً في بيّن الغي ، لا يكون حجّة سواء كان هناك معارض أو لا ، وفي صورة المعارضة ، يكون الحجّة هو المجمع عليه ، المفتى به ، دون الشاذ ، وعلى ذلك تكون الشهرة العملية من مميزات الحجّة عن اللاحجة ، لا من مرجّحاتهما.

٢. الشهرة العملية جابرة لضعف الرواية

إنّ مورد المقبولة فيما إذا كانت الرواية المشهورة المفتى بها صحيحة سنداً ، وقد عرفت أنّها تقدّم على الشاذ المعرض عنه ، وإن كان صحيح السند.

ولو افترضنا ، كون المشهورة ضعيفة السند ـ سواء أكان له معارض شاذ أم لا ـ فهل عمل المشهور ، يجبر ضعف السند؟ الظاهر ذلك ، لما سيوافيك من أنّ ما هو الحجّة في باب الروايات ، ليس قول الثقة ، بل الخبر الموثوق بصدوره ، وحجّية قول الثقة لأجل كون وثاقته أمارة على صدوره من الإمام ، ولا شكّ انّ عمل

١٩٢

الأكابر بالرواية في عصر الحضور أو بعده في عصر الغيبة يورث الوثوق بصدورها.

وهذا المقدار كاف في شمول دليل حجّية خبر الواحد له ، نعم المراد هو عمل القدماء بالرواية ، المورِث للوثوق بصدور الرواية ، ولا عبرة بعمل المتأخرين ، إذ لا يتميزون علينا بشيء.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي ممّن لا يرى عمل المشهور جابراً لضعف الرواية ، فخالف في المقام واعترض بأمرين : أحدهما يرجع إلى الكبرى وهي كون العمل جابراً ، والآخر إلى الصغرى وهي استناد المشهور إلى الخبر.

أمّا الأوّل : فقال ما هذا حاصله : إذا كان الخبر الضعيف غير حجّة في نفسه على الفرض ، وكذلك فتوى المشهور غير حجّة على الفرض ، يكون المقام من قبيل انضمام غير الحجّة إلى غير الحجّة فلا يوجب الحجّة ، فانّ انضمام العدم إلى العدم لا ينتج إلا العدم. (١)

يلاحظ عليه : أنّ أساس منع الكبرى هو تصور انّ الموضوع للحجّية هو قول الثقة فرتّب عليه انّ عمل المشهور لا يثبت وثاقة الراوي ، ولكن الأساس ممنوع ، لأنّ ما هو الحجّة حسب سيرة العقلاء هو الخبر الموثوق بصدوره ، وحجّية قول الثقة لأجل أنّ وثاقته أمارة على صدق الخبر وصدوره من الإمام ، ومنه يظهر ضعف ما أفاده ، من أنّ كلا من الخبر والشهرة الفتوائية ليس بحجّة ، فأشبه بضم العدم إلى العدم ، وذلك لأنّ كلّ واحد وإن لم يكن مورِثاً للوثوق بالصدور ، لكن بعد ضمِّ أحدهما إلى الآخر ، يحصل الوثوق المؤكّد كما لا يخفى.

أمّا الثاني : أي إحراز استناد الفقهاء إلى الرواية فقد قال : إنّه أشكل ، وذلك لأنّ القدماء لم يتعرضوا للاستدلال في كتبهم ليعلم استنادهم إلى الخبر الضعيف. والمتعرّض للاستدلال هو الشيخ الطوسي دون من تقدّمه. (٢)

__________________

١ و ٢. مصباح الأُصول : ٢ / ٢٠٢.

١٩٣

يلاحظ عليه : أنّ للقدماء لونين من التأليف : أحدهما بصورة الفقه المنصوص ، والآخر بصورة الفقه المستنبط ، وكان أساس الأوّل هو تجريد المتون عن الأسانيد والإفتاء بنفس الرواية أو بمضمون قريب منه ، وإذا تضافرت فتاوى تلك الطبقة في مسألة على عبارة موجودة في الخبر الضعيف يستكشف اعتمادهم في مقام الإفتاء على ذاك الحديث ، ومن هذا القسم ، كتاب الشرائع لعلي بن بابويه ( المتوفّى عام ٣٢٩ هـ ) وكتاب المقنع والهداية لولده الصدوق ( المتوفّى عام ٣٨١ هـ ) ، والمقنعة للمفيد ( المتوفّى ٤١٣ هـ ) والنهاية للشيخ الطوسي ( المتوفّـى ٤٦٠ هـ ) وكتاب التكليف للشلمغاني ( المتوفّـى ٣٢٣ هـ ) ولعلّ هو نفس كتاب فقه الرضا ، فإنّ تضافر هؤلاء على الإفتاء بنص الحديث أو بمضمونه ، يورث الاطمئنان بوثوقهم بالحديث من طرق مختلفة.

وأمّا اللون الآخر من التأليف فهو خارج عن محطّ بحثنا ، ومنه كتاب الإيضاح للفضل بن شاذان ، وكتب ابن جنيد ، والناصريات والانتصار للسيد ، والمبسوط للشيخ.

هذا كلّه حول الأمر الثاني ـ كون الشهرة الفتوائية جابراً لضعف الرواية ـ وإليك الكلام في الأمر الثالث.

٣. إعراض المشهور عن الرواية كاسر لحجّيتها

إنّ إعراض المشهور عن الرواية مسقط لها عن الحجّية ـ وإن كان السند صحيحاً ـ سواء كان في مقابله خبر معارض أو لا ، لكونه مصداق الشاذ النادر الذي لا ريب في بطلانه ، ومورد المقبولة وإن كان هو صورة التعارض ، ولكن المورد ليس بمخصص ، والموضوع هو الشذوذ وعدم اعتداد الأصحاب بها ، من غير فرق بين وجود معارض له أو لا.

١٩٤

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي اعترض عليه كما اعترض على الأمر السابق وقال : إذا كان الخبر الصحيح أو الموثق مورداً لقيام السيرة ومشمولاً لإطلاق الأدلّة اللفظية فلا وجه لرفع اليد عنه لإعراض المشهور عنه. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الدليل الوحيد على حجّية الخبر الواحد هو السيرة العقلائية ، وأمّا غيرها فإمّا إرشاد إليها أو بيان للصغرى أي أنّ الراوي ثقة ، ففي مثل المقام الذي تسالم الأكابر على الإفتاء على خلاف الحديث مع كونه بمرأى ومسمع منهم يتوقف العقلاء من العمل به.

أضف إلى ذلك أنّ المستفاد من المقبولة أنّ الخبر الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه ، ومعه كيف يمكن الاعتماد عليه؟!

٤. الشهرة الفتوائية المجرّدة عن الرواية حجّة

هذا هو بيت القصيد والغرض المهم الذي عقدنا الباب لبيانه فنقول :

المسائل المشهورة بين الفقهاء على قسمين :

١. المسائل التفريعية أو الفقه المستنبط

وهي المسائل التي لم يرد فيها نصّ وإنّما استنبط حكمها الفقهاء من القواعد والضوابط ، كالشهرة المتحققة في جواز الصلاة في اللباس المشكوك ، فانّه من الفقه المستنبط ، والشهرة حصلت من عصر السيد المجدد الشيرازي ، بعد ما كان عدم الجواز مشهوراً ، والشهرة وعدمها في هذه المسائل سيّان ، وليس على الفقيه إلا ملاحظة نفس الدليل سواء أكانت هناك شهرة أم لا.

__________________

١. مصباح الأُصول : ٢ / ٢٠٣.

١٩٥

٢. المسائل المتلقاة عن الأئمة

التي يعبّر عنها بالفقه المنصوص ، وأمّا تمييز أحدهما عن الآخر ، فيحصل بالرجوع إلى كثير من الكتب التي أُلّفت في الغيبة الصغرى ، وأوائل الغيبة الكبرى حيث صار الدارج هو ، تجريد المتون عن الأسانيد والإفتاء بلفظ النص ، أو قريب منها.

فإذا وقفنا من القدماء على فتوىً في مسألة ، ولم نجد له دليلاً من السنّة ، كشف ذلك عن أحد الأمرين على وجه مانعة الخلو :

أ : كون الحكم واصلاً إليهم يداً بيد من عصر الأئمّة إلى زمانهم ، وكان الحكم المشهور بين أصحاب الأئمّة ومن بعدهم هو ما ورد في الكتب المعدة للفقه المنصوص وإن لم نجد النصّ ، وهذا هو الذي اختاره سيدنا الأُستاذ قدس‌سره.

ب : أو كاشفاً عن وجود نصّ وصل إليهم ولم يصل إلينا ، وعلى هذا الوجه تدخل الشهرة الفتوائية في عداد الشهرة العملية لافتراض كشفها عن النص المعمول به عند القدماء.

والذي يؤيّد ما ذكرناه أمران :

١. انّ في الفقه الإمامي مسائل كثيرة اتّفقت كلمة الفقهاء فيها على حكم ليس له دليل من الكتاب والسنّة سوى تسالم الأصحاب ، وكان السيد المحقّق البروجردي ينهيها إلى تسعين ، ولكنّه قدس‌سره لم يعيّن مواردها غير انّ المظنون أنّ قسماً وافراً منها يرجع إلى باب المواريث والفرائض ، ولو حذفنا الشهرة ، لأصبحت المسائل فتاوى فارغة عن الدليل.

٢. انّ الظاهر من بعض الروايات أنّ أصحاب الأئمّة كانوا يعملون بالشهرة الفتوائية ، بل كانوا يقدّمونها على ما سمعوه من الإمام شفهياً ، وها نحن نذكر هنا نموذجين ليقف القارئ على مدى اعتمادهم عليها :

١٩٦

أ : روى سلمة بن محرز قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : إنّ رجلاً مات وأوصى إلي بتركته وترك ابنته ، قال : فقال لي : « إعطها النصف » ، قال : فأخبرت زرارة بذلك ، فقال لي : اتقاك ، إنّما المال لها ، قال : فدخلت عليه بعد ، فقلت : أصلحك اللّه! إنّ أصحابنا زعموا انّك اتقيتني؟ فقال : « لا واللّه ما اتّقيتك ، ولكنّي اتّقيت عليك أن تضمن ، فهل علم بذلك أحد؟ » قلت : لا ، قال : « فاعطها ما بقي ». (١)

ترى انّ الشهرة الفتوائية بلغت من حيث القدر والمنزلة عند الراوي إلى درجة منعته عن العمل بنفس الكلام الذي سمعه من الإمام فتوقف حتى رجع إلى الإمام ثانياً.

وربّما كانوا لا يتوقفون عن العمل ويقدّمون المشهورة على المسموع من نفس الإمام شخصيّاً.

ب : روى عبد اللّه بن محرز بيّاع القلانص قال : أوصى إلي رجل وترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم ، وترك ابنة ، وقال : لي عصبة بالشام ، فسألت أبا عبد اللّه عليه‌السلام عن ذلك ، فقال : « اعط الابنة النصف ، والعصبة النصف الآخر » ، فلما قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا فقالوا : اتقاك ، فأعطيت الابنة النصف الآخر ، ثمّ حججت فلقيت أبا عبد اللّه عليه‌السلام فأخبرته بما قال أصحابنا وأخبرته انّي دفعت النصف الآخر إلى الابنة ، فقال : « أحسنت ، إنّما أفتيتك مخافة العصبة عليك ». (٢)

وعلى ضوء هذه الأحاديث تعرف مكانة الشهرة الفتوائية ، عند أصحاب الأئمّة ، ومعه لا يصحّ لفقيه الإعراض عن الشهرة للأصل أو الرواية الشاذة.

فتبين أنّ الشهرة الفتوائية في المسائل المتلقاة ( وإن شئت سمّه الفقه المنصوص ) داخلة في مفاد المقبولة لو قلنا بكشفها عن الخبر ( المعمول به ) أو

__________________

١. الوسائل : ج١٧ ، الباب ٤ من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديث ٣.

٢. المصدر نفسه ، الباب ٥ من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديث ٤.

١٩٧

مناطها ( لو قلنا بكشفها عن وجود الشهرة عند أصحابهم ) وأنّ سيرة أصحاب الأئمّة جرت على الاعتناء بها ، فمثل هذه الشهرة إن لم تكن صالحة للإفتاء على طبقها ، لكنّها صالحة للاحتياط وعدم الإفتاء بشيء أو الإفتاء بالاحتياط.

وهناك كلمة قيّمة لبطل الفقه الشيخ المفيد ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ هـ ) وهو يعرف لنا مكانة الشهرة ، يجب على من يفتى بكلّ خبر ، ولا يراعى ضوابط حجّيته ، أن يطالعها ويتدبر فيها ونحن نأتي ببعضها :

قال : إنّ المكذوب منها لا ينتشر بكثرة الأسانيد ، انتشار الصحيح المصدوق على الأئمّة عليهم‌السلام فيه ، وما خرج للتقية لا تكثر روايته عنهم ، كما تكثر رواية المعمول به ، بل لابدّ من الرجحان في أحد الطرفين على الآخر من جهة الرواة حسب ما ذكرته.

ولم تجمع العصابة على شيء كان الحكم فيه تقيّة ، ولا شيء دُلِّس فيه ووُضِع مخروصاً عليهم وكذّب في إضافته إليهم ، فإذا وجدنا أحد الحديثين متّفقاً على العمل به دون الآخر ، علمنا أنّ الذي اتّفق على العمل به هو الحقّ في ظاهره وباطنه ، وأنّ الآخر غير معمول به ، امّا للقول فيه على وجه التقية ، أو لوقوع الكذب فيه.

وإذا وجدنا حديثاً يرويه عشرة من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام يخالفه حديث آخر في لفظه ومعناه ، ولا يصحّ الجمع بينهما على حال ، رواه اثنان أو ثلاثة ، قضينا بما رواه العشرة ونحوهم على الحديث الذي رواه الاثنان أو الثلاثة ، وحملنا ما رواه القليل على وجه التقيّة أو توهّم ناقله. (١)

__________________

١. تصحيح الاعتقاد : ٧١ ، ط تبريز.

١٩٨

الحجج الشرعية

٥

في حجّية الخبر الواحد

قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : البحث عن حجّية الخبر الواحد من أهمّ المسائل الأُصولية التي يدور عليها استنباط أكثر الأحكام الشرعية ، لأنّ الخبر المتواتر والمحفوف بالقرينة ، قليل جداً لا تفي بمعظم الفقه ، ولو اقتصر عليهما ، فلابد من العمل بالظن المطلق لدليل الانسداد ، ولأجل ذلك أخذت المسألة لنفسها أهمية خاصة بين الأُصوليين.

الثاني : انّ الاحتجاج بالخبر الواحد يتوقّف على ثبوت أُمور أربعة :

أ : أصل الصدور.

ب : أصل الظهور.

ج : حجّية الظهور.

د : جهة الصدور.

أمّا الثاني : فيثبت بما تثبت به الأوضاع اللغوية ـ كالتبادر وغيره ـ والقرائن العامّة.

وأمّا الثالث : فقد مرّت حجّية الظواهر ، عند العقلاء وإمضاء الشرع له.

وأمّا الرابع : فيثبت بالأصل العقلائي ، وأنّ الأصل في إلقاء الكلام هو بيان

١٩٩

المراد الجدي ، وأنّ حمل الكلام على غيره كالتقية وغيرها يحتاج إلى دليل.

بقي الكلام في الأمر الأوّل فهذا ما يتكفله هذا الفصل من إقامة الدليل على حجّية الخبر الواحد.

الثالث : اختلفت كلمتهم في أنّ البحث عن حجّية الخبر الواحد ، بحث أُصولي ومن مسائل علم الأُصول أوبحث استطرادي؟

ذهب المحقّق القمي إلى الثاني محتجّاً بأنّ الموضوع لعلم الأُصول هو الأدلّة الأربعة بقيد الدليلية ، والمسألة عبارة عمّا يبحث عن العوارض الذاتية لموضوع العلم ، وعليه البحث عن حجّية الخبر الواحد وانّه هل هو دليل شرعي أو لا ، بحث عن وصف موضوع العلم أو جزئه.

ثمّ إنّ المتأخرين عنه ردّوا عليه وقالوا : إنّ البحث عن حجّية الخبر الواحد ، بحث عن عوارض الموضوع ، لكن بمحاولات مختلفة مذكورة في الفرائد والكفاية وغيرهما ، وإليك بيانها :

أ : ذهب صاحب الفصول إلى أنّ الموضوع ليس الأدلّة الأربعة بقيد الدليلية ، بل الموضوع ذات الأدلّة الأربعة بما هي هي ، والبحث عن الدليلية ، من عوارض الموضوع ( السنّة ). وقد وصفه الشيخ بالتجشم والتكلّف ، ولعلّه للملاحظة التالية.

يلاحظ عليه : أنّ الأدلّة الأربعة عبارة عن الكتاب والسنّة والعقل والإجماع ، فلو كان البحث عن حجّية المحكي أي السنة الشاملة لقول المعصوم وفعله وتقريره يكون البحث عندئذ كلامياً لا أُصولياً ، وإن كان البحث عن حجّية الحاكي فهو ليس من الأدلّة الأربعة.

ب : ما ذهب إليه الشيخ من أنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بقيد الدليلية ، لكن جهة البحث عبارة عن ثبوت السنّة أعني قول الحجّة أو فعله أو تقريره ( المسلم وجودها ) بخبر الواحد وعدمه ، فيقال : هل السنّة ( المحكية ) تثبت بخبر

٢٠٠