إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

إنّ الاستدلال بالآية ضعيف ، لأنّها وردت في شأن قارون وقد أراد علواً في الأرض وفساداً من وراء أعماله الموبقة.

وبعبارة أُخرى : انّ المراد من عدم إرادة العلو ، هو عدم بغيه عملاً ، وعدم طلبه خارجاً فأطلقت الإرادة ، وأُريد منها عدم تحقّق المراد.

هذا كلّه حول الآيات ، وأمّا الروايات فهي على صنفين : صنف منها يدل بظاهره البدئي على ترتب العقاب على مجرد نيّة العصيان ، وصنف آخر يدل على خلافه ، وإليك الكلام في كلا الصنفين :

الصنف الأوّل : ما يدل على ترتّب العقاب

١. حشر الناس على نياتهم

عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « إنّ اللّه يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة ». (١)

والحديث وإن كان بظاهره دليلاً على المطلوب ، ولكنّه يفسّره حديث آخر عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « في حديث انّما الأعمال بالنيّات ، ولكلّ امرئ ما نوى ، فمن غزا ابتغاء ما عند اللّه فقد وقع أجره على اللّه عزّوجلّ ، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلاما نوى ». (٢)

والحديث المفسِر ( بالكسر ) والمفسَر ( بالفتح ) وإن كانا ضعيفي السند ، لكن الثاني يرفع الستار عن وجه الأوّل ، وانّ المراد من حشر الناس على نياتهم هو حشرهم على نيّاتهم الخالصة أو المشوبة بالرياء ، فأين هذا من المطلوب؟!

__________________

١. الوسائل : الجزء ١ ، الباب٥ ، من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ٥.

٢. المصدر السابق : الحديث ١٠.

٤١

٢. جمع الناس بالرضا والسخط

ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، انّه قال : « أيّها النّاس إنّما يجمع الناس الرضا والسخط ، وإنّما عَقَر ناقَة ثمود رجل واحد ، فعمّهم اللّه بالعذاب لما عمّوه بالرضى ، فقال سبحانه : ( فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمين ) (١) ». (٢)

ما روي عنه عليه‌السلام : « الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى كلّ داخل في باطل إثمان : إثم العمل به ، وإثم الرضا به ». (٣)

يلاحظ على الاستدلال : أنّ الرضا بصدور المعصية عن الغير من المعاصي الكبيرة وليست من التجرّي ، نظير ذلك حبّ شيوع الفاحشة بين الناس كما جاءت في الآية المباركة : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَليم ). (٤)

فإنّ نفس الحب معصية قلبية كالكفر والنفاق وغير ذلك ، وهذه الروايات الأربع لا دلالة لها على مقصود المستدل.

٣. نيّة الكافر شرّ من عمله

روى السكوني عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام أنّه قال : « قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الكافر شرٌّ من عمله ، وكلّ عامل يعمل على نيّته ». (٥)

__________________

١. الشعراء : ١٥٧.

٢. نهج البلاغة : الخطبة ٢٢١.

٣. المصدر نفسه ، قسم الحكم ، الرقم ١٥٤.

٤. النور : ١٩.

٥. الوسائل : ١ ، الباب ٦ من أبواب مقدمات العبادات ، الحديث ٣ ؛ ولعلّه متحد مع الحديث ٢٢ في هذا الباب.

٤٢

يلاحظ عليه بأمرين :

أ. انّ المضمون غريب ، إذ كيف تكون نية المؤمن العارية عن العمل ، خير من عمله ، ومثله نيّة الكافر مع أنّ العمل أفضل من النيّة العارية للمؤمن وعلى العكس في الكافر ، والغرابة في المضمون تعدّ من مضعفات الاحتجاج بالرواية المذكورة.

ب. انّ الحديث وُجِّه في بعض الروايات بوجهين :

فتارة : فسر « الخير » في الحديث بالكثرة ، بمعنى انّ نية المؤمن أكثر وأوسع من عمله كما انّ نية الكافر أكثر وأوسع من عمله ، فالمؤمن يبغي الخير الكثير ولا ينال إلا القليل كما انّ الكافر يبغي الشر الكثير ولا ينال إلا القليل لضيق قدرته. وقد روى الحسن بن حسين الأنصاري ، عن بعض رجاله ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه كان يقول :

« نيّة المؤمن أفضل من عمله ذلك لأنّه ينوي من الخير مالا يدركه ، ونيّة الكافر شرٌّ من عمله وذلك لأنّ الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر مالا يدركه ». (١)

وأُخرى : بأنّ نيّة المؤمن بعيدة عن الرياء دون عمله ، فقد روى زيد الشحام ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : إنّي سمعتك تقول : نيّة المؤمن خير من عمله فكيف تكون النية خيراً من العمل؟ قال : « لأنّ العمل ربما كان رياء للمخلوقين والنية خالصةً لربِّ العالمين ، فيعطي عزّ وَجَلّ على النية مالا يعطي على العمل ». (٢)

والتوجيه يختص بنيّة المؤمن ويبقى الإشكال في نية الكافر على حاله.

__________________

١. الوسائل : ١ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ١٧.

٢. المصدر السابق ، الحديث ١٥.

٤٣

وحاصل الكلام : انّ الحديث مشتمل على مضمون غريب أوّلاً ، وانّ الخير والشر فُسِّرا بالكمية تارة ، أو بالابتعاد عن الرياء أُخرى ، وأين هذا من كون النية المجردة حراماً؟!

٤. خلود أهل النار لأجل النية

روى أبو هاشم المدني قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « انّما خُلِّد أهل النار في النار ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً ؛ وإنّما خُلِّد أهل الجنة في الجنة ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا ، أن لوبقوا فيها ، ان يطيعوا اللّه أبداً ؛ فبالنيات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء ، ثمّ تلا قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) (١) قال : على نيّته ». (٢)

ولا يخفى وجود الغرابة في مضمون الحديث ، إذ ليس كلّ مؤمن ولا كافر على النحو الذي وصف في الرواية ، على أنّ الحديث ضعيف بالحسين بن أحمد المنقري ، وأحمد بن يونس ، فكيف يحتجّ بحديث غريب في المضمون محكي بالضعاف؟!

وأمّا وجه خلودهم في الجنّة ، فقد أوضحنا ذلك في كتاب الإلهيات. (٣)

٥. يكتب في حال المرض ما عمل في حال الصحّة

روى جابر ، عن أبي جعفر قال : قال لي : « يا جابر : يكتب للمؤمن في سقمه من العمل الصحيح ما كان يكتب في صحّته ، ويكتب للكافر في سقمه من

__________________

١. الإسراء : ٨٤.

٢. الوسائل : الجزء ١ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٤.

٣. تلخيص الإلهيات : ٦٧١.

٤٤

العمل السيّئ ما كان يكتب في صحّته ».

ثمّ قال : « يا جابر ما أشدّهذا من حديث ». (١)

والحديث ضعيف جّداً لما اشتمل على مجاهيل في السند. أضف إلى ذلك انّه يحتمل أن يكون الحديث ناظراً إلى الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن كبناء المسجد فمادام المسجد باقياً ومأوى للمصلين يصل ثوابه إلى المؤمن وإن كان طريح الفراش ، ومثله في الكافر إذا أسس سنة سيئة ، والقرينة على هذا التفسير هي كلمة « العمل الصالح والعمل السيّئ » فقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلامن ثلاث : علم ينتفع به ، أو صدقة تجرى له ، أو ولد صالح يدعو له ». (٢)

وهذا الخبر وما تقدمه لا يحتج بهما لغرابة متنهما أو ضعف سندهما مضافاً إلى ما عرفت من المناقشة في الدلالة.

الصنف الثاني : ما يدل على عدم الحرمة

تضافرت الروايات على أنّ من ألطافه سبحانه على عباده هو انّه يُجزي علينية العمل الصالح وإن لم يفعله المؤمن ، ولا يُجزي على نية العمل السيّئ مالميرتكبه ، وإليك شيئاًمن تلك الروايات ، ونشير في الهامش إلى محال مالم نذكره.

روى الكليني عن زرارة ، عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : « إنّ اللّه تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته انّ من همَّ بحسنة فلم يعملها كتب له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له عشراً ;و من همّ بسيئة لم تكتب عليه ، ومن همّ بها وعملها كتبت

__________________

١. الوسائل : الجزء ١ ، الباب ٧ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ٥.

٢. بحار الأنوار : ٢ / ٢٣.

٤٥

عليه سيئة ». (١)

وبما انّ هذا الصنف من الروايات أكثر عدداً وأوضح دلالة يتعين الأخذ بها ، إنّما الكلام في الصنف الأوّل ، فهل هناك جمع دلالي أو لا؟

يظهر الأوّل من الشيخ فقد جمع بينهما بوجهين :

الوجه الأوّل : حمل الطائفة الأُولى على من بقي على قصده حتى عجز لا باختياره ، والطائفة الثانية على من ارتدع بنفسه واختياره.

واستشهد على هذا الجمع بالنبوي ، قال : « إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّة ، فالقاتل والمقتول في النار » ، قيل : يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : « لأنّه أراد قتله ». (٢)

أقول : إنّ في السند الحسين بن علوان وهو عامي لم يوثّق ، كما أنّ فيه عمرو ابن خالد وهو زيدي بتري فالحديث لايحتج به.

أضف إلى ذلك انّ إرادة قتل المؤمن بالنحو الذي ورد في الرواية من سل السيف على وجهه إلى أن عجز ، من المحرمات وليس من التجرّي ، لأنّ فيه إخافة للمؤمن وهو حرام.

وإن شئت قلت : ليس التعليل انّه أراد المعصية ، بل أراد القتل على النحو الوارد في الرواية وإرادة القتل بالنحو الوارد فيها من المعاصي.

وقد عقد صاحب الوسائل باباً في الحدود تحت عنوان « من شهر السلاح لإخافة الناس ». (٣)

__________________

١. الوسائل : ١ ، الباب ٦من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث السادس; ولاحظ الحديث ٧ ، ٨ ، ٢٠ ، ٢١ ، ٢٤ من هذا الباب ، والباب ٧ ، الحديث ٣.

٢. الوسائل : ١١ ، الباب ٦٧ من أبواب جهاد العدو ، الحديث ١.

٣. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٢ من أبواب حدّ المحارب.

٤٦

الوجه الثاني : ما دلّ على العفو يحمل على ما إذا لم يرتكب شيئاً من المقدمات وحمل ما دلّ على ترتّب العقوبة إذا اشتغل ببعض المقدمات.

أقول : إنّه جمع تبرعي وعلى خلاف إطلاق روايات الصنف الثاني.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقّق الخوئي من حمل الروايات الدالة على ترتّب العقاب على ما إذا قصد ارتكاب الحرام الواقعي وإن لم يرتكبه فلا صلة لها بقصد الحرام الخيالي وما يعتقده المكلّف حراماً ، مع عدم كونه حراماً في الواقع كما في التجرّي. (١)

يلاحظ عليه : أنّ معنى ذلك هو حمل الصنف الثاني على خصوص التجري وحمل هذه الروايات الكثيرة عليه بعيد جداً.

أضف إلى ذلك انّ كلاً من العاصي والمتجري قاصد للحرام الواقعي وإنّما الخطأ في التطبيق.

وبعبارة أُخرى تعلقت الإرادة بالحرام ، فالمراد بالذات هو الحرام الواقعي ، وإنّما يختلفان في الحرام بالعرض.

السؤال الثاني : في تفصيل صاحب الفصول

قد عرفت أنّ التجرّي بما هو مخالفة للحجّة ليس بقبيح غير انّ صاحب الفصول ذهب إلى قبحه ، ولكن إذا تحقّق التجرّي في ضمن الواجب غير المشروط بالقربة تقع المزاحمة بين قبح التجرّي وحسن المتجرّى به ، كما إذا عثر على إنسان قطع انّه عدو المولى فلم يقتله فبان انّه ابنه.

أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا وجه لهذه المزاحمة ، لأنّ المفروض عدم علمه به ولا يكاد أن يؤثر شيئاً بدونه حيث لا يكون حينئذ بهذا الوجه اختيارياً

__________________

١. مصباح الأُصول : ٢ / ٩٢.

٤٧

والحسن والقبح من صفات الأفعال الاختيارية. (١)

وحاصله : انّ الشيء إنّما يوصف بالحسن الفعلي إذا التفت إليه الفاعل ومن المعلوم انّه ترك قتل الرجل ، بعنوان انّه عدو المولى لا بعنوان انّه ابنه ، فكيف يكون هذا الفعل غير الملتفت إليه ملاكاً للحسن وموجباً للمزاحمة بين حسنه وقبح التجرّي.

السؤال الثالث : هل ممارسة التجرّي تنافي العدالة؟

هل مزاولة التجرّي ومداومته تمنع عن تحقّق العدالة بمعنى الملكة قبل تحقّقها ، وتَرفَعُها بعد تحقّقها كالمعصية بعينها من غير تفاوت بينهما أصلاً؟

والظاهر انّ التجرّي بمعنى مخالفة الحجّة وإن لم يكن قبيحاً مورثاً للعقاب ولكنّه كاشف عن انهيار ملكة العدالة إذا تكرّر ذلك العمل منه كما يكون مانعاً عن تحقّقها.

وللمحقّق الخراساني تفصيل ذكره في تعليقته على الفرائد فلاحظ. (٢)

__________________

١. تعليقة المحقّق الخراساني : ١٦.

٢. تعليقة المحقّق الخراساني : ١٧.

٤٨

الأمر الثالث

في تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي

اشتهر تقسيم القطع من زمان الشيخ الأعظم قدس‌سره إلى أقسام خمسة من كونه طريقياً محضاً ، أو مأخوذاً في الموضوع ثمّ الثاني على قسمين ، لأنّه إمّا يؤخذ فيه بما انّه طريق ، أو يؤخذ بما انّه وصف نفساني; وعلى كلا التقديرين إمّا أن يكون المأخوذ في الموضوع تمامه أو جزءه ، وإليك توضيح الأقسام :

١. الفرق بين الطريقي والموضوعي

إذا كان الحكم مترتباً على نفس الواقع بلا مدخلية للعلم والقطع فيه كحرمة الخمر والقمار وغير ذلك فالقطع عندئذ يكون طريقيّاً ولا يكون للقطع هناك دور سوى التنجيز ، وإلا فالخمر والقمار ، حرام ، سواء أكان هناك علم أو لا ، غاية الأمر يكون الجهل عذراً للمرتكب ، وهذا بخلاف القطع الموضوعي فإنّ للقطع فيه مدخلية في الحكم بحيث لولاه ، لما كان هناك حكم شرعي وأمثلته كثيرة ، نظير :

١. الحكم بالصحة فانّه مترتب على الإحراز القطعي في الثنائية والثلاثية من الصلوات والأُوليين من الرباعية ، بحيث لولاه لما كانت محكومة بها.

٢. الحكم بوجوب التمام لمن يسلك طريقاً مخطوراً محرزاً بالقطع أو الظن.

٤٩

٣. الحكم بوجوب التيمم لمن أحرز كون استعمال الماء مضراً بالقطع أو الظن.

٤. الحكم بوجوب التعجيل بالصلاة لمن أحرز ضيق الوقت بكلا الطريقين.

فلو انكشف الخلاف وانّ الطريق لم يكن مخطوراً ، ولا الماء مضراً ، ولا الوقت ضيّقاً لما ضرّ بالعمل ، لأنّ كشف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلى متعلّق القطع لا بالنسبة إلى الموضوع المترتب عليه الحكم.

وبذلك يعلم أنّ القطع الموضوعي ، هو ما يكون له مدخلية في ترتب الحكم ، لا خصوص ما إذا أخذ في لسان الموضوع بل هو أعمّ من القطع المأخوذ في الموضوع كما هو الحال في قوله تعالى : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبيَضُ مِنَ الْخَيْطِالأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ) (١) فانّ التبيّن وإن كان مأخوذاً في لسان الدليل ، لكن ليس له مدخلية في وجوب الإمساك إلا كونه طريقاً إلى طلوع الفجر ، ولأجل ذلك يجب الإمساك إذا علم بطلوع الفجر وإن لم يكن هناك تبين ، كما إذا كان الهواء غيماً أو كان الإنسان محبوساً. فليس كلّ قطع أخذ في لسان الدليل ، قطعاً موضوعياً كما في الآية فهو مع الأخذ ، فيها طريقي محض.

٢. تقسيم الموضوعي إلى طريقي ووصفي

إنّ القطع من الأُمور الإضافية ، فله إضافة إلى العالم وله إضافة إلى المعلوم ، فلو أخذ في الموضوع بما له إضافة إلى العالم ، وانّه أمر قائم به كقيام سائر الصفات به ، فقد أخذ في الموضوع بما هو وصف نفساني; ولو أخذ فيه بما له إضافة إلى المعلوم وكاشف عنه ، فقد أخذ فيه بما انّه طريق ، فما في الكفاية من قوله : « لمّا كان

__________________

١. البقرة : ١٨٧.

٥٠

من الصفات الحقيقية » إشارة إلى أخذه فيه بما هو وصف ، وقوله : « ذات الاضافة » إشارة إلى أخذه فيه بما هو طريق.

وبالجملة : القطع من الأُمور النفسانية فتارة يلاحظ بما انّه كاشف عن الواقع ، وأُخرى بما انّه أمر قائم بالنفس كالبخل والحسد ، فلو أخذ في الموضوع بما هو طريق وكاشف ، يُوصَف بالقطع الموضوعي الطريقي وإن أخذ بما انّه قائم بالنفس وعوارضها يوصف بالقطع الموضوعي الوصفي ، وإن شئت التمثيل فقل : إنّ النظر إلى القطع كالنظر إلى المرآة ، فتارة يلاحظها الإنسان بوصف كونها مرآة وأنّها كيف تُري ، وأُخرى بما انّه جسم صيقلي شفاف وانّها على شكل كذا وقطر كذا ، فالموضوعي الطريقي أشبه بالأوّل ، والموضوعي الوصفي أشبه بالثاني.

٣. تقسيم الموضوعي إلى تمام الموضوع وجزئه

ثمّ إنّ القطع الموضوعي على قسمين : تارة يكون القطع تمام الموضوع للحكم من غير مدخلية للواقع ويكون الحكم دائراً مداره ، وأُخرى يكون القطع جزء الموضوع والواقع هو الجزء الآخر.

أمّا الأوّل فقد مرت أمثلته ، وأمّا الثاني ، كبطلان الصلاة في الثوب الذي قطع بنجاسته ، فلا تبطل الصلاة إلا إذا كان نجساً في الواقع وتعلق به القطع ، وإلا فلو كان نجساً في الواقع وكان جاهلاً أو كان طاهراً في الواقع وكان القطع جهلاً مركباً ، تصح صلاته مع تمشي قصد القربة في الصورة الثانية.

وبذلك يظهر انّ الموضوعي على أقسام أربعة ، لأنّ كلاً من المأخوذ في الموضوع طريقياً أو وصفياً ، إمّا يكون تمام الموضوع أوجزءه ، فتكون الأقسام أربعة ، مضافاً إلى الطريقي المحض غير المأخوذ في الموضوع.

نعم استشكل المحقّق النائيني في أخذ القطع الطريقي تمام الموضوع ، وتبعه

٥١

تلميذه في مصباحه. وحاصل كلامهما : أنّ أخذه تمام الموضوع آية انّه لا مدخلية للواقع في ترتّب الحكم ، وأخذه بنحو الطريقية آية أنّ للواقع دخلاً فيه والجمع بينهما جمع بين المتناقضين. (١)

يلاحظ عليه : أنّ معنى القطع الموضوعي الطريقي هو أخذه في الموضوع بما انّ له وصف الطريقية والمرآتية ، لا انّ للواقع مدخلية في الحكم حتى لا يصحّ أخذه طريقاً في الموضوع على وجه التمامية ، والخلط حصل في تفسير القطع الموضوعي ، وقد أحسن شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري قدس‌سره فقد فسره في درره على نحو ما ذكرناه وقال : المقصود كونه ملحوظاً على أنّه طريق كسائر الطرق المعتبرة. وبعبارة أُخرى : ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق المعتبرة. (٢)

٤. تقسيم آخر للقطع الموضوعي

ثمّ إنّ المأخوذ في الموضوع تارة يكون القطع بالحكم مأخوذاً في موضوع حكم آخر لا يضاده ولا يماثله بل يخالفه ، كما إذا قال : إن قطعت بنجاسة الثوب فلا تصل فيه. فمتعلق القطع حكم وضعي كالنجاسة أخذ في موضوع حكم تكليفي بينهما من النسب هو التخالف إذ قد يكون الشيء نجساً ولكن يجوز فيه الصلاة ، كالمعفو عنها ، وقد لا تجوز الصلاة ولا يكون نجساً ، كالمغصوب وقد يجتمعان.

وقد مثل له المحقّق الخراساني بأنّه إذا قطعت بوجوب شيء فتصدق ، والنسبة بين الحكمين هو التخالف لا التماثل ولا التضاد ، وأُخرى يكون القطع بالموضوع أي الخمر موضوعاً للحكم الراجع إلى نفس الموضوع كما إذا قال : إن قطعت بخمرية مائع فلا تشربه ، والشائع هو القسم الثاني في ألسن الأُصوليين.

__________________

١. لاحظ فوائد الأُصول : ٢ / ١١ ؛ مصباح الأُصول : ٢ / ٣٢.

٢. درر الأُصول : ٢ / ٣٣١.

٥٢

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بحث عن أقسام القطع الموضوعي هنا إجمالاً وفي الأمر الرابع تفصيلاً وكان الأنسب البحث عنه في مورد واحد.

٥. قيام الأمارات مكان القطع

إذا كان الحكم مترتباً على الموضوع بما هو هو وكان القطع طريقاً إلى ثبوته أوّلاً ، وترتّب أحكامه ثانياً ، تقوم مكانه الطرق والأمارات بنفس دليل اعتبارهما ، فإذا قال : « البيّنة حجّة » يكون معناه ثبوت ما أخبرت عنها من كون المائع خمراً ، والمال ملكاً لزيد ويترتّب عليه آثارهما وإلايلزم لغو جعل الحجّية لها ، وبذلك يعلم وجه قيام الطرق مكان القطع الطريقي بنفس دليلِ اعتبارها ، والمراد من القيام مكانه كونها حجّة مثله لا انّ القطع أصل والأمارة فرع بل كلاهما طريقان إلى الواقع ، غير انّ الأوّل طريق بنفسه والثاني طريق بإذن الشارع واقتناعه بها في مقام امتثال أوامره ونواهيه.

إنّما الكلام في قيامها مكانه في القسم الموضوعي بنفس دليل اعتبارها ، فذهب الشيخ الأنصاري إلى قيامها مكانه بنفس دليل اعتبارها مقام القطع الموضوعي الطريقي دون الوصفي ، فلو أخذ في الموضوع بما هو طريق تقوم البيّنة بنفس دليل اعتبارها مكانه ، دون ما أخذ فيه بما هو وصف.

وذهب المحقّق الخراساني إلى عدم القيام مطلقاً ، فهنا قولان :

أمّا الأوّل : فقد ذكره الشيخ في أوّل رسالة القطع ، ووجه التفصيل وجود الجامع بين الأمارات والطرق ، والقطع المأخوذ في الموضوع بما هو طريق دون القسم الآخر ، وذلك لأنّ القطع وإن أُخِذَ في الموضوع بشخصه لكن أخذه بما انّه كاشف ومرآة ومن المعلوم انّ هذه الجهة مشتركة بين القطع والأمارات والطرق ، بخلاف المأخوذ في الموضوع بما هو وصف نفساني ، فلا جهة مشتركة بينه وبين الأمارات

٥٣

حتى تقوم مكانه ، هذا هو المستفاد من كلام الشيخ في رسالة القطع.

وأمّا الثاني ، فهو خيرة المحقّق الخراساني ، وذهب إلى عدم القيام إلافي القطع الطريقي المحض ، وقد عرفت انّه لا معنى للقيام فيه.

أقول : الكلام يقع تارة في مقام الثبوت أي إمكان القيام ، وتارة في مقام الإثبات ودلالة الدليل.

وإليك الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في إمكان تنزيل الطريق منزلة القسمين

ذهب المحقّق الخراساني إلى الامتناع ، واستدل بما هذا حاصله :

انّ للقطع في جميع الأقسام أثرين بارزين :

١. حجّيته وطريقيته إلى الواقع ، وهذا في القطع الطريقي المحض.

٢. مدخليته في الموضوع وتأثيره في ثبوت الحكم كدخل القدرة والبلوغ ، وهذا في القطع الموضوعي بكلا قسميه.

فدليل الحجّية إنّما يتكفل التنزيل الأوّل ، أي تنزيل الطريق مكان القطع في ترتيب ما للقطع بما هو حجّة من الآثار لا بما هو دخيل في الموضوع إلا إذا كان هناك تنزيل ثان وهو غير موجود.

فإن قلت : إذا كان لدليل التنزيل إطلاق من كلتا الجهتين فلا مانع من القيام مكانه ، كما إذا نزّل الأمارة منزلة القطع في الطريقية والمدخلية في الموضوع.

قلت : إنّ دليل التنزيل مثل قوله : « العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا عني فعنّي يؤدّيان » (١) ، لا يكاد يفي إلا بأحد التنزيلين ، وذلك لأنّه لو كان تنزيل الطريق مكان القطع لأجل الحجّية يكون النظر إلى القطع والأمارة نظراً آليّاً وإلى الواقع

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

٥٤

والمؤدّى استقلالياً ، ولو كان تنزيل الطريق مكان القطع لأجل المدخلية في الموضوع يكون النظر إلى الواقع والمؤدّى نظراً آلياً ، وإليهما نظراً استقلالياً ، ولا يصحّ الجمع بين اللحاظين المتضادين من الواحد.

نعم لو كانت بين التنزيلين جهة جامعة ، وكان التنزيل لأجلها ، لتحقّق التنزيلان بتنزيل واحد ولكن المفروض عدمه ، فلا محيص إلا عن تنزيل واحد ، إمّا لأجل كونه حجّة ، أو لأجل كونه دخيلاً في الموضوع.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ لازم ذلك أن يكون دليل التنزيل مجملاً غير دال على واحد من التنزيلين ، فأجاب بأنّ ظهوره في أنّه بحسب اللحاظ الآلي ممّا لا ريب فيه ، هذا لبّ مراده في الكفاية.

يلاحظ عليه : أنّ النظر إلى القطع والأمارة في كلا التنزيلين استقلالي بشهادة انّ المولى ينزِّل الأمارة منزلة قطع المكلّف ، ويلاحظهما على وجه الاستقلال سواء أكانت جهة التنزيل هي الحجية ، أو المدخلية في الموضوع ، غاية الأمر يلاحظ القطع في التنزيل الأوّل بما هو طريق ومرآة ، وفي التنزيل الثاني بما هو دخيل في الموضوع وانّه مؤثر في ترتّب الحكم وتحقّقه ، وليس هذان اللحاظان غير قابلين للجمع كما إذا نظر عند شراء المرآة إلى كيفية حكايتها وإراءتها وفي الوقت نفسه إلى شكلها وضخامة زجاجها وما حولها من الرخام.

وبعبارة أُخرى : انّ نظر القاطع إلى قطع نفسه طريقي محض ولكنّه ليس هو المنزِّل ، بل المنزل هو الشارع فهو ينظر إلى قطع المكلّف بنظر استقلالي من غير فرق بين ملاحظته من حيث إنّه مرآة وطريق ، أو من حيث إنّه دخيل في الموضوع ، فلو كان لدليل التنزيل إطلاق لما منع اللحاظان عن الشمول والاستيعاب ، وتنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي ، والقطع الموضوعي الطريقي. وبالجملة منشأ الخلط ، هو تصور انّ القاطع هو المنزل ، مع أنّه غيره.

٥٥

المقام الثاني : في مفاد دليل التنزيل

قد عرفت أنّ الكلام يقع في مقامين : أحدهما : في إمكان تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي ، والقطع الموضوعي الطريقي بتنزيل واحد; ثانيهما : في استظهار مقدار دلالة الدليل ، وقد عرفت أنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى الامتناع العقلي في المقام الأوّل فلم يعقد بحثاً للمقام الثاني ، ولكنّك عرفت إمكانه. إنّما الكلام في مقدار دلالة الدليل.

والاستظهار من الدليل فرع أن يكون للشارع دور في باب الأمارات وتنزيلها مكان القطع حتى يبحث في جهة التنزيل وانّه هل هو لأجل الحجّية أو المدخلية في الموضوع ، لكن الحقّ انّه ليس للشارع في باب الأمارات ، جعل ولا تنزيل سوى إمضاء ما بيد العقلاء ، وسيوافيك في محلّه انّ عامة ما استدل به على حجّية الخبر الواحد راجع إلى بيان الصغرى وانّ فلاناً ثقة أو لا ، دون الكبرى وكأنّها كانت عندهم محرزة وثابتة.

وعلى ضوء ذلك يظهر أمران :

١. انّ العمل في مورد القطع الطريقي المحض بالأمارة ليس من باب تنزيله مكان القطع ، بل لكونه طريقاً كالقطع وحجّة مثله ، لا انّه منزل منزلته ولا يظهر من أدلّة الإمضاء سوى كونها حجّة ، لا نازلة منزلته.

٢. قيامه مكان القطع الموضوعي يتوقف على وجود جهة جامعة قريبة بينهما ، فإن أخذ في الموضوع بما هو كاشف تام يرفض كلّ احتمال مخالف ، فلا يكفي دليل الإمضاء في قيام الأمارة مكان القطع لانتفاء الحيثية التي لأجلها أخذ في الموضوع في الأمارة وإن أخذ بما انّه أحد الكواشف ، فيقوم مكانه ، لأنّ نسبة القطع والأمارة إلى الحيثية المسوغة لأخذه في الموضوع ، سواسية.

٥٦

وللمحقّق الخوئي قدس‌سره بيان آخر يقول : إنّ ترتيب آثار المقطوع على مؤدى الأمارة إنّما هو لتنزيلها منزلة القطع فيكون ترتيب أثر نفس القطع لأجل هذا التنزيل بطريق أولى. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ترتيب أثر المقطوع على المؤدّى إنّما هو لأجل وجود الحجّة الشرعية لا لأجل تنزيلها منزلة القطع ، فلا يكون ترتيب ذلك الأثر دليلاً على تنزيل الأمارة منزلة القطع أيضاً.

وبعبارة أُخرى : العمل بالأمارة في مورد القطع الطريقي المحض ليس لأجل تنزيل الأمارة مكان القطع ، بل لأجل وجود الحجّة الشرعية ، فالتساوي بين المقطوع والمؤدّى لا يكشف عن تنزيل المؤدّى منزلة المقطوع حتى يستكشف منه تنزيل الأمارة منزلة القطع كما لا يخفى.

في قيام الأُصول العملية مقام القطع

قسّم الأصل العملي إلى محرز وغير محرز. والمقصود من الأوّل ما يكون المجعول فيه لزوم الأخذ بأحد طرفي الشكّ بناء على أنّه الواقع وإلغاء الطرف الآخر ، كالاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ في فعل النفس ، وأصالة الصحّة في فعل الغير ، وقاعدة عدم العبرة بشكِّ الإمام مع حفظ المأموم وبالعكس. والمراد من الثاني هو الوظيفة المقررة للجاهل شرعاً وعقلاً ، كأصل البراءة والاحتياط وقاعدتي الطهارة والحلية.

أمّا القسم الثاني فلا يقوم مكان القطع مطلقاً ، وذلك لوجهين :

١. عدم وجود الجهة الجامعة بين القطع الطريقي إلى الواقع والأُصول

__________________

١. مصباح الأُصول : ٢ / ٣٧.

٥٧

المقررة للجاهل بعنوان الوظيفة في مقام العمل ، فالقطع طريق إلى الواقع ، والأصل غير المحرز ، وظيفة للجاهل إذا انقطعت حيلته ، وإلى هذا الوجه أشار المحقّق الخراساني بقوله : « لوضوح انّ المراد من القيام ترتيب ما للقطع من الآثار والأحكام ( تنجّز التكليف وغيره ) على الأصل ، مع أنّ شأنه ليس إلاوظيفة للجاهل في مقام العمل لا تنجيز الواقع ».

٢. ولما كان هذا البيان غير جار في أصل الاحتياط حيث إنّ شأنه تنجيز التكليف أشار في وجه عدم قيامه مقام القطع إلى دليل آخر.

وحاصله : انّه يعتبر في التنزيل أُمور ثلاثة :

١. المنزَّل ، ٢. المنزَّل عليه ، ٣. جهة التنزيل. ولكن المنزل في المقام هو نفس جهة التنزيل ، وذلك لأنّ المنزل عبارة عن حكم العقل تنجيز الواقع ( الاحتياط ) والمنزل عليه هو القطع ، وجهة التنزيل نفس المنزّل وهو حكم العقل بتنجز الواقع والتكليف لو كان.

فإن قلت : إنّوحدة المنزَّل ، وجهة التنزيل إنّما هو في الاحتياط العقلي ، فالمنزل هو حكمه بالتنجّز والمنزل عليه هو القطع ، وجهة التنزيل هو حكمه بالتنجز.

وأمّا الاحتياط الشرعي فالأضلاع الثلاثة مختلفة جداً ، فالمنزَّل هو حكم الشارع بتنجز الواقع ، والمنزل عليه هو القطع ، وجهة التنزيل هوحكم العقل تنجز الواقع.

قلت : إنّ الاحتياط الشرعي في الشبهات البدوية غير واجب ، بل هي مجرى البراءة ، وفي أطراف العلم الإجمالي وإن كان واجباً لكنّه بحكم العقل وبوجه سابق على حكم الشرع بالاحتياط كما قال : في الإناءين المشتبهين : يهريقهما جميعاً

٥٨

ويتيمّم. (١)

هذا كلّه حول الأصل غير المحرز; وأمّا الأصل المحرز ، فيقوم مكان القطع الطريقي المحض ، دون القطع الموضوعي ، سواء كان موضوعياً طريقياً أو وصفياً ، وذلك بالبيان السابق في قيام الأمارات مكان القطع الموضوعي. وذلك لأنّ التنزيل إمّا أن يكون بلحاظ اليقين ، أو بلحاظ المتيقن; فإن كان بلحاظ تنزيل اليقين التعبدي مكان اليقين الحقيقي ، كان النظر إلى اليقين في كلا الجانبين ، استقلالياً ، وإلى المؤدّى والمتيقّن آلياً ؛ وإن كان التنزيل بلحاظ تنزيل المؤدّى مكان المتيقن ، كان النظر إليهما استقلالياً ، وإلى اليقين في كلا الجانبين آلياً ، ولا يمكن الجمع بين اللحاظين في آن واحد.

هذا توضيح مراده في الكفاية.

صحّة الجمع بين التنزيلين بنحو الملازمة العرفية

قد عرفت أنّ المحقّق الخراساني منع إمكان تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي الطريقي بدليل واحد ، كما منع بنفس هذا الدليل تنزيل الاستصحاب منزلة القطع الموضوعي الطريقي بدليل الاستصحاب لاستلزام التنزيل المزبور الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي في آن واحد.

ثمّ إنّه في تعليقته على الرسائل صحّح دلالة الدليل الواحد على كلا التنزيلين بالبيان التالي :

وهو انّ الأثر إمّا يترتّب على المقطوع بما هو هو ، كما إذا قال : الخمر حرام شربه ، ففي مثل ذلك يقوم الاستصحاب مكان القطع ، فكما أنّه يحرم شربه إذا أحرز بالقطع كذلك يحرم شربه إذا أحرز بالاستصحاب.

__________________

١. الوسائل : الجزء ٢ ، الباب ٤ من أبواب التيمم ، الحديث ٤.

٥٩

ولكن ربما يتعلّق الأثر لا بالمتعلّق بما هو هو بل بما تعلّق به القطع ، كما إذا قال : إذا قطعت بخمرية شيء فتصدق ، ففي مثل ذلك لو كان التنزيلان في عرض واحد يلزم ما تصور من المحال ، وأمّا إذا كان التنزيلان لا في عرض واحد بل كلّ في طول الآخر فلا مانع من دلالة الدليل الواحد على كلا التنزيلين ، أي تنزيل القطع التعبدي ( الاستصحاب ) منزلة القطع الواقعي ، وتنزيل الخمر التعبدي منزلة الخمر الواقعي ، ولكن لا في زمان واحد بل في زمانين ، لأنّه إذا دلّ الدليل على أنّ الشارع نزّل الخمر التعبدي منزلة الخمر الحقيقي فهو كاشف عن أنّه نزل القطع التعبدي مكان القطع الحقيقي من ذي قبل ، وإلايلزم أن يكون التنزيل الأوّل لغواً ، إذ لا يترتب الأثر على إحراز أحد الجزءين والحكيم منزّه عن اللغوية ، وحيث إنّ أحد التنزيلين في طول الآخر لا يلزم الجمع بين اللحاظين في آن واحد.

هذا عصارة ما ذكره في الحاشية. (١)

ثمّ إنّه أورد عليه في الكفاية بأنّه لا يخلو عن التكليف أوّلاً والتعسف ثانياً.

أمّا التكلّف ، فلعدم الملازمة العرفيّة بين تنزيل أحد الجزءين وتنزيل الجزء الآخر ، ولا ينتقل الإنسان من تنزيل أحدهما إلى أنّه قام بالتنزيل بالنسبة إلى الجزء الآخر قبل ذلك.

وأمّا التعسف فلاستلزامه الدور لأنّ التنزيل فعل شرعي اعتباري والعمل الاعتباري إنّما يصحّ إذا كان له أثر شرعي والمفروض انّ الأثر غير مترتب على واحد من التنزيلين بل على كليهما معاً ، فعند ذلك مهما أقدم الشارع على تنزيل

__________________

١. التعليقة : ص ٩ ، وقد ألّفها قبل الكفاية بسنين ، كما يظهر من تاريخ فراغه عن بعض أجزائه ، فقد فرغ من التعليق على مبحث التعادل والترجيح عام ١٢٩١ هـ ، لاحظ ص ٢٨٩ من الطبعة الحجرية.

٦٠