إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

الموعود به ، يكون الموضوع مركّباً من نفس الفعل والغاية وهو عبارة أُخرى عن كون الثواب مترتّباً على الانقياد ، لا على نفس العمل مجرّداً عنها.

وأمّا الثاني ، أي كيفية استظهاره من صحيحة هشام فحاصله : انّ الثواب في صحيحة هشام رتب على نفس العمل حيث قال : كان أجر ذلك ، فالمشار إليه بلفظة « ذلك » ، هو نفس العمل ، وبما انّ الاستحباب لا ينفكّ عن المصلحة ، فيكشف عن حدوث مصلحة فيه عند طروء عنوان البلوغ أو السماع فيصير مستحباً ويترتّب عليه آثاره ويصير نظير قوله : « من سرّح لحيته فله كذا ».

يلاحظ عليه بأمرين :

١. ليس المراد من أجر العمل في الرواية هو الأجر الواقعي المكتوب على العمل بما هو هو ، وذلك لأنّه كما يحتمل صدقه ، يحتمل كذبه ، فليس الأجر الواقعي أمراً محرزاً ، بل المراد الأجر الوارد في الخبر الأعمّ من أن يكون موافقاً للواقع أو لا ، وهذا النوع من الأجر لم يثبت للعمل بما هو هو ، بل ثبت للعمل في الظرف الذي يأتي به المكلف بنيّة درك الثواب الموعود ، ومن المعلوم انّ ثبوت هذا النوع من الأجر لا يكشف عن استحباب العمل بما هو هو وإنّما يكشف إذا ترتّب عليه الثواب في عامّة الظروف لا في ظرف خاص ، وهو خلاف ظاهر الرواية ، وأقصى ما يستفاد منه هو عدم حرمان العامل من الأجر تفضّلاً منه سبحانه.

٢. ما استظهره إنّما يصحّ لو كان الدليل منحصراً برواية هشام ، ولكن هناك روايتان عن طريق محمد بن مروان صريحتان في الثواب لغاية طلب قول النبي ، أو التماس ذلك الثواب ومعه لا يمكن الاعتماد بالظهور البدائي في صحيحة هشام.

وبذلك يتضح الفرق بين المقام وما ورد من قوله : من سرح لحيته فله عشر حسنات ، أو من صام نصف شعبان فله كذا. فانّ الثواب في الموردين ترتّب على نفس العمل ، بخلاف المقام فانّه مترتب على الطاعة الحكمية أي احتمال الأمر ، وفي مثله لا يكشف الثواب عن وجود الأجر القطعي.

٤٤١

٣. نظرية المحقّق النائيني

إنّ هذه النظرية مبنية على كون الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء ومعنى قوله : « فعمله أو فعله » : هو الأمر بالفعل والعمل كما هو الشأن في غالب الجمل الخبرية الواردة في بيان الأحكام ، وعلى هذا يصحّ أن يقال أنّ أخبار من بلغ مسوقة لبيان انّ البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها يكون مستحباً فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها أو قبحها والمقتضية لتفسير أحكامها ، كالضرر والعسر والنذر والإكراه وغير ذلك من العناوين الثانوية ، فيصير حاصل معنى قوله عليه‌السلام : « أو بلغه شيء من الثواب فعمله » بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشائية ، هو انّه يستحب العمل عند بلوغ الثواب عليه ، كما يجب العمل عند نذره ، ثمّ استقرب هذا الوجه قائلاً : إنّ ما عليه المشهور حيث إنّ بناءهم في الفقه على التسامح في أدلّة السنن. (١)

والفرق بين النظريتين الثانية والثالثة واضح ، حيث إنّ العمل على الأوّل يصير مستحباً ذاتياً ، بخلافه على هذا القول ، يكون مستحباً عرضيّاً لعروض عنوان البلوغ ، وقد أوضحه بقوله : إنّ الوجه الأوّل مبني على أن يكون مفاد أخبار من بلغ حجّية قول المبلغ ، وأنّ ما أخبر به هو الواقع ، فيترتب عليه كلّ ما يترتب على الخبر الواحد للشرائط ، ويكون العمل بما هو هو مستحباً ، وأمّا على هذه النظرية فانّ مفاده مجرّد إعطاء قاعدة كلية وهي : استحباب العمل إذا بلغ عليه شيء من الثواب ، فيكون مفاد أخبار من بلغ قاعدة فقهية كقاعدة « لا ضرر » و « لا حرج ». (٢)

__________________

١. فوائد الأُصول : ٣ / ٤١٥ ـ ٤١٦.

٢. فوائد الأُصول : ٣ / ٤١٥.

٤٤٢

وبعبارة أُخرى يكون المستحب هو العمل بعنوانه الثانوي الطارئ عليه.

وإن شئت قلت : إنّ البلوغ في الأوّل جهة تعليلية لعروض حكم الاستحباب على العمل دون نظريته ، فهو جهة تقييدية ، وتظهر ثمرة هذا الاختلاف في الآثار التي تترتب على المستحباب الذاتية دون المستحبات العرضية.

يلاحظ عليه : أنّ حمل الجمل الاخبارية على الإنشاء إنّما يصحّ في الواجبات والمستحبات المؤكدة حيث تكون شدّة العلاقة بالمطلوب سبباً عن الإخبار عن وجوده في الخارج فيخبر عنه ، مكان الانشاء ، وأمّا المقام فليس كلّ مستحب يبلغ هذه المكانة من الأهمية حتى يصحّ الاخبار عنه.

ثمرات المسألة

تظهر الثمرة في موارد :

١. ترتّب الآثار المترتبة على المستحبات الشرعية مثل ارتفاع الحدث المترتب على الوضوء المأمور به.

فعندئذ لو ورد خبر غير معتبر بالأمر بالوضوء في ظرف خاص كدخول المسجد فعلى القول الأوّل ، لا يترتّب عليه إلا الثواب ، خلافاً للنظريتين الأخيرتين ، فيعامل معه معاملة المستحب فيكون رافعاً للحدث واقعاً.

يلاحظ عليه ـ مضافاً إلى أنّ الاستحباب لا يلازم رفع الحدث كاستحباب الوضوء للحائض عند أوقات الصلاة ـ : أنّه إنّما يتم لو لم يكن الوضوء مستحباً نفسياً ، كما هو ظاهر عدّة من الروايات ؛ روى المفضل بن عمر ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « من جدّد وضوءه لغير حدث ، جدّد اللّه توبته من غير استغفار » (١)

__________________

١. الوسائل : الجزء ١ ، الباب ٨ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

٤٤٣

فاستحباب الوضوء ثابت مطلقاً ، سواء كان هنا إخبار « من بلغ » أو لم يكن ، كان مضمونها ما اختاره الشيخ أو غيرهما.

٢. لو ورد الأمر باستحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء ، فلو قلنا باستفادة الاستحباب يجوز المسح ببلله إذا جفّ يده ، دون ما إذا قلنا بالنظرية الأُولى.

يلاحظ عليه : أنّ ثبوت استحباب غسل اللحية المسترسل ، لا يلازم جواز المسح من بلّتها ، لاحتمال اختصاص الأخذ بالأجزاء الأصلية.

٣. تظهر الثمرة بين نظرية المحقّق الخراساني ، والمحقّق النائيني فيما لو ورد خبر ضعيف على استحباب شيء ، وورد خبر ثقة على نفيه ، فعلى القول بأنّ هذين الخبرين بصدد جعل الحجّية للخبر الضعيف يقع التعارض بين الخبرين ويقع التعارض بين الحجّتين ، وأمّا إذا قلنا بأنّهما بصدد إثبات استحباب واقعي على الفعل بما أنّه ينطبق عليه عنوان البلوغ فلا تعارض بين الخبرين ، لأنّ الثاني ، ينفي كون العمل مستحبّاً بذاته ونفسه ، والخبر الضعيف لا ينافيه وإنّما يثبت الاستحباب عليه لأجل انطباق عنوان ثانوي عليه.

وبما انّك عرفت انّ النظرية الأُولى هي الحقّ ، فلا يصحّ أن يعامل معه معاملة المستحب ، بنحو من الأنحاء لا ذاتياً ولا عرضياً وبذلك يعلم انّ التعبير بالتسامح في أدلّة السنن ، ليس تعبيراً واقعياً في مضمون الروايات ، بل الحقّ هو الإخبار عن تفضّله سبحانه بالثواب على العمل بخبر ورد فيه الثواب سواء أكان واجباً أم مستحباً ، جامعاً للشرائط أو لا.

٤٤٤

التنبيه الرابع : في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية التحريمية

قد عرفت أنّ الشبهة الحكمية التحريمية مجرى للبراءة إنّما الكلام في جريانها في الموضوعية منها ، كما إذا شكّ في كون مائع خمراً ، فهل يستقل العقل والنقل على البراءة أو لا؟

منشأ الشبهة ما ذكره الشيخ في المسألة الرابعة من مسائل الشبهة التحريمية حيث قال : وتوهم عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا نظراً إلى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر مثلاً ، فيجب حينئذ اجتناب كلّ ما يحتمل كونه خمراً من باب المقدمة العلمية بالعقل ولا يقبح العقاب خصوصاً على تقدير مصادفة الحرام. (١) ثمّ أجاب عنه قدس‌سره وسيوافيك توضيحه.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامين :

الأوّل : جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية التحريمية

ربما يقال (٢) بعدم جريانها فيها ، لأنّ وظيفة الشارع هو بيان الكبرى والمفروض انّه بيّنها وقال : الخمر حرام ، وليس بيان الصغريات من وظائفه ، حتى يقال انّ العقاب على الفرد المشكوك من الخمر غير مبيّن فيكون العقاب عليه قبيحاً ، لما عرفت من أنّ وظيفته هو بيان الأحكام الكلية لا بيان الصغريات ، وعندئذ يأتي ما ذكره الشيخ من لزوم الاجتناب من باب المقدمة العلمية.

يلاحظ عليه : أنّ البحث ليس مركّزاً على لفظ البيان حتى يقال انّ بيان الموضوع ليس من وظائفه بل هو مركّز على العقاب بلا حجّة ، وهي تتشكل من

__________________

١. الفرائد : ٢٢١.

٢. القائل : المحقّق البروجردي في درسه الشريف.

٤٤٥

صغرى وكبرى ، ولا يصحّ الاحتجاج بالكبرى المجرّدة ما لم ينضمّ إليها العلم بالصغرى والمفروض انّها غير معلومة.

وعلى ضوء ما ذكر فتجري البراءة العقلية بشرط تقريرها على النحو الذي عرفت.

الثاني : في جريان البراءة الشرعية

أمّا البراءة الشرعية ، فقد فصّل المحقّق الخراساني ، بين كون النهي عن الشيء ، بصورة العام الأفرادي ، وكونه بصورة العام المجموعيّ ، فتجري البراءة في الأُولى دون الثانية ، والمراد من الأوّل أن يكون كلّ عدم من اعدام الطبيعة مطلوباً مستقلاً بحيث يكون لكلّ عصيان وامتثال ، فمرجع الشكّ في فردية الشيء للطبيعة ، إلى الشكّ في تعلّق حكم تحريمي بهذا الفرد وعدمه ، فيكون من قبيل الشبهة البدوية فتجري فيه البراءة ، بخلاف الثاني ، فانّ هناك حكماً واحداً متعلّقاً بمجموع الاعدام والترك ، بحيث يكون ترك كلّ فرد جزء من المطلوب على نحو التركيب.

يلاحظ عليه : أنّه تجري البراءة حتى على النحو الثاني ، لأنّ مرجع الشكّ فيه إلى الأقل والأكثر الارتباطيّين حيث يتردّد الجزء المأخوذ في ناحية متعلّق النهي بين الأقل ـ لو لم يكن هذا الفرد خمراً ـ والأكثر ـ إذا كان خمراً ـ وفي مثله يكون المرجع إلى البراءة ، حيث إنّ مرجع الشك في كونه مصداقاً أولا ، إلى انبساط النهي إليه وعدمه.

وعلى ما ذكرنا تجري البراءة في كلتا الصورتين.

نعم لا تجري في الصورتين التاليتين :

١. إذا كان المطلوب عدماً بسيطاً متحصلاً من تلك الاعدام بحيث يكون

٤٤٦

الأوّل المحصَّل ( بالفتح ) مغائراً مع الثاني تحقّقاً ، لا مفهوماً فقط ، نظير الطهارة النفسانية الحاصلة من الغسلات والمسحات ، وهذا ما يسمّى بالشكّ في المحصِّل ، فلو صحّت الشبهة التي نقلناها في أوّل التنبيه فإنّما تصحّ في هذه الصورة.

٢. أن يتعلّق النهي بالشيء على وجه يكون ناعتاً ، فيكون الواجب كون الإنسان موصوفاً بأنّه « لا شارب الخمر » ففي هذه الصورة « يجب الاجتناب عن الفرد المشكوك ليحرز كونه لا شارب الخمر ».

وبذلك يعلم ضعف الشبهة التي ذكرنا في أوّل التنبيه من حيث المقدمة العلمية ، فانّها لو صحّت فإنّما تصحّ في هاتين الصورتين الأخيرتين ، لا الأُوليين فانّ الواجب في الأخيرتين ، أمر بسيط وترك الفرد مقدمة له ، فلا يعلم بحصول الواجب إلا بترك الفرد المشكوك مقدمة ، وأمّا في الأُوليين فليس هناك مقدمة وذوها ، بل المكلّف به عبارة عن العام الأفرادي أو العام ذي الأجزاء ، وبما انّ التكليف ينحلُّ إلى الأفراد والأجزاء ، فالشكّ في الفرد ، شكّ في تعلّق الحكم المستقل به ، في العام الافرادي ، أو في انبساط الحكم المتعلّق بسائر التروك ، إلى ترك هذا الفرد أيضاً كما في العام المجموعي.

وأمّا ما إفاده الشيخ قدس‌سره من أنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلاً أو إجمالاً. وأمّا ما احتمل كونه خمراً من دون علم إجمالي فلم يظهر من النهي تحريمه وليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرم بحسن العقاب عليه (١) وإن كان صحيحاً لكنّه ليس بقالع للشبهة لأنّ القائل بالاحتياط لا يقول بأنّ الاجتناب عن المشكوك مقدمة للاجتناب عن الفرد المحرّم القطعي ، بل يقول : إنّ الاجتناب عنه مقدمة للاجتناب عن امتثال الحكم الكلي القطعي أعني لا تشرب

__________________

١. الفرائد : ٢٢٠.

٤٤٧

الخمر الذي لا يحصل العلم بامتثاله ، إلا باجتناب الفرد.

والأولى الإجابة ، بما ذكرنا من حديث الانحلال.

ومع ذلك كلّه فلا نقول بجريان البراءة في مطلق الشبهة الموضوعية ، بل في كلّ مورد يسهل العلم بالواقع ، فالحقّ عندئذ وجوب الفحص والتوقف عن إجراء البراءة كالمائع المردّد بين الخمر والخل الذي يسهل تحصيل العلم بالشم والرؤية ، ولذلك أفتى المشهور بوجوب الفحص في موارد من الشبهة الموضوعية ، كبلوغ المال الزكوي حدَّ النصاب أو لا ، أو حصول الاستطاعة للكاسب أو لا.

التنبيه الخامس : في تحديد رجحان الاحتياط

قد تقدم من المحقّق الخراساني في التنبيه الثاني حسن الاحتياط عقلاً وشرعاً ، والكلام في المقام في تحديد حسنه ، وفي المقام أمران :

١. حسن الاحتياط مطلقاً

أ : كان هناك حجّة على عدم الوجوب أو الحرمة أو أمارة على أنّه ليس فرداً للواجب أو الحرام ، أو لم يكن.

ب : كان من الأُمور المهمة كالدماء أو لا.

ج : كان احتمال التكليف قوياً أو ضعيفاً.

الاحتياط في هذه الموارد المتقدمة حسن بلا إشكال.

٢. في تحديد حسن الاحتياط

قد حدّد الشيخ حسن الاحتياط بأن لا ينتهي إلى إخلال النظام ، ويحصل هذا بترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً على بعض :

أمّا الأوّل : كتقديم الاحتياط في الظن على الحرمة في مورد ، على الاحتياط في

٤٤٨

الشكّ في الحرمة في مورد آخر.

أمّا الثاني : كتقديم الأهم محتملاً وإن كان أضعف احتمالاً على غير الأهم محتملاً ، كما في الموارد الثلاثة من الأموال والأعراض والدماء ، فيقدم الاحتياط فيها على غيرها وإن كان الغير أقوى احتمالاً منهما.

يلاحظ عليه : أنّ الاحتياط محدد بالأقل من الإخلال بالنظام إذ يكفي أن ينتهي إلى العسر والحرج خصوصاً على القول بحرمة العمل الحرجي ، أو أن ينتهي إلى ترك الأهم ، كالاحتياط المستلزم ترك التحصيل أو تشويه سمعة الدين ، أو نفرة الناس عنه إلى غير ذلك من العناوين الثانوية كما لا يخفى.

وربما يستدل على عدم حسن الاحتياط برواية أبي الجارود حيث سأل أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن وقال له : أخبرني من رأى انّه يجعل فيه الميتة فقال عليه‌السلام : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ». (١)

ولكن الاستدلال غير تام إذ الأمر بالأكل لا يدل على حرمة تركه ، لأنّ الأمر ورد في مقام توهم الحظر بشهادة قوله : « أمن أجل مكان واحد ، يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ ». فلا يدل على وجوب ترك الاحتياط كما لا يخفى.

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٧ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٥.

٤٤٩

الأصل الثاني :

أصالة التخيير

قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :

١. هذا الفصل منعقد لبيان مجرى أصالة التخيير التي هي من الأُصول الأربعة العامة ولم يخصها الشيخ الأنصاري بفصل خاص ، مع أنّ الأنسب تخصيص فصل لها مثل أصالة البراءة والاشتغال ، ولعلّ قلّة موارده دعته إلى ترك عقد الفصل المستقل.

٢. انّ الشيخ بحث في كلّ من البراءة والاشتغال ، في مطالب ثلاثة ، وجعل منشأ الشكّ في كلّ مطلب أحد أُمور أربعة : فقدان النص ، أو إجمال النص ، أو تعارض النص ، أو خلط الأُمور الخارجية.

فالمطالب الثلاثة في الشكّ في التكليف عبارة عن : التحريم المشتبه بغير الوجوب ، أو وجوب مشتبه بغير التحريم ، أو تحريم مشتبه بالوجوب. فسمّي الأخير بدوران الأمر بين المحذورين.

كما أنّ المطالب الثلاثة في الشكّ في المكلّف به عبارة عن : دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ودورانه بين الواجب وغير الحرام ، ودورانه بين الواجب والحرام. فسمّي الأخير أيضاً بدوران الأمر بين المحذورين.

فهنا سؤال يطرح نفسه وهو انّه ما الفرق بين المطلب الثالث في التكليف ، والمطلب الثالث في الشكّ في المكلّف به؟

٤٥٠

والجواب : إذا كان التكليف واحداً مردداً بين المحذورين ، كحكم العبادة في أيّام الاستظهار ، أو تردد الرجل بين كونه مؤمناً أو محارباً ـ يجب قتله ـ يكون من قبيل دوران الأمر بين المحذورين من قسم الشكّ في التكليف ; بخلاف ما إذا كان التكليف متعدداً واشتبه موضوعهما ، كما إذا علم انّ واحدة من الصلاتين واجبة والأُخرى محرمة وتردد أمرهما بين الظهر والجمعة.

وإن شئت قلت : إنّ نوع التكليف مجهول في الأوّل دون الآخر ، فالنوع معلوم وهو انّ هنا واجباً ومحرماً غير انّ الموضوع مردّد بين الجمعة والظهر ، يجمعها ، عدم إمكان الموافقة القطعية.

٣. إذا كان نوع التكليف مجهولاً ؛ فتارة يكون المورد من قبيل التوصليات ، كتردد الإنسان بين كونه محقون الدم أو واجب القتل ؛ وأُخرى يكون من قبيل التعبديات ، كحكم العبادة في أيّام الاستظهار ، فلو كانت حائضاً فالعبادة محرمة توصلية ، وأمّا إذا كانت طاهراً من الحيض ، فالعبادة واجبة تعبدياً ، فأحد الحكمين على فرض ثبوته تعبدي.

٤. الميزان في جريان أصالة التخيير ـ كما سيوافيك ـ امتناع الموافقة القطعية سواء كانت المخالفة القطعية أيضاً ممتنعة كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة وكانت الواقعة واحدة ، كشرب مائع مردّد بين الحلف على فعله أو تركه في ليلة معينة ؛ أو كانت ممكنة ، كتردده بينهما مع تعدد الواقعة كلّ ليلة جمعة إلى شهر.

٥. التقسيم الصحيح في بيان مجاري الأُصول هو ما ذكرنا سابقاً ، من أنّ الشكّ أن يكون فيه اليقين السابق ملحوظاً أو لا.

والأوّل مورد الاستصحاب. والثاني إمّا أن يكون الاحتياط بمعنى الموافقة القطعية ممكنة أو لا ؛ والثاني مجرى التخيير ، والأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا يدل ، والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني

٤٥١

مورد البراءة. (١)

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامات ثلاثة :

أ : دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في نوع التكليف التوصلي.

ب : دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في نوع التكليف التعبدي.

ج : دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في المكلّف به.

وإليك الكلام في واحد بعد آخر.

المقام الأوّل : إذا كان نوع التكليف مجهولاً مع كون الحكم توصلياً

إذا دار أمر التكليف بين المحذورين ، كما إذا علم إجمالاً بوجوب قتل إنسان ، أو حرمته. ومنشأ التردد كونه مجهول الهوية ، فهو دائر بين كونه مؤمناً أو محارباً. فعلى الأوّل يحرم قتله ، وعلى الثاني يجب ، لأنّ أمر الحد دائر بين الحرمة والوجوب ولكن الحكم الواقعي الأعم من الوجوب والحرمة على فرض ثبوته ، توصلّي.

لا شكّ انّ المخالفة والموافقة القطعيتين غير ممكنة لكن يقع الكلام في كون المقام محكوماً بحكم ظاهريّ أو لا ، فقد ذكر المحقّق الخراساني وجوهاً خمسة :

١. جريان الأُصول النافية كالبراءة العقلية والنقلية دون المثبتة كأصالة الإباحة.

٢. وجوب الأخذ بأحدهما تعييناً وهو الحرمة.

٣. وجوب الأخذ بأحدهما تخييراً.

٤. ليس المورد محكوماً بحكم ظاهريّ من النافي والمثبت ويكفي كون

__________________

١. فرائد الأُصول : ١٩٢.

٤٥٢

الإنسان مخيراً تكويناً وهو خيرة المحقّق النائيني.

٥. الحكم بالتخيير عقلاً ، مع جريان الأُصول المثبتة كالإباحة دون النافية على خلاف القول الأوّل وهو مختار المحقّق الخراساني.

٦. جريان جميع الأُصول النافية دون المثبتة كأصالة الإباحة وهو المختار ، فلنأخذ كلّ واحد من الأقوال بالبحث.

الأوّل : جريان البراءة العقلية والشرعية

ذهب هذا القائل إلى أنّ الحكم الظاهري الذي يجب التعبد به هو البراءة العقلية أوّلاً ، والشرعية ثانياً.

أمّا الأوّل : فلأنّ كلاً من الوجوب والحرمة مجهولان ، فيقبح المؤاخذة عليهما.

وأمّا الثاني : فلعموم قوله : « رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون » وشموله للمقام.

وقد أورد المحقّق الخراساني على القول بجريان البراءة العقلية ، بأنّه لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فانّه لا قصور فيه هاهنا ، وإنّما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها.

يلاحظ عليه : أنّ المراد من البيان ، هو ما يكون باعثاً أو زاجراً ويخرج المكلّف من الحيرة فيجنح إلى الفعل ، أو إلى الترك والخطاب المردد بين « افعل » و « لا تفعل » فاقد لهذه الخصوصية.

كما أورد عليه المحقّق النائيني بأنّ مدرك البراءة العقلية هو قبح العقاب بلا بيان وفي باب دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب ، لأنّ وجود العلم الإجمالي كعدمه لا يقتضي التنجز والتأثير ، فالقطع بالمؤمن حاصل بنفسه بلا حاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. (١)

__________________

١. الفوائد : ٣ / ٤٤٨.

٤٥٣

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتم بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، لأنّ العلم الإجمالي في المقام لا يكون منجّزاً له. ولكن هنا احتمالاً آخر ، وهو احتمال لزوم التعبّد في الظاهر بأحد الحكمين تعييناً أو تخييراً ، كما اختاره بعضهم ، فالغاية من البراءة العقلية هو رفع هذا الاحتمال ، ببيان انّ لزوم الأخذ به احتمال لم يقم عليه دليل ، فالعقاب عليه ، عقاب بلا بيان ، وبذلك بان عدم الإشكال في جريان البراءة العقلية.

وقد أورد قدس‌سره أيضاً على القول بجريان البراءة الشرعية بأنّ مدركها هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن أُمّتي مالا يعلمون » والرفع فرع الوضع ، وفي موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما ، لا على سبيل التعيين ـ لاستلزامه التكليـف بغير المقـدور ـ ولا على سبيـل التخيير ـ لكونـه تحصيلاً للحاصل ـ ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلّق الرفع ، فأدلّة البراءة الشرعية لا تعم المقام. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الممتنع هو وضع كلّ في عرض الآخر ، وأمّا وضع كلّ واحد مستقلاً وحده ، بلا نظر إلى وضع الآخر وعدمه ، فأمر ممكن لا مانع من وضعه كما لا مانع من رفعه ، فيشير المكلّف إلى الوجوب وحده ، ويقول : إنّه مشكوك وغير معلوم ، فهو مرفوع ومثله الحرمة.

وبعبارة أُخرى : انّ المكلّف ينظر إلى الوجوب ويحتمل أن يكون هو الحكم الظاهري الذي يجب الأخذ به ، معيناً أو مخيراً ، فيرفع ذلك الاحتمال ، فيكون أثر الأصل العقلي أو الشرعي رفع لزوم التعبد بأحد الحكمين في الظاهر ، فلا قصور في شمول الدليل ، وأمّا مخالفة النتيجة للعلم الإجمالي بالإلزام ، فسنرجع إليه في المستقبل.

__________________

١. الفوائد : ٣ / ٤٤٨.

٤٥٤

الثاني : الأخذ بأحدهما تعييناً

المراد من الأخذ هو الأخذ بجانب الحرمة قائلاً بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

يلاحظ عليه بأمرين :

١. انّ الضابطة ليست بتامة ، بل ربما يكون جلب المنفعة أولى من دفع المفسدة ، كنجاة النفس المحترمة إذا استلزمت التصرف في مال الغير.

٢. انّ القاعدة فيما إذا علم المكلّف بوجود الملاك في كلا الموردين لا في مثل المقام الذي لم يثبت إلا ملاك واحد في أحد الطرفين.

وتصور لزوم الأخذ بأحدهما لأجل الموافقة الالتزامية ، مدفوع بأنّ المراد منها هو لزوم الاعتقاد بما جاء به النبي إجمالاً أو تفصيلاً ـ إذا علم ـ لا الأخذ بمحتمل التكليف بجد وحماس ، فانّه أشبه بالتشريع.

القول الثالث : الأخذ بأحدهما تخييراً

وحاصل هذا القول : إنّ الحكم الظاهري عبارة عن الحكم بالتخيير الشرعي بين الفعل والترك والفرق بين القول الثاني والثالث واضح بعد اشتراكها في لزوم التعبد بحكم من الحكمين ، غير انّ الأوّل يُلْزم التعبد بأحدهما معيّناً كالقول بأنّ الفعل حرام مثلاً ، وهذا يلزم التعبد بالتخييري الشرعي ، وليس له دليل صالح سوى قياس وجود الاحتمالين بالخبرين المتعارضين ، فانّ المجتهد مخيّر بينهما إمّا من أوّل الأمر ، أو بعد عدم الترجيح المنصوص في أحدهما.

يلاحظ عليه : أنّه قياس ، لأنّ الحكم بالتخيير فيما إذا كانت هناك حجّتان متعارضتان لا يكون سبباً للحكم به فيما إذا كان هناك احتمالان ، ولعلّ لوجود

٤٥٥

الخبر تأثيراً في الحكم بالتخيير وليس في مقام الاحتمال.

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني إشكالاً على هذا القول ، هذا حاصله :

إنّ التخيير إمّا شرعي واقعي كخصال الكفارات ، أو شرعي ظاهريّ كالتخيير في باب تعارض الطرق والأمارات ، وإمّا عقلي كالتخيير الذي يحكم به في باب التزاحم. والكلّ في المقام منتف.

أمّا الشرعي بكلا قسميه ، فانّ الهدف من جعل التخيير هو سوق المكلّف إلى المجعول ، ولكنّه في المقام حاصل تكويناً بلا حاجة إلى جعل التخيير.

وأمّا العقلي فإنّما يجري فيما إذا كان في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفاؤه ولم يتمكن المكلّف من الجمع بين الطرفين كما في موارد التزاحم ، وليس الأمر في المقام كذلك ، لعدم ثبوت الملاك إلا في أحدهما.

فخرج بهذه النتيجة : انّ التخيير في المقام ، ليس بشرعي ولا عقلي بل تكويني ، حيث إنّ المكلّف لا يخلو من فعل أو ترك ، فأصالة التخيير في المقام ساقطة.

يلاحظ عليه أوّلا : أنّ التخيير التكويني راجع إلى التخيير في المسألة الفرعية ، فهو مخيّـر بين الفعل والترك تكويناً ، وأمّا التخيير في المقام فهو تخيير شرعي ظاهري ، غايته ، دعوة المجتهد إلى الإفتاء بأحد الوجهين.

ومن ذلك يعلم أنّ ما أفاده من أنّ الغاية من التخيير الشرعي الظاهري هو سوق المكلّف إلى المجعول وهو في المقام حاصل ، ليس بتام بل الغاية منه ، هو دعوة المجتهد إلى الإفتاء بأحد الخبرين ، كما في باب التعارض ، أو أحد الاحتمالين كما في المقام وهو غير التخيير التكويني المجرّد عن الإفتاء بأحد الأمرين.

وبالجملة التخيير التكويني ، تخيير في المسألة الفرعية ، والتخيير الشرعي

٤٥٦

الظاهري ، تخيير في المسألة الأُصولية.

وثانياً : أنّ التخيير العقلي ، لا يختص بما إذا كان الملاك موجوداً في كلا الطرفين ، بل يكفي العلم بوجوده في أحدهما أيضاً كما في الواقف بين الطريقين ، ولا يعلم أنّ أيّاً منهما موصل إلى المقصد ، فالعقل يحكم بانتخاب واحد منهما ، إذ فيه احتمال الوصول بنسبة الخمسين بالمائة بخلاف التوقف فانّه غير موصل.

القول الرابع : التخيير التكويني من دون الالتزام بحكم ظاهري

قد منع المحقّق النائيني من جريان الأُصول لكن لا بملاك واحد ، بل بملاكات مختلفة فقد عرفت وجه عدم جريان البراءة العقلية ، والشرعية وأصالة التخيير الشرعية.

لكن بقي الكلام في منعه جريان أصالة الإباحة ، والاستصحاب. أمّا الأُولى فسيوافيك وجه المنع عند بيان القول الخامس ، وأمّا الثاني فقد أفاد في وجه منعه انّ الاستصحاب من الأُصول المتكفلة للتنزيل ، فلا يمكن الجمع بين مؤدّاه والعلم الإجمالي ، فانّ البناء على عدم وجوب الفعل ، وعدم حرمته واقعاً كما هو مفاد الاستصحابين ، لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أوحرمته سواء لزمت منه المخالفة العملية أو لا.

يلاحظ عليه : بمثل ما ذكرناه في جريان أصالة البراءة وحاصله : أنّ كلّ استصحاب بشخصه ، لا يخالف العلم الإجمالي ، وكون نتيجة الاستصحابين مخالفة مع العلم الإجمالي لا يكون سبباً لعدم إجراء كلّ واحد في محلّه.

نعم يلزم من جريان الأصلين ، المخالفة الالتزامية ، وسوف يوافيك الكلام فيه.

٤٥٧

القول الخامس : التخيير العقلي مع جريان أصالة الإباحة

والمدّعى مركّب من جزءين ، واستدل على الجزء الأوّل بقوله : « لعدم الترجيح بين الفعل والترك فيستقل العقل بينهما » ، وعلى الثاني بقوله : وشمول مثل قوله : كلّ شيء حلال حتى تعرف انّه حرام ، ولا مانع عنه عقلاً ونقلاً.

وأورد عليه المحقّق النائيني بأنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقيّ تنافي المعلوم بالإجمال ، لأنّ مفاد أصالة الإباحة ، الرخصة في الفعل والترك وذلك يُناقِضُ العلم بالإلزام وهو لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهراً (١).

الحقّ انّ الإشكال وارد وأمّا الفرق بين البراءة العقلية والشرعية حيث قلنا بجريانهما وأصالة الإباحة حيث منعنا عن جريانها فواضح ، ذلك لأنّ كلّ واحد من البراءتين ، لا يخالف العلم الإجمالي بالإلزام وإنّما المخالف نتيجتهما وهي ليست من مداليل دليل الأصل ، وأمّا أصالة الإباحة فهو بمضمونها المطابقيّة تضاد الإلزام على وجه الإطلاق فالأصل يدعي عدم الخروج عن حدّ الاستواء مع انّا نعلم أنّه خرج عنه وحكم عليه بالإلزام.

ومن هنا تبين قوة القول السادس ، وهو جريان الأُصول الأربعة : البراءتين والتخيير والاستصحاب ، وعدم جريان أصالة الإباحة.

بقيت هنا أُمور :

١. ما فائدة جريان الأُصول وجعل الحكم الظاهري مع أنّ المكلّف لا يخلو من فعل أو ترك.

الجواب : انّ الرجوع إلى الأصل لغاية احتمال لزوم التعبد بأحدهما المعيّن أو

__________________

١. فوائد الأُصول : ٣ / ٤٤٥.

٤٥٨

أحدهما المخيّر فلا رافع لهذا الاحتمال إلا الأصل.

٢. انّ الرجوع إلى الأصل في كلا الجانبين يخالف وجوب الموافقة الالتزامية.

الجواب : انّ الموافقة الالتزامية ترجع في المقام إلى أحد الأُمور التالية :

أ : الالتزام بما جاء به النبي في مجالي العقيدة والشريعة ، من فرائض ومندوبات ومحظورات ، ومكروهات ومباحات على ما هو عليه ، وهذا أمر لاسترة في وجوبه ويُعدّ من شرائط الإيمان ، لقوله سبحانه : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ). (١)

ب : لزوم الالتزام بخصوص أحدهما تعييناً أو تخييراً ، وهذا أمر لا دليل عليه بل يستلزم التشريع المحرم وإدخال ما لم يعلم من الدين فيه.

ج : الالتزام بالإلزام الجامع بين الفعل والترك ، فيجب أن يكون مفاد الأصل غير مخالف له. لكن الالتزام أمر محقّق ، ولأجل ذلك منعنا عن جريان أصالة الإباحة لكونها بالمفهوم المطابقي تضادّ العلم بالإلزام ، وأمّا غيره كأصل البراءة بكلا قسميه أو الاستصحاب ، فكلّ أصل في حدّ نفسه لا يخالفه.

ولعلّ نظر القائل بمنع جريان البراءة إلى أنّ كلّ واحد من الأصلين وإن كان مجتمعاً مع الإلزام ، لكن نتيجة الأصلين تضاد العلم بالإلزام.

والجواب : ارتفاع التضاد ، باختلاف مرتبة الحكمين ، فانّ مفاد الأصلين هو انّه لم يقم دليل على واحد من الوجوب والحرمة في الظاهر ، وهو لا يهدف إلى أنّه ليس هنا إلزام في الواقع ، بل يعترف به ويُضيف بأنّه ليس هنا دليل على تحقق الإلزام في ضمن هذا الفرد أو ذاك ولا مانع عن كون الفعل محكوماً بالإلزام واقعاً. ولا يكون محكوماً بأحد الإلزامين ظاهراً.

__________________

١. النساء : ٦٥.

٤٥٩

٣. هل التخيير بدئي أو استمراري

قد تبيّن ممّا ذكرنا أنّه إذا دار الأمر بين المحذورين فالإنسان مخيّر بين الفعل والترك ، مع جريان البراءة من الحكمين ظاهراً ، فلو كانت الواقعة واحدة فلا موضوع للبحث عن كون التخيير بدئياً أو استمرارياً ، إنّما الكلام إذا تعدّدت الواقعة ، كما إذا تردد شرب مائع في ليالي الجمعة إلى شهر بين كونه محلوف الفعل أو الترك ، فعلى القول بأنّه بدئي ، ليس له في الواقعة الثانية اختيار غير ما اختاره في الواقعة الأُولى ، بخلاف ما لو كان استمراريّاً. ذهب المحقّق النائيني إلى الثاني واستدل بما هذا حاصله :

إنّ أمره في كلّ ليلة الجمعة دائر بين المحذورين ، فكون الواقعة ممّا يتكرر لا يوجب خروج المورد عن دوران الأمر بين المحذورين ، ولا يلاحظ انضمام الليالي بعضاً إلى بعض ، لأنّ الليالي بقيد الانضمام لم يتعلق الحلف والتكليف بها ، فلابدّ من ملاحظتها مستقلة ، ففي كلّ ليلة يدور الأمر بين المحذورين ويلزمه التخيير الاستمراري. (١)

يلاحظ عليه : أنّ المسألة ليست مبنيّة على ضمّ الليالي بعضها إلى بعض حتى يقال : إنّ كلّ ليلة موضوع بحيالها ، وليس الموضوع المجموع منها ، بل مبنيّة على تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات مثل الدفعيات ، فلو تردد وجوب شيء في وقت وحرمته في وقت آخر ، تجب عليه الحركة على وفق العلم الإجمالي ، فلو ترك الفعل في الأوّل وأتى به في الثاني فقد ارتكب المبغوض القطعي للمولى ، ومثله المقام ، فلو اختار في الواقعة الثانية خلاف الأُولى علم انّه ارتكب المبغوض إمّا في الواقعة الأُولى أو الثانية ، والعقل كما يستقل بقبح ارتكاب المبغوض دفعة كذلك يحكم بقبحه تدريجاً.

__________________

١. فوائد الأُصول : ٣ / ٤٦٣.

٤٦٠