إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

على كلّ تقدير وهو فرع حفظ تنجّز الأكثر ، وأمّا حفظ الوجوب الواقعي له الأعم من الإنشائي أو الفعلي غير المنجز فلا يكون منتجاً لتنجّز الأقل مطلقاً ، لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين ، وعندئذ لا يحصل منه العلم بتنجّز الأقل مطلقاً بل أمره دائر بين كونه واجباً غير منجز ، وواجباً منجزاً.

إلى هنا تمّ تحليل ما ذكره المحقّق الخراساني ، وهناك تقريبات أُخرى لمنع جريان البراءة العقلية وقد ذكر المحقّق النائيني تقريبين نأتي بهما.

التقريب الثاني لمنع البراءة العقلية

لا إشكال في أنّ العقل يحكم بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي ، ضرورة انّ الامتثال الاحتمالي إنّما يقتضي التكليف الاحتمالي ، وأمّا التكليف القطعي فهو يقتضي الامتثال القطعي ، لأنّ العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً ولا يكفي احتمال الفراغ فانّه يتنجز التكليف بالعلم به ولوإجمالاً ويتمّ البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحّة العقاب عليه ، فلو كان التكليف في الطرف الآخر غير المأتي به ، لا يكون العقاب على تركه بلا بيان ، بل العقل يستقل في استحقاق التارك للامتثال القطعي للعقاب على تقدير مخالفة التكليف.

ففي ما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلاً ، لأنّه يشكّ في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين ولا يحصل العلم بالامتثال إلا بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة.

ثمّ إنّه قدس‌سره أتى في كلامه بشيء آخر ، وهو تقريب مستقل لا صلة له بما ذكر بل هو مأخوذ من تقريب المحقّق صاحب الحاشية الذي نقله عنه قبل هذا التقريب. (١)

__________________

١. لاحظ الفوائد : ٤ / ١٥٢ ـ ١٥٥.

٥٦١

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من الضابطة ممّا لا غبار عليها ، لكن يجب الخروج عمّا اشتغلت الذمّة قطعاً ، لا ما اشتغلت به الذمّة احتمالاً ، والأقل ممّا اشتغلت به الذمّة قطعاً فيجب الإتيان به ، دون الأكثر لعدم العلم بالاشتغال فيه.

فكما إذا تعلّق الأمر بنفس الأجزاء ودار الأمر بين وجوب الأقل والأكثر تجري البراءة في الأكثر ، فهكذا إذا تعلّق الأمر به بواسطة عنوان ، إذ لا فرق بينهما سوى انّ الأمر بالاجزاء على الأوّل في حال الكثرة ، وفي الثاني في حال الوحدة.

وأمّا ما أفاده من أنّ العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً ولا يكفي احتمال الفراغ ، فانّه قد تنجّز التكليف بالعلم به ولو إجمالاً ، كلام تام ، لكن إذا كان العلم الإجمالي قائماً بحاله ، بأن يكون الترديد موجوداً في النفس ويُشكّ في أنّ الواجب هل هذا أو ذاك وهذا إنّما يصحّ في المتبائنين لا في مثل المقام فانّ العلم بوجوب الأقلّ حاصل وجوباً ، سواء أوجب الآخر أم لا؟ وإنّما الشكّ في وجوب الأكثر والاحتمال المجرّد ، لا يكون منجِّزاً باعثاً للمكلّف نحو الامتثال.

التقريب الثالث

وهذا التقريب أيضاً للمحقّق النائيني ، وحاصله :

الشكّ في تعلّق التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط ، وإن كان عقلاً لا يقتضي التنجيز ، واستحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو ، للجهل بتعلّق التكليف به ، فالعقاب على ترك الخصوصية يكون بلا بيان ، إلا أنّ هناك جهة أُخرى تقتضي التنجّز واستحقاق العقاب على ترك الخصوصية ، على تقدير تعلّق التكليف بها ، وهي احتمال الارتباطيّة وقيديّة الزائد للأقل ، فإنّ هذا الاحتمال بضميمة العلم الإجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب عقلاً ، فانّه لا رافع لهذا الاحتمال ، وليس من وظيفة العقل وضع القيدية أو

٥٦٢

رفعها ، بل ذلك من وظيفة الشارع ، ولا حكم للعقل من هذه الجهة فيبقى حكمه بلزوم الخروج من عهدة التكليف المعلوم ، والقطع بامتثاله على حاله فلابدّ من ضمّ الخصوصية. (١)

يلاحظ عليه : أنّه صرّح في صدر كلامه بأنّ الشكّ في تعلّق التكليف بالخصوصية الزائدة لا يقتضي التنجّز واستحقاق العقاب على مخالفته ، وإذا كان الأمر كذلك فأيّ فرق بين كون الخصوصية وجوب الجزء وكونها احتمالَ الارتباطيّة ، مع اشتراك الأمرين في أنّ العقاب عليهما من قبيل العقاب بلا بيان.

وما ذكره في ذيل كلامه من أنّه ليست وظيفة العقل وضع القيدية أو رفعها بل ذلك من وظيفة الشارع وإن كان صحيحاً ، لكن الهدف من إجراء البراءة العقلية ليس وضعها أو رفعها ، بل شأن العقل نفي العقاب المحتمل من ترك القيد المحتمل سواء أكان ذلك القيد ، هو وجوب الجزء ، أو الارتباط بين الأقل والأكثر. وأمّا الرفع أو الوضع فيأتي الكلام فيهما عند البحث في البراءة الشرعية.

وبالجملة فالغرض من إجراء البراءة العقلية تحصيل الأمن من العقاب من ترك الأكثر ، لا رفع القيد وإنّما هو من شؤون البراءة الشرعية كما سيوافيك.

فإن قلت : لو كان الأقل في نفس الأمر مرتبطاً بالأكثر حيث جعل الشارع الجميع بنعت الوحدة موضوعاً للحكم ، فلا يفيد الإتيان بالأقل.

قلت : إحراز كون الأقل مفيداً في نفس الأمر أو غير مفيد ليس من وظائف العبد ، بل ذمته رهينة لما ثبت تعلّق الأمر به والمفروض انّ الثابت هو الأقل لا الأكثر.

__________________

١. فوائد الأُصول : ٤ / ١٦١.

٥٦٣

التقريب الرابع :

ما ورد في كلمات الشيخ الأعظم بصورة الإشكال وقال :

إن قلت : إنّ الأوامر الشرعية كلّها من هذا القبيل لابتنائها على مصالح في المأمور به فالمصلحة إمّا من قبيل العنوان في المأمور به ، أو من قبيل الغرض ، وبتقرير آخر المشهور بين العدلية : أنّ الواجبات الشرعية ، إنّما وجبت لكونها ألطافاً في الواجبات العقلية ، فاللطف هو المأمور به حقيقة ، أو غرض للأمر فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف ولا يحصل إلا بإتيان كلّ ما شكّ في مدخليّته. (١)

وقرّره في الكفاية معتمداً عليه وقال : إنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلا بالأكثر بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهيّ عنها. وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً من إطاعة الأمر وسقوطه ، فلابدّ من إحرازه في إحرازها. (٢)

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري أجاب عن الاستدلال بوجهين :

الأوّل : انّ جريان البراءة وعدمه في المقام ليس مبنيّاً على مذهب العدلية القائلين بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، بل يجري على القول بعدم التبعية كما عليه الأشاعرة.

الثاني : انّ الإتيان بالأكثر ليس محصِّلاً للغرض على وجه اليقين ، لاحتمال دخل قصد الوجه في حصوله ، مع عدم التمكّن منه لاستلزامه التشريع ، وعلى ذلك لا قطع بحصول الغرض على كلا التقديرين.

__________________

١. الفرائد : ٣ / ٢٧٣.

٢. كفاية الأُصول : ٢ / ٢٣٢.

٥٦٤

وأنت خبير بعدم إتقان الجوابين ، أمّا الأوّل فلأنّ الاستدلال ـ عندئذ ـ يكون جدليّاً ، لا برهانياً ، لأنّ المستدل والمجيب قائلان بالتبعية ، فكيف يكون المجيب في مقام الإجابة أشعرياً.

وأمّا الثاني فللاتفاق على عدم وجوب قصد الوجه وإلا لامتنع الاحتياط ، ومن قال بوجوبه فإنّما قال عند التمكّن ، لا في مثل المقام.

ولذلك نرى أنّ المحقّق الخراساني نقد كلام الشيخ الأنصاري بوجه مبسّط لم يعرف منه ـ ذلك التبسيط ـ في مقام آخر.

والأولى في مقام الجواب أن يقال : إذا كان الغرض ، متعلقاً للأمر كما إذا أمر المولى بصنع معجون يقوّي الأعصاب ، فشك العبد في الأجزاء المحصلة لهذا الغرض هل هي تسعة أو عشرة فلا شكّ في وجوب الاحتياط ، لأنّ المأمور به أمر بسيط ، غير دائر أمره بين الأقل والأكثر ، وما يدور أمره بينهما غير مأمور به.

وأمّا إذا تعلّق الأمر بمركب ذي أجزاء أمر المولى به لأجل غرض له ، وشكّ في أنّ الغرض المحصِّل له هو الأجزاء التسعة أو العشرة ، ففي مثل ذلك لا يجب الاحتياط ، لأنّ الواجب على العبد في مجال الإطاعة ، الإتيان بما تعلّق به الأمر كاملاً ، سواء أكان محصلاً للغرض أم لا ، وذلك انّه لو لم تكن الأجزاء المعلومة محصلة لغرضه كان عليه البيان إمّا بالعنوان الأوّلي ، كأن يبيّن الجزء المشكوك ويكون البيان واصلاً ، أو بالعنوان الثاني ، كأن يقول : إذا شككت في جزئية شيء للمأمور به فعليك بالاحتياط.

وعلى ضوء ذلك فالزائد على الأقل لم تقم الحجّة عليه لا تكليفاً ولا غرضاً.

أضف إلى ذلك انّه لو كان مانعاً من جريان البراءة العقلية ، يجب أن يكون مانعاً من جريان البراءة الشرعية ، مع أنّ المحقّق الخراساني الذي اعتمد على هذا الدليل ، قد ذهب إلى جريان البراءة النقلية كما سيوافيك.

٥٦٥

التقريب الخامس

إنّ الأمر المتعلّق بالأقل دائر بين كونه صالحاً للتقرّب إذا كان نفسياً وغير صالح له إذا كان مقدمياً توصلياً وأمّا الأكثر فأمره صالح للتقرّب ، لأنّه إمّا هو الواجب ، أو كونه مشتملاً عليه ويقصد التقرّب بما هو المقرّب في الواقع.

يلاحظ عليه : أنّ الأمر المتعلّق بالأقل نفسي لكونه مصداقاً للصلاة إنّما الشكّ في انحلال العنوان الجامع للكثرات ، إلى الجزء المشكوك وغيره ، وعلى كلّ تقدير فسواء أثبت الانحلال أم لم يثبت فهو يأتي الاجزاء بالأمر المتعلّق بالعنوان ، لا بالأمر المتعلّق بالأجزاء قليلة كانت أم كثيرة ، فالأمر المقصود على كلتا الصورتين ، أمر نفسي ، والشكّ في مقدار انحلال المتعلّق ، لا يجعل الأمر متعدّداً.

التقريب السادس

إنّ نفي العقاب من جانب ترك الأكثر ، لا يُثبت تعلّق الأمر بالأقل والغاية إثبات تعلّقه به.

أقول : هذا الإشكال مشترك بين البراءتين : العقلية والشرعية ، فنحيل الجواب إلى البحث التالي :

أدلّة القائلين بجريان البراءة الشرعية

ذهب الأُصوليون إلى جريان البراءة الشرعية ، حتى أنّ من منع جريان البراءة العقلية قال بجريان البراءة الشرعية ، وفي مقدّمهم المحقّق الخراساني فقد أفاد ما هذا توضيحه :

إنّ جزئية السورة مجهولة ومحجوبة ، فترفع بفضل حديثي الرفع والحجب.

٥٦٦

فإن قلت : يشترط في الرفع التشريعي كون المرفوع أثراً مجعولاً شرعياً كالوجوب ، أو موضوعاً ذا أثر شرعي كنجاسة الثوب فانّ أثر نجاسته عدم جواز الصلاة فيه ، والجزئية في المقام ليس من أحد القسمين ، وأمّا لزوم الإعادة فهو أثر عقلي لجزئية السورة ، أو هو من آثار بقاء الأمر بعد التذكر ، فالعقل عندئذ يستقل بلزوم الإعادة.

قلت : إنّ الجزئية أمر انتزاعي ينتزع من تعلّق الوجوب الشرعي بالسورة وهذا كاف في تعلّق الرفع بها.

فإن قلت : إنّ حديث الرفع ، حديث رفع لا وضع ، فما الدليل على تعلّق الأمر بالعبادة الخالية عن الجزء؟

قلت : هذا هو الإشكال الذي مضى عند الكلام في جريان البراءة العقلية أيضاً ، وقد تكرّر هذا الإشكال في كلمات المحقّق النائيني من أنّ حديث الرفع ، حديث رفع لا وضع فلا دليل على تعلّق الأمر بالخالي.

فأجاب المحقّق الخراساني بقوله : إنّ نسبة حديث الرفع إلى الأدلّة الدالة على بيان الأجزاء إليها ، نسبة الاستثناء وعندئذ يكون المجموع دالاًّ على جزئيتها إلا مع الجهل بها.

توضيحه : انّ الواقع لا يكون خالياً من أحد أمرين إمّا أن لا تكون السورة جزء الواجب ، أو تكون ; فعلى الأوّل ، فالأمر متعلّق بالخالي واقعاً وإن لم يكن المكلَّف واقفاً عليه.

وعلى الثاني : يكون حديث الرفع بمنزلة الاستثناء كأنّه يقول : أقم الصلاة بجميع أجزائها إلا السورة في حالة الجهل ، فالأمر تعلّق بحكم الاستثناء بالطبيعة الخالية عن الجزء.

٥٦٧

وعلى ما ذكرنا لا حاجة إلى ما ذكره ، لما قلنا من أنّ تعلّق الأمر بالعنوان عين تعلقه بالأقل ، إنّما الكلام في انحلاله إلى الجزء المشكوك وعدمه فتعلّقه بالأقل محرز. ولعلّ ما ذكره قدس‌سره يرجع إلى ما ذكرنا.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم حسب عادته طرح الشكّ في جزئية الشيء ضمن مسائل أربع.

أنّ الشكّ في الجزئية تارة يكون ناشئاً من عدم النصّ ، وأُخرى من إجمال النصّ ، وثالثة من تعارض النّصين ، ورابعة من خلط الأُمور الخارجية والذي يسمّى بالشبهة الموضوعية ، وبما أنّ الدليل واحد في الجميع نقتصر بهذا المقدار تبعاً لصاحب الكفاية ، ولا نعقد لكلّ مسألة عنواناً مستقلاً.

نعم سيأتي الكلام في الشبهة الموضوعية بمناسبة البحث في الشكّ في المحصِّل.

المقام الثاني : في الشكّ في الأجزاء التحليلية

قد عرفت في صدر البحث في الأقل والأكثر أنّ الشك في الجزء على قسمين : تارة يكون للجزء المشكوك وجوبه ، وجود خارجي مستقلّ تحتمل مدخليته في الواجب ، وهذا هو الذي مرّ البحث فيه في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني : فهو عبارة عمّـا إذا لم يكن للجزء المشكوك وجوبه ، وجود مستقل ، وإن كان في بعض المواضع له منشأ انتزاع مستقل ، ولكن الجميع داخل تحت عنوان الجزء التحليلي أي ما يحتمل دخله في الواجب وليس له وجود مستقل ، وله أقسام.

الأوّل : ما يكون الجزء التحليلي منتزعاً من أمر خارجي كالتستر من إلقاء الستر على الرأس ، والطهور من الغسلات والمسحات ، فالشرط أمر تحليلي باسم

٥٦٨

التقيّد ، وإن كان المنشأ أو القيد ذا وجود مستقل.

الثاني : ما يكون الجزء التحليلي قائماً بالموضوع دون أن يكون مقوّماً له نظير الإيمان بالنسبة إلى الرقبة.

وقد أشار المحقّق الخراساني إلى القسمين الأُوليين بقوله : « إنّه ظهر ممّا مرّ حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه » وإلى القسم الثالث بقوله : « وبين الخاص وعامه كما في الحيوان ».

ثمّ إنّه قدس‌سره منع من جريان البراءة العقلية في الأقسام الثلاثة بوجهين تطرّق إليهما الشيخ أيضاً.

الأوّل : انّ الأجزاء التحليلية لا توصف بالوجوب من باب المقدمة ، وقد أشار الشيخ إلى هذا الدليل أيضاً حيث قال : إنّ ما كان متّحداً في الوجود الخارجي كالإيمان في الرقبة المؤمنة لا يتعلّق به وجوب وإلزام مغاير لوجوب أصل الفعل ، ولو مقدمة ، فلا يندرج فيما حجب اللّه عن العباد » (١) فلا يصحّ أن يقال : إنّ وجوب الإيمان في الرقبة لم يرد فيه بيان فالعقاب عليه عقاب بلا بيان.

وقد فسّرنا كلام الشيخ في المحصول (٢) بوجه آخر فلاحظ ، وما ذكرنا هنا هو الأوفق لظاهر كلامه.

الثاني : انّ وجود الطبيعي في ضمن الواجد للمشكوك ، مباين لوجوده في ضمن الفاقد له وعليه فلا يكون هناك قدر متيقن في البين لينحلّ به العلم الإجمالي وتجري أصالة البراءة.

وقد أشار الشيخ إلى هذا الدليل بقوله : إنّ الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك وجوبه ، معذور في ترك التسليم لجهله ، وأمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم

__________________

١. الفرائد : ٢٨٤.

٢. المحصول : ٣ / ٥٥٧.

٥٦٩

يأت من الخارج ما هو معلوم تفصيلاً حتى يكون معذوراً من الزائد المجهول ، بل هو تارك للمأمور رأساً ، وبالجملة فالمطلق والمقيّد من قبيل المتبائنين. (١)

وحاصل الدليل الأوّل : انّه ليس هنا وجوب ليقع مصبّاً للبراءة ، لأنّ الأجزاء التحليلية لا توصف بالوجوب ، كما أنّ حاصل الدليل الثاني ، انّوجود المطلق والمقيّد في الخارج لما كانا متبائنين ، فلو كان الواجب هو المقيّد ، لم يكن الآتي بالمطلق آتياً بالأقل وتاركاً للأكثر ، بل لم يأت منه شيء.

وقبل دراسة هذين الدليلين نقدّم أمراً يعلم به ملاك جريان البراءة العقلية وهو :

انّ ملاك جريانها عبارة عن حاجة المورد إلى البيان الزائد ، فكلّ مشكوك كان الوقوف عليه رهن بيانه فهو مجرى للبراءة العقلية.

ويقال : إنّ وجوب هذا الشيء لم يرد فيه بيان وكلّ ما كان كذلك وكان واجباً في الواقع لكن تركه المكلّف يكون العقاب عليه عقاباً بلا بيان ، هذا ، من غير فرق بين أن يتعلّق الوجوب بعنوان كالصلاة وشكّ في انحلاله إلى الشرط المشكوك كالطهارة والتستر أو يتعلّق الحكم بالمطلق ونشك في تقيّده بالقيد كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، أو يتعلّق الأمر بالعام ونشك في دخل الخاص المقوّم فيه كما إذا تردد الواجب بين كونه ذبح حيوان أو غنم ، أو تردد وجوب التيمم على الشيء بين الأرض والتراب ، فالملاك في الجميع هو حاجة الشيء المشكوك إلى البيان الزائد ، فلو لم يرد وكان واجباً لكن لم يصل إلى المكلّف يكون العقاب على تركه عقاباً بلا بيان.

إذا علمت ذلك فلندرس الدليل الأوّل في الموارد الثلاثة :

__________________

١. الفرائد : ٢٨٤.

٥٧٠

أ : المطلق والمشروط.

ب : المطلق والمقيد.

ج : العام والخاص.

أمّا الأوّل : فلأنّ مصب الشكّ ليس وجوبهما الغيريين بل المصب هو الوجوب النفسي لهما مثل سائر الأجزاء ، حيث إنّ واقع الشكّ يتعلّق بانحلال الصلاة إليهما وعدم انحلاله ، فلو كانا دخيلين في الموضوع له فهي تنحل إليهما وإلا فلا.

ومن المعلوم أنّ الأمر بالعنوان إنّما يكون حجّة فيما علم انحلاله إليه لا ما شك.

أمّا الثاني : فلأنّ القيد وإن لم يكن داخلاً في مفهوم المقيّد كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، لكن لو كان الواجب هو الرقبة المؤمنة فالإيمان يكون واجباً وجوباً نفسياً كوجوب الرقبة ، والشك في مثل هذا الوجوب يكون مصححاً لجريان البراءة.

وأمّا الثالث : فلأنّه لو كان الواجب وراء الحيوان شيء آخر ، وهو كونه غنماً ، وجب بنفس وجوب الحيوان ، والشكّ في مثل هذا الوجوب مجرى للبراءة ، نعم الاستدلال يتمُّ لو قلنا بوجوب الأجزاء التحليلية بالوجوب المقدمي وقد سبق اختصاصه على فرض صحّته بالأجزاء الخارجية لا التحليلية العقلية.

وأمّا الوجوب النفسي فهو يعمّ الشرط والقيد والخاص بلا فرق بينها.

هذا كلّه حول الدليل الأوّل.

وأمّا الدليل الثاني : فلأنّ ما ذكره مبني على تعلّق الأوامر بالموضوع الخارجي فعندئذ يصحّ ما ذكره من أنّ الصلاة مع الخصوصية غير الصلاة بدونها ،

٥٧١

لأنّ الفاقد لا يتحقّق إلا مع خصوصية أُخرى لامتناع تحقّق الجامع بلا فصل وخصوصية.

ومثله الأرض فإذا شككنا في لزوم كون التيمم على التراب ، أو مطلق الأرض ، نجد أنّ الثاني لا يتحقّق إلا في ضمن فصل آخر ككون الأرض حجراً أو رملاً ، ومن المعلوم أنّ الحجر والتراب متباينان.

ولكنّ الأوامر لا تتعلّق إلا بالطبائع الكلية ، والمفاهيم المجرّدة ، وعندئذ يكون الموضوع من قبيل الأقل والأكثر ، حيث يشكّ في أنّ المأمور به هو مطلق الصلاة ، أو الصلاة المشروطة بشيء ، وعندئذ يكون من قبيل الأقل والأكثر ، ويقع الثاني مجرى للبراءة ، وبعبارة أُخرى يشك في انحلال الموضوع إلى الطهور والتستر أولا.

وخلاصة القول : إنّ الدليل مبني على وجوب الأجزاء التحليلية بالوجوب الغيري ، وقد عرفت خلافه ، كما أنّ الدليل الثاني مبني على تعلّق الوجوب بالخارج ، وقد عرفت أنّه متعلّق بالأُمور الكلية.

إلى هنا تمت دراسة الموارد الثلاثة وأنّها تقع مصبّاً للبراءة العقلية ، وأنّ المكلّف لو تركها كان العقاب عليه عقاباً بلا بيان.

في جريان البراءة النقلية

هذا كلّه حول البراءة العقلية ، وأمّا البراءة النقلية ، فقد فصّل المحقّق الخراساني بين المشروط وشرطه ، والمطلق وقيده ، وبين العام والخاص ، فقال بجريانها في الأوّلين وعدمه في الثالث.

أمّا جريانها فيهما فلدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية وقيديّة ما شُكّ في شرطيّته ، أو قيديّته ، وليس كذلك خصوصية الخاص.

٥٧٢

والفرق بينهما أنّ الشرط والقيد من الأُمور الزائدة على الطبيعة المأمور بها ، فيدخل المورد تحت الأقل والأكثر دون خصوصيّة الخاص ، فانّها أمر منتزع من نفس الخاص ـ على وجه لولاه لما كان للعام تحقّق ـ فلا يدور الأمر بين الأقل والأكثر ، بل بين المتبائنين ، لأنّ الخاص نفس العام تحقّقاً ، وليس شيئاً زائداً عليه.

توضيح مراده : انّ العام في كلّ مورد يتحقّق بفصله ، ولا تحقق للعام بدون الخاص ، كما قال السبزواري :

إبهامَ جنس حسب الكون خذا

إذ هــو الــدائـر بـين ذا وذا

وعلى ذلك فكما أنّ الأكثر يتحقق في ضمن خاص أعني الغنم ، وهكذا الأقل أعني الحيوان لا يتحقّق مجرّداً عن الفصل ، بل لابدّ في تحقّقه من فصل ، ويتحصل العام في ضمن الإبل والبقر والمعز ، والنسبة بينها وبين الغنم هو التباين فيدخل المورد تحت دوران الأمر بين المتبائنين.

يلاحظ عليه : أنّه من باب خلط المسائل الفلسفية بالأُمور الاعتبارية ، فانّ ما ذكره صحيح حسب الأُصول الفلسفية في المقام ، وذلك لأنّ مدار كون المورد من قبيل الأقل والأكثر ، هو كون ما وقع تحت دائرة الطلب ، هو مطلق الحيوان ، أو الحيوان الخاص ، أعني : الغنم ، فبما أنّ الخصوصية مجهولة تقع مجرى للبراءة ، ويكون مرفوعاً حسب حديثي الرفع والحجب.

وإن شئت قلت : إنّ المعيار وجود الكلفة الزائدة في أحد الطرفين دون الآخر ، ولا شكّ في الالتزام بكون المذبوح غنماً كلفة زائدة ليست في الطرف الآخر ، لأنّه في الخيار بذبح أيّ حيوان.

ثمّ إنّه كان على الشيخ الأنصاري أن يبحث في هذا القسم عن مسائل أربع ، لأنّ الشكّ في الجزء التحليلي يكون نابعاً تارة عن فقدان النص ، وأُخرى عن

٥٧٣

إجمال النص ، وثالثة عن تعارض النصين ، ورابعة عن خلط الأُمور الخارجية ، لكنّه قدس‌سره اعتماداً على ما سبق ، طوى الكلام عنها واختصر على أصل البحث.

الشكّ في المحصل

ثمّ إنّه كثيراً ما يدور في لسان الأُصوليين مصطلح الشكّ في المحصل ، أو الشكّ في السقوط ، ولم يذكره المحقّق الخراساني في الكفاية ، وذكره الشيخ في المسألة الرابعة من الشكّ في الأقل والأكثر ، فزعم أنّ الشكّ في المحصِّل عبارة عن الشكّ في الأقل والأكثر من باب خلط الأُمور الخارجية. فقال : إذا شكّ في جزئية شيء المأمور به من جهة الشكّ في الموضوع الخارجي ، كما إذا أمر بمفهوم مبين ، مردّد مصداقه بين الأقل والأكثر ، ومنه ما إذا وجب صوم هلالي ، وهو ما بين الهلاليين فشكّ في أنّه ثلاثون ، أو ناقص ، ومثل ما لو أمر بالطهور لأجل الصلاة ، أعني : الفعل الرافع للحدث أو المبيح لها ، فشكّ في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين ( أو المبيحين ) ، واللازم في المقام الاحتياط ، لأنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم مبين معلوم تفصيلاً ، وإنّما الشكّ في تحققّه بالأقل ، فمقتضى أصالة عدم تحقّقه وبقاء الاشتغال عدم الاكتفاء به ولزوم الإتيان بالأكثر .... (١)

يلاحظ عليه : أنّ هنا مسألتين :

إحداهما : ما هو الموسوم بالشكّ في المحصّل ، أو الشكّ في السقوط؟

ثانيهما : ما هو الموسوم بالشكّ في الشبهة الموضوعية من قسم الأقل والأكثر؟

والفرق بين المسألتين كالتالي :

إذا كان متعلّق الأمر واضح المفهوم مبيّن المعنى لا تردّد ولا قلّة ولا كثرة وإنّما الإجمال والتردد في محقِّقه وسببه ، وهذا كما في الأمر بالطهور إذا فسر بالحالة

__________________

١. الفرائد : ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

٥٧٤

النفسانية الحاصلة للمتوضئ بعد الوضوء ، فلا إجمال ولا إبهام في المأمور ، وإنّما الإبهام في أمر خارج عن المأمور به ، وهو أنّه هل تتحقّق تلك الحالة بنفس الغسلات والمسحات ، أو يتوقف ـ وراءها ـ على غسل الاذن أيضاً؟ فالأقل والأكثر في ناحية السبب ، لا المسبب.

وأمّا إذا كان متعلّق الأمر والنهي مردّداً بين الأقل والأكثر كما في الشبهة الحكمية كإجمال جزئية السورة في الأُولى ، أو كان مصداق المتعلّق مردّداً بينهما فاحتمال كون زيد عالماً وراء سائر الأفراد المعلومة ، فهو من قبيل الشكّ في الأقل والأكثر حكمياً أو موضوعياً.

ومنه يظهر أنّ ما مثل به الشيخ من قبيل القسم الأوّل كالطهور أو صوم ما بين الهلالين ليس بصحيح ، لأنّ الشكّ في المثالين ليس في متن المأمور به ، وإنّما الشكّ في محقّقه ، وانّه هل يتحقّق بنفس الغسلات والمسحات ، أو بتسعة وعشرين يوماً ، أو لا؟

إذا عرفت ذلك فلنأخذ كلّ واحد بالبحث.

الكلام في الشكّ في المحصِّل

الشكّ في المحصِّل بالمعنى الذي عرفته من خصائص الشبهة الحكمية ، فإذا أمر المولى بمسبب توليدي ، ودار الأمر في سببه المولّد بين جزئية شيء أو شرطيته ، فالحقّ ـ وفاقاً لأهله ـ لزوم الاحتياط ، وقد أوضح ذلك الشيخ في كلامه السابق بقوله : إنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم بيّن معلوم تفصيلاً ، إنّما الشكّ في تحقّقه بالفعل ، فمقتضى أصالة الاشتغال عدم الاكتفاء ولزوم الإتيان بالأكثر.

فما هو المأمور به ، ليس فيه قلّة ولا كثرة حتى تجري فيه البراءة ، وما فيه القلّة والكثرة ليس بمأمور به.

٥٧٥

فإن قلت : هذا إذا كان السبب عقليّاً ، أو عاديّاً ، كما إذا أمر المولى بقتل المرتد ، ودار السبب بين ورود ضربة عليه أو ضربتين ، أو أمر بتنظيف البيت ، ودار أمره بين كنسه فقط ، أو كنسه ورشّه ، ففي تلك الموارد يجب الاحتياط ، إذ ليس بيان السبب من وظائف الشارع ، وأمّا إذا كان السبب شرعيّاً ، كالوضوء بالنسبة إلى الطهور فتجري فيه البراءة وتحكم بعدم دخله في السبب.

قلت : إنّ أصالة البراءة وإن كان يعالج الشكّ في ناحية السبب فيحكم بعدم دخله في السببية ، لكن لا يعالج الشكّ في ناحية المسبب ، فالشكّ فيه باق بحاله فالعقل يحكم بأنّ ذمة المكلّف مشغولة بالمفهوم المبيّن ، ولا يحصل الفراغ إلا بضم المشكوك إلى المتيقن.

فإن قلت : إنّ الشكّ في تحقّق الظهور وعدمه ناجم من شرطية غسل الاذن في المسبب وعدمها ، فإذا جرى الأصل في ناحية السبب ، وقلنا بأنّ شرطية غسل الاذن مجهولة مرفوعة بحديث الرفع لا يبقى شكّ في ناحية المسبب وانّه حاصل قطعاً.

قلت : إنّ الأصل السببي إنّما يكون حاكماً على الأصل المسببي إذا كان هناك دليل اجتهادي يتخذ نتيجة الأصل السببي صغرى لنفسه فيتركب الدليل من صغرى وكبرى ويكون الكبرى حاكماً على الأصل المسببي ، وهذا كما في المثال المعروف : إذا غسل النجس ، بماء مستصحب الطهارة ، فانّ استصحاب طهارة الماء حاكم على استصحاب نجاسة الثوب ، وذلك لأنّ الشكّ في بقاء النجاسة وعدمه نابع عن طهارة الماء ، فإذا كان الماء محكوماً بالطهارة ، والثوب النجس مغسولاً به ، يكون مفاد الأصل السببي صغرى لكبرى اجتهادية ، ويقال هذا الثوب النجس غسل بماء طاهر ( بحكم الاستصحاب ) وكلّ نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر وهذا هو الكبرى ، فينتج هذا الثوب المغسول بماء طاهر طاهر ،

٥٧٦

وليس المقام كذلك فانّ استصحاب عدم وجوب غسل الاذن لا يحقق موضوعاً لكبرى شرعية ، وهي كلّما لم يكن غسل الاذن واجباً يكون الوضوء متحققاً بالغسلتين والمسحتين.

وإن شئت قلت : إنّ الأصل في المقام مثبت ، لأنّ رفع وجوب غسل الاذن يلازم عقلاً انحصار الواجب في الأجزاء المتبقية ، وهو يلازم تحقق الوضوء المسببي بحكم العقل بأنّه كلّما تحققت العلّة يتحقق المعلول أيضاً ، والكلّ من الأُصول المثبتة.

الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر الارتباطيين

قد عرفت أنّ الشكّ في الأقلّ والأكثر من جهة المصداق ، غير الشكّ في المحصّل ، وإن خلط الشيخ الأعظم قدس‌سره بينهما ، وقد مرّ حكم الشكّ في المحصِّل وبيانه ، ولنأخذ الشكّ في المصداق بالبحث فنقول :

إنّ العناوين الواقعة تحت دائرة الطلب تتصوّر على وجوه :

١. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو العام الاستغراقي.

٢. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو العام المجموعي.

٣. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو صرف الوجود ، ونقض العدم.

والفرق بين الأوّلين واضح.

إذ على الأوّل : فيه أحكام ، وبالتالي امتثالات وعصيانات لكلّ فرد.

بخلاف الثاني ففيه حكم واحد ، وبالتالي امتثال وعصيان واحد ، فلو قال : أكرم مجموع العلماء ، وكان عددهم مائة فأكرم تسعة وتسعين عالماً ، وترك إكرام واحد منهم لما امتثل أصلاً ، لكون المجموع موضوعاً واحداً.

ثمّ الحكم المتعلّق بالعنوان تارة يكون الوجوب ، وأُخرى الحرمة ، وعلى

٥٧٧

التقديرين فالوجوب أو الحرمة تارة نفسيان وأُخرى غيريان فيقع الكلام في مقامات أربعة :

١. حكم الشبهة المصداقية في الواجب النفسي

إذا شككنا في مصداقية فرد لعنوان تعلّق به الوجوب النفسي ، فإن كان العنوان مأخوذاً بنحو الاستغراقي فالمرجع هو البراءة ، للشكّ في أصل التكليف في حقّ الفرد المشكوك ، ويكون العام من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين.

وأمّا إذا كان مأخوذاً بنحو العام المجموعي ، كما إذا قال : أكرم مجموع علماء البلد ، فشكّ في كون فرد عالماً أو لا ، فذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المرجع ، البراءة ، والسيد الأُستاذ قدس‌سره إلى الاشتغال ، ولعلّ الحقّ التفصيل بين مورد ومورد.

أمّا الأوّل : فلأنّ مرجع الشكّ في عالمية بعض ، إلى الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأنّه ليس هنا إلا تكليف واحد تعلّق بإكرام مجموع العلماء من حيث المجموع ، فيكون إكرام فرد من العلماء بمنزلة الجزء لإكرام العلماء كجزئية السورة للصلاة ، فيرجع إلى الشكّ بين الأقل والأكثر الارتباطيين. (١)

وأمّا الثاني : فبوضوح الفرق بين المقامين ، فانّ الأمر في الأقل والأكثر الارتباطيين تعلّق بالاجزاء بلحاظ الوحدة وليست الصلاة عنواناً متحصّلاً منها بحيث يشكّ في تحقّقها مع ترك الجزء والشرط ، فالشكّ في الجزئية يرجع إلى الشكّ في انبساط الأمر بالنسبة إليها. بخلاف المقام فانّه تعلّق بعنوان خاص أعني المجموع بما هو هو ، وقد قامت الحجّة بما هو هو ، ومرجع الشكّ إلى انطباق المأتي به على المأمور به ، فالشكّ في المقام ، شكّ في تحقّق العنوان المأمور به ، بخلاف الآخر

__________________

١. فوائد الأُصول : ٤ / ٢٠٢.

٥٧٨

فإنّه شكّ في تقيد الصلاة بشيء.

ويمكن أن يقال : إنّه إذا أخذ العنوان موضوعاً بما هو هو فالمرجع هو الاشتغال ، لأنّ الذمة مشغولة بإيجاده فإذا شكّ في عالمية فرد ، يجب إكرامه إذ مع ترك إكرامه يشكّ في حصول العنوان ، وفراغ الذمة ، فلا تجري البراءة في مشكوكها ، بخلاف ما إذا كان العنوان مأخوذاً بنحو المرآتية إلى الخارج فيكون الشكّ راجعاً إلى قلّة الاجزاء وكثرتها فتجري البراءة.

وأمّا إذا كان تعلّق الحكم بنحو صرف الوجود وناقض العدم وإيجاد الطبيعة فقط ، فإذا شكّ في كون فرد عالماً أو لا ، لا يجوز الاكتفاء بإكرام المشكوك بل يجب إكرام من يعلم أو مصداقه.

٢. حكم الشبهة المصداقية في الواجب الغيري

هذا كلّه إذا كان الشكّ في الشبهة الموضوعية في الواجب النفسي ، وأمّا إذا كان الشكّ في الشبهة الموضوعية من الواجبات الغيرية ـ بناء على القول بالوجوب الغيري ـ ككون الشيء مصداقاً للجزء أو الشرط أو لا ، فالأقسام الثلاثة الماضية وإن كانت متصوّرة في المقام ، لكن الواقع هو القسم الثالث ، أعني : صرف الوجود وناقض العدم إذ لم يعهد في الشريعة ، اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً بنحو العام الاستغراقي أو المجموعي.

فإذا دار أمر شيء مصداقاً للجزء أو الشرط أو لا ، كما إذا شككنا في سورة الانشراح هل هي سورة كاملة ـ بناء على وجوب قراءة السورة الكاملة في الصلاة ـ أو لا ، أو في كون مائع خارجي أنّه ماء أو خل ، فلا يجوز الاكتفاء بالمشكوك ، بل يجب إحراز كونها سورة كاملة ، أو ماء مطلقاً.

هذا كلّه حول الحكم الوجوبي النفسي والغيري.

٥٧٩

٣. حكم الشبهة المصداقية في التحريم النفسي

إنّ حكم الشبهة المصداقية في التحريم النفسي ، مطلقاً هو البراءة ، سواء أُخذ العنوان بنحو العام الاستغراقي أو بنحو العام المجموعي ، أو ترك الطبيعة.

أمّا الأوّل : فكما إذا قال : لا تكرم الفسّاق ، فشكَّ في كون زيد فاسقاً أو لا ، فرجع الشكّ إلى تعلّق الحكم المنحل به ، وهوأشبه بالأقل والأكثر الاستقلاليين.

وأمّا الثاني : فكما إذا قال : لا تكرم مجموع الفساق من العلماء ، فيجوز إكرام من علم فسقه فضلاً عن إكرام المشكوك ، ويكفي في صدق الامتثال ترك واحد ممن علم فسقه ، حتى يصدق أنّه : لم يكرم المجموع من حيث المجموع.

وأمّا الثالث : فكما إذا قال : لا تشرب الخمر ، فصرف الترك ، وإن كان يتحقق ، بترك فرد من الطبيعة عقلاً ، لكن العرف لا يساعده بل يرى صرف الترك ، بترك عامّة أفراده ، لكن الكبرى حجّة في معلوم الفردية دون مشكوكها ، فيجوز شرب مشكوكه.

٤. حكم الشبهة المصداقية في التحريم الغيري

يتصوّر الحكم التحريمي الغيري فيما إذا كان الشيء مانعاً أو قاطعاً ، والمراد من الأوّل ، ما يكون وجوده مضاداً للمأمور به كنجاسة الثوب أو بدنه ، ومن الثاني ما يكون وجوده قاطعاً للهيئة الاتصالية للفرد المتحقق من الطبيعية كالأكل والشرب والضحك.

إنّ العنوان المأخوذ في التحريم الغيري وإن كان يمكن أن يؤخذ بنحو العام الاستغراقي أو المجموعي أو صرف الوجود ، لكن الموجود منه في الشريعة هو القسم الأوّل فتكون البراءة هي المحكم للشكّ في تعلّق النهي الانحلالي بذاك الفرد.

٥٨٠